كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 
 
 

ظمأً الى الفن والحب والحرية في «مستر ترنر»

إبراهيم العريس

مهرجان كان السينمائي الدولي السابع واالستون

   
 
 
 
 

«إلى حد كبير، كان ترنر رسام السموّ، والسموّ في زمنه كان يعني التزام المرء بالجمال والرعب إزاء الطبيعة: بل بالأحرى الرعب في الجمال والجمال في رعب الطبيعة. والحال ان هذا ما كان ترنر يحاول أن يرسمه»، بهذه العبارات عبّر الممثل تيموثي سبال عن فهمه لشخصية الرسام الانطباعي الإنكليزي ويليام ترنر، وهي الشخصية التي لعبها في فيلم «مستر ترنر» المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي. والحال أن من يعرف شيئاً عن أسلوب مايك لي في صوغ سيناريوات أفلامه وإدارة ممثليه، سينظر بعين الاهتمام الفائق الى ما يقوله سبال عن الشخصية. وذلك ببساطة لأن الممثل لدى لي ليس مجرد مؤدّ للدور، بل هو مشارك في رسمه ومشارك في صوغ حواراته. فللارتجال المعتمد على إبداع الممثل نفسه، دور كبير عادة في سينما هذا المبدع الإنكليزي. ولئن كان في إمكان القارئ العربي الذي قد يهمّه معرفة الكثير عن مايك لي وسينماه، أن يقرأ ترجمة عربية جيدة لكتاب حوارات معه صدر عن مؤسسة السينما السورية في سلسلتها «الفن السابع» قبل شهور (!)، فإن الطريقة الأفضل والأسلم للوصول الى تلك المعرفة، ستكون دائماً في مشاهدة أفلام الرجل التي أتى «مستر ترنر» تتويجاً لها.

إضافة الى سينما خاصة

ومنذ الآن لا بد من القول ان هذا الفيلم، إضافة الى المكانة الأساسية التي بدأ يتخذها في فيلموغرافيا مايك لي – راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة -، بدأ يشغل كذلك مكانة أساسية بين عدد لا بأس به من أفلام كرسها الفن السابع للحديث عن سير بعض كبار «نجوم» الفن التشكيلي على مدى تاريخ هذا الفن، الى جانب تحف حُققت عن حياة فان غوغ (فيلم الفرنسي الراحل موريس بيالا الحامل اسم الفنان والذي صار مرجعاً اساسياً في هذا السياق، أو فيلم فنتشنتي مينيللي «الظمأ الى العيش» الذي قام فيه كيرك دوغلاس بدور فان غوغ)، أو ماكايل آنجلو أو فيرمير («الفتاة ذات اللؤلؤة» من تمثيل سكارليت جوهانسون) أو غوستاف كليمت أو حتى «كارافاجيو» من إخراج ديريك جيرمان الذي اعتبر الفيلم عن الرسام «الضال» وصيته الفنية والإنسانية.

بالتأكيد، ينخرط فيلم مايك لي عن ترنر في هذا السياق... لكنه بالتأكيد يبدو الأكثر كلاسيكية وفرادة لمن يشاهده غير مرة، ويكتشف - خلف سحر تصوير المشاهد الطبيعية ورسم الصورة الاجتماعية والفنية كما تعبر عن الفئات الرفيعة المقام في انكلترا النصف الأول من القرن التاسع عشر -، الشخصية المقدَّمة لرسام كان غالباً ما يبدو مختفياً خلف لوحاته التي من المعروف ان الإنكليز يحبونها ويقدّرونها أكثر من لوحات اي فنان آخر من أبناء زمنه. فهنا، في هذا الفيلم، نكتشف الإنسان خلف الفنان. ولعل اولى آيات هذا الاكتشاف ترجيح المخرج كفة تصوير بطله على كفة تصوير لوحاته. صحيح اننا نشاهد اللوحات ونتابع تاريخ رسم ترنر لبعضها وبيعه وعرضه بعضها الآخر... لكن هذا يأتي دائماً في المقام الثاني. الأولوية هنا لترنر نفسه. وبالأحرى لترنر خلال النصف الثاني من حياته التي كانت قصيرة على اية حال. فالفيلم يقدم لنا خمسة وعشرين عاماً تبدأ من عودة ترنر من تجواله الاشهر في الشمال الأوروبي وإقامته بعض الوقت في الفلاندر ومناطق بلجيكا حيث اطلع مباشرة على ابداعات فناني الشمال الأوروبي، قبل ان يعود – أول الفيلم – الى بيته اللندني الذي يعيش فيه مع والده الحلاق السابق في «كوفنت غاردن» وخادمة عجوز مشوهة سرعان ما نكتشف انها تتحول الى عشيقة له بين الحين والآخر. لكنها ليست العشيقة الوحيدة... بل هي الأقل شأناً بينهن. ومنهن واحدة أنجبت له ابنتين بالكاد يعترف بها وبهما... ويعاملهن حين تزرنه كضيفات ثقيلات عليه. وليس هذا لأنه يفضل عليهن أُخريات، بل لأنه رجل لا يريد من العالم إلا حرية ووقتاً يمكّنانه من أن يرسم. وهو بالفعل يرسم بشغف ونهم، ولكن أيضاً باستعلاء على زملائه الذين يلتقيهم في معرض الأكاديمية الملكية... وفي المقابل نجده بالكاد يهتم برأي الناقد الشاب جون راسكين الذي سيكون مع هذا من أكبر داعميه... ولعل ما تجدر ملاحظته قبل اي شيء آخر هنا، هو ان كل ما يعيشه ترنر ويعايشه في الفيلم إنما ينطبع على ملامح وجهه ونمط عيشه وعلاقاته المركبة مع الآخرين بأكثر حتى مما ينطبع على لوحاته.

فالأساس في حياة ترنر هو لوحاته وحريته وتمكنه الدائم من التجوال في لندن الحضيض، بحثاً عن مواضيعه. ثم في الجنوب الشرقي الإنكليزي بحثاً عن الشمس والريح ومشاهد البحر والسفن التي ستخلده ويخلدها. وهو في بحثه هذا، يبدو دائماً نهماً الى النور والدفء ولا سيما حين يلتقي بتلك السيدة التي ستصبح عشيقة جديدة له بعد ان ترمّلت مرتين وجمعت من الثروة ما سيمكنه من العيش وشراء الألوان هو الذي قدّم لها نفسه أول الأمر باسم مستعار بعدما أجّرته غرفة مشمسة في نزل تملكه التجأ اليه كي يرسم بعيداً من صخب الحياة اللندنية القاتل...

من انكلترا إلى أخرى

من الواضح ان رسم شخصية ترنر في الفيلم هو العنصر الأساس فيه، ومن الواضح ان الذين سيذكرون الرسام ويشاهدون لوحاته من الآن وصاعداً، لن يكون في وسعهم أن يتخيلوه على صورة أخرى غير الصورة التي قدمه بها فيلم مايك لي وأداء تيموثي سبال، ومع هذا لا بد من القول إن خارج إطار شخصية الرسام وأعماله، تمكن «مستر ترنر» من ان يرسم، وإن في طريقه، صورة مدهشة للحياة اليومية في لندن الشعبية حيث البائسون والمشوهون وسكان الأحياء الفقيرة يضعونك مباشرة في مناخ بصري جدير بأقوى روايات تشارلز ديكنز... كما تمكن ايضاً من ان يرسم، وإن في طريقه أيضاً، صورة مدهشة لإنكلترا الأخرى، إنكلترا عليّة القوم والقصور وفناني السلطة ونقاد الأكاديمية الملكية، وبعد ذلك، تالياً لهذا كله ينتقل الفيلم الى تصوير إنكلترا ثالثة هي تلك التي تقع خارج لندن وتعيش رتابة حياتها اليومية تحت شمس ساطعة وفي جوار بحر تتدفق أمواجه في حركة صاخبة، سيكون ويليام ترنر بالتأكيد خير راسميها وأبرع المعبّرين عنها في تلك اللوحات الخالدة التي نعايشه وهو حيناً يرسم «اسكتشاتها» ليحولها لاحقاً لوحات ضخمة تعلق في المعارض، وحيناً يستخدم بصاقه بلا مبالاة كلية وهو يصحح ألوانها حتى اللحظات الأخيرة قبل العرض.

والحال ان هذا كله يضعنا امام فيلم شديد الحداثة على رغم كلاسيكيته، عن فنان كان بدوره شديد الحداثة. وفي هذا السياق، يبدو ذا دلالة بالتأكيد المشهد الذي يكتشف فيه ترنر بما يشبه الصدفة، بدايات التصوير الفوتوغرافي كممر الى حداثة الأزمان المقبلة متسائلاً في طريقه، كما سيفعل والتر بنجامين بعده بقرن وإن في سياق آخر، عن مصير اللوحة في الزمن الفوتوغرافي المقبل.

من كل هذا، وأكثر، «ركّب» مايك لي فيلمه الجديد هذا، الفيلم الذي ما إن عرض خلال الأيام الأولى للدورة الأخيرة لمهرجان «كان» حتى حقق ما يشبه إجماعاً لدى النقاد والمهتمين، إجماعاً لم تصل مفاعيله الى لجنة التحكيم التي وصلتها على اية حال روعة الأداء الذي قدمه ممثل الدور فيه. ومهما يكن من أمر، لا شك في ان «مستر ترنر» بات منذ الآن علامة اساسية من علامات سينما السيرة والسينما التي تتخذ من الفن نفسه موضوعاً لها.

مايك لي:

قليل من التاريخ كثير من الارتجال والجوائز في الانتظار 

لم يغص المخرج الإنكليزي – من أصول روسية – مايك لي في تاريخ بريطانيا سوى ثلاث مرات في مساره السينمائي الذي تجاوز عمره ثلث القرن. ففي مرة نجده لا يبتعد زمنياً أكثر من خمسين عاماً ليتوقف عند عام 1950 في فيلم أسبق له هو «فيرا دراك» (2004)، وفي مرة تسبقها نجده يتجاوز في تراجعه الزمني، نهاية القرن قبل الفائت ليصل إلى أواخره حيث موضع الحكاية التاريخية المتحدثة عن كاتبي وملحني الأوبرا الشعبية الإنكليزية جيلبرت وساليفان ومعاناتهما أمام فشل متكرر دفعهما إلى اقتباس الفن الياباني في أوبرا أسمياها «ميكادو»، وذلك في فيلم «توبسي - تيرفي» (1999)... وهو في المرتين حقق نجاحاً كبيراً أبعده بعض الشيء عن الملامح الاجتماعية لعمله السينمائي ككل. أما المرة الثالثة والأخيرة حتى الآن، فنتيجتها فيلم «مستر ترنير» تحفته السينمائية الأخيرة التي أعطت ممثله الأثير تيموثي سبال جائزة التمثيل الرجالي في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي.

وطبعاً لم تكن هذه، المرة الأولى التي يشارك فيها مايك لي في مسابقات «كان»، بل نعرف أنه حصل على السعفة الذهبية من المهرجان نفسه في عام 1996 عن تحفة اجتماعية سابقة له هي «أسرار وأكاذيب»، كما أنه نال جائزة الإخراج عن فيلمه «عارياً» في عام 1993 مع جائزة التمثيل – مؤمّنةً انطلاقة عالمية – لممثل الفيلم دافيد ثيوليس. غير أن المرة الأسوأ في تاريخ مشاركات مايك لي «الكانيّة» فكانت في عام 2010 حين عاد فيلمه «عام آخر» خالي الوفاض بعدما كان طوال أيام المهرجان، المرشح الأوفر حظاً لما لا يقل عن السعفة الذهبية. يومها قضت «قواعد اللعبة» بأن تسفر مشاركته عن خيبة له وغضب لمحبي سينماه، وهم كثر بالتأكيد، وتوقع كثر ألا يشارك بعد ذلك. لكنه شارك هذا العام بالسيرة السينمائية المدهشة - على رغم كلاسيكيتها - «مستر ترنر». صحيح أن الفيلم نفسه خرج خالي الوفاض على رغم كل التوقعات، لكن جائزة التمثيل ذهبت إلى بطله تيموثي سبال ما أكد من جديد، بعد حالة ثيوليس في «عارياً» بنحو عقدين، أن مايك لي مدهش في إدارته ممثليه بقدر ما هو مدهش في إدارته أفلامه.

ومايك لي يدير العالمين معاً بقوة تعبيرية متميّزة، منذ بداياته كسينمائي محترف في عام 1971 في فيلمه الروائي الطويل الأول «لحظات قاتمة» الذي سرعان ما فاز بجائزة الفهد الذهبي في مهرجان لوكارنو. لقد حقق هذا الفيلم يومها نجاحاً نقدياً كبيراً جعل منتجه الممثل البيرت فيني يغض الطرف عما تسببه له من خسائر مالية إذ كان هو مموله. ولكن على رغم النجاح النقدي – المهرجاني اضطر مايك لي إلى الانتظار سبعة عشر عاماً قبل أن يخوض تجربته السينمائية التالية في فيلم «آمال كبيرة» الذي حققه في عام 1988. لكنه في السنوات السابقة كان قد اشتغل على فيلمين تلفزيونيين من إنتاج «بي بي سي» كانا هما ما مكناه من العودة إلى السينما. ومن جديد كان النجاح النقدي والمهرجاني في انتظار طلّته الجديدة حيث أن «آمال كبيرة» أعجب أهل مهرجان البندقية بأسلوبه الواقعي وسخريته من السياسة الثاتشرية التي كانت قد بدأت تعيش غروبها، فنال الفيلم جائزة أساسية في المهرجان الإيطالي العريق.

وبعد ذلك بخمسة أعوام أخرى كان موعد لي مع المسابقة الرسمية في مهرجان «كان» وجائزتي الإخراج والتمثيل لـ»عارياً» الذي رسم فيه، هذه المرة، صورة شديدة القسوة لحياة الحثالة في حضيض لندن وضلال لياليها. ومنذ ذلك الحين بات مايك لي وقد بلغ الخمسين من عمره، اسماً كبيراً في السينما الإنكليزية يقارن عادة مع كين لوتش من ناحية اهتمامهما المشترك، ولكن غالباً من مواقع أيديولوجية تفترق نسبياً عن بعضها البعض، بتصوير الحياة اليومية لدى شتى الطبقات الإنكليزية... وكذلك من مواقع جمالية تضبط لوتش في لغة كلاسيكية وتعبير ينتمي إلى وضوح الواقعية النقدية في تسييس للموضوعات يشتطّ أحياناً، فيما تتسّم لدى لي بتجريبية تخفّ وتزيد حسب المواضيع، لكنها غالباً ما تقوم على عمل ارتجالي جماعي موروث لديه من تكوينه المسرحي. والحال أن من يشاهد التالي من أفلام مايك لي، لن يغيب عنه هذا البعد الارتجالي الذي يغمر أفلامه التي حققها قبل «عارياً» وبعده... وجعلت له مكانة أساسية في سينما اليوم: من «الحياة حلوة» (1990) إلى «مستر ترنر» مروراً بأعمال تفاوتت جودة ونجاحاً مثل «بنات المهن» (1887) و»توبسي - تيرفي» (1999) و»كل شيء أو لا شيء» (2002) الذي يمكن اعتباره الأكثر درامية والتزاماً اجتماعياً من بين أفلامه، و»فيرا دراك» (2004)، و»كوني سعيدة» (2008) المعتبر الأكثر تفاؤلاً وطرافة بين أعماله، وصولاً أخيراً إلى عمليه الكبيرين الأخيرين «عام آخر» و«مستر ترنر».

الحياة اللندنية في

06.06.2014

 
 

عن الفيلم التركي المتوج في كان..

"البيات الشتوي"

أمير العمري-الجزيرة نت 

لم يكن مفاجئا أن يفوز الفيلم التركي "البيات الشتوي" Winter Sleep للمخرج نوري بيلج جيلان، بجائزة "السعفة الذهبية" في مهرجان "كان" السينمائي الذي اختتم أخيرا، فقد ظل الفيلم -منذ عرضه في اليوم الثالث للمهرجان- ضمن قائمة الأفلام الثلاثة المفضلة لدى النقاد، وكنت شخصيا قد وضعته في الاختيار الأول، وتوقعت أن يفوز بالجائزة الكبرى للمهرجان رغم طوله المفرط (أكثر من ثلاث ساعات)، وحواراته الطويلة المرهقة التي يتابعها من لا يعرف اللغة التركية، من خلال الترجمة المطبوعة أسفل الشريط.

اعتبر بعض المتابعين من العرب أن فوز "البيات الشتوي" قد يكون تتويجا للدراما التركية التي تفوقت خلال السنوات القليلة الماضية على نظيرتيها السورية والمصرية، وغزت شاشات الفضائيات العربية بمواضيعها المفتوحة وجرأتها في تصوير العلاقات العاطفية من خلال أسلوب تتميز به المسلسلات الأميركية المشابهة التي تعرف بـ"السوب أوبرا" soap opera والمقصود استخدام المبالغات الدرامية في تصوير المشاعرالعاطفية وقصص الحب بطريقة الميلودراما التي تبتعد عن الواقع تماما، وتستغرق في نسج كل ما هو "خاص للغاية" في حياة تلك الشخصيات التي تكون عادة من النخبة الاجتماعية، تعيش حياة مصقولة لامعة بعيدة عن الواقع الاجتماعي الخشن.

ولكن الحقيقة أن الفيلم المتوج بالسعفة الذهبية أكثر بعدا عن المسلسلات التركية بقدر قربه من الفكر الفلسفي الاجتماعي الذي يميل إلى تشريح العلاقات الطبقية، وفحص تأثير التميز الطبقي على علاقات الفرد وسلوكياته في المجتمع، خصوصا لو كان مثقفا واعيا يدرك أكثر من غيره طبيعة السلوك البشري ودوافعه.

عرض بلا إدانة

إن ميزة الفيلم الذي يدور حول ممثل مسرحي ترك التمثيل وتفرغ لإدارة فندق سياحي في قرية من قرى منطقة أنطاليا الجبلية الرائعة، يمتلك أيضا بعض المنازل التي يؤجرها لأناس من الطبقة الأدنى، يعجز بعضهم عن الوفاء بالتزاماتهم، مما يعرضهم للتشريد.

والبطل الذي تجاوز الخمسين متزوج من امرأة في العشرينيات من عمرها، وله شقيقة تقيم معه في الفندق نفسه.

ويبدو الرجل في البداية شخصية لها منطقها "الإنساني" الخاص، فهو لا يبدو شريرا بل ربما نراه أيضا كريما ومتسامحا، يميل إلى إسداء النصح أكثر مما يتهم ويفرض سيطرته بالقوة، وقد يكون غير مبال بما يترتب على بعض قراراته بما ينعكس على حياة القريبين منه، لكنه يملك دائما المبررات التي تجعله على قناعة بأنه يملك نوعا من "الوصاية" على الآخرين، بحكم تميزه الطبقي والثقافي. وهو يمارس مثل هذه الهيمنة والغطرسة على زوجته وشقيقته، الأمر الذي يؤدي إلى وقوع مواجهات صادمة بينهم جميعا تؤدي بالمثقف الفردي الأناني إلى مواجهة نفسه، ومعرفة أين يريد أن يقف مستقبلا.

ولعل الجانب الجيد في دراما هذا الفيلم أن مؤلفه ومخرجه لا يُدين ولا يتخذ موقفا محددا من شخصياته بقدر ما يطرح التساؤلات عن طبيعة المسؤولية الأخلاقية وحدودها، وكيف نحكم على الأشياء، وهل الآخرون جميعا هم "الجحيم" كما كان يقول سارتر، أم إننا نحن من يصنع الجحيم ونصبح بالتالي مسؤولين ولو جزئيا عنه؟

"الجانب الجيد في دراما هذا الفيلم أن مؤلفه ومخرجه لا يُدين ولا يتخذ موقفا محددا من شخصياته بقدر ما يطرح التساؤلات عن طبيعة المسؤولية الأخلاقية وحدودها، وكيف نحكم على الأشياء "

وقد يكون من الصحيح أن نوري بيلج جيلان -مخرج هذا الفيلم- من المتأثرين كثيرا بقصص الروسي أنطون تشيخوف التي تتناول تعقيدات العلاقات العائلية وتقوم بتشريحها لكشف الزيف الاجتماعي، وصحيح أيضا أنه قد يكون متأثرا ببعض طروحات الفيلسوف الفرنسي سارتر التي تدور حول مسؤولية الفرد ومسؤولية المثقف تحديدا (بطلنا يناقش الكثير من الأفكار التي تتردد عند شكسبير) كما يتعرض لموضوع عزلة المثقف ورفضه أن يكون جزءا من حركة المجتمع وتشككه الدائم في الآخرين، ورفضه الاعتراف بالمساواة بل يراها فكرة نظرية سخيفة فهو يعتقد أن التناقضات بين البشر طبيعية، وأن كونه أصبح وريثا ثريا لم يكن اختيارا بل قَدَره الذي يتعين عليه قبوله كما هو والتعامل معه. ويعتبر أيضا أن منحه بعض حرية الحركة لزوجته مثلا هو نوع من التنازل أو "العطية" وليس حقا لها.

لكن هذه الجوانب كلها قد تكون مفهومة في سياق الفيلم البديع الذي يشدك إليه بتفاصيله وخصوصا البصرية: البيئة الجبلية النائية، البيوت المنحوتة في الجبل، الثلوج التي تنتشر تدريجيا فتغطي الأفق، النار المتأججة التي يتدفأ بها المحرومون بصعوبة، مسار الحركة والتمثيل الرفيع لمجموعة الممثلين المشاركين في الفيلم وأولهم بالطبع الممثل الكبير هالو بيلجنر، الذي يستدعي كل ما خبره من تجارب شخصية في الحياة ليمنح الشخصية لحما ودما وأفكارا وصراعا داخليا عنيفا.

المركزية الأوروبية

أما الجانب الذي يلفت النظر أكثر فهو مقارنة الكثير من النقاد الغربيين بين أسلوب جيلان وأسلوب المخرج السويدي الراحل إنجمار برجمان، وهو ما يعكس الولع التقليدي بفكرة المركزية الثقافية الأوروبية، أي رد كل الأعمال الفنية والأدبية المتميزة التي تأتي من "خارج أوروبا"- الثقافية، إلى ما أنجزه العقل الأوروبي في مجالات الفلسفة والفن والأدب.

فالمثقف الأوروبي لا يمكنه أن يتصور مثلا أن يكون شادي عبد السلام قد استلهم إيقاع فيلمه "المومياء" من تعمقه الخاص في تراث وتاريخ بلاده، بل لا بد من مقارنته بأسلوب الإيطالي بازوليني أو روسيلليني، كما كان الفرنسيون مثلا يقارنون بين فيلم "الأرض" ليوسف شاهين، والفيلم "السوفياتي" الذي يحمل الاسم نفسه للمخرج الأوكراني ألكسندر دوفجنكو، الذي أنتج عام 1930، رغم الاختلاف الكبير بين تركيبة وملامح وتاريخ الفلاح المصري عن الفلاح الروسي أو الأوكراني مثلا.

ينتمي "البيات الشتوي" أكثر -ليس إلى سينما برجمان- بل إلى التيار الواقعي في السينما التركية، ذلك التيار الذي نما وترعرع على يدي الكاتب والروائي والممثل والمخرج الراحل يلماظ جوني صاحب أفلام شهيرة مثل "عروس الأرض" و"الأمل" و"الصديق" و"الطريق".

هذه الأفلام التي نحتت الواقعية كأسلوب تكسوه شاعرية واضحة في أسلوب التعامل مع الصورة ومع الشخصيات. ولعل فوز "البيات الشتوي" أيضا تتويج لمسيرة السينما التركية التي تحتفل هذا العام بمرور مائة سنة على بدايتها، وهو تاريخ له أفلام وأفلام.

المصدر : الجزيرة

الجزيرة نت في

05.06.2014

 
 

"وداعا للغة".. تحفة جان لوك جودار

أمير العمري 

لم يحضر السينمائي المجدد الكبير جان لوك جودار (83 سنة) الدورة السابعة والستين من مهرجان كان السينمائي جريا على عادته كلما عرض له فيلم في المهرجان. هذه المرة كان فيلمه الجديد "وداعا للغة"  Goodbye to Language مختلفا، فقد عرض أولا في المسابقة الرسمية للمهرجان أي متنافسا على "السعفة الذهبية" وغيرها من الجوائز، وقد نال بالفعل جائزة صغيرة، وهو حدث نادر الحدوث في مهرجان رفض قبول فيلم جودار الأول الشهير "النفس الأخير" About de Souffle (1959) الذي أعتبر مع فيلم آلان رينيه "سيرج الجميل" Le Beau Serge فاتحة حركة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية التي غيرت مفاهيم السرد والتعبير في السينما الحديثة، وحطمت الكثير من القوالب التقليدية، متبنية أسلوبا في التصوير والمونتاج والتمثيل يختلف كلية عن المفهوم الذي كان سائدا قبلها.

فيلم جودار الجديد حزين ومدهش في آن. حزين لأنه يعلق بحزن عن الحالة التي وصل إليها الإنسان في عالم اليوم، عجزه عن التواصل، ضيقه بالآخر، تبريره لانعزاله، وقوفه على هامش ما يحدث في البنية العليا في المجتمع أي على مستوى السلطة. إنه كما يقدمه جودار نفسه طبقا لكلماته المنشورة في مطبوعات مهرجان كان عبارة عن: "فكرة بسيطة. إمرأة متزوجة ورجل أعزب.. يلتقيان، يقعان في الحب، يتشاجران، ترتفع قبضات أيديهما في الهواء، كلب شارد بين البلدة والريف، تتعاقب الفصول، يلتقي الرجل والمرأة مجددا، يجد الكلب نفسه بينهما، الآخر في واحد، والواحد في الآخر، ويصبحان ثلاثة. الزوج السابق يحطم كل شيء. الوضع كما كان في البداية. لكنه ليس كذلك. من الجنس البشري نمضي إلى المجاز. وينتهي هذا بالنباح، وصرخة طفل"!

لوك جودار ملك التجديد

وهو فيلم مدهش لأن جودار، الذي يعتبر بمقاييس السن شيخا طاعنا، يفترض أن يركن فقط إلى ذكريات الماضي وما تحقق له فيه من أمجاد حتى أصبح "أيقونة" سينمائية لدى عشاق السينما في العالم، آثر ألا يستسلم للماضي، بل أقدم هنا على استخدام أحدث تكنولوجيا في الصورة أي كاميرا الأبعاد الثلاثة (لصنع فيلم الصور المجسمة)، في تلاعب ما بعد حداثي بالشكل كما كان يفعل في زمن آخر وبطرق واساليب أخرى، ولكنه لا يستخدم تقنية الـ3D لإبهارنا بعالم الفضاء والكائنات الخرافية وحروب الكواكب والمناظر التي تتجاوز نطاق كوكبنا أو تركز فقط على غرائبياته، بل في إطار الحياة البسيطة، ولوصف (إن جاز استخدام هذه الكلمة) تعقيدات الحياة اليومية بين رجل وامرأة بحيث يصبح التخاطب مع كلب أسهل وأكثر يسرا من التخاطب مع بعضهما البعض!

ما يجعل الصورة عند جودار تختلف عنها لدى غيره من السينمائيين، أنها صورة ليست مقصودة في حد ذاتها، وهي أيضا لا تأتي في سياق تعاقب منطقي درامي للصور، بل هي صورة تناقض ما ينتظر ويتوقع منها، سواء من حيث زاوية التصوير أو التكوين أو المونتاج الذي ينتقل قبل اكتمال أي لقطة بالصورة المعتادة، إلى لقطة أخرى، وحركة الكاميرا التي تسير وتتعمد الا تكشف سوى جزءا من مكونات الكادر السينمائي المفترض، والقفز من صورة لصورة يخضع فقط لمنطق ذهني تماما وليس لمنطق سردي narrative. جودار أيضا يتفلسف كعادته، ويقتبس ويستلهم من صمويل بيكيت، ومن داروين (الكلب هو الحيوان الوحيد الذي يحبك أكثر مما يحب نفسه) بل ومن هتلر (هتلر حقق كل ما تحدث عنه.. مثل فكرة الجمهورية التي سادت أوروبا، ومن الفيلسوف الفرنسي Jacques Ellui  جاك إيلوي الذي قال إن الدولة حصلت على القوة المطلقة في 1945.. (الارهاب هو الانتصار الثاني لهتلر). في أحد المشاهد تتساءل امرأة بصوت مرتفع من خارج الكادر على خلفية شاشة سوداء: نحن نلوم الدولة على تفشي البطالة.. هل أصبح المجتمع يتقبل القتل لمكافحة البطالة؟

هنا أيضا شريط صوت يتمتع بموسيقى مختارة بعناية من بيتهوفن ومن تشايكوفسكي وغيرهما، وتعليق صوتي يأتي من خارج الشاشة، ربما يكون هو صوت جودار نفسه أو المعادل له، أي صوت الفنان المعذب الذي يلخص رحلته في السينما والحياة، بالصوت والصورة، من خلال المعادل الذي يفضله أي "المجاز" metaphor  واللقطات التي تتقاطع معا وتقفز فوق بعضها البعض، وتنتقل من فكرة الى أخرى، في خليط اقرب إلى "الكولاج" في الفن، يمنحنا تلك الحالة البصرية والنفسية التي يجاهد جودار لتوصيلها إلينا، أو لعله لا يبالي أصلا بنا كمشاهدين، بل يشغله اكثر إفراغ ما في جعبته بعد كل تلك السنين!

وداعا للغة

تتعاقب لقطات لأوراق شجر تتساقط، لحمام يمتليء بالدم، مع أصوات طلقات رصاص في الخلفية، ونباح كلب، يتجول من غرفة إلى أخرى، ثم يقفز ليرقد فوق الأريكة في حجرة الجلوس الفخمة، ولقطات من أفلام قديمة بالأبيض والأسود (عيادة الدكتور كاليجاري، فرانكنشتاين، ثلوج كليمنجارو،  تعرض في الخلفية على شاشة عريضة بينما لا يشاهدها أحد، فالمرأة تجلس وظهرها للشاشة، بينما الرجل لا يظهر بوضوح أبدا في الصورة، والصوت الذي يأتينا من خارج الصورة، الذي يعلق ويشرح ويتساءل.

إستقصاء أدبي

يكتب جودار على الشاشة في مطلع فيلمه أن "التجريب إستقصاء أدبي". ويقسم فيلمه بعد ذلك إلى فصول تحمل عناوين مثل "مجاز 1" و"مجاز 2"، "ذاكرة تاريخية- ثلاثية الأبعاد". والكلب في الفيلم هو البطل الحقيقي، فهو موجود ويتحرك في معظم المشاهد التي تأتي بعد المدخل، نراه وهو يتقلب على حشائش الغابة المزهرة، وهو يتقلب على الثلج، وهو تحت المطر بين الأشجار الرجل يتساءل في احد المشاهد عن الحاجة الى انجاب طفل، والمرأة تقول إنها ليست واثقة من أنها تريد طفلا، بل تفضل الكلب. الكلب يترك فضلاته في الطريق العام. البحر هائج بأمواجه، والثلج يجعل الغابة تتجمد والكلب أيضا، الكلب ينبح، الكلب يجري في الغابة، الكلب يجلس مديرا ظهره للرجل والمرأة. تعليق صوتي عن حقوق الحيوان وان هناك 20 مادة تنظم هذه الحقوق، وكيف أن طفلا سأل أمه عندما دخل "غرفة الغاز" سؤالا واحد هو: لماذا؟ تساؤل حول مفهوم افريقيا. ومع كل محاولة للتواصل الحسي بين الرجل والمرأة، نعود إلى الكلب.

يقتبس جودار من الفنان التشكيلي كلود مونيه الذي قال إن الحيوانات ليست عارية لأنها لا تدرك أنها عارية وأننا لا يجب أن نرسم ما لا نراه. كما يقول إن الشاعر الانجليزي شيلي ولورد بايرون تركا إنجلترا واستقرا قرب جنيف مع ماري شيلي مؤلفة رواية "فرانكنتشاين". ولكن أهم الأفكار التي تتردد في الفيلم تتعلق باللغة: لقطات على شاشة العرض الخلفية لحرب، لحريق، لانجريد برجمان، للكلب يعلق النباتات بالأبيض والأسود ثم بالألوان، والباخرة التي تبحر وعلى متنها شاب وفتاة في طريقهما الى أمريكا (الساعدة في أوروبا ليست فكرة جديدة). ولكن "ما الفرق بين اللغة والمجاز أو الرمز؟". جودار رجل التلاعب بالصور يرى ان "الصور قتل للحاضر. والحاضر وحش غريب. وأين فعالية الصوت؟ وهل هناك جائزة نوبل للموسيقى والمسرح؟ وفي أي بنك كان يعمل نوبل؟ المراة عارية تضع الملابس في الغسالة الىلية الموجودة في المطبخ وتقول للرجل الذي لا نراه: لا يمكنك أن تطلق على هذا مساواة.

السفينة تبحر

"إننا نتحدث عن لاشئ.. نحن لم نعد نحب بعضنا البعض". السفينة في عرض البحر تبتعد عن أوروبا العجوز، وترتفع موسيقى التشيللو والكمان الكلاسيكية الرخيمة من بيتهوفن، ونرى نساء نحيفات مثل عارضت الازياء وصوت رصاص وصوت رجل يقول: دعيه يموت. الدم يملأ حوضا قرب نافورة. المرأة دائما تظهر في المشاهد الخارجية من خلال نافذة حديدية وكأنها مقيدة داخل سجن حتى لو كان البحر في الخلفية. والرجل شبه غائب، موجود فقط كصوت، والموسيقى أحيانا حادة قصيرة سريعة وأحيانا أخرى منسابة لها رونقها ورصانتها. والقطعات عبر المونتاج للقطات لا تكتمل وتقفز من لقطة في الداخل الى لقطة في الخارج بدون مراعاة للتسلسل الطبيعي في العلاقة بين اللقطات jump cut وهي الطريقة التي عرف بها جودار منذ بداياته الأولى كنوع من التمرد والاعتراض على الطريقة الأمريكية في رواية قصة على الشاشة. إنه لا يروي، بل يجعل الفيلم قصيدة، يعبر من خلالها عن أحاسيس، عن فكر فلسفي، عن إحساس بالعالم مليء بالرفض ولكن أيضا بالرغبة في الفهم

التكوين جزء أساسي في فيلم جودار، خاصة وأنه يتلاعب بالصورة في اطار تقنية الأبعاد الثلاثة التي يستخدمها هنا ضد منطقها التجاري الموظف في السينما، وهو يجعل الكلب في مقدمة الصورة، والبشر في الخلفية تعبيرا عن الافتقاد الى التواصل الانساني، يجعل حجم الانسان يبدو أصغر خاصة مع استخدام عدسة تجعل الصورة تبدو مضغوطة أو مشوهة. يستخدم الجسد الأنثوي بلا حرارة، ويجعل حركة الكاميرا كثيرا ما تنتهي الى شاشة سوداء.

إنه فيلم عن الموت والأفول والتلاشي والعجز عن التواصل، عن السينما البديعة التي كانت والتي لم يعد يشاهدها أحد، عن الفنان عندما يرثي لنفسه، عن العالم الذي أصبح التخاطب فيه شبه منعدم، ولم يعد هناك مجال سوى لصحبة الكلاب

جودار يكشف ما وصلت إليه الحضارة الأوروبية من "جمود"، وهو ينتهك تلك النزعة المركزية الثقافية الأوروبية ويسخر منها (هم لا يعرفون أصلا مفهوم افريقيا)، يشير الى تفشي الأفكار الشمولية (التخلص من البطالة بالقتل مثلا!)، وإلى تلك "الجمهورية الشمولية" التي أصبحت تملك السلطة المطلقة، يتشكك في فكرة المساواة، يرى موت اللغة وربما أيضا عجز الصورة عن رؤية المستقبل. ويظل الفيلم رغم صعوبته عملا بصريا وذهنيا ممتعا، وتجربة أخرى تضاف إلى تجارب جودار.. ذلك المتمرد الأكبر في السينما المعاصرة.

ورغم ما في الفيلم من نزعة تشاؤمية عدمية، إلا أن جودار يتفاءل بالطفولة، بالأجيال القادمة، فهو يضع الأطفال في بؤرة الفيلم قرب نهايته، ورغم رفض المرأة للاطفال وتفضيلها الكلب إلا أن الفيلم ينتهي على أصوات الأطفال.

الجزيرة الوثائقية في

05.06.2014

 
 

«العجائب» الحائز الجائزة الكبرى في «كانّ».. أرواح حرة

زياد الخزاعي (لندن) 

احتفى «العجائب» للمخرجة الإيطالية الألمانية آليتشي رورفاكر، الفائز بـ«الجائزة الكبرى» لمهرجان «كانّ» الـ67 (14 ـ 25 أيار 2014)، بشهامة إنسانية لأناس ذوي جسارة وأقدار عجائبية. عائلة ماكرة تعيش نأياً مكانياً واقتصادياً، يقوم على الزراعة والرعي وتربية مستعمرات نحل والمتاجرة بعسلها، ما يفرض على أفرادها العيش ضمن برّية مطلقة كأرواح حرّة. «كومونة أوروبية» نادرة الوجود، تناضل للبقاء فاعلة وحيويّة وسط رأسمالية لا ترحم، متحصّنة في حقول مناطق لازيو وأومبريا وتوسكاني الإيطالية المشهورة تاريخياً بعدائها لأتمتة الزراعة.

اختتمت رورفاكر باكورتها «جسد سماوي» (2011) بمشهد لافت للانتباه، يسأل فيه فتى غريب الصبيّة مارتا: «هل ترغبين في رؤية أعجوبة؟»، ليقدم لها ذيل سحلية مقطوعاً، يتلوى حياً على راحتي يديها، إيذاناً بـ«قطيعة» شخصية مع حياة رتيبة مليئة بخيبات ونفاق محيطين بها. تتجدّد هذه «الأعجوبة» في الفيلم الثاني، لكن بروح مفعمة بالبِشْر، عندما تُخرِج ابنة الـ12 عاماً غيلوسمينا (ألكسندرا لونغو) نحلات حيّة من فمها، تشبّهاً بملكة خلية عذراء، تأوي وتحضن وتحمي وتُطعم وتقود عائلة من 6 أشخاص وضيفة دائمة تدعى «كوكو»، تحقّق لاحقاً مهمة دفاع مريرة ضد إمرة قانون مجحف، ضحيته صبي ألماني صاحب سوابق صغيرة، تستضيفه العائلة كجزء من خطة إعادة تأهيله، قبل أن يهفو قلب غيلوسمينا له.

من أولويات هذه الأخيرة، زعامة تثبت الجماعية وحضور المبادأة الشخصية. فتوزيع العمل وتكليفاته تتمّ كلّها بـ«نفس حزبي»، وأوامر قطعيّة، والتخلّف عن أدائها معجزة. لن تُزيح الشابة إرادتي والديها، بل تهديهما نحو صَون ممتلكات «الكومونة» ضد دخلاء، على شاكلة صيادين تعبث كلابهم بالمزروعات، أو مبيدات ضارة تميت النحل وتدمّر مستعمراته واقتصادياته. البيئة وديمومتها، في هذا النصّ اللمّاح، ذات ديناميكية إحيائية أكثر منها حيزاً للتوطّن. عليه، تضع ملمّة تدمير غلّة العسل على كَوْنهم العائلي إزاء مأزق، يقود البطلة إلى مكيدة تلفزيونية نجمتها مونيكا بلّوتشي، غاوية الريفيين للمشاركة في مسابقة ونيل جائزة كبرى. فهل للمعجزات دسائسها وفتنتها؟

كما في باكورتها، صوّرت رورفاكر جديدها بصيغة «فيلم واقع»، لكن ليس بتورية وثيقة سينمائية، انتصر لعفويّة متألقة، تواجه فيه عالمان قريبان إلى تعاسة اليومي، وضمن عار مقدس مزدوج. أسرة تُقلع من جذورها، بينما يصوّر مهرّج إعلامي أبناءها كحيوانات سيرك سرعان ما يتخلّى عن مصيرهم، بعد أن ملأوا له فراغاً في الزمن السيبيري لفبركاته. المعجزات لن تأتي من الخارج. ففي عرف الفيلم، هي كامنة في قدرة البشر على صنع حظوظهم وتدبَّر حيواتهم وأرزاقهم. بحسب كلام رورفاكر: «ليس هناك بشر صالحون أو طالحون. هناك فقط أناس مكشوفون، وآخرون نجحوا في حفر جحورهم. أحياناً كثيرة، مَنْ أبانوا عن أنفسهم هم الخاسرون، لكن حتى في شعورهم بمهانة الذات لإخفاقهم، يكون ذلك وسيلة لتحقيق عزائهم». مقابل هذا، تتجلّى معجزات صغيرة، بحسب عدسة هيلين لوفار، عبر عناصر الحياة وعظمتها، من «ضياء وظلال، وحيوانات أليفة، وأسرار طفولة» كما أشارت المخرجة. بيد أن الخذلان الثنائي في المزرعة و«مسابقة بلّوتشي» يقود العائلة إلى تغييب درامي سحري، إعلاناً عن عثرة حاسمة أمام غول اقتصادي شره، ومثلها هزيمتهم في تحسين أدوات دفاعاتهم. فبعد 110 دقائق من التجوال حول مزرعتهم ومعامل تخزين عسلها وتعبئته، داخل حضائرها ومراعي حيواناتها، وبين جدران غرف نومهم وملاعب بناتها الصغار، وعند طاولات مسامراتهم ومناكفاتهم، تختتم رورفاكر نصّها بالمنزل الريفي مهجوراً ومتهالكاً، كأن شياطين نسيان سَرْطنت ذاكرة عائلة كانت مليئة بالحياة، لتتحقق هِدايَة أخيرة وصفتها المخرجة كالآتي: «ربما يقارب هذا فيلم (ثيمة) الإخفاق. البشر لا يتغيّرون، ولا يحسّنون (من أحوالهم). إن لم يملكوا مكاناً منذ البداية، فمن المؤكّد أنهم لن يجدوه في نهاية مطافهم».

السفير اللبنانية في

05.06.2014

 
 

تظاهرة ثقافية أم حملة ترويجية أم ساحة حرب أيديولوجية؟

حسابات «كان».. اللاسينمائية

سمر حمود الشيشكلي 

اختتم مهرجان كان السينمائي في نسخته السابعة والستين فعالياته بإعلانه نتائج الفوز التي كانت مثيرة للدهشة هذا العام، وقد لا تكون الدهشة متعلقة فقط بالجائزة الأساسية التي فاز بها الفيلم «سبات شتوي» للتركي نوري بلجي جيلان بالسعفة الذهبية.

من المفترض أن المهرجانات السينمائية تظاهرة ثقافية جادة، ترصد جديد الفن السابع وتحتفي به، بإعطائها الجوائز المتنوعة، للفيلم، للممثل، للمخرج، للتصوير، للموسيقى. فالمهرجان في أساسه هو منبر سينما المخرجين العالميين، وهو شاهد فني على حال العالم وتعثره.

ومهرجان كان السينمائي هو أحد أهم مهرجانات السينما العالمية، فهو يتميز بالحضور السينمائي الكبير والمتنوع الذي يرافقه، مقارنة بالمهرجانات السينمائية الأخرى التي تقام حول العالم. وتقول الصحافة العالمية عنه إنه يتميز بالتجديد وبالقدرة على مواكبة الموجات الفنية الجديدة، بل ودعمها، وربما خلقها في رحم المهرجان وأروقة الدورات المقامة.

ويوزع المهرجان عدة جوائز، تتنوع من عام لآخر مع استقرار الجوائز الأصلية له، أهمها جائزة السعفة الذهبية لأفضل فيلم. وتتبع الجائزة رزمة جوائز أخرى، منها: جائزة لجنة التحكيم، جائزة أفضل إخراج، أفضل سيناريو، أفضل ممثل، أفضل ممثلة، أفضل فيلم قصير... وقد تتجاوز الجوائز العشرين جائزة أحياناً، تتبع لجاناً وجمعيات سينمائية مختصة، تغتنم المهرجان لتمنح جائزتها.

وتمر عملية فرز الأفلام المرشحة لهذه الجوائز عبر مرشحات فنية دقيقة، حيث يزيد عدد الأفلام المقدمة للمهرجان سنويا على ألفي فيلم بقليل. وتقوم لجان مشاهدة متخصصة بفرزها والوصول بها إلى اثنين وعشرين فيلماً متنافساً فقط، يشترط فيها أن تعرض في المهرجان عرضاً عالميا أول. وفي دورة العام الحالي 2014 وصل عدد الأفلام المتنافسة إلى 18 فيلماً. إذاً فهو فعلاً تظاهرة ثقافية منتجة ومحفزة.

صفقات

على الرغم من كل ما سبق، فإن كثيرا من الناس يسيئون فهم هذا الحدث وينظرون باهتمام أكبر إلى الدور الذي يلعبه في المدينة واقتصادها، بل واقتصاد الكثير من الشركات العالمية. فمع أن المهرجان الذي يستمر لمدة أسبوعين هو عبارة عن تصنيع للمنتج، وليس لبيعه. فالناس هناك، ليس لكسب المال بل للترويج لعلاماتهم التجارية، وللتسويق لأنفسهم بشكل أو بآخر.

صحيح أن مهمة المهرجان الأساسية هي عرض الأفلام خلال فترة الأيام الخمسة عشر، ولكن الأهم من هذا بالنسبة للكثيرين، هو الصفقات التي تعقد في كنفه، وأيام المهرجان ليست هي التوقيت الذهبي لمشاهدة الأفلام. بل وقت عقد صفقات التوزيع وغيرها. والجوائز التي تحصد تزيد في رصيد شباك التذاكر لهذا الفيلم أو ذاك، كما تزيد من سعر هذا الفنان أو تلك الفنانة.

إنها تجارة. إنهم الباعة، الذين يعرضون كل أنواع البضائع التي تخطر على بالك والتي لا تخطر، من الساعات، إلى الإكسسوارات، مروراً بعيادات التجميل، ووصولاً إلى العقارات، وكلاء السفر، مديري الأعمال. صناعات واقتصاد، قد يكون بريقهم أقل لمعاناً من نجوم السجادة الحمراء، لكنهم يندفعون للحضور والاطلاع على ما عند بعضهم البعض. بينما وفي نفس المدينة، يتلقى نجوم هوليوود الجوائز، ويتلقون ويستمتعون ويتغذون على قوة التصفيق المحموم.

حتى إن جانباً كبيراً من الصحافة العالمية يعلن أن أخبار الفوز لا تهم أثناء أيام المهرجان بقدر ما يهم اكتشاف مكان وجود نجمة أو نجم سينمائي كبير، لملاحقته والفوز بسبق صحفي بصورة أو بتصريح منه!!

كما أن كل ممثل في العالم تقريباً يحلم بأن يظهر مختالاً على السجادة الحمراء لمهرجان كان، وأن يتم تعليمه، أو تعليمها كيفية الوقوف، وكيفية الابتسام للمصورين، لأخذ أفضل اللقطات.

ولا يمكن رؤية النجوم وسط الناس، وفي النهار طبعاً، ولكن الكثير من الصحفيين يذرعون المكان جيئة وذهاباً، من أجل تبادل أحاديث النميمة التي ستثري إصدارات صحفهم بالتفاهات، من أخبار النجوم، ومن القيل والقال، مثل: «ماذا حدث لوجه نيكول كيدمان (46 عاما)؟، محياها منتفخ بشكل غريب (مع أنها رائعة الجمال، كانت وما زالت)، في العام الماضي أعلنت أنها لن تستسلم لأي إجراء تجميلي، وها هي اليوم لا تستطيع إخفاء عمليات الحقن في وجهها!...

ويتم تسليط الضوء على: ماذا ارتدت؟ وماذا ترتدي كل نجمة؟ من صمم الفساتين؟ الساعات؟ المجوهرات؟ الأحذية؟ على الأخبار الشخصية التي يجب ألا تعني أحداً سوى صاحبها، ولكنها بفضل الصحافة الهابطة يصبح العالم كله معنياً بها!

ينهمك الإعلام العالمي عموماً بملاحقة كل هذا، أهو صناعة واقتصاد؟ على الأغلب هو كذلك، لكنه في الواقع يلعب دوراً فاسداً في تشكيل ثقافة عالمية عملية، تكرس رؤية سطحية استهلاكية للوجود الإنساني، ولإرثه الثقافي. لابد في النهاية أن يفوز الكل، وأن يربح كل على طريقته، حتى وكلاء العقارات.

طغيان هوليوودي

هل كان هذا المهرجان بالفعل منبراً حراً للمبدعين السينمائيين أم أن هناك أجندات تحكمه؟ البعض قال إنه مقارنة مع مهرجان برلين، فإن الحضور الطاغي هو للسينما الهوليوودية. ومن هنا يستدل على وجود أجندات وتدخلات وضغوط تمارس حتى في مجال الثقافة والفن. وكان أحد الأدلة على هذا، أن أفلحت جهة ما بمنع عرض فيلم «مرحبا في نيويورك» في المسابقة الرسمية، عن فضيحة المدير السابق لصندوق النقد الدولي «دومنيك ستراوس» الذي يلعب دور البطولة فيه أسطورة عالم السينما النجم الفرنسي «جيرارد ديبارديو».

لكن الأمر الأول المثير للتفاؤل هو أن هيمنة العمالقة على المنافسة، على الجائزة الرئيسة في المهرجان، لم تقلل هذا العام من فرص وقوع مفاجآت، وفوز أحد المخرجين الناشئين مثلاً، أو فوز مخرج من الشرق الأوسط بفيلم من بيئته بامتياز. إن فوز فيلم جيلان «سبات الشتاء» الذي صور في منطقة الأناضول وجعله اليوم من أكبر صناع الفن السابع، وتعليقات الصحافة العالمية عليه، أنه استطاع بقوة العنف الناعم الذي امتهنه جيلان في أفلامه السابقة «أوزاك» و«مناخات» أن يوسع حلقة الذاتي ليطال الجماعي. وقولها إنه رغم طول مدة الفيلم نسبياً، 3 ساعات و20 دقيقة، إلا أن المشاهدين والنقاد لم يشعروا بالسأم من متابعته، لإتقان جيلان تصوير المشاهد الثلجية بشكل عجيب، بصمتها وصخبها ومجازيتها في ترجمة تقلبات الشخصيات، وفي تجاوز الأطر والرؤى السينمائية المعتادة.

وكانت الصحافة العالمية تنحو منحى الحياد الموضوعي الديموقراطي، حين تعلق على الفيلم الشرق أوسطي، وتقول إنه من دون حروب ولا صراعات، عدا التوترات الصغيرة التي تواجهنا يوميا. يثير الفيلم التركي مسائل حول الروحانيات في احتكاكها بالدين، والمال في اقتحامه طموحات البشر. وأمام كل الوحل الذي يغرق فيه عالمنا، جاءت شخصية طفل صغير يحمل كل الحقد الناشئ ضد الظلم ويحمل كرامة البسطاء، فكانت صورة سالبة لضمير البطل المثقف «إيدن» المعذب، ولسهو الناس عن النداء الصاخب - الصامت للحق في الحياة والكرامة.

والأمر الآخر الذي يبهج في دورة 67 من مهرجان كان، هو موضوعية القرارات الأخرى للجنة التحكيم، الذي كان اختيار أعضائها هذا العام أمراً لافتاً بحد ذاته. فقد كانت مفاجأتها أن منحت جائزة اللجنة بالتساوي، للكندي الشاب كزافييه دولان عن فيلمه «أمي» بحيويته وقوته، وللفرنسي السويسري جان لوك غودار المتقدم في السن، عن فيلمه «وداعاً للغة»، وهو الذي يعتبر أحد عمالقة السينما. فكان إهداء جائزة لجنة التحكيم لكليهما رمزا قوياً، ينشئ جسراً بين أصغر المخرجين وعميدهم، فيبرهن على حداثة الاختيار.

ما بعد الصخب

عبّر المنظمون، كثيراً، في تصريحاتهم، عن رغبة حقيقية في إظهار السينما كساحة للتبادل الثقافي السلمي بين شعوب العالم. والوقوف في وجه الظلم، وقمع الحريات بكل أشكاله. فكان الاحتفاء بأفلام قد تتعارض وسياسة حكوماتها، لكنها تعبّر عن وجع ومعاناة إنسانية حقيقية. لكن السؤال الملح: ماذا لو كان هناك فيلم يفضح الممارسات العنصرية لإسرائيل؟ أو خطط ما وراء الكواليس لزعماء البنك الدولي؟ أو للشركات العالمية التي تحكم اقتصاد العالم؟ أو سياسة إحدى حكومات العالم القوي، مثل روسيا مثلا؟ لقد رأينا عرض العديد منها في العالم، ولكن هل يصل إلى شرف نيل السعفة الذهبية في مهرجان كان؟ وإن كان برأي النقاد من أفضل الأفلام فنياً؟!

لا يخفى على أحد اليوم أن السينما هي منبر ثقافي بامتياز، ودورها خطير في تكريس صور أنماط ذهنية تشكل خلفية فكرية لكثير من الأمم. وينجح الكثير من المبدعين السينمائيين في أن يقدموا للعالم رؤية فنية لأفكارهم ورؤاهم عن هذا العالم. على الرغم من كل المخاطر المحيطة بعملية تسليع الفن والإنسان عبر مظاهر احتفائية سلبية للصحافة والإعلام العالمي. ويرى الكثير من المتابعين أن مهرجانات السينما العالمية، وبالتحديد مهرجان كان، هي عوالم سحر وفتنة وترويج سلعي، وهي في الواقع لا تخدم التنمية الحقيقية في أي جزء من العالم.

ولكن حتى لو كان لا دور كبيراً للنقاد الجادين في أيام المهرجانات، يعادل دور الصحفيين الراكضين وراء كل ما يبرق ويلمع، أو ربما كانت الضجة الإعلامية البراقة التي تصاحب ظهور كوكبة النجوم في أيام المهرجان تغطي على آراء النقاد، إلا أنه ما أن ينفض الصخب حتى تبدأ الصحافة الحقيقية بمتابعة الكتابة عن الأفلام بهدوء!

سياسة وأيديولوجيا

من جهة أخرى، لم ينج المهرجان هذا العام أيضاً من سيطرة الأيديولوجيات والدعاية السياسية ضيقة الأفق، فلم تعد السجادة الحمراء المكان المثالي لاستعراض النجوم إطلالاتهم الجديدة فحسب، بل صارت نافذة للتعبير عن مواقف سياسية خاصة، كما حدث مع الممثلة المكسيكية سلمى حايك التي استغلت ظهورها على السجادة الحمراء، لتوجيه رسالة لجماعة «بوكو حرام» النيجيرية التي اختطفت 200 تلميذة من تلميذات إحدى المدارس، إذ رفعت حايك لافتة كتب عليها بالإنجليزية عبارة «أعيدوا بناتنا»، واستعملت اسمها للترويج لهذه القضية، رغم أن الترويج السياسي ممنوع في تلك المهرجانات. سلمى ذات الأصول العربية اللبنانية من ناحية الأب، ناشطة في مجال نصرة المعنفات والمضطهدات من النساء، وربما كان هذا وراء وقفتها تلك، ولكن السؤال الذي لا سبيل إلى تفادي طرحه هنا: لماذا نساء نيجيريا، وليس أنهار الدماء التي تراق في العالم العربي اليوم، إن كان الضمير لا يحتمل الظلم حقاً؟

لقد اتسمت مشاركة نوري بلجي جيلان هذا العام بطابع سياسي، منذ حضوره عرض فيلمه، حيث صعد فريق الفيلم درج المهرجانات القصير المغطى بالبساط الأحمر، حاملين على بدلاتهم شارة الحداد على عمال المناجم الذين قضوا في حادثة هزت تركيا في الفترة الأخيرة. واستغل جيلان حصوله على التكريم بالفوز، فأهدى السعفة لـ «شباب تركيا، بمن فيهم أولئك الذين لقوا حتفهم في مظاهرات العام الماضي».

على عكس توقعات النقاد والمتابعين، لم يحصل فيلم المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو، على أي من الجوائز الرسمية لمسابقة مهرجان «كان» السينمائي في فرنسا، في دورته السابعة والستين هذه. وقد كان عدد كبير من النقاد والصحفيين المتخصصين في السينما، قد توقعوا حصول فيلم «تمبكتو» على جائزة «السعفة الذهبية»، أو إحدى جوائز المهرجان الأخرى.

ولكن سيساكو فاز فعلاً بجائزة «شارل شالي بووير» في دورتها 18، وقالت «إذاعة وتلفزيون لكسمبورغ» على موقعها الإلكتروني إن الجائزة تمنح لفيلم يعكس جانباً من الحياة الحقيقية للناس. كما منحته لجنة التحكيم جائزتها، (المسكونية) أيضاً.

أثيرت ضجة حول فيلم تمبكتو الذي ظن الكثيرون أنه مشاركة عربية في مهرجان عالمي، وتوقع له المتابعون والنقاد الفوز بالسعفة الذهبية. لكن متتبع الفيلم وقصته يجد أنه ظل فيلماً ذا لكنة بل وتأتأة أحياناً في لغته السينمائية، وفي تعامله مع موضوعه، وهو الجماعات الإسلامية المتطرفة على حد قول مواقع صحفية عديدة.

قالت مصادر نقدية عديدة (غير أوروبية طبعاً) أن سيساكو قارب موضوعه بكم كبير من الكليشيهات والصور النمطية والقوالب الجاهزة، كتلك التي تنتشر في وسائل الإعلام العالمية وتنتصر لصورة سطحية، تفشل في سبر أغوار واقع بالغ التعقيد، كما هي الحال في الصحراء الأفريقية وجنوبها. وغرق الفيلم بنفس السلبيات التي تؤخذ على النظرة الاستشراقية في تنميطها ومقولاتها التصنيفية التي تعجز عن اكتشاف القوانين والمحركات الحقيقية لواقع محلي بالغ التعقيد. فبدا سيساكو (الذي يقدم في الغرب في صورة ابن البلد العارف بتعقيداته) بدا أكثر «ملكية من الملك» في تعزيز الصورة النمطية المقدمة عن دول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا في كثير من وسائل الإعلام الغربية.

كان هذا واضحاً في الفيلم الذي حظي بشرف الحضور دون غيره من الأفلام في قائمة مسابقة المهرجان الكبرى التي ضمت عدداً من رموز السينما وكبار مخرجيها.

بصراحة لا أظن أن «الزائر العادي» مثلي ومثلك سيرى الكثير في تلك الفترة. فيكاد يكون من المستحيل مثلاً الحصول على تذاكر أي فيلم من المسابقة الرسمية أو من أفلام خارج المسابقة. وسيكون الأمر ممكناً عن طريق الدعوة فقط، وهذا طبعا مستحيل، ما عدا العروض المجانية في الهواء الطلق على الشاطئ للأفلام الكلاسيكية.

نقطة جديرة بالذكر، وقد تناقلتها بعض وسائل الإعلام هي أن هذه الأفلام، وغيرها الكثير من الأفلام القادمة من مدن لا ينتبه لها ولا يهتم بها أحد، ولا يتكلم عنها أحد، ومن عمق أفراح ومآس وتعقيدات إنسانية واجتماعية لدول متعددة وبلغات مختلفة، تجعل الكثيرين، رغم كل مظاهر البذخ والاستعراض البادية على قشرة المهرجان في الوقت الراهن، يبشرون بالعودة إلى أصل فكرة إقامة المهرجان عام 1939، حيث التفاهم والتعاون من خلال «السينما» بين شعوب العالم الحر، والوقوف معا ضد التطرف والعنصرية، متمثلين، جميعا، مقولة غابرييل ماركيز الشهيرة: «السينما تغير العالم».

الإتحاد الإماراتية في

05.06.2014

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)