كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

التاريخ في تفاصيله الصغيرة...

والإنسان حين يصنع الأحداث الكبرى

كان (جنوب فرنسا) - ابراهيم العريس

مهرجان كان السينمائي الدولي الثاني والستون

   
 
 
 
 

مساء غد، السبت، يختتم مهرجان «كان» السينمائي دورته الثانية والستين، بإعلان أسماء الأفلام الفائزة بجوائزه القليلة، إنما التي يتطلع إليها اصحاب الأفلام، سواء كانوا مبدعيها أو مموليها، ناهيك بالجمهور والنقاد الذين اختار كل منهم تفضيلاته ويريد ان يعرف ما اذا كانت النتائج التي ستعلنها لجنة التحكيم ستأتي متطابقة مع هذه التفضيلات. ومع هذا يعرف كل واحد ان الأمر في النهاية أشبه باللعبة، وأن أي اختيار ستقرره ايزابيل هوبير (رئيسة لجنة التحكيم) وزملاؤها، سيكون اختياراً شخصياً، ولا يعني أبداً ان من سيفوز هو الأفضل بالمطلق. ويعرف كل واحد ان النتائج، وفي أحيان كثيرة، تأتي مخالفة لكل التوقعات، إذ تدخل أمور كثيرة في تعيينها. وإذا كانت الصحافة المهنية الأساسية التي تحرر وتوزع في «كان» خلال المهرجان تصر يوماً بعد يوم على توزيع العلامات على الأفلام، في تراتبية باتت معتادة، فإن الكل يعرف ان هذا الإلحاح اليومي نادراً ما ينعكس في قراءات لجنة التحكيم، وإن كان يؤثر الى حد ما في عمليات شراء الأفلام لتوزيعها، من جانب الموزعين الذين يحدث لكثير منهم ان يستشيروا حقاً تلك الصفحات.

حتى كتابة هذه السطور، إذاً، ليس ثمة ما هو واضح وعلى الفضوليين ان ينتظروا مساء السبت لمعرفة الحصيلة «الجوائزية». أما نتيجة الصفقات والمداولات والتبادل، فإن في الإمكان أن نقول عنها منذ اليوم، انها أتت جيدة وأفضل مما كان متوقعاً. فالحقيقة ان لكثرة ما جرى الحديث عن الأزمة المالية - الاقتصادية العالمية، ظن كثر ان مهرجان «كان» بـ «سوق الفيلم» فيه سيعكس هذه الأزمة، لكن الذي حدث هو العكس: بدت السينما، مالياً واقتصادياً، وكأنها ملجأ، يمكن مواصلة الاستثمار فيها. أو هذا على الأقل ما تتداوله الأوساط المعنية عشية كشف الأرقام الحقيقية للمبادلات. ولعل الملاحظة الموقتة التي يمكن ايرادها هنا، هي ان أكبر السعداء في هذه الدورة هم الفرنسيون. لأن السينما الفرنسية، والأموال الفرنسية في سينمات الآخرين، كانت لها حصة الأسد في كل شيء: من الصفقات، الى الإقبال الجماهيري وصولاً الى تكريس غير مسبوق لحضور الممثل الفرنسي في الأفلام الفرنسية، ولكن ايضاً في أفلام كثيرة غير فرنسية، ما يمكّننا من ان نضيف «فن التمثيل الفرنسي» الى ما يسمى عادة بالبضائع الفرنسية الفاخرة (كالشمبانيا، والمجوهرات والأزياء... الخ). وحسبنا ان نذكر هنا جوني هاليداي، في فيلم آسيوي، هو «الانتقام»، وإريك كانتونا في فيلم إنكليزي، هو «البحث عن إريك»، وخصوصاً ديان كروغر، في فيلم أميركي هو «أوغاد سيّئو السمعة» وجان بيار ليو في «وجه» لتساي ميانغ لينغ.

هتلر هاوي سينما

في مقابل هذا، تنوعت المواضيع هذه المرة كالعادة في «كان» سواء كان هذا في المسابقة الرسمية أم خارجها، كما تنوعت البلدان والحساسيات السينمائية بحيث يصعب حصرها والحديث عنها في نص واحد، غير ان اللافت حقاً في هذا المجال، والذي يمكن التوقف عنده هنا، في انتظار الدنو من أنواع وحساسيات أخرى في مقالات مقبلة، هو حضور التاريخ بقوة، ولكن ليس بالشكل التقليدي الذي اعتاد التاريخ ان يحضر به في الفن السابع. فالتاريخ يحضر الآن بأشكال أكثر شخصية وذاتية. وتحضر الشخصيات التاريخية في ارتباط أكثر مع التاريخ الذي عاشته، عبر تمفصل أكثر وضوحاً بين ما هو ذاتي وموضوعي في التاريخ. بكلمات أخرى، يحضر الحدث التاريخي وهو أقرب الى من صنعه أو انصنع به، كما هو أقرب الى زمن صنع الفيلم من زمن صنع الحدث. وهذا ما جعل الأمر يبدو وكأن السينما، إذ تحاول ان تعيد النظر في بعض الأحداث التاريخية الكبرى، تحاول في الوقت نفسه ان تعيد النظر في تاريخ دنوّها من التاريخ، ولنوضح هذا.

هتلر، على سبيل المثال، يحضر هو وحربه العالمية الثانية في فيلم كوينتين تارانتينو الرائع والتجديدي... لكننا اذ نراه في هذا الفيلم، نشاهده عن قرب، بلقطات مبكرة في وقت يستعد للمشاركة في العرض الباريسي الأول لفيلم ألماني، ما يتيح له ان يتحدث عن السينما ويتيح لنا ان نرى صورة أخرى له. وتزداد أهمية هذه النظرة من خلال اختيار تارانتينو ان يحكي الحرب من خلال خمسة فصول تنطبع بالطابع الشخصي: الحرب عبر شخصيات مكبلة، من دون بطولات. من دون معارك. بل حتى في اختيارات اسلوبية تبدو اقرب الى العمل المسرحي الاستعراضي حيناً، وإلى مناخات الويسترن، في حين آخر... إنه التاريخ من الداخل، على طريقة تارانتينو.

التاريخ الكبير يحضر ايضاً في الفيلم العربي الوحيد المشارك في المسابقة الرسمية وهو «الزمن الباقي» لإيليا سليمان. إنه تاريخ فلسطين طوال ستين عاماً تقريباً، حاضر هنا امام أعيننا، كما نعرفه طبعاً من ناحية تسلسل احداثه حيث لا يبدو انه يحاول ان يكشف جديداً. غير ان الأهم من هذا هو انه يقدمه وبأسلوبه السينمائي الفريد طبعاً من خلال الذات ممثلة بوالدي المخرج، وببضع شخصيات أخرى، وهذا الأمر لا يعطي السينما وحدها نكهة جديدة، بل يعطي هذه النكهة للتاريخ نفسه، ما يجعل «الزمن الباقي» يبدو وكأنه يدعونا الى اعادة النظر، ليس في ما حدث حقاً في التاريخ المعروف بل في نظرتنا إليه وتفسيرنا له.

رأس البلاد ورأس الكنيسة

وهذا الشيء يفعله ايضاً أحد أكبر مخرجي روسيا في ايامنا هذه، بافيل لونغين، الذي بعدما قدّم خلال السنوات الفائتة أفلاماً معاصرة صاخبة شديدة الفوضى الخلاقة من الناحية الأسلوبية يواجه في فيلمه الجديد والذي مر مرور الكرام في «كان» للأسف، موضوعاً تاريخياً سبق لسلفه الكبير سيرغاي ايزنشتاين، ان حقق عنه اثنين من أعظم افلامه «ايفان الرهيب» في جزءيه. فيلم لونغين عنوانه «قيصر» وهو يروي لنا طبعاً، شيئاً من سيرة هذا القيصر الروسي المؤسس، ولكن ليس على طريقة ايزنشتاين الإيديولوجية (التي كانت خلال سنوات الأربعين تحاول ان تؤدلج الشخصية لتسقطها على شخصية ستالين)، بل على طريقة شكسبير، حيث يبدو التاريخ وكأنه صراع إرادات في اللحظات المصيرية. ذلك ان ما يغلب على موضوع هذا الفيلم، ويشكل محوره الرئيس إنما هو الصراع الذي يحتدم بين سيد البلاد وسيد الكنيسة. لقد كان ايفان هو الذي عيّن صديق عمره فيليب على رأس الكنيسة آملاً في ان يتمكن من التلاعب به، لكن فيليب ما ان يقبض على مسؤولياته ويدرك ان مطاوعته ايفان ستوصل البلاد الى كارثة، حتى يستقل بإرادته عن إرادة سيده وينفتح بين الاثنين صراع عنيف. صراع سرعان ما يتخذ طابعاً شخصياً، ما كان يمكن ان يوجد في تحفة ايزنشتاين القديمة حيث الأسبقية للتاريخ على البعد الفردي، فيما العكس هو الذي يحصل في «القيصر». والحقيقة اننا إذا أردنا ان نشبه بعض ما في هذا الفيلم، ببعض ما في فيلم آخر، سيخطر في بالنا فيلم «المصير» ليوسف شاهين.

فيلم «المصير» نفسه، ولربما ينبغي لهذا الأمر ان يشكل فخراً للسينما العربية، يفكر فيه المرء وهو يشاهد فيلماً تاريخياً آخر شوهد في «كان»، إنما خارج المسابقة الرسمية وهو فيلم «آغورا» للإسباني أليخاندرو امينابار. وسنرى في دراسة مقبلة عن هذا الفيلم، جملة التقابلات بين «المصير» و «آغورا». اما هنا فيهمنا ان نضع هذا الفيلم الضخم والمميز، في سياق ما نتحدث عنه. فالفيلم هو عن مكتبة الاسكندرية أواخر القرن الرابع الميلادي، حيث كانت هذه المكتبة والمدينة، منارتين للعلم والمعرفة، بعد ان ورثتا الحضارة اليونانية بفكرها العقلاني. ونحن نعرف تاريخياً ان مكتبة الاسكندرية دُمّرت وأُحرقت، وأن أول فيلسوفة وعالمة امرأة في التاريخ، هيباتيا كانت من أول ضحاياها. لكننا نعرف هذا، عادة، في سياق تاريخي كبير. في «آغورا» ينقل امينابار، التاريخ من دائرته الكبرى، الى دائرة أصغر، الى حيث الإنسان صانع التاريخ، بإرادته أو من دون إرادته، فتصبح المشاعر والحب والصراعات الصغيرة والعلاقات العائلية، جزءاً اساسياً مما يحدث. ولعل خير مثال على هذا، هنا، هو ان الفيلم يخرج هيباتيا، من الذاكرة التاريخية المجردة، ليضعها امام اعيننا كأنها من لحم ودم، يفكر ويُحِب ويُحَب. العالمة الحسناء تبكي لما حدث، تداري آلام أبيها العالم ثيون وهو يحتضر.

وكأن السينما تحفظ أكثر وأكثر دروس السينما! أفلا يدفعنا هذا الى استذكار فيلمين على الأقل من أفلام الروسي ألكسندر سوكوروف: «مولوخ» عن حياة وآخر أيام هتلر في علاقته مع عشيقته، فيما الحلفاء يطبقون على برلين وينهون الحرب، و «توروس» حيث نعيش مع لينين آلام ايامه الأخيرة حين يموت مقعداً؟ أفلا يبدو الأمر وكأن السينمائيين يعطون حياة جديدة - على الشاشة - لوجوه جمّد التاريخ الرسمي صورتها في الكتب، وفي حياة، من دون حركة؟

 الأجانب الذين حرروا فرنسا

وألا ينطبق هذا، ايضاً، على فيلم «الانتصار» لماركو بللوكيو، احد مخضرمي السينما الإيطالية؟ ان التاريخ حاضر ايضاً في هذا الفيلم، لكن من خلال حكاية تكاد تكون عائلية: حين كان موسوليني شاباً ومناضلاً اشتراكياً متحمساً وعنيداً، تتعرف إليه صبية حسناء، تدعى ايدا والسر. وإذ يغرمان ببعضهما بعضاً تحمل منه وتنجب ولداً. لكنه يكون في ذلك الحين هجرها وحلّق بعيداً. لذا تبدأ بمطاردته آملة ان تستعيده أو ان يعترف بأبوته للولد، فيسجنها وتظل هي مصرة على متابعة حكايتها. إذاً، ها هو التاريخ هنا، من جديد، على مسافة قريبة جداً من صانعيه. وها هو موسوليني، يلوح بصورة أخرى تماماً، صانعاً للتاريخ، إنما في شكل يجعله عنصراً فاعلاً وأساسياً في التاريخ الصغير ايضاً.

إخراج الصورة من صفحات الكتب، الى نبض الحياة السينمائية يأخذها على عاتقه ايضاً المخرج الفرنسي روبير غيديغيان، في فيلمه «سلاح الجريمة». وهو فيلم عن موضوع يعرفه الفرنسيون جيداً، بل سبق للسينما الفرنسية ان قدمته مرات عدة، وهو حكاية المقاومين الأجانب الذين خاضوا خلال الحرب العالمية الثانية، المقاومة ضد المحتل النازي لفرنسا، وعرفوا باسم «جماعة مانوشيان» على اسم زعيمهم الأرمني. هذه المرة - وتقريباً على عكس ما كان فعله فرانك كاسانتي قبل ثلاثة عقود حين حقق عن الموضوع نفسه فيلماً لافتاً هو «الملصق الأحمر» على اسم القصيدة التي كتبها لويس أراغون عن اولئك المقاومين - أراد غيديغيان، وهو بدوره من اصل أرمني، ان يقول الحاضر من خلال الماضي: ففي الماضي كان اليمينيون الفرنسيون، من أنصار النازيين والمتعاونين معهم، هم الذين استجابوا لحملة الكراهية التي أثارتها سلطات فيشي والسلطات النازية ضد المقاومين الأجانب، ما تسبب في اعتقال 21 منهم وإعدامهم، وسط صمت فرنسي ثقيل. ومن الواضح هنا ان غيديغيان أراد من إعادة تحقيق هذا الفيلم، ان يذكّر الفرنسيين، من ناحيته بما فعله المقاومون الأجانب من اجلهم، وما فعلوه هم تجاه اولئك... ومن الواضح ان غيديغيان أراد بهذا ان يحول التاريخ الى درس إنساني، جاعلاً - مثلاً - من تصويره المقرّب لوجوه المقاومين الأجانب، ودنوه الحميمي من حياتهم اليومية، فعل نضال راهناً ضد كل تعصب وكراهية للأجنبي.

طبعاً، يمكن الاستطراد في هذا السياق، ويمكن التوقف عند افلام مثل «الاستقلال» الفيليبيني، و «حكايات من العصر الذهبي» الروماني وغيرها... لكن اللائحة ستطول كثيراً إن فعلنا. والمهم في هذا كله، هو ان هذه الدورة الجديدة من «كان»، أكدت من جديد، ذلك الدور الذي ما فتئت السينما تلعبه، منذ بداياتها، لكنها تعرف في كل مرة كيف تبدله وتغيره وتطوره، بحيث أوصلته هذه المرة الى مكانه الطبيعي: تاريخ الإنسان على الشاشة الكبيرة من خلال فعل هذا الإنسان وانفعاله بالأحداث الكبرى، التي مع تدخل السينما هذا، تصبح جملة من أحداث صغرى!

الحياة اللندنية في 22 مايو 2009

####

عرب «كان»: تعالوا صوّروا عندنا

إذا كانت السينما العربية قد غابت في شكل عام - باستثناء السينما الفلسطينية - عن التظاهرات الرسمية بل حتى الثانوية في المهرجان، فإن سوق الفيلم شهدت عروض الكثير من الأفلام العربية - ولا سيما المصرية - كذلك فإن البلدان العربية حضرت، في القرية العالمية من خلال أجنحة لبلدان عدة منها: لبنان، مصر، المغرب، تونس، الأردن... ناهيك بدبي وأبو ظبي اللتين كانتا الأنشط على صعيد نشر الإعلانات الضخمة والأخبار المتلاحقة عن مهرجانيهما المقبلين... في تنافس بينهما لافت ومثير للدهشة. في المقابل كان هناك تنافس، بين أجنحة لبنان والأردن والمغرب وتونس، شعاره هذه المرة: «تعالوا صوروا عندنا». حيث كانت هذه الدعوة حاضرة، في الأحاديث الصحافية وفي اللقاءات والندوات. وهو أمر كان لافتاً، لكنه كان كذلك محط اهتمام حقيقي من جانب الكثير من الشركات التي طلبت ملفات ومعلومات، وهي تتذكر نجاح تجارب تصوير الأفلام العالمية في هذه البلدان، منذ «لورانس العرب» في الأردن أوائل الستينات، وحتى الأفلام الكثيرة التي تصور في ورزازات المغربية منذ سنوات. 

انطونيوني: السيناريو الأخير والثأر المتأخر

لو كان المخرج الإيطالي الكبير الراحل انطونيوني حياً، لسحره هذا المشهد: المتفرجون والنقاد يصفقون بقوة وحرارة، والدموع تترقرق في أعين البعض منهم، بعد انتهاء عرض فيلمه «المغامرة» ضمن اطار برنامج خاص هو «كلاسيكيات كان». لقد كانت في هذا المشهد بالذات، صورة حقيقية لثأر انطونيوني من «كان» واعادة اعتبار حقيقية لذلك الفيلم الذي ظُلم كثيراً قبل نحو نصف قرن حين راح الجمهور... والنقاد معه... يشتم ويصرخ محتجاً ضد الفيلم وأسلوبه، مطالباً - حتى - بوقف عرضه. يومها بكى انطونيوني وهو يخرج من الصالة. وظل حزيناً وكارهاً لفرنسا والفرنسيين، على رغم ان عدداً كبيراً من السينمائيين والنقاد، أصدر في اليوم التالي بياناً ندد فيه بذلك التصرف الهمجي من قوم يجهلون ما هو الفن وما هي السينما. وعلى ذكر انطونيوني، لا بد من ان نذكر هنا ان شركة «جاز فيلم» أعلنت في «كان» قبل أيام انها ستبدأ خلال الشهور المقبلة تصوير فيلم عنوانه «برقيتان»، كان انطونيوني كتبه قبل رحيله بعام، وهو في أعنف حالات المرض. وأكدت الشركة ان هذا النص الأخير لصاحب «بلو آب» و «الصحراء الحمراء» سيفاجئ المتفرجين الذين سيصعب عليهم أن يصدقوا ان كاتبه كان حين أنجزه في الرابعة والتسعين من عمره، أصم، أخرس، ومع هذا كان ينوي أن يحققه بنفسه مقعداً على كرسيه! 

1529 صالة ديجيتال أوروبية

من الأمور اللافتة التي أعلنت خلال الأيام الفائتة في «كان» ذاك الذي يتحدث عن نسبة زيادة قدرها 70 في المئة هذا العام عما كان عليه عدد الصالات المزودة بأجهزة عرض ديجيتال في أوروبا، بدلاًَ من الأجهزة العادية التقليدية (35 ملم). جاء ذلك في تقرير رسمي أشار الى ان عدد هذه الصالات الأوروبية التي تعرض بالديجيتال صار 1529، وان بريطانيا هي البلد الذي فيه العدد الأكبر من هذه الصالات (303 صالات في 229 مدينة وبلدة) تليها فرنسا (253 صالة)، ثم المانيا (161) وبلجيكا (98) فروسيا (90) والنمسا (84) وإيطاليا (90) ثم هولندا (56)، بولندا (53) وإسبانيا (53). 

اريك كانتونا... السينمائي

على رغم ان فرنسا احتفلت بأشياء كثيرة خلال مهرجان «كان»، الى درجة بدت معها نجمة المهرجان من دون منازع، كان الاحتفال بلاعب الكرة اريك كانتونا، فرنسياً على الأقل، الأكثر ظهوراً، وليس تماماً بصفته لاعباً عالمياً يعتبر من الأمجاد الفرنسية في هذا المجال، بل بصفته ممثلاً سينمائياً، حيث - كما بتنا نعرف الآن - يلعب كانتونا، في فيلم «البحث عن اريك» دوراً أساسياً: يظهر أول الأمر الملصق في غرفة بطل الفيلم، ثم يخرج من ملصقه ليحادثه وينصحه ويعلمه سلوك درب الحياة. وكانتونا نفسه لم يتوقف طوال أيام مهرجان «كان» عن الادلاء بتصريحات صحافية، لوحظ فيها في شكل عام ان لهجته الاستفزازية السابقة قد اختفت تقريباً، وبدأ يتعامل مع الناس والحياة تعامل السيد الحقيقي. أما بالنسبة الى مستقبله السينمائي، فإنه أكد عليه قائلاً انه لن يتوقف عند هذا الحد، بل «سأخوض مجازفات كثيرة مقبلة في هذا السياق». وهنا لا بد من أن نذكر ان هذه ليست على أية حال أول تجربة سينمائية للاعب الكروي الشهير، بل هي التجربة الخامسة، فهو كان بدأ في فيلم «السعادة في الحقول» (1995)، ثم ثنى على ذلك في «أبناء المستنقع» (1998) وبعد ذلك كان دوره في فيلم مقتبس عن شرائط مصورة، فدوره في «النفس الثاني» لآلان كورنو.

الحياة اللندنية في 22 مايو 2009

 
 

فيلم ايراني ـ عراقي تدور احداثه في المنطقة الحدودية في العراق في اسبوع النقاد

 كان (فرنسا) ـ (ا ف ب)

شارك فيلم 'همس الريح' للايراني شهرام اليدي في تظاهرة 'اسبوع النقاد' تحت اسم العراق ناقلا الى مهرجان كان في دورته الـ 62 آلام واحلام اكراد العراق ومأساتهم ايام النظام السابق.

وذكرت مصادر ايرانية مطلعة لوكالة فرانس برس أن الفيلم قدم على أنه عراقي لأنه حصل على مساعدة انتاجية كبيرة من حكومة كردستان العراق. وقدم المخرج الكردي المولود في طهران والذي درس السينما في ايران في عمله الاول صيغة شاعرية لكن ثقيلة لهذه المأساة على خلفية ما تعرض له الاكراد العراقيون ابان نظام الرئيس الراحل صدام حسين.

بطل الفيلم ساعي بريد مسن من نوع خاص، يوزع في منطقة كردستان رسائل صوتية مسجلة على كاسيتات ويجوب الاماكن كلها خلال عمله فتجوب معه الكاميرا بطريقة شاعرية وسوريالية لكن احيانا موغلة في الرمزية.

وتكون تلك مناسبة لعرض مشاهد طبيعية خلابة من تلك الامكنة القصية البرية المتمادية في جمالها لكن الفيلم يطل خلال ذلك ايضا على حقول كاملة من القبور التي دفن فيها الاكراد في المقابر الجماعية.

ويهدي المخرج شريطه 'لكل الضحايا الذين قتلوا وانتزعت منهم اعمارهم قبل الاوان' كما يصور 'احلام الاطفال الذين دفنوا الى الابد هم واحلامهم'.

ويتحول تنقل الرجل لتوزيع البريد شيئا فشيئا الى رحلة في الفولكلور الكردي ونزهة مشبعة بالموسيقى والاغاني التي تهمس كما الريح في تلك الاماكن الجبلية العالية.

يتقدم الرجل المسن 'الرسول' بطيئا في تنقله لتتمهل الكاميرا معه وتلتقط انعكاسات الجبال في المياه وفي المرايا وعبر الزجاج او المساحات الاخرى.

ويريد المخرج لفيلمه ان يكون شهادة مختلفة على وقائع ما جرى لاكراد العراق فيقدم في سياق بعيد عن الكلاسيكية بل اقرب الى السوريالية مشاهد مثل مشهد الارامل اللواتي يذبن في المكان ومشهد القبور المختلفة عن كل القبور التي خبرتها ذاكرة المشاهد. سوريالية تنطبق ايضا على تلك الشجرة التي علقت اليها اجهزة راديو ومسجلات في تركيب غريب امتد الى ملامح الشخصيات وازيائها الخاصة لكن الاكيدة .

يجوب ساعي البريد المسن 'مام بالدار' جالسا امام مقود شاحنته القديمة الزرقاء تلك الاماكن الرائعة في مهمته لايصال الرسائل الصوتية للامهات القلقات على فلذات اكبادهن وكل المتعطشين لسماع انباء اقربائهم واحبائهم في ذلك المكان المنعزل. ويمضي الفيلم الى الامام حين يطلب احد مناهضي النظام من ساعي البريد الذهاب الى قريته وتسجيل صوت اول بكاء لطفله الذي سيولد على المسجل حتى يتمكن من سماعه.

واذا كان الفيلم يحمل بصمة صانعه وينم عن موهبته الاكيدة فهو لا يخلو من خلفية سياسية ومن رمزية تمثلت ببكاء الطفل المسجل والذي تردد في كل انحاء كردستان عبر مكبرات الصوت حيث لا يعود الفيلم يهمس بل يصرخ دليلا على المقاومة والاستمرارية والامل رغم الآلام.

مخرج موهوب يقدم في 'همس الريح' عملا مكثفا من خمسة وسبعين دقيقة من الصورة والسينما البعيدة عن الثرثرة والتي تحمل قيمتها الاولى في فنية الصورة والاطار وتستمد خصوصيتها من اصالة المكان والدفاع عن الهوية والانتماء.

القدس العربي في 22 مايو 2009

 
 

تارانتينو الحالم بالعدالة يحققها في فيلمه

فيلم جميل وغامض لميكائيل هانيكي

قصي صالح الدرويش من كان

خلافاً لتوقعات الصحافة لم يكن فيلم كوينتين تارانتينو الجديد Inglourious Basterds الحدث الدرامي الأكبر  الجدير بالسعفة الذهبية في المهرجان، الفيلم بدا قريباً من أفلام رعاة البقر الإيطالية رغم أنه يتناول الحرب العالمية الثانية ويعرض بطولات فرقة كوماندو مكونة من اليهود الأمريكيين بقيادة الملازم الدو راين الذي جسد شخصيته النجم براد بيت، هذه الفرقة تسللت إلى خلف الصفوف الألمانية بهدف بث الرعب وقطع خطوط جبهة القتال. صحيح أن موهبة تارانتينو تفرض نفسها على مستوى تصوير الأحداث وما فيها من عنف وأيضا ما فيها من فكاهة. فالمخرج الأمريكي وطبقا لوصف أحد الممثلين في الفيلم هو رجل حالم رغم صور العنف التي شاهدناها في أفلامه السابقة  مثل Pulp Fiction أو "جاكي براون" أو "اقتل بيل" أو فيلم "شارع الموت" الذي عرض في كان قبل عامين، تارانتينو طفل حالم يصور العنف كي يدينه ويستمتع في تصوير الانتقام وكأنه يريد في أفلامه تحقيق العدالة كما يتمناها الطفل بعفويته.

فيلم Inglourious Basterds  الذي يمكن ترجمته "أولاد حرام غير عظماء" لا يستند إلى وقائع التاريخ على الإطلاق وإنما على سيناريو ألفه المخرج بنفسه مستلهما أحداث الحرب وجرائم النازية فيها. وفكرة الفيلم تعود إلى أكثر من عشر سنوات مضت، بدأ به ثم توقف عدة مرات وكأنه أراد التأمل لاستكمال الصورة النهاية للسيناريو ليصل إلى هذه الصيغة التي كانت مفاجئة من حيث الشكل الكوميدي في تصوير عملية الانتقام. كما فاجأ تارانتينو باختياره للممثلين الذين جاؤوا من فرنسا وألمانيا والنمسا والولايات المتحدة وكل تحدث لغته الأم أي لغة الشخصية التي يجسدها في الفيلم، ويشكل هذا الخليط التمثيلي عنصرا غير معتاد في السينما الهوليوودية، لكن بدا المخرج ومنتجو الفيلم وممثلوه مرتاحين لهذه الخلطة الفنية التي تناغمت في فيلم ناجح على مستوى الأداء والإيقاع والتصوير.

أحداث الفيلم تبدأ في فرنسا إبان الفترة الأخيرة من الاحتلال النازي وفي منطقة  الللورين الحدودية مع ألمانيا حيث نتابع مزارعا يعيش في كوخ خشبي مع بناته الثلاث تقتحم فرقة عسكرية نازية كوخه ويستدرجه الضابط لاندا للاعتراف بأنه يأوي في بينه عائلة يهودية، فينهار الرجل خوفا على بناته ويشير إلى القبو الذي تختبئ فيه العائلة اليهودية التي تجري تصفيتها في مذبحة، لكن إحدى الفتيات تنجو في اللحظة الأخيرة ونراها تعدو بعيدا في الحقول المزروعة ويصوب الضابط النازي سلاحه ليطلق النار عليها لكنه يتوقف في اللحظة الأخيرة، تلك الفتاة سيكون لها دور هام على امتداد الفيلم. 

على محور آخر نتابع ممثلة ألمانية معروفة تبدو على علاقة وثيقة مع الضباط الألمان وتدعى بريجيت لكنها في الحقيقة عميلة سرية لصالح الاستخبارات الأمريكية وهي التي ستصبح همزة الوصل مع فريق الكوماندو الأمريكيين اليهود كي تساعدهم على اصطياد النازيين وقتلهم، وعلى الأخص اصطياد هتلر ومساعديه خلال العرض الأول لفيلم يمجد الفوهرر سيعرض في صالة باريسية تديرها الصبية التي كانت شاهدة على تصفية عائلتها في بداية الفيلم واسمها شوزانا. وكانت مجموعة الكوماندو قد عرفت بأن هتلر سيحضر العرض بفضل اعترافات ضابط أسروه وأعطى المعلومة لقاء وعد بأن يستطيع الهجرة والعيش في أمريكا، لكن زعيم الكوماندو يصر على تعذيبه كما يفعل النازيون مع أسراهم.

بين شوزانا التي تنتظر في صالة العرض التي تديرها كي تنتقم لعائلتها ومجموعة الكوماندو والممثلة الذين يريدون تنفيذ عملية خلال نفس العرض، تتحول صالة السينما إلى ساحة تجمع قيادات الجيش النازي وزوجاتهم يتقدمهم هتلر بينما يحاول الفدائيون اليهود إقفال بوابات الدخول لقنصهم داخل الصالة بينما تقرر شوزانا حرقها بمن فيها، لينتهي الأمر بمذبحة يقتل فيها عدد كبير من النازيين كما تقتل الممثلة الألمانية وشوزانا في معركة عنيفة تنتهي بقتل هتلر ومساعديه.  

في الفيلم تفاصيل جميلة ومواقف كوميدية موفقة وموظفة بما يخدم الرسالة المراد توصيلها، لكنه لا يرقى إلى مستوى الأفلام الرائعة التي أخرجها تارانتينو في السابق والتي جعلت منه أحد أهم المخرجين في السينما المعاصرة. 

نشير في النهاية إلى تألق ممثلي الفيلم على اختلاف جنسياتهم، كذلك في البطولة المشتركة وضعت النجم براد بيت على نفس مستوى زملائه خاصة الممثل النمساوي كريستوف والت وبالتالي لم يتميز رغم أدائه الجيد وكذلك الحال بالنسبة للممثلة الفرنسية ميلاني لوران التي لعبت دور شوزانا أو ديان كروجر الألمانية والتي لعبت دور الممثلة بريجيت.

الشريط الأبيض

الفيلم الثاني الذي أثار اهتمام النقاد اسمه "الشريط الأبيض" للمخرج النمساوي ميكائيل هانيكي الذي يشارك للمرة الخامسة في المهرجان والذي حصل عام 2001 على جائزة التحكيم الكبرى عن فيلم "عازف البيانو" وجائزة الإخراج عن فيلم "مختبئ" عام 2005  كما وكانت بدايته في كان عام 1997  مع فيلم funny games الجزء الأول ثم الجزء الثاني قبل عامين. وإذا كان "الشريط الأبيض" مختلفا عن أعمال المخرج السابقة من حيث الإيقاع والتصوير والصيرورة المخيفة والألوان، إلا أنه يشترك معها من حيث تصوير الرعب والقسوة العبثية المدمرة.

هاينكي اختار قرية بروتسانتية في شمال ألمانيا لتكون مسرح أحداث الفيلم التي تعود إلى بدايات الحرب العالمية الأولى. حياة القرية تتمحور حول البارون والقس والطبيب والقابلة القانونية ومعلم المدرسة الذي يحاول بث شيء من الحيوية فيها عبر تشكيل جوقة كورال من أطفال ومراهقي القرية، أطفال يعيش بعضهم حياة صارمة قاسية على غرار أولاد القس الذين يتعرضون لضرب قاس لا مبرر مفهوم له لكنهم ورغم استياءهم من معاملة أبينهم يخضعون له منكسرين.

حياة القرية بتقشفها وصرامتها تبدأ بالتحول عندما يتعرض بعض سكانها لحوادث غريبة غامضة، مثل سقوط الطبيب عن الحصان أو مقتل مزارعة أو تعرض ابن البارون لضرب أدى إلى تشويهه، وتدريجيا تتلاحق الحوادث الغامضة المجهولة الأسباب لتبدو وكأنها جرائم متعمدة عقابية، ليسود جو من التوجس والشائعات والشكوك التي تطال الجميع دون أن تخفف من وطأة الجو المشحون ولادة قصة حب خفيفة بين المعلم وصبية أحبته والقبلة التي تبادلاها.  

سيناريو الفيلم كتبه المخرج كما هو الحال في أغلب أفلامه السابقة، وهو أيضا يتسم بنفس العنف الذي ونفس الصرامة، لكن المخرج ذهب هذه المرة في صرامته المتقشفة إلى حد تصوير هذا الفيلم بالأسود والأبيض، وهو يظل على جماله فيلما تقليديا يصعب معه توقع أن يفوز بالسعفة الذهبية المنشودة، إلا إذا وجدت هذه الصرامة التقليدية المضبوطة صدى إيجابيا لدى رئيسة لجنة التحكيم إيزابيل هوبير التي سبق لها أن لعبت دور البطولة في فيلم "عازف البيانو" الذي استحق عليه هانيكي جائزة التحكيم الكبرى.

موقع "إيلاف" في 22 مايو 2009

 
 

ايليا سليمان يضع بصمة فلسطينية أخرى في مهرجان كان

فؤاد البهجة/ بي بي سي- مهرجان كان

قبل يومين من اسدال الستار على فعاليات مهرجان كان السينمائي عرض المخرج الفلسطيني ايليا سليمان فيلمه " الزمن الباقي سيرة الحاضر الغائب" الذي يشارك في مسابقة المهرجان الرسمية والتي تعلن نتائجها الأحد.

ويحكي الفيلم وهو عبارة عن سيرة ذاتية يشارك ايليا سليمان بدوره فيها قصة الحياة اليومية لأسرة فلسطينية منذ عام 1948 الى اليوم ومن خلالها لهموم أجيال من الفلسطينيين.

وكعادته يلجأ المخرج الفلسطيني الذي سبق أن فاز في دورة سابقة من المهرجان بجائزة لجنة التحكيم عن فيلمه "يد الهية"، الى أسلوب السخرية الكاريكاتويرية في مشاهد تتعلق بالعيش اليومي لأسرته في مدينة الناصرة.

وقسم الفيلم الى اربعة فصول تطرق كل واحد منها لفترة زمنية معينة مع ما يرافقها من مقاطع صوتية مناسبة في شكل أغان لرواد الغناء العربي من أمثال فيروز وليلى مراد ومحمد عبد الوهاب وآخرين. كما تخللت الكثير من المشاهد مقاطع كان الصمت فيها أجمل تعبير.

وعن الحضور القوي للمقاطع الصامتة في الفيلم والمقاطع الموسيقية الكثيرة التي تتخلله قال سليمان ان الموسيقى او الصمت هي لحظة حقيقة.

وعلى طريقة الفيلسوف سارتر، تكررت في الفيلم مشاهد معينة بشكل عبثي ومنها مشهد اشخاص يجلسون في أحد المقاهي ومنهم ايليا سليمان بعد عودته من رحلة الى الخارج ومشهد المدرس الذي يوبخ ايليا وهو طفل صغير بدعوى ترديده في الفيلم بان امريكا دولة امبريالية.

ولقي الفيلم استحسانا كبيرا لدى الجمهور والنقاد في عرضه الأول بمهرجان كان وان اختلف البعض حول مدى التشابه أو الاختلاف مع فيلم ايليا السابق " يد الهية"

وقال ايليا سليمان بعد عرض فيلمه انه يستمتع بتصوير أفلامه تحت نير الاحتلال الاسرائيلي.

ونفى في مؤتمر صحافي ان تكون اسرائيل طرفا في انتاج فليمه أو ان يكون "الزمن الباقي" يمثلها في المهرجان كما روجت لذلك وسائل الاعلام الاسرائيلية والامريكية.

وقال ردا على سؤال لبي بي سي: " الحديث عن مشاركة اسرائيل في الانتاج بدأته وسائل الاعلام الأمريكية، والواقع ان اسرائيل لم تقدم لنا سنتا واحدا.

وهذا هو حالنا كفلسطينيين يعيشون داخل اسرائيل، إذ هناك بعض الجهات التي تسعى لطمس هويتنا الفلسطينية، بدون سوء نية أحيانا وبشكل مقصود أحيانا أخرى، على أن أهم ما في الأمر أن أقسى الانتقادات تأتي دائما من النقاد العرب".

وقال سليمان ان عنوان الفيلم يحمل في طياته ترجمة لواقع سياسي يعيشه الفلسطينيون المغيبون داخل أوطانهم. وقال انه واحد منهم، لكن الفيلم يرسم صورة للحياة اليومية في تفاصيلها الصغيرة، وهو ما يعطي للفيلم في نظر صاحبه بعدا كونيا يجعل العالم كله وطنا فلسطينيا كما يقول سليمان.

وأضاف سليمان ان الفيلم رؤية شخصية تعكس رغبة في خلق فضاء شعري تأملي لكنه في الوقت ذاته لا يتجاهل واقعا سياسيا موجودا على ارض الواقع هو واقع الاحتلال، واقعُ الفلسطينيين الحاضرين والمغيبين في وقت واحد و"الممنوعين من الوجود حتى في الصور المجازية".

وفي ثاني تجربة سينمائية له في مهرجان كان والأولى في المسابقة الرسمية قال سليمان انني تعريت في هذا الفيلم وغصت في أعماق ذاتي وفي تفاصيل حياتي بما فيها من أفراح ومآسي.

وأضاف قائلا: " لا يهمني تأكيد أو نفي حدوث وقائع تاريخية معينة. ما يهمني هو نقل صورة سينمائية مصحوبة بحركات واصوات تخلق لدى المشاهد احساسا معينا وتمنحه فرصة الاستمتاع بتلك الصورة."

وقد نجح ايليا سليمان في نظر كثيرين في ربط الماضي بالحاضر في هذه التجربة السينمائية المتفردة. كما نجح في ربط معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية مع معاناة اخوانهم داخل العمق الاسرائيلي وذلك من خلال قيامه في الفيلم برحلة عبر الحافلة الى مدينة رام الله، حيث وقف كعين شاهدة على الاشتباكات مع الجنود الاسرائيليين ولجوء هؤلاء الى القوة المفرطة لقمع انتفاضتهم.

ويفتح ايليا سليمان في نهاية فيلمه الذي يستحق أن يصنف ضمن الأعمال المتميزة في المهرجان، بابا من الأمل الذي بدونه لا يتحقق اي عمل فني حسب رأي المخرج، فهناك "زمن باق وأجيال صاعدة لها أسلوبها في التعبير عن الذات وهناك شعور قوي بالهوية الفلسطينية."

موقع "الـ BBC العربية" في 22 مايو 2009

 
 

فيلم "الانتصار" الإيطالي: مفاجأة سارة في كان

أمير العمري/ كان ـ بي بي سي

مفاجأة سارة تماما داخل المسابقة الرسمية من السينما الإيطالية العريقة لم نشهدها منذ سنوات، لأحد أبناء جيل المخرجين المخضرمين الذين عملوا في فترة الازدهار الكبير لهذه السينما في الستينيات والسبعينيات، أي المخرج الكبير ماركو بيللوكيو (70 عاما) صاحب "الأيدي في الجيوب" (1965)، و"الصين قريبة" (1967)، و"باسم الأب" (1972).

فيلم "الانتصار" فيلم سياسي أيضا من زاوية اهتمامه الكبير بإعادة تسليط الأضواء على الحقبة الفاشية في إيطاليا من خلال التركيز على شخصية موسوليني منذ بداياته الأولى وقت أن كان ينتمي في 1907 إلى الحزب الاشتراكي، ويقود مظاهرات العمال ثم تحوله مع إعلان قيام الحرب العالمية الأولى، من موقف المناويء للحرب ولدخول إيطاليا فيها، إلى تأييد الحرب تحت دعوى أنها ستخلق واقعا جديدا في أوروبا يمكن إيطاليا أن تلعب دورا بارزا في رسم سياسياتها.

ويصور الفيلم تحول موسوليني إلى الفاشية كحل "مناسب" لمواجهة حركة اليسار عموما، وتحت دعوى أنها كفيلة باستعادة دور روما التاريخي، والأمجاد الزائلة للامبراطورية الرومانية.

ويبدأ الفيلم بمشهد ينكر خلاله موسوليني وجود الله علانية، ويضطر للفرر من غضب المتدينين. ولكننا سنرى فيما بعد كيف يقيم موسوليني تحالفا قويا مع الفاتيكان ويستخدم الكاثوليكية لخدمة مآربه السياسية.

غير أن موسوليني رغم أهمية وبروز دوره في الفيلم، ليس هو الشخصية الرئيسية هنا، بل شخصية سيدة شابة حسناء تدعى إيدا داسلر، تعجب بالنجم الجديد الصاعد، وتقيم معه علاقة جنسية ملتهبة، ثم تبيع كل ممتلكاتها من أجل أن تساعده بالمال على افتتاح صحيفة "شعب إيطاليا" الناطق بلسان حزبه الجديد.

وتستمر علاقة إيدا بموسوليني حتى بعد أن يتزوج، ثم تنجب منه ولدا تطلق عليه بنيتو ألبينو موسوليني، يعترف بأبوته له رسميا عام 1915 إلا أنه يرفض أي اعتراف بزواجه منها بينما ستظل هي طوال حياتها تصر على أنه تزوجها بعقد سرقه أعوانه منها، ولكن دون ي دليل على صحة ذلك.

وعندما تبد في مطالبته بالاعتراف بها كزوجة والاعتراف بابنه يختفي موسوليني الإنسان من الفيلم ويبقى موسوليني الرمز السياسي والزعم، الذي لا نراه سوى من خلال لقطات الأرشيف القديمة، في خطاباته الصارخة التي يثير حماس الشعب الإيطالي من خلالها، وبتفاصيل قريبة لم يسبق استخدامها في السينما الروائية، حتى أن موسوليني يبدو في تلك اللقطات الحقيقية أقر إلى مهرج، يستخدم حركات وجهه، وطريقته الخاصة في مط شفتيه، ويهز يديه بطريقة مبالغ فيها تثير الضحك أكثر مما تثير الغضب. تستمر محنة إيد داسلر، التي توضع في بيت شقيقتها تحت الرقابة المشددة في البداية، ثم تتنقل إلى مصحة عقلية بينما يبعد ابنها إلى مدرسة كاثوليكية دخلية ويحرم من رؤية أمه.

وفي أسرها تكتب إيدا خطابات إلى البابا والملك ورئيس الحكومة والنائب العام والوزراء، تطالبهم بتحري الحقيقة اطلاق سراحها واسماح لها برؤية ولدها.

أحداث الفيلم تتصاعد في إيقاع هاديء لكنه متدفق بالحيوية، يسير في خطوط أقرب إلى حركات الأوبرا، خاصة مع الاستخدام المذهل لشريط الصوت والموسيقى التصويرية المصاحبة التي كتبها كارلو كريفيللي، والتصوير الذي يمزج جيدا النغمات البنية الداكنة مع الأبيض والأسود، ويستخدم المناطق المضيئة، والظلال، والضوء الخافت غير المباشر، لإضفاء جو خاص على الصورة يتناسب أولا مع أجواء الفترة، وثانيا يؤكد على تدهور الحالة العقلية للشخصية الرئيسية.

"إيدا داسلر" تضطرب نفسيا بالتدريج، لكنها تظل مصرة على روايتها، غير مستعدة لتراجع تحت أي ضغوط أو حرمان أو حتى تعذيب.

وفي الفيلم مشاهد لا تنسى مثل مشهد المشاجرة التي تنشب داخل إحدى دور العرض السينمائي بين مجموعة يشارية وجماعة فاشية بقياة موسوليني، بينما تعرض على الشاشة جريدة سينمائية تحتوي لقطات من المعارك، على نغمات البيانو المصاحبة للفيلم الصامت، ويظل عازف البيانو حتى اللحظة الأخيرة، مصرا على مواصلة العزف رغم شيوع الفوضى داخل السينما.

وهناك المشهد الذي يحمل دلالة خاصة داخل مصح الأمراض العقلية حيث نرى عددا من النساء اللاتي أدخلن المصحة لأسباب لها علاقة بنشاطهن السياسي المعارض، وإحداهن راقصة باليه تسر لإيدا أنها كانت صديقة مقربة من راقصة شهيرة في باليه البولشوي الروسي (وقت الحكم الشيوعي).

وهناك المشهد الذي تقوم لجنة قضائية باختبار قدرة إيدا على التعامل مع المجتمع والحياة والناس، وينتهي الاختبار بالتأكد من سلامتها العقلية، إلا أن القاضي المكلف باستجوابها ينصحها بنسيان قصة علاقتها بموسوليني. وينتحي بها طبيب في المصحة يقول أنه يريد أن يجعلها تغادر المسيتشفى وينصحها بأن تغير من سلوكها، وتتظاهر بأنها مثل كل النساء الفاشيات الطيبات، ربات البيوت اللاتي يدعمن قضية الفاشية.

ويقول لها إنه يتعين عليها أن تنحني للتيار، وإن الفاشية مرحلة لن تستمر في إيطاليا، وإنها يمكن أن ترى ولدها وتعيش معه في حالة قبولها بالاندماج في الواقع ونسيان ما مضى.

على صعيد آخر يعيش ابن موسوليني حياته ويكبر تحت الرقابة، ويكبر ويصبح طالبا لكنه يسخر من والده ويتخصص في محاكاته بسخرية أمام زملائه.

ويشير الفيلم من خلال لقطاته الموجزة البليغة إلى نهاية الحر ونهاية موسوليني (من خلال لقطة لتمثال ضخم للديكتاتور الإيطالي يتم سحقه بين فكي آلة عملاقة).

ونعرف أن إيدا توفيت قبل أن ينتهي موسوليني، كما فقد ابنها عقله ثم توفي أيضا قبل نهاية الحرب الثانية. لاشك في سيطرة بللوكيو المثيرة للإعجاب على كل فيلمه، وقدرته على التحكم في إيقاعه، وتوظيف كل صورة، وكل تفصيلة من تفاصيل الصورة لخدمة الموضوع: الفاشية التي تقود الأمة إلى الدمار، المرأة المعذبة المعتقلة الخاضعة، التي يمكن اعتبارها "معادلا" سينمائيا ودراميا لاعتقال الأمة.

وهناك أيضا استخدام رائع ومميز لإيقاعات الأوبرا سواء في توظيف الأصوات الطبيعية على شريط الصوت، أو في التحكم في الحركة والأداء في إطار المحيط بطريقة قد تشوبها بعض المبالغة المسرحية كما في مشهد محاكاة الإبن لوالده في طريقته في الخطابة.

أخيرا "الانتصار" كلمة مستمدة من أحد خطب موسوليني في إطار الشحن المعنوي للشعب الايطالي. الفيلم في النهاية أحد أفضل الأفلام في مسابقة كان 2009 ومن الممكن جدا أن يحصل على إحدى الجوائز الكبيرة.

موقع "الـ BBC العربية" في 22 مايو 2009

 
 

عمل فني كبير قد يحصد "السعفة الذهبية"

أمير العمري/ كان ـ بي بي سي

استطاع المخرج الفلسطيني إيليا سليمان أن يقدم مرة أخرى، مفاجأة كبرى في مهرجان كان السينمائي بفيلمه الذي عرض أخيرا في مسابقة المهرجان ويحمل عنوان "الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب".

وقد استقبل الفيلم من جانب النقاد والصحفيين الذين شاهدوه استقبالا حماسيا، واتفق الكثيرون على اعتباره "تحفة" حقيقية وعملا كبيرا من أعمال الفن السينمائي.

الفيلم يروي قصة حياة مخرجه ومؤلفه (إيليا سليمان) الذي سبق أن قدم مفاجأة بفيلمه السابق "يد إلهية" الذي حصل على جائزة خاصة من لجنة التحكيم في مهرجان كان 2002 كما حصل على جائزة اللجنة الدولية للنقاد.

إلا أن "الزمن الباقي" يتجاوز كثيرا ما حققه إيليا سليمان في فيلمه السابق، وفيه يعلو بلغته وأسلوبه ليقدم عملا سينمائيا حداثيا خالصا، يربط من خلاله بين قصة حياته الخاصة وحياة أسرته، وبين الأحداث التي شهدتها بلاده منذ عام 1948 حتى اليوم.

بناء الفيلم

يتكون الفيلم من عدة أجزاء، يتضمن كل منها مجموعة من الصور والمشاهد التي تلخص فترة زمنية معينة في حياة المخرج- المؤلف، يفصل بينها سليمان باستخدام أسلوب الإظلام التدريجي ثم الشاشة الخالية لبرهة، قبل ان يعود للضوء تدريجيا مع ظهور مشهد يدور في فترة زمنية أخرى تالية.

اللغة السينمائية التي يستخدمها تحمل ملامح أسلوب إيليا سليمان سواء في اعتماده على الصورة اعتمادا اساسيا، وعلى السخرية التي تتفجر من الجدلية الكامنة في العلاقة بين الصور واللقطات، أو من خلال التعليقات الموحية والأداء التمثيلي الذي قد يتخذ أحيانا أبعادا "كاريكاتورية".

الطابع الساخر

المشهد الأول في الفيلم يلخص أسلوب إيليا سليمان الساخر، ففيه يظهر جندي عراقي من المشاركين في الحرب في بلدة فلسطينية في الجليل، يتطلع إليه ثلاثة من الشباب الفلسطيني وهو يبحث عن طريقه، بينما تلقي طائرة إسرائيلية منشورات تحث السكان على الاستسلام والقاء السلاح.

الجندي لا يعرف إلى أين يتجه، وكلما ذكر اسم مدينة أو بلدة ما، يقول له الجالسون على المقهى في استرخاء وهدوء: لقد سقطت.

وفي مشهد هائل تطارد طائرة إسرائيلية سيارة بداخلها رجل يرتدي طربوشا، وشاب يلوح بعلم أبيض من خارج النافذة.

الطائرة تحلق فوق السيارة مباشرة، وتتابعها أثناء سيرها بسرعة شديدة في طريق ريفي إلى أن تصل إلى مبنى قديم لعله مبنى بلدية مدينة الناصرة.

وفي إحدى القاعات في الداخل، مجموعتان من الرجال: العسكريون الإسرائيليون على جانب، والعرب المدنيون على الجانب الآخر.

والرجل القادم ذو الطربوش هو رئيس البلدية، والإسرائيليون أعدوا وثيقة الاستسلام، ويطالبون بتوقيعها، ثم يطلبون التقاط صورة تذكارية للجميع معا في "هذه المناسبة التاريخية العظيمة"!

والد إليا، فؤاد سليمان، شاب في تلك الفترة، متزوج من نادية وهناك أيضا شقيقته أولجا، أما شقيقة نادية ثريا فقد لجأت إلىة الأردن.

ولكن فؤاد لا يريد الاستسلام ولا الفرار، ويخفي سلاحا لديه، ويتعرض للاعتقال والتنكيل به، بل والقائه من فوق ربوة عالية بغرض قتله إلا أنه ينجو.

مقاتلون فلسطينيون يفرون أمام الهجمات الإسرائيلية بالمصفحات والمدافع، يخلعون ملابسهم العسكرية ويلقون بها ويفرون.

الإسرائيليون الذين يراقبون المشهد من بعيد، يتقدمون ويستولون على الملابس الفلسطينية بما فيها الحطة التي يخفون بها وجوههم.

امرأة فلسطينية تراهم قادمين تطلق زغاريد النصر. يطلقون عليها الرصاص ويواصلون تقدمهم.

يتمكنون من خداع باقي المقاتلين ويقبضون عليهم، ونراهم وقد تراصوا بجوار أحد الجدران تمهيدا لإطلاق النار عليهم.

الإسرائيليون يصادرون بعض محتويات منزل سليمان بما في ذلك الجرامافون وحتى صورة كبيرة وساعة الحائط.

فؤاد يراقبهم من مكمنه على أنغام أغنية ليلى مراد (أنا قلبي دليلي) التي سيعود إيليا سليمان لاستخدامها أكثر من مرة في فيلمه.

واقع الاحتلال

القسم الأول من الفيلم يعكس الوضع الذي نشأ فيه المخرج: واقع احتلال، تشتت الأسرة، الرسائل المتبادلة بين فرعي الأسرة في عمان والناصرة.

لقطات التنكيل الذي يتعرض له فؤاد سليمان (والد المخرج) حينما يضربه جنديان إسرائيليان بكعوب البنادق بقسوة، يبدو في تفاصيله (مصور من زاوية بعيدة) وكأنه لقطة حديثة من تلك التي نشاهدها كثيرا في نشرات الأخبار اليوم للوضع في الأراضي المحتلة.

وبين حين وآخر، وعبر أجواء الفيلم، يحاول فلسطيني كبير متقدم العمر أن ينتحر بإشعال عود ثقاب، أحيانا بعد أن يصب الكيروسين على جسده، وحينا آخر بعد أن يضع وعاء مملوء بالكيروسين إلى جواره. لكنه يفشل دائما في إشعال عود الثقاب.

فؤاد يراقبه هو وغيره من الجيران في صمت، ثم يقوده من يده بعيدا، والرجل مستسلم له تماما.

إنها صورة بليغة موجزة تلخص العجز عن تحقيق الخلاص حتى ولو بالانتحار! وفي مدرسة ابتدائية بالناصرة حيث نشأ بطلنا، نشهد كيف تنشد التمليذات الفلسطينيات الأناشيد التي تمجد دولة إسرائيل، بالعبرية تارة وبالعربية تارة أخرى. مسؤول إسرائيلي يثني على "كورس" الأطفال ويمنحهم جائزة خاصة.

المدرس في الفصل يتحدث عن قدرة الديمقراطية الاسرائيلية على استيعاب الأقلية العربية.

إيليا يراقب في صمت، حالة الاغتراب تتصاعد. مدير المدرسة يوقفه في الممر ويعنفه بشدة: من قال لك أن أمريكا دولة إمبريالية؟

هذا المشهد بين المدير وإيليا يتكرر عدة مرات في سياق الفيلم، والمقصود منه تصوير تمرد الصبي مبكرا على الأفكار السائدة حوله. شخصية الجار العبثي شخصية أخرى تضيف إلى النسيج اللامنطقي- اللاواقعي، الذي يغرم به إيليا سليمان ويستخدمه في التلاعب بالموضوع، وروايته بحيث يفجر أكبر شحنة من السخرية، ويقدم تعليقا سياسيا بليغا وموجزا بلغة السينما الخالصة، بعيدا عن الخطابة، وبعيدا عن لغة البيانات والبلاغات السياسية التي سادت السينما الفلسطينية طويلا. الجار يخرج بين أونة وأخرى، يخاطب فؤاد أولا، ثم يتكرر ظهوره بعد أن يكبر إيليا، أو لعله يصبح جارا آخر مستنسخا من الشخصية الأولى.

يقول له ذات مرة على سبل المثال: أفضل حل للخلاص من كل من لبنان وإسرائيل هو أن تتورط لبنان في حرب ضد إسرائيل، فتقضي إِسرائيل على لبنان، ثم تتدخل فرنسا لتقضي تماما على إسرائيل.. ما رأيك؟

يتمهل إيليا قليلا قبل أن يجيب: لم أفكر في هذا من قبل!

أو أن يقول الجار إن مشكلة العرب إنهم لا يشربون الكحول فلو كانوا يشربون لأقدموا بكل شجاعة على مواجهة الإسرائيليين!

في السينما

يصور إيليا سليمان أيضا علاقته بالسينما، ويعود إلى الستينيات ومشاهدته فيلم سبارتاكوس في قاعة السنما المدرسية.

وعندما يصل الفيلم إلى المشهد العاطفي الذي يتبادل فيه سبارتاكوس القبلات مع حبيبته، تقف المعلمة أمام الشاشة لتجحب الرؤية وتقول للتلمذات: إنه يابنات أخوها.. هذا أخوها!

ويستخدم إيليا سليمان شريط صوتيا ممتعا ومفعما بالحيوية، يجعله جزءا أساسيا من نسيج الفيلم، يمتليء بالموسيقى والأغاني، خاصة أغاني فيروز وعبد الوهاب، وخطابات الرئيس عبد الناصر من إذاعة القاهرة، ونشرات الأخبار من صوت العرب.

وفي القسم الثاني من فيلمه الذي يركز على الوضع الراهن، يستخدم الأغاني الحديثة الشائعة وموسيقى الديسكو التي نرى عددا من الشباب العربي يرقص عليها بينما تتوقف مصفحة إسرائيلية في الخارج يبرز من نافذتها ضابط إسرائيلي ينذر الشباب عن طريق مكبر صوت بحلول حظر التجول. ويظل يكرر عدة مرات فرض حظر التجول فيما يستمر الشباب في رقصهم على أنغام الموسقى الصاخبة، لا يلتفتون ولا يسمعون!

ويصور كيف تتدهور الحالة الصحية لوالده إلى أن يودع الحياة، ثم كيف يكبر إيليا ويرث وضعا لا يتقدم بل يبقى في مكانه.

هنا في القسم الثاني من الفيلم، يتحول الأسلوب إلى العبث الساخر القريب من مسرح بيكيت، ومن سينما جاك تاتي الفرنسي: الصمت يغلب أكثر على الفيلم، السخرية النابعة من صدام الصور، هي سخرية نابعة أساسا من عبثية ما يجري على أرض الواقع.

مشهد القمامة

ولتكثيف رؤيته بعبقرية بصرية نادرة، يصور إيليا سليمان مثلا كيف يخرج شاب فلسطيني من داره لكي يلقي بالقمامة في حاوية خارج المنزل، فتتحرك دبابة إسرائيلية ضخمة وتسدد مدفعها العملاق في اتجاه الشاب.

الشاب يسير نحو الحاوية وتتابعه ماسورة الدبابة. يعود في اتجاه المنزل، والدبابة تستدير لتتابعه. يتوقف ليرد على الهاتف المحمول غير عابيء بالدبابة بل إنه لا يتطلع إليها طوال المشهد الذي ينتهي بدخول الشاب إلى المنزل بلا مبالاة، وماسورة الدبابة تتجه لكي تصوب نحو حاوية القمامة!

وفي مشهد آخر نرى كيف يقرر إيليا سليمان أن يعبر الجدار الفاصل الذي بناه الإسرائيليون في الضفة الغربية باستخدام رافعة الزانة التي تستخدم في الألعاب الرياضية، وينجح في لقطة فريدة في تجاوز الحاجز بالفعل إلى الجهة الأخرى.

بائع الصحف يردد "جريدة الوطن بشيكل وكل العرب ببلاش" في تعليق غير مباشر ينبض بالسخرية.

الشباب الثلاثة على المقهى (يتكرر ظهورهم عبر الفيلم).. أحدهم يطلب شراء "الوطن". البائع يقول له: ما بقى فيه وطن.. ولكن كل العرب ببلاش.

الصبي بائع الخضروات الذي يعرض على الخادمة الفليبينية التي ترعى الآن والدة إيليا لسيمان بعد تقدمها في العمر واصابتها بمرض السكري، أن تشتري كل ما يحمله من الفاصوليا بعشرة شيكلات لأنه لا يملك مالا يتيح له العودة إلى جنين.

الجار الفلسطيني الذي يعمل في الشرطة الإسرائيلية يسأله كيف تمكن من القدوم إلى هنا: هل لديك تصريح؟ سأبلغ السلطات عنك!يكتفي الصبي في النهاية بأن يطلب سيجارة، يشعلها ثم يمضي لحال سبيله!

لعبة الشد والجذب

في المستشفى حيث ينقلون الجرحى في الاشتباكات العنيفة التي جرت خلال تظاهرات بمناسبة الذكرى الرابعة لـ "يوم الأرض، يحدث مشهد يلخص الوضع العبثي.

أحد الجرحى فوق نقالة. المشهد العبقري الذي يعكس الإحساس الخاص بالمكان وزاوية الكاميرا لدى المخرج، مصور بكاميرا ثابتة. نحن نرى المبنى من الخارج.. نرى الطابق الأرضي المصمت، والطابق الأول منه فوق الأرضي نوافذه كلها زجاجية تكشف ما يدور في ممر المستشفى في الداخل.

في الخارج تتوقف مصفحة إسرائيلية يخرج منها عدد من الجنود، يصعدون وراء المسعفين الذين يحملون جسد فلسطيني مصاب.

نحن نشاهد كل ما يحدث كما لو كنا نتفرج على فيلم داخل الفيلم. والمشهد كله مصور في لقطة واحدة.

الجنود الإسرائيليون يسحبون النقالة من الفلسطينيين ويعودون في الاتجاه المعاكس. الفلسطينيون يجرون إلى ناحيتهم ثم يعودون بالنقالة في الاتجاه الآخر.

يتكرر الكر والفر، والشد والجذب عدة مرات، والحركة من اليمين إلى اليسار وبالعكس، إلى أن يشهر الإسرائيليون السلاح. هنا يحسم الأمر وينتهي الموقف الذي يلخص بلاغة اللغة السينمائية وخصوصيتها.

الإيقاع يصبح أكثر سرعة في الجزء الثاني من الفيلم رغم ازدياد مساحات الصمت، ويغلب على الفيلم أسلوب مشابه لأسلوب إيليا سليمان في فيلمه السابق "يد إلهية" على هذا الجزء. فمع امتداد الزمن يزداد الإحساس بالعبث، مع عدم تقدم الموقف رغم تقدم الزمن. وهذا هو سر وجود أسلوبين في الفيلم.

في الجزء الأول: هناك إحساس أقوى بالزمن، بالأحداث، هناك وضع يوحي بالحركة ولو على صعيد الإذاعات والصحف والأمل والحلم. الشباب على المقهى كانوا كأنهم في انتظار شيء. الشاب الذي كان يعبر أمامهم كان يصفر لحنا متفائلا بين حين وآخر.

تساؤل فلسفي

أما بعد ذلك فلم يعد هناك سوى تعاقب الزمن.

ماذا تبقى من الزمن إذن قبل أن يصل الإنسان إلى نهاية الطريق!

هذا هو التساؤل الفلسفي الذي يتوقف أمامه إيليا سليمان في فيلمه الذي يمزج فيه بين الخاص والعام، الشخصي والمجتمعي، السياسي والنفسي، الفلسفي والواقعي.

إنه ينهي فيلمه وهو جالس فوق أريكة خشبية في الشارع، يتأمل دون أي انفعال. لقد فقد القدرة حتى على الانفعال مع ما يجري حوله.

الشباب الثلاثة أنفسهم مازالوا يجلسون على المقهى (ربما منذ ستين عاما!). شاب فلسطيني يسير أمامهم يرفع يده بعلامة النصر.

الثلاثة بملابسهم وهيئتهم والسجائر في أيديهم، يبدون كما لو كانوا شخصيات من عالم أفلام "الويسترن"، جامدون على الأريكة التي يجلسون فوقها، لا يتحركون بينما نستمع إلى إيقاعات عنيفة لأغنية عبرية!

هل كنا نشاهد فيلما من أفلام الويسترن منذ أكثر من ستين عاما.. لعل هذا ما يراه إيليا سليمان في فيلمه الذي سيترك تأثيرا كبيرا على كل عشاق السينما بلا شك.

موقع "الـ BBC العربية" في 22 مايو 2009

 
 

تصفيق حار لفيلم ايليا سليمان في مهرجان كان

طزاجة منعشة في فيلم تييري جيليام

قصي صالح الدرويش من كان

بحرارة صفق جمهور كان للفيلم الفانتازي The Imaginarium of Doctor Parnassus الذي قدمه المخرج  تييري جيليام، حرارة تعود إلى الطزاجة المنعشة والمدهشة لهذا الفيلم الغريب الجميل الذي ينتقل بالمتفرج إلى عالم خيالي ساحر. عالم ينطلق من خشبة مسرح يديره الدكتور بارناسوس وفرقته وفي هذا المسرح مرآة سحرية يعبرها الجمهور إلى العالم الخيالي البديع، لكن الدكتور بارناسوس يحتفظ بسر رهيب، فقبل ألف عام دفعه ولعة بالقمار إلى مراهنة الشيطان ليحصل على الحياة الأبدية، ثم عاد للمراهنة لاحقا عندما صادف الحب فبادل الحياة الأبدية بالشباب شريطة أن يقدم ابنته لتصبح ملكا للشيطان عندما تبلغ ابنته السادسة عشرة من عمرها وقد آن وقت دفع الثمن، لكن الدكتور يقرر إنقاذ ابنته وتصحيح أخطائه السابقة. فيلم عن الأحلام والصراع الأزلي بين الشر والخير الممثل بالخيال الحر السحري لمسرح الدكتور بارناسوس بما فيه من أحلام وسحر.

الفيلم كوميدي إذا صح التعبير، لكن من نوع كوميديا  "مونتي بايتون" التي سبق لجيليام أن قدمها وهو فيلم مشوق على درجة كبيرة من المباغتة المدهشة أثارت إعجاب المشاهدين، كما تميز أداء الممثلين الرائع، خصوصا النجم هيث ليجر الذي توفي  في أثناء تصوير هذا الفيلم، الأمر الذي دفع المخرج إلى إجراء تغييرات في السيناريو وإضافة ممثلين جدد ليحلوا محله لكن بشكل مختلف عندما يكون في الجانب الآخر من المرآة، بشكل يتيح له الحفاظ ويندرج بشكل موفق في سياق الأحداث.

وإلى جانب هيث ليجر الذي رأيناه متألقا في عدد من الأفلام الهوليوودية الناجحة تجاريا مثل "الرجل الوطواط" و"بروكباك ماونتين" شارك في الفيلم نجوم كبار تقاسموا البطولة مثل جوني ديب وجود لو وكولين فاريل وتوم ويدج وكريستوفر بلومر وليلي كول. نشير أخيرا إلى أن هذا الفيلم عرض ضمن فعاليات المسابقة الرسمية لكن خارج إطار التنافس.

الزمان المتبقي

أما الفيلم الثاني المهم الذي عرض يوم أمس فكان الفيلم الفلسطيني "الزمان المتبقي" لإيليا سليمان والذي حظي بتصفيق الجمهور وإعجاب النقاد وكتبت عنه الصحف الفرنسية مقالات مطولة. "الزمان المتبقي" هو بمثابة استمرار أو بالأحرى مقدمة لفيلم إيليا سليمان السابق "يد إلهية" الذي  نال جائزة التحكيم الخاصة عندما عرض في مهرجان كان عام 2002. الفيلم الذي يغلب عليه طابع السيرة الذاتية ويتمحور حول أربع مراحل أثرت في حياة عائلته من 1948 وحتى يومنا هذا وهو يستمد مادته الأساسية من المذكرات الشخصية لوالد المخرج حين كان مقاوما ومن الرسائل التي تبادلتها أمه مع أقاربها ممن أرغموا على النزوح خارج فلسطين. 

أحداث الفيلم تبدأ في الناصرة مسقط رأس ايليا سيلمان عام 1948 مع والده المحارب المهزوم بعد النكبة وتمتد إلى الوقت الحاضر حين يزور إيليا والدته المسنة التي أصبحت أرملة ويتابع معها ألبوم صور نتعرف من خلاله على صيرورة من بقي في تلك الأرض التي أصبحت إسرائيل تحولوا إلى أقلية أغراب فيها. وينتقل حبل ذكريات الصور والمأساة الفلسطينية من حرب 1948 إلى رحيل جمال عبد الناصر ثم الانتفاضة الفلسطينية ليصل إلى الجدار الفاصل، فنتعرف على أهل المخرج وجيرانهم وحياتهم اليومية بتفاصيلها ذات الدلالة. نسيج يمتزج بذكريات إيليا الشخصية الحميمة منذ كان طفلا  ليرسم صورة الحياة اليومية لهؤلاء الفلسطينيين المصرّين على الحياة كما على الاحتفاظ بهويتهم.

ويبين في الكراس الإعلامي للفيلم كيف تحول الفلسطينيون إلى ثلاث مجموعات، يحمل أولها تسمية فلسطينيي إسرائيل وهم الذين بقوا في بيوتهم إبان النكبة، فيما حملت المجموعة الثانية تسمية سكان الأراضي المحتلة، والمجموعة الثالثة تتكون ممن نزحوا من فلسطينيي الشتات. صحيح أن هذه التقسيمات لا تحمل جديدا على المستوى الوثائقي، لكن المخرج نجح في تقديم فيلمه بأسلوب مؤثر خافت صامت، وكأن صوت الصمت أصبح أعلى وأكثر تأثيرا على الرأي العام من صخب الخطب والشعارات. بهذا الصمت وبهذا الذكاء وبموهبة تواصل إثبات نفسها وبخفة دمه قدم إيليا سليمان فيلما بسيطا مؤثرا وجميلا جدا. بعض النقاد ذهب إلى القول بان صمت الفيلم يترجم نوعا من الهرب، لكن هذا الرأي ينطوي على خطأ وكاريكاتيرية، فلغة الصمت قد تجد صدى أقوى لدى الجمهور العربي والأجنبي، خاصة وأنه ليس صمتا إزاء الشعارات السياسية فحسب، بل هو صمت يتحدث عن الوجود والغياب، فعبر شخصية المخرج الذي لعب دوره في الفيلم يتجلى هذا الحضور الغيابي للإنسان الفلسطيني. منذ مشهد البداية حيث نتابع إيليا بشكل غير واضح في المقعد الخلفي لسيارة تاكسي يقودها سائق إسرائيلي، ثم نراه واقفا أمام أمه المريضة الصامتة وكأنه غائب وموجود في آن معا وهو ينظر إلى الدبابة أمام منزله تلاحقه بمدفعها يمينا ويسارا وكأنه هدف سهل المنال في أية لحظة، وحين يجد نفسه غائبا بهذا الحضور أمام جدار الفصل الإسرائيلي نراه في موقف هزلي ساخر يحمل عصا طويلة ومثل لاعب قوى يقفز بعصا الزانة مجتازا الجدار الذي يحاصر الأراضي المحتلة. وحين يضطر التلاميذ الفلسطينيون لأداء تحية العلم ينشدون النشيد الإسرائيلي بلغة عربية حماسية في موقف تحد بطولي ضد  سياسية التجاهل والإلغاء، هذا الإلغاء الذي رأيناه في اعتقال الفلسطينيين وسجنهم أو في إرغامهم على الهروب خارج أرضهم.

الزمان المتبقي فيلم جميل مؤثر مليء بالصمت، لكنه الصمت الذي يحمل الغضب ويدين عبث الاحتلال والظلم الذي يقتل كل إحساس بالحياة، صمت مستسلم يترجم مقاومة سلبية أحيانا مقاومة من أجل حياة أفضل وسلام ما تزال إسرائيل ترفضه حتى الآن.

في الفيلم سخرية مريرة تتجلى في مواقف هزلية تثير الضحك على طريقة شر البلية ما يضحك. وفي أحد المشاهد نرى والد إيليا سليمان يقول لبائع الصحف أعطني "الوطن" فيجيب البائع لم يبق سوى "كل العرب". سخرية تدفع نحو جائزة مستحقة للفيلم في مهرجان كان، ولم لا تكون جائزة السعفة الذهبية؟ حتى لو اعتقد البعض بأن فيلم إيليا سليمان الجديد لا يخلو من تكرار لما شاهدناه في أفلامه السابقة، لكن كيف يمكن لأفلامه أن تتغير طالما أن قضيته مازالت نازفة وأنه ما زال ينتظر التغيير المنشود.

موقع "إيلاف" في 23 مايو 2009

 
 

مهرجان كان يقترب من الختام وفيلم نبي يتقدم بفارق ضئيل

إيلاف من كان

"رويترز" ربما تكون فرنسا تتجه الى فوز للمرة الثانية على التوالي في حدث نادر في مهرجان كان السينمائي مع التقدم بفارق ضئيل لفيلم "نبي" Cruz لجاك اوديار الذي تدور أحداثه المشحونة في سجن ليكون مرشحا لاحراز السعفة الذهبية المشتهاة في حفل توزيع الجوائز يوم الأحد.

وحققت الدولة المضيفة الفوز في 2008 بفيلم "الطبقة" ويقول الناقد السينمائي بصحيفة الغارديان بيتر برادشو أن فيلم "نبي" يظهر أوديار " كأكبر وحش في السينما الفرنسية الجديدة".

 لكن مع بقاء فيلمين فقط لم يعرضا بعد من بين 20 فيلما في المسابقة ومع مرور عشرة أيام من الماراثون السينمائي على مدى 12 يوما في منتجع الريفييرا لم يبرز فيلم بعينه كمرشح واضح كما حدث في 2007 و2008.

ويقول النقاد إنه يمكن لأي فيلم من بين ثمانية أفلام أو أكثر أن يفوز بالجائزة في عام لم يتفق فيه تماما ما عرض على الشاشة الكبيرة مع التوقعات بمهرجان كلاسيكي اعتمادا على الاسماء الكبيرة للمخرجين الذين تم اختيارهم.

وتحقق المخرجة النيوزيلندية المولد جين كامبيون التي فازت بالسعفة الذهبية في 1993 بفيلم "البيانو" مكانا متقدما هذا العام بفيلمها " النجم الساطع" عن سيرة حياة جون كيتس وفاني برون وكذلك يتصدر الاسباني بيدرو المودوفار وفيلمه "العناق المتكسر" Broken Embraces بطولة بنيلوبي كروز.

وحظي النمساوي مايكل هانيكه بكثير من الاطراء في مقالات النقد عن فيلمه الغريب المثير "الشريط الابيض" ولقي الفيلم الايطالي "النصر" Vincere عن موسوليني قبولا كبيرا وانتزع كين لوتش الفائز في 2006 استحسانا بفيلمه المتفائل والمؤثر "البحث عن اريك" الذي شارك فيه نجم كرة القدم اريك كانتونا.

ويرشح كثيرون فيلمين فرنسيين آخرين هما "العشب البري" للمخرج ألان رينيه و"في البدء" للمخرج زافيه جيانولي.

وحتى فيلم المخرج الدنماركي لارس فون ترير "المسيح الدجال" المثير للجدل والذي تضمن مشاهد جنسية مفصلة وبتر ذاتي للأعضاء التناسلية يعتبره البعض مرشحا للفوز رغم أنه اثار استياء وغضب كثيرين ممن شاهدوه.

موقع "إيلاف" في 23 مايو 2009

####

فيلم إيراني، عراقي في أسبوع النقاد

إيلاف من كان 

"أ ف ب" شارك فيلم "همس الريح" للايراني شهرام عليدي في تظاهرة "أسبوع النقاد" تحت اسم العراق ناقلاً الى مهرجان كان في دورته الـ 62 آلام وأحلام أكراد العراق ومأساتهم أيام النظام السابق.

وذكرت مصادر ايرانية مطلعة لوكالة فرانس برس أن الفيلم قُدم على أنه عراقي لأنه حصل على مساعدة انتاجية كبيرة من حكومة كردستان العراق. وقدم المخرج الكردي المولود في طهران والذي درس السينما في ايران في عمله الأول صيغة شاعرية لكن ثقيلة لهذه المأساة على خلفية ما تعرض له الأكراد العراقيون إبان نظام الرئيس الراحل صدام حسين.

بطل الفيلم ساعي بريد مسن من نوع خاص، يوزع في منطقة كردستان رسائل صوتية مسجلة على كاسيتات ويجوب الأماكن كلها خلال عمله فتجوب معه الكاميرا بطريقة شاعرية وسوريالية لكن أحيانا موغلة في الرمزية.

وتكون تلك مناسبة لعرض مشاهد طبيعية خلابة من تلك الأمكنة القصية البرية المتمادية في جمالها لكن الفيلم يطل خلال ذلك أيضا على حقول كاملة من القبور التي دفن فيها الاكراد في المقابر الجماعية.

ويهدي المخرج شريطه "لكل الضحايا الذين قتلوا وأُنتزعت منهم أعمارهم قبل الاوان" كما يصور "أحلام الاطفال الذين دفنوا الى الابد هم وأحلامهم."

ويتحول تنقل الرجل لتوزيع البريد شيئا فشيئا الى رحلة في الفولكلور الكردي ونزهة مشبعة بالموسيقى والأغاني التي تهمس كما الريح في تلك الأماكن الجبلية العالية.

يتقدم الرجل المسن "الرسول" بطيئا في تنقله لتتمهل الكاميرا معه وتلتقط انعكاسات الجبال في المياه وفي المرايا وعبر الزجاج أو المساحات الأخرى.

ويريد المخرج لفيلمه أن يكون شهادة مختلفة على وقائع ما جرى لأكراد العراق فيقدم في سياق بعيد عن الكلاسيكية، بل اقرب الى السوريالية مشاهد مثل مشهد الأرامل اللواتي يذبن في المكان ومشهد القبور المختلفة عن كل القبور التي خبرتها ذاكرة المشاهد. سوريالية تنطبق أيضا على تلك الشجرة التي علقت اليها أجهزة راديو ومسجلات في تركيب غريب امتد الى ملامح الشخصيات وأزيائها الخاصة لكن الاكيدة .

يجوب ساعي البريد المسن "مام بالدار" جالسا أمام مقود شاحنته القديمة الزرقاء تلك الأماكن الرائعة في مهمته لايصال الرسائل الصوتية للأمهات القلقات على فلذات أكبادهن وكل المتعطشين لسماع انباء اقربائهم واحبائهم في ذلك المكان المنعزل. ويمضي الفيلم الى الامام حين يطلب أحد مناهضي النظام من ساعي البريد الذهاب الى قريته وتسجيل صوت أول بكاء لطفله الذي سيولد على المسجل حتى يتمكن من سماعه.

واذا كان الفيلم يحمل بصمة صانعه وينم عن موهبته الأكيدة فهو لا يخلو من خلفية سياسية ومن رمزية تمثلت ببكاء الطفل المسجل والذي تردد في كل أنحاء كردستان عبر مكبرات الصوت حيث لا يعود الفيلم يهمس، بل يصرخ دليلا على المقاومة والاستمرارية والأمل رغم الآلام.

مخرج موهوب يقدم في "همس الريح" عملا مكثفا من خمسة وسبعين دقيقة من الصورة والسينما البعيدة عن الثرثرة والتي تحمل قيمتها الاولى في فنية الصورة والاطار وتستمد خصوصيتها من أصالة المكان والدفاع عن الهوية والانتماء.

موقع "إيلاف" في 23 مايو 2009

 
 

رياح السياسة تهبّ (أخيراً) على «كان»

عثمان تزغارت

بَهَر إيليا سليمان الحضور بفيلمه «الزمن الباقي» الذي رصد ستّين سنة من حياة الشعب الفلسطيني من خلال بورتريه لعائلته

مع استكمال عروض المسابقة الرسمية في الدورة الـ62 من «مهرجان كان»، هبّت على الكروازيت موجة من الأفلام السياسية التي اتّسمت بتيمات متقاربة على صعيد المضمون، وبتنوّع كبير من حيث الرؤيا الإخراجية والسمات الأسلوبية.

أفلام الأسبوع الأول من المهرجان اتسمت مضامينها بطابع حميمي غلب عليه المنحى النفسي. وكانت أبرز المحطات فيها أربعة أعمال هي: فيلم جين كامبيون الشاعري الرقيق «النجمة الساطعة» وAntichrist للارس فون تراير ذي المنحى الفلسفي والتأملي، وفيلم ألمودوفار «العناق الكسير» المسكون بالقلق الوجودي، ورائعة جاك أوديار «نبيّ» التي رجّح غالبية النقاد هنا أن تكون «السعفة الذهبية» من نصيبها.

أما أفلام الأسبوع الثاني، فاحتلّت مواضيع مقاومة الاحتلال ومحاربة التطرف والنضال من أجل الحرية مكانةً مركزيةً في أربعة أفلام بارزة، هي «السفلة المجهولون» لكوينتن تارانتينو، و«الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب» لإيليا سليمان، و«المناديل البيضاء» لمايكل هانيكي، و«النصر» لماركو بيلّوكيو. لكنّ أوجه المقارنة بين هذه الأفلام تتوقف عند هذا الحدّ، إذ إنّها تختلف عن بعضها جذرياً، من حيث السمات الأسلوبية. موضوع الحرب العالمية الثانية تناوله تارانتينو بأسلوب ملحمي صوّر من خلاله تحوّل حفنة من المجرمين وذوي السوابق إلى شخصيات بطولية بعدما زُجّ بهم في أتون الحرب. بينما سلك مايكل هانيكي لمقاربة الموضوع ذاته منحى نفسياً، فرصد نشأة النازية وتأثيرها، من خلال تصوير وقائع الحياة في قرية صغيرة في الريف النمساوي خلال ثلاثينيات القرن المنصرم. المنحى النفسي ذاته سلكه الإيطالي المخضرم ماركو بيلّوكيو. إذ واصل في «النصر» المسعى الذي يسكن أعماله في مساءلة التاريخ الإيطالي المعاصر. وجاء ذلك، هذه المرة، من خلال بورتريه نفسي عن موسوليني. لكنّ العمل لم يكن في مستوى التوقّعات، ولم ينجح في إثارة الجدل الذي كان مرتقباً بفعل مقاربته الإشكالية لتلك الشخصية.

أمّا إيليا سليمان، فقدّم فيلماً صوّر فيه وقائع 60 سنة من حياة الشعب الفلسطيني منذ النكبة، عبر بورتريه عائلي مستوحى من السيرة البيوغرافية لثلاثة أجيال من آل سليمان (جدته ووالده وهو). فضلاً عن مضمونه السياسي، بَهَر هذا الفيلم الكروازيت بفضل رؤيته الإخراجية المحبوكة وروح الفكاهة السوداء التي جعلت عمل سليمان يقترب من روائع «السينما السوداء».

الأخبار اللبنانية في 23 مايو 2009

 
 

الدورة 62 لمهرجان كان السينمائي الدولي الدنماركي فون ترير والاسباني المظفر والفرنسي رينيه:

اجماع على اوروبا الآثمة والملتبسة والبَطِرة

زياد الخزاعي

لا تتشابه افلام الدورة 62 لمهرجان كان السينمائي الدولي كثيرا في حكاياتها ومقارباتها للشأن الانساني، ذلك ان السينما كفن اوحد في الالفية الثالثة يضع في حسبانه المعرفة باحوالنا بدءا من الولادة وانتهاء بالجحيم الارضي الذي نمضي اعمارنا في فهمه واساءة فهمه في آن، مرورا بالانقلابات الكبرى في حيوات اهل الارض الذين ـ حسب السينما ـ سوف يمضون دهورا في التعاطي مع اشكالات العائلة وافرادها، السلطات وتجبراتها، الفواجع الانسانية التي نخلقها ونعقد ازماتها، والانسان وكينوناته المتضاربة العزوم والاخلاق والخلاصات بكل صنوفها. السينما تُوجد حيواتها على الشاشات، بيد ان قوتها وعنفوانها المتجدد انها تصيب سهامها بدقة في قلب متفرجها وتدفعه الى إعادة النظر وامتحان اراداته ومفاهيمه، ولعل شريط المخرج الدنماركي الطليعي لارس فون ترير 'المسيح الدجال' (هناك من ترجم العنوان بقصر نظر الى 'ضد المسيح' واخرون فضلوا ابقاءه كما هو 'انتي ـ كرايست') اكثر نصوص هذه الدورة لعنة ومدعاة الى الرفض والتشكيك و...التحفيز، ذلك ان موضوعه المتشابك والذي يصل في مقاطع كثيرة الى حدود قصوى من التحريض الديني والسياسي والاخلاقي.

بدا صاحب 'تكسير الامواج' 1996 و'الراقصة في الظلام' سعفة كان 2000 و'دوغفيل'2003 في هذا النص الاشكالي وكأنه عازم على اعادة الشك بقيم ادارت المجتمعات الاوروبية وجهة اهتمامها بها منذ قرون. ومثلما انكبت المجتمعات هذه على التحديث وتكريس فجواتها التكنولوجية وتثوير مفاهيمها العامة واقصاء الدين ومسلماته عن القرار السياسي واطفاء جذوة اعتراضاته على علمانية دولها ودساتيرها، يعود افرادها ـ خصوصا في الاعوام العشرين الاخيرة ـ الى الطروحات الربانية القديمة، مضيفا اليها شحنات متجددة للشعارات الخالدة حول الاولوية والاحقية وطهارة الآخر، وتبعا الى هذا تم اكتشاف مصطلحات اتهامية اولها الارهاب الذي اخذ صبغات متعددة واطل برؤوس كثيرة يصعب على الجميع قطعها، ان فشلوا في ترويضها.

وعمل فون ترير يدخل في مصيبته منذ المشاهد الافتتاحية، اذ يرينا ان آدم وحواء المعاصرين يرتكبان الخطيئة ذاتها، حينما يسبقان لذتهما على التزامها، وهو هنا يتمثل بوليدهما الصغير الوحيد الذي يسير نحو حتفه عبر النافذة العالية. ويتزامن مسير ميتته الصاعقة مع التضخيم الشبقي للمواقعة الجنسية بين الزوج والزوجة تحت زخات الماء الذي سيعود في مقاطع كثيرة من الفيلم باعتباره مجازا لطهارة ناقصة. لماذا تكون مضاجعة زوج وزوجته اثما؟ حسب فيلم فون ترير ان العملية شديدة الاعتيادية وقعت في الزمن الخطأ والمكان الخطأ، وجرت مراسيمها من دون الوعي بالخراب الذي يحدث في محيطها. وهذا العنصر الاخير هو الاكثر روعة في تفاصيل الدقائق الخمس الاولى للشريط الطويل، اذ صور انتوني دود مانتلي (الذي انجز 'سلامدوغ ملينير') طرفي الفاجعة وهما يترسمان عمرين، ينتهي زمن الاول في مبتدئه، والثاني يطول عذابه حتى تحقيق العقاب الكبير الدامي. وسنرى الاكسسوارات داخل الحمام وهي تتهشم وتتناثر، في وقت يختفي صوت الطفل وصراخه عنهما، وكأن لهاث المجامعة الذي لن نسمعه بسبب الصوت الاوبرالي المؤدي للوصلة الدينية هو فعل منقطع عن الحياة الشمولية، انه تفصيل خصوصي قد لا يحق لآذاننا ان تشنف به، وهو ايضا صمم الطبيعة التي ترى فيه انذارا لغباء كائنين لم يصبرا قليلا. ان السرعة البطيئة التي استخدمها ترير في هذا المقطع التفخيمي احالته الى قراءة انجيليكية للاثم واطالت من فضول المشاهد الى الشراسة التي تجري فيها المواقعة تلك. وسيكون علينا انتظار المقطع الرابع كي يتحقق العنف مرة اخرى تحت قيادة الزوجة الشابة التي تعاني من كآبة حادة نتيجة موت الوليد والذي توجه الى بعلها باعتباره مسبب المعصية. وبدلا من دارتهما الفخمة في سياتل يقرر الزوجان الانعزال في كوخ وسط غابة نائية، وحشية، بكر، حيث يسميانها عدن، بيد ان هذه الجنة تتحول حسب كوابيس الام الى جحيم ينضاف الى تهويماتها المتداخلة مع عناصر بحثها المعقد حول الفظاعات التي قامت بها الكنيسة خلال القرون الوسطى ومحاكمها السيئة الصيت، حيث اعتبرت المرأة معصية وشيطانا وعورة يتوجب تعذيبها ومن ثم حرقها.

واذا ربطنا تفاصيل المجامعة وسقوط الابن مع تكرار قولها 'انني المُلامة' واصرار الزوج على '...ولكنني كنت هناك كذلك'، سيتكشف انقلاب الآثم وجلاده، وتتحول المعارك الثنائية بينهما وسط النأي الى دم وتعذيب قاس ضحيته الزوج الذي حاول تطبيق نظريات سيكولوجية لمساعدتها، واول جزء عضوي توجه البطلة عنفها تجاهه هو عضوه التناسلي كونه الاداة التي قادتهما الى محنتهما قبل ان تثقب قدمه اليمنى وتحكمها الى حجر سن سكاكين ضخم تُعجزه عن الحركة والفرار. وهو احد اشكال التعذيب الذي كان يمارس في القرون القديمة! ولا يبقى امام الضحية سوى التعجيل بالحلول البسيطة التي تقوده اليها حيوانات برية وهي انثى أيل يتدلى ولدها منها كفعل ولادة ناقص وغراب و ثعلب. ولئن شتم المخرج فون ترير الكنيسة وتحامل على قوانينها في شريطه الصادم 'تكسير الامواج' فانه يضيف هنا تعييرا اكثر تعقيدا في مستوياته الايديولوجية من حيث وضع بطليه وسط حيز بسيكولوجي مدنس برؤى كنسية واشارات دينية تبرر الانتقام ودماءه. وكلما ارادت البطلة الايعاز الى جسدها بالرضوخ الى ألم اكبر تذهب مباشرة الى المضاجعة الجنسية العصابية، قبل ان تقطع بظرها استكمالا للتطهر من خطيئتها.

تتوضح معاني عنوان 'المسيح الدجال' في اصرار البطلة على سن قانونها العنفي بنفسها والقائم على عشرات الصفحات من دراستها للموئل الكنسي حول العقاب بتصريفاته القديمة. و ما تصفيتها على يد الزوج سوى الحق بان العالم تغير ولا يمكن العودة الى التوريقات العقلية الملتزمة التي تحاول جهات اعادة البث الحياة فيها، الامر الذي يبرر الخاتمة الملحمية التي اختارها ترير لعمله الصادم الذي مزج الكثير من البورنوغرافيا مع الصورة النمطية للعائلة، حيث يصور بطله الهارب من جحيم عدن وهو يواجه الافاً من الناس وقد طمست معالم وجوههم وهم يسيرون بعزم نحو الغابة الوحشية، اي الى ساحة معاركهم الحداثية من اجل التطهر ثانية حتى لو تطلب الامر تعذيبا وموتا.

التباسات سينمائية

التعقيد الذي صاغ به المخرج فون ترير فيلمه، يظهر جليا في جديد صاحب 'تكلم معها' و'كل شيء عن امي' و'فولفير' الاسباني بيدرو المظفر الذي حمل عنوانا شعريا هو 'عناقات متكسرة' الذي ينتصر الى التباسات شخصية تطرح من خلال ازدواجية بطلته ويفلسفها على اساس ان حداثتنا تقوم في المقام الاول على سوء النية والجشع والخديعة. ان ابطال المظفر هنا رغم ملامحهم السينمائية المتأنقة هم جيف حداثية تسعى الى الكسب بكل انواعه حتى وان تطلب الامر فبركة عوالم وحوارات ومحيط عيش وعمل. واذ نقل الدنماركي بطليه الى غابة، فان المظفر حصر ابطاله القلائل العدد بعالم السينما واوهامه واستوديوهاته. وكما صور الاول شخصيتيه وهما يسعيان الى تبرير تخلصهما من آثامهما، عمد المخرج الاسباني الى تحميل مشاهده عناء تفسير حيواتها المريضة. نلتقي بمخرج يعيش وسط ظلمة عماه اثر تعرضه لحادث سير ومعه عشيقته الممثلة المبتدئة وهما في طريقهما الى مكان لقاء جنسي سري. هي اثنتان (اداء مشع من بينلوبي كروز): لينا حب حياته الذي فقده منذ الحادث المشؤوم، ولينا الاخرى عشيقة القطب الصناعي النافذ التي تسعى الى دخول عالم السينما من باب رغبة النجومية، وكهروب من حياة رتيبة هي اشبه بمعتقل عاطفي. وهو اثنان (اداء قدير من المسرحي لويس هومير): المخرج السينمائي ميتاو بلانكو الذي يرى ان من مهماته الاولى انجاز نص يخلد الحبيبة بأي ثمن، والثاني هو هاري كين الذي غيّر اسمه الى احب ابطاله الاميركيين الى نَفَسِه السينمائي اثر موتها ويكرر قوله 'ميتاو مات واسمه اليوم هاري'. يعش البطل عزلته الجديدة معتمدا على مغامرات جنسية مع مَنْ يساعدنه في الوصول الى بيته وتسهيل تنقله. ويوقع اسمه اليوم على نصوص ادبية ومسرحية وسيناريوهات تحت وصاية مساعدته جوديث وابنها دييغو الذي سنكتشف لاحقا انه ابنه الذي اخفت الام سره عن الاثنين. وسيكون هذا الشاب هو مفتاح التباس الحكاية حين يسأله عن الحادث الذي وقع له قبل 14 سنة. ويتحول السرد الى ما يشبه حكايات الاباء الى ابنائهم الصغار قبل ان يخلدوا الى النوم.

العائلة كمفهوم اخلاقي تجتمع هنا على مبدأ الثقة، واجتهاد افرادها في اعادة صياغة تاريخها وسيرها كل شخصية على حدة. والمظفر هنا مثل زميله فون ترير يصوغ الصيرورات على اساس الاثم، وهو لدى البطل الوسيم من نوع قدري آخر لم يرتكبه ولم يترسم وقعه. عليه نفهم اصراره على قتل ماتيو في ذاكرته وخلق هاري عنوة. الناقص في الحدوته هي لينا التي تأتي وتذهب من دون أن تعطينا اشارات خفية عن اصولها. وهي من باب آخر أسُّ البلاء العاطفي الذي سيتسبب بعمى البطل واقصاء عشيقها العجوز من مشهدية الوله الدامي. يضفي المظفر على لينا صبغتين اساسيتين، فهي من جهة النجمة المؤجلة، ومن أخرى هي الفاتنة المجرمة التي تتشابه مصائرها مع بطلات الـ'سينما نوار/ السوداء' التي قدمتها هوليوود في اربعينات القرن الماضي. لذا فان سيرتها ـ كافتراض ـ لا تعدو سوى حلم سينمائي يمر بحياة مشاهد فيلم المظفر، ويمكن وصفها رغم حُسنها بأنها ارهاب الفتنة الجنسية التي توقع بكل مَنْ يمتع ناظريه بمحاسنها كما لو كانت ميدوزا عصرية.

للعاشقين علّة مصيرية تتمثل بالعشيق العجوز آرنستو مارتيل (المسرحي الكبير خوزيه لويس غوميز) الذي يكلف ابنه المثلّي تعقبهما وتصويرهما قبل ان يتحولا الى هوس مرضي لهذا الابن المقموع والعبد لرغبات والده المتصابي. اذن، نحن في مواجهة عائلتين تشكلتا وتأسستا لكن احداهما سيعاد بناؤها (في حالة ماتيو) والاخر ستتفكك في حالة أرنستو الذي يكتشف ابنه ان دواخل عجوزه محملة بالكثير من الدناءات التي توارث الكثير منها. وكما يلقي الاب ماتيو/ هاري حكايته على مسامع ابنه البيولوجي مساعدا اياها في انجاز سيناريو باكورته السينمائية التي تستعيد نوعية افلام مصاصي الدماء، يكون على ارنستو ان يدفع ثمن خطيئته المتمثلة باعادة مونتاج شريط الحبيبة لينا الذي دفع مال انتاجه بصيغة فنية تدمر صورتها الفاتنة وتخرب سمعة مخرجه ماتيو.

تقف شخصية لينا عند بر آمن، فهي صورة عتيقة للممثلات الغابرات المجتهدات في عمل اي شيء يضمن نجاح فيلمها. وهي تبعا لهذا عبدة صورتها الدعائية وبهرجة نجوميتها. ويعمد المخرج المظفر الى تغريب خيالاتها من خلال بث لقطات من فيلم كوميدي يستلف بعضا من قديمه مثل 'نساء على حافة الانهيار العصبي' حيث نراها تؤدي دورا تابعا لممثلة أخرى تتلبس شخصية اسبانية شعبية تهذي بحوار سريع حول مغامراتها الجنسية في فيلم مفترض للمخرج ماتيو اسماه 'فتيات وحقائب سفر'. ان موت لينا وتكرار صورها على شاشات المونتاج هو في شكله الدرامي نعي للانوثة الدافعة بالعشاق الى ارتكاب حماقاتهم.

وهذه الحماقة هي المفتاح الدرامي لشريط المعلم الفرنسي الكبير الان رينيه 'العشب البري' (داخل المسابقة الرسمية) التي ستؤدي به الى حتفه بعد ان كشفت عورته العائلية والعاطفية ورضوخه الى فضول غير مبرر تحول الى هاجس. فالبطل جورج (الممثل اندره دوزيلير) سيلوث تطامنه اليومي مع داخله وزوجته حينما يرفع حافظة النقود الحمراء التي صادفها مرمية عند سيارته التي ركنها في كراج مجمع تجاري وسط باريس. وذكر الموقع اساسي في عناصر الحدوتة من حيث ان الحيز الضيق هذا سيفتح آفاق علاقات كانت بالنسبة الى هذا الرجل الستيني بحكم المنتهية اوعلى الاقل هي اشبه باحلام لن تتحقق ابدا. وحينما يسبق جورج أمانته في توصيل اللُقية الى صاحبتها، يكون عليه ان يمر بمراحل ثمانٍ هي ـ لدهشتنا ـ خطوات السلامة التي تُلقى على ركاب الطائرة قبيل اقلاعها. فبعد سجالات حول ما اذا كان الاوجب الاتصال بالسيدة التي تحمل الوثائق صورتها ام الذهاب الى الشرطة، يختار جورج السبيل الذي سيهينه ويضعه تحت الشكوك ويهدد توازن عائلته الصغيرة. ما العلة في شخص يكشف عن امانته في مجتمع يعمد الى وضعه في الاتهام؟ الجواب البطر الاجتماعي. ان رواية كريستيان غايلي 'الحادثة' تغالي في رسم تفاصيل الرتابة التي تحيط بعالم البطل العجوز والموصلة به الى حافة العزلة والصمت والانكفاء حتى انقلاب موازينها عندما يتجاوز الخط الفاصل بين التجاهل والواجب. المشكلة في 'العشب البري' ليست في رجال الشرطة الذين سيقتحمون دارته الفخمة التي تعكس طبقيته ذات الارث المجيدة، بل في السيدة مارغريت صاحبة المحفظة، فبعد شرائها حذاء جديداً تُسرق حقيبة يدها، ويترك اللص النبيه الدليل الذي سيجمع قدريهما. فالاخيرة طبيبة اسنان تهوى الطيران الشراعي وتعتبر مجيدة بين اقرانها. وبقدر ما انها لا تلتفت الى ما سُرق منها كونه سهل التعويض، تذهب كجورج الى اقصى درجات الهوس بالتواصل معه. فهذه العزباء القليلة الانوثة تجد فيه موئلا لعلاقة قد تزهر عن عاطفة. ومع شروعها بمطاردته وهما بين اماكن الثقافة (قاعة مسرح، دار عرض سينمائية وغيرها) تكتشف انها غارقة في عائلته اكثر من محاولتها ابعاده عن حياته. ولئن كان اثم البطلة انها لم تكتشف كم هي فريدة في وحدتها، فان اثم جورج الكبير انه وسط السلطات وخسر المباردة الشخصية التي يثبت عبرها انه ما زال قادرا على التواصل مع النساء ولم تنته مغامراته. وهو بهذا على حق، فبعد لقاء يشبه المواجهة يفوز فجأة باثنتين: السيدة الطائرة وزميلتها في عيادة الاسنان.

صاحب 'هيروشيما حبيبي' و'العام الاخير في مارينباد' و'عمي الامريكي' يصوغ فيلمه كحكاية مستمرة لا وقت له، فصباح البطل مثل مسائه يدوران حول مركز واحد هو عطالته وفراغه الذي ستملأه مارغريت. وبما ان الشخصيات جميعا ذات محتد يقارب النبالة القديمة، حول رينيه محيطها الى ما يشبه الرسوم الملونة كثيرة التفاصيل التي تشي بارستقراطية مدينية لا تتطابق مع الموقع البري الاخر حيث يقع موت الجميع. ان العقاب الجماعي الذي يوقعه غايلي /رينيه لن يحدث بسبب عطل في الطائرة الشراعية التي تجمع الزوج والزوجة ومارغريت، وانما لعدم وجود ادوات السلامة كان من واجبها منع الاخيرة من الهجوم على فتحة سروال جورج التي لم يتمكن من اغلاقها بعد استخدامه للحمام. وهذا التهكم المفاجئ والذي لن يقدم رينيه ـ بذكاء محسوب ـ تفاصيله داخل الطائرة بل نراه وهي تقوم بلفات تدفع بمزارع الى اطلاق انذار شخصي حول ان حركات الاكروباتيك غير مسموح بها فوق مروج العشب البري، كما لن يسمح رينيه لنفسه بعرض حطام الطائرة وجثث ابطاله لمشاهده، ذلك انهم ليسوا بكائنات حقيقية وانما خيالات للبطر الاوروبي.

' ناقد سينمائي من العراق

القدس العربي في 23 مايو 2009

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)