كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

الجنس والرعب والعنف في فيلم "نقيض المسيح" في مسابقة "كان"

امير العمري/ بي بي سي- كان

مهرجان كان السينمائي الدولي الثاني والستون

   
 
 
 
 

لكل دورة من دورات مهرجان كان السينمائي فيلمها الصادم أو "فضيحة المهرجان" حسب التسمية التي تطلقها الصحافة الشعبية عادة. هكذا اعتدنا منذ نحو عشرين عاما.

كان الفيلم- الفضيحة ذات مرة، هو فيلم "غريزة أساسية" بطولة شارون ستون صاحبة اللقطة الشهيرة الإباحية المفاجئة في ذلك الوقت، ثم فيلم "اصطدام" Crash للمخرج ديفيد كروننبرج عام 1995 بمشاهده الغريبة التي تجسد العلاقة بين اللذة الجنسية والألم. ثم جاءت فضيحة أخرى تمثلت في فيلم "غير قابل للعودة" Irreversible بعد ذلك بخمس سنوات الذي يصور تفاصيل مرعبة في مشهد اغتصاب بطلته "مونيكا بيلوتشي" داخل نفق للمشاة.

أما هذا العام فربما يستحق لقب الفيلم الفضائحي بجدارة فيلم "ضد المسيح" (أو المسيح الدجال أو نقيض المسيح أو الشيطان) للمخرج لارس فون ترايير، وكل هذه التعبيرات صحيحة تماما، وإن لم تكن هناك في الفيلم شخصية يتجسد فيها هذا المعنى بل إن المعنى عام يشمل "الرؤية" نفسها التي يقدمها هذا السينمائي المتطرف في خياله في فيلمه هذا، الذي شاء أن يكتم أي معلومات عنه قبل وأثناء وبعد الانتهاء من تصويره، إلى أن عرض أخيرا ضمن مسابقة المهرجان في عرضه العالمي الأول.

الإعلان عن موهبة

جاء المخرج الدنماركي لارس فون ترايير إلى مهرجان كان للمرة الأولى عام 1991 بفيلم "أوروبا" Europa وكان وقتها في الخامسة والثلاثين من عمره، وراءه تجربة جماعة "دوغما 95" Dogma 95 التي تزعمها وأسس لها نظريا وعمليا والتي سرعان ما انتهت إلى الإفلاس، بالاضافة إلى أنه ترك وراءه أيضا عددا من الأفلام التي قام بتصويرها فهو أساسا، مصور سينمائي.

أما "أوروبا" فكان مفاجأة مدهشة لعشاق سينما الفن، تجربة جديدة في استخدام لغة السينما: أبعاد الصورة وأعماقها، حركة الكاميرا الطويلة المعقدة التي تعبر كل الحواجز وتخترق المحظورات، العين التي تراقب دون أن نراها، شريط الصوت القادم مما وراء المحيط الأرضي وكأنه صوت القدر، والبطل- اللابطل الذي يسير كالمنوم إلى مصيره في "ألمانيا العام صفر" أي في الأشهر الأولى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

كانت موهبة فون ترايير تعلن عن نفسها بوضوح في هذا الفيلم الذي توقع كثيرون حصوله على السعفة الذهبية في تلك السنة، لكنه خرج من سباق كان بجائزة لجنة التحكيم الخاصة.

وقد أفصح فون ترايير وقتها عن "أسلوبه الخاص في التعبير" المخالف للأعراف المستقرة عندما صعد إلى المنصة لاستلام الجائزة فعلق قائلا "إنها جائزة صغيرة من أصغر رئيس لجنة تحكيم في أي مهرجان" وكانت تلك إشارة واضحة إلى المخرج البولندي الشهير رومان بولانسكي التي رأس اللجنة في ذلك العام والمعروف بقصره.

عاد فون ترايير إلى مهرجان كان عام 1996 بفيلم بديع آخر هو "تحطيم الأمواج"، وكان يعبر فيه عن فلسفة إنسانية محبة للخير وللدنيا وللحياة، يسبح في الميتافيزيقي، ويناقش مغزى الحياة والموت وفكرة البحث المعذب عن الله، من خلال لغة فنية رفيعة يستخدم فيها الموسيقى وتقسيم الفيلم إلى فصول تحمل عناوين مختلفة للتغريب من أجل التقريب، ويرتكن على الممثلين وفي مقدمتهم البريطانية إميلي ووطسون التي يمكن القول إنها ولدت فنيا في هذا الفيلم.

أخرج ترايير بعد ذلك عدة أعمال للتليفزيون منها فيلم عرض في نحو 6 ساعات هو فيلم "المملكة"، وكتب فيلم "البلهاء" في إطار التشبث بفكر "دوغما 95" قبل أن تشهد الحركة نهايتها الطبيعية.

ومنذ فيلمه المفتعل الغريب "راقصة في الظلام" الذي اعتبر عملا لا فكر وراءه ولا فنا عظيما، بل محاولة لتسخيف الدراما الموسيقية بالاعتداء على تقاليدها باستخدام المغنية بورك التي لم تكن تصلح للوقوف أمام الكاميرا أساسا.

غير أن هذا الفيلم وجد بعض الذين أحبوه ومنحوه تعاطفهم، بل ونجح في الحصول على السعفة الذهبية في كان، ثم مضى لكي يرشح أيضا للأوسكار.

منذ ذلك الفيلم لم يعد من الممكن التعامل مع فون ترايير على محمل الجد طيلة الوقت، فها هو يعود إلى كان في 2003 بفيلم "دوجفيل" Dogville وهو فيلم مصطنع يمارس فيه هوايته في الاعتداء على سينما "النوع" genre الذي هو هنا الفيلم- نوار الأمريكي، من خلال قصة رمزية عن أمريكا "السيئة" التي لا يحبها فون ترايير، ويجد أنها مليئة بالقسوة والتوحش واللا إنسانية، هكذا من الخارج وبدون أي تعمق أو إحساس بالسخرية التي تولد الشعور بالمرح، بل من خلال تجسيد متجهم يريد أن يعتقل المشاهدين ويرغمهم على الجلوس في مقاعدهم لنحو ثلاث ساعات.

لم يكن هذا على أي حال سبب عدم توفيق الفيلم، بل كان الأسلوب السينمائي المصطنع الذي يمتليء بالحوار الذي لا ينقطع، ويدور في ديكور واحد كأنه منصة مسرح، وعليك أن تتخيل أن هنا دكان الحلاق، وهناك البنك، وهنا مركز الشرطة .. إلخ.

تجربة جديدة

اليوم نحن أمام تجربة متطرفة جديدة لفون ترايير، أتى بها إلى كان وفي ذهنه أن يصفع الجمهور، ويثير جنون القطاع المتيم بأفلامه حتى قبل أن يراها.

هنا، في هذا الفيلم، لا يحدث شيء على الإطلاق. هناك فقط شخصيتان: رجل (وليم دافو)، وامرأة (شارلوت جينسبرج). الإثنان منعزلان في بيئة برية متوحشة نائية، داخل كوخ خشبي محاط بالأدغال التي تختبيء فيها ذئاب متوحشة.

المرأة تبدو مدمرة نفسيا بسبب عجزها عن قبول فكرة الموت، والرجل يحاول مساعدتها عن طريق التحليل النفسي، على الخروج من أزمتها.

لقد فقد الاثنان ابنهما بعد أن سقط من شرفة المسكن بينما هما مشغولان بممارسة الجنس.

وهما يتركان المدينة ويرحلان إلى الريف حيث ينعزلان في ذلك الكوخ الخشبي بحثا عن علاج نفسي للزوجة من قبل زوجها الطبيب النفساني كما نعرف لاحقا.

غير أن الوسيلة العلاجية الأساسية التي تستخدم هنا هي الجنس، أي ممارسة الجنس في كل مكان وفي أوضاع مختلفة، وبصورة وحشية خاصة من جانب المرأة الشابة التي لا يبدو أنها تشبع، فالجنس هنا ليس وسيلة للتشبث بالحياة بل ربما وسيلة للتعجيل بالنهاية.

وعندما تشك في لحظة في أن زوجها، يوشك أن يتخلى عنها ويهرب، تلجأ إلى استخدام أقسى درجات الوحشية معه.

إنها تقوم أولا بالقاء حجر كبير يشبه ما نعرفه بـ"حجر الرحاية" على عضوه الجنسي بعد الانتهاء من ممارسة الجنس مباشرة، وبالتالي تصيبه بالإغماء من شدة الصدمة.

الفوضى تسود

وعندما يستفيق ويبدأ في التحرك، تأتي بحفار عتيق كبير وتغرس سنه المدبب في ساقه ثم تدير الحفار فيخترق السن ساق الرجل ويخرج من الجهة الأخرى مع ألم شديد لا يطاق.

لكنها لا تكتفي بذلك بل تأتي بعجلة ضخمة من الحديد مصممة لكي تغلق تماما على المسمار الكبير المنغرز في ساق الرجل بقطعة حديدية تتحرك على زنبرك، وذلك لمنعه من الحركة تماما.

وفي مشهد يثير القشعريرة تتناول عضوه الذكري في يدها وتبدأ في تدليكه فيندفع الدم منه يغرق ملابسها.

وينتهز هو فرصة انشغالها ويزحف متسللا إلى الأحراش، ويختبيء في حفرة، تتطلع ذئبة تضع مولودها إليه وتقول له بصوت بشري أجش: الفوضى تسود.

الفتاة تصرخ في البرية باهنياج شديد: أين أنت؟ وتتصاعد هستيريا صراخها أكثر فأكثر كلما صمت صاحبنا في مكمنه فزعا مما يمكن أن يحدث له.

لكنها تعثر عليه وتجذبه إلى الداخل، حيث تستأنف الملحمة الدموية السادية المتوحشة: إنها ترغب في ممارسة الجنس مجددا. وعندما تعجز تمارس العادة السرية أمام الكاميرا مباشرة، ومع شعورها بالإحباط تتناول مقصا ضخما وتقطع أعضاءها الجنسية الخارجية، فيتفجر الدم.

بعيدا عن الإيحاء

هذه المشاهد نراها بشكل مباشر وبدون أي نوع من التمويه أوالإيحاء أوالإحالة إلى الخيال، أو استخدام زوايا تصوير جانبية، بل من خلال كاميرا مواجهة للممثل والممثل تتوقف وترصد تفاصيل الحدث بكل وضوح لتحقيق أكبر قدر من الصدمة. ما المقصود من هذا العمل، ولماذا، وهل هذه الرؤية صادقة أم مفتعلة، ولماذا؟

في تاريخ السينما هناك الكثير من الأفلام المغرقة في الغرائبية والمشاهد الصادمة. لقد كان فيلم "اصطدام" مثلا، عملا يتمتع بالأصالة الفنية والفكرية، في تعبيره المشوب بنزعة بحث فلسفي معذب، في العلاقة بين الألم واللذة، بشكل يحمل أيضا تعليقا ساخرا من الحضارة الأمريكية الحديثة، حضارة السيارات والسباق المجنون نحو الموت يوميا.

وكان ما نشاهده رغم كل غرابته، يظل في إطار المقبول والمفهوم والممكن تخيله أيضا لأنه كان يقدم أيضا في اطار رؤية مستقبلية للعالم.

ولعل العبقري السيريالي لويس بونويل بلغ الذروة في التعبير بالعنف والجنس ولكن بأسلوب أقرب إلى الشعر. إنه صاحب فيلم "الكلب الأندلسي" الصامت (1928) الذي يظهر فيه البطل وهو يشق عين امرأة بسكين فيتدفق منها النمل.

وهو أيضا مخرج "حسناء النهار" و"سحر البورجوازية الخفي"، و"شبح الحرية" وغيرها من الأفلام المغرقة في الخيال الجامح.

وهناك أيضا أفلام السيريالي الآخر المتطرف في تعبيره الفني، اليخاندرو خودوروفسكي. كما أن فيلم "امبراطورية الحواس" للياباني ناجيزا أوشيما يصل في تعبيره عن العلاقة الحسية بين الرجل والمرأة إلى أقصى درجاتها المتخيلة.

أما فيلم لارس فون ترايير الجديد "نقيض المسيح" فإنه، بعيدا عن المفاهيم الأخلاقية المباشرة، التي ترفض تصوير العنف على الشاشة أو استخدام العري والجنس في التعبير في الفن عموما، وفي السينما خصوصا، فإنه اعتبر من قبل الكثير من النقاد الذين شاهدوه في "كان" اعتداء فظا على الذائقة البصرية.

لم يجد هؤلاء في فيلم فون ترايير أي عمق فني أو لمسات فنية خاصة وجديدة، يستخدم في إطارها الجنس والعنف للتعبير عن رؤية فلسفية حقيقية تشغله، بل هناك شعور بالاعتداء على الذوق ومحاولة فرض رؤية معينة بكل أشكال القسوة والقسر وتكرارها عشرات المرات والاستمراء في هذا دون أي قدر من الجمال، فللعنف أيضا جمالياته.

ما الهدف؟

ما الذي يريده إذن من وراء كل هذه المشاهد المرعبة التي قد تدفع الكثيرين إلى كراهية السينما؟ إنه يريد تحقيق الصدمة أولا، والصدمة ثانيا، والصدمة أخيرا.

أما من حيث الأسلوب فهو يكرر استخدامه للكاميرا المتحركة الحرة المهتزة التي تنتقل كثيرا في حركات بان (pan) افقية بين الشخصيتين كما اعتاد أن يفعل، ويستخدم العدسة سكوب أي الشاشة العريضة كما فعل في كل أفلامه الشهيرة دون أن تضيف شيئا هنا، وينتقل من الأبيض والأسود إلى الألوان، كما يحلو له وبدون منعطف درامي واضح، ويستخدم طريقة كتابة العناوين على الشاشة كما سبق أن فعل في أعلامه السابقة: هناك أربعة فصول وخاتمة.

هو بالطبع يحاول أن يوحي لنا بأنه يتفلسف عن الحياة، وعما بعد الحياة ربما، ويذكر في سياق أحاديثه الطويلة "نيتشه" وكتابه عن "المسيخ الدجال" أو "نقيض المسيح" وكيف أنه كان دائما إلى جوار فراشه، كما يتحدث عن تأثير فيلم "يوميات الحياة الزوجية" لبرجمان عليه، ولكن كل هذه الأشياء لا أثر لها في الفيلم فما الجدوى إذن؟

الواضح للكثيرين أن فون ترايير لم تعد تشغله أي أفكار عن الحياة وما يحدث فيها، بل أصبح أساسا، مشغول بنفسه، ومنهمك بالدوران حولها، يريد أن يصعد فوق آهات الدهشة والرعب، ويحقق مزيدا من الشهرة والمجد من خلال الصدمة، طالما أن هناك في أوساط "المعجبين بالصرعات الفنية" من يعجبون بهذا الاعتداء الفظ على الذائقة البصرية، بل وعلى الذوق الفني والخيال.

رفض الجمهور

فون ترايير لا يهمه الجمهور كما قال خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب عرض فيلمه في مهرجان كان حين أكد أنه يصنع الأفلام لشخص واحد فقط، هو لارس فون ترايير نفسه.

وهو أيضا سعيد بوجود "محيط" خاص من المعجبين بأفلامه الصادمة، أي سعيد بانتماء فنه هذا إلى صنف الفن الفئوي القاصر على "قبيلة" معينة، وليس فنا للإنسانية كلها، كما يعترف بنفسه في حوار منشور في مجلة "فيلم" الدنماركية (العدد 66).

ما معنى ما تقوله الذئبة في الفيلم لبطلنا السادي الذي ينتهي بقتل المرأة خنقا، للخلاص منها والنجاة بنفسه، وهو ما يعكس رؤية ترايير للعلاقة بين الرجل والمرأة، كما يعكس الفيلم، على نحو ما، رؤيته لإحساس المرأة بالجنس، ولشكل احتياجها "الأساسي" من الرجل، ورغبتها المرضية في التملك والاستيلاء، وعدم الوصول أبدا إلى الإشباع.. فهل هذه تصلح بعد ذلك أن تكون، بأي مقياس، رؤية "إنسانية"؟

من الغريب بل والمستهجن، أن يجد البعض ما يضحكه في مشاهد قطع الأعضاء الجنسية أو إزالتها بالمقص في واحد من أفظع مشاهد السينما، ولعل التساؤل التالي هنا يصبح مشروعا: ما معنى هذا، ما هذه الثقافة "الأخرى" التي أصبحت تتلذذ بهذا النوع من المشاهد وتجد فيها أيضا نوعا من "الفكاهة" أو الـ (fun

الفوضى والعالم

إن فيلم "نقيض المسيح" الذي يقول لنا شيئا ربما نعرفه جميعا على لسان الذئبة المتوحشة، أي أن الفوضى تسود العالم، لا يقدم جديدا على صعيد الفكر بل ولا على صعيد الفن، سوى الإغراق في تجريب أقصى درجات الصدمة.

طبعا فون ترايير يستخدم المجاز فهو يريد أن يقول لنا إنه يتحدث عن نهاية العالم الشبيهة ببدايته مع فارق أن الرومانسية قد انتهت.

وهو يختم الفيلم على بطله الذي نراه وسط مئات من جثث النساء العاريات تحديدا ملقاة فوق ربوة في الأدغال.

الغريب جدا أن فون ترايير كان قد واجه عام 1991 برفض فيلمه البديع "أوروبا" من قبل الكثيرين. ووبلغ الأمر أن كتب ناقد يصف الفيلم بأنه مجرد "استمناء ذهني"، أما الفيلم الجديد فهناك الكثيرون أيضا الذين يعجبون به ويجدونه عملا فلسفيا يلخص نهاية العالم.

لكن هناك ذلك الناقد الذي قال إن فون ترايير لا يوظف العنف في هذا الفيلم فنيا، بل يستخدمه ضد الجمهور".

ولاشك أن فون ترايير عندما يفاجئنا في النهاية بإهداء فيلمه هذا إلى السينمائي الروسي الراحل أندريه تاركوفسكي، فإنه يسخر من عشاق سينما تاركوفسكي، بل ومن سينما العقل، بعد أن قدم نموذجا فذا ومذهلا، على سينما ما بعد العقل.

موقع "الـ BBC العربية" في 20 مايو 2009

 
 

الساحر يعود ويلقي بعباءته مجددا

أمير العمري/ بي بي سي- كان

من أهم ما عرض داخل مسابقة مهرجان كان السينمائي الفيلم الجديد للمخرج بيدرو ألمودوفار، طفل السينما الإسبانية المدلل، وصاحب الأفلام الجريئة والمثيرة للذهن والخيال، التي تحقق التوازن المستحيل بين الفن والرواج، بين الحصول على إعجاب النخبة، واقتناص إعجاب الجمهور في مستوياته العريضة.

هذا العام يعود "الساحر" الإسباني بفيلمه الجديد "عناقات مهشمة" Broken Embraces لكي يتحفنا بعمل يشع أصالة ورونقا وسحرا، ويعيدنا إلى "جوهر" السينما، أي القدرة على رواية قصة آسرة بطريقة بليغة وجذابة معا.

سيناريو الفيلم الذي كتبه كالعادة ألمودوفار، يدخلنا في دروب كثيرة متشعبة، ويتجه بنا إلى أعلى ذروة من ذرى الميلودراما السينمائية، لكن دون أن يجعلنا ننفر مما نشاهده، لأنه ينجح بكل بساطة، في جعلنا نصدقه، نتعاطف مع شخصياته، نفهمها ونقترب منها، ونشعر بأزمتها.

الماضي يتداخل مع الحاضر، الخيال مع الواقع، عالم السينما، مع عالم الفنان، ويشكلان معا نسيج هذا العمل السينمائي الذي يتجول داخل تضاريس الإبداع الفني ويقدم زوايا وشخصيات جديدة غير مألوفة في أفلام المودوفار.

المرأة ليست محور الفيلم هنا رغم أنها محور الأحداث، بمعنى أن الدراما تتفجر في الفيلم من خلال الصراع على قلب المرأة بين رجلين: رجل ثري (ماتيو بلانكو) يرغب في امتلاك قلب وجسد الحسناء "لينا" (التي تقوم بدورها بنيلوبي كروز) وهي ممثلة مبتدئة وعشيقة له اضطرت للعيش معه من أجل المال، ثم سرعان ما تقع في الحب بالفعل مع رجل آخر هو بطلنا ارنستو مارتل المخرج السينمائي.

بلانكو ينتج الفيلم الذي يخرجه مارتل من أجل عيون لينا، لكنه يغضب عليها بعد أن ترفض الانصياع لرغباته وتريد أن تقطع علاقتها به والعيش مع حبيبها الحقيقي، فيقوم بتدمير الفيلم عن طريق اعادة تكليف مونتير سينمائي باختيار أسوأ اللقطات والمشاهد ووضعها في الفيلم وحذف اخيتارات المخرج الأصلية. والنتيجة كارثة فنية وتجارية عند الافتتاح.

عودة إلى الماضي

هذه الأحداث لا يبدأ بها الفيلم بل يبدأ من خبر موت بلانكو وتردد شخص يشك في أنه ابن الثري الراحل، على المخرج السينمائي مارتل الذي أصيب بالعمى الآن وأصبح يكتفي بالعمل ككاتب للسيناريو ويتخذ له اسم "هاري كين"، يريد هذا الشاب أن يخرج فيلما يكتبه له "كين" ينتقم فيه من والده وأفعاله!

وفي "فلاش باك" طويل أو ارتداد إلى الماضي، نعود لنشهد أحداث الصراع الذي وقع في 1992، ونرى كيف حقق بلانكو انتقامه من الحبيبين، بل وكيف أنه قد يكون أيضا وراء حادث السيارة الذي راحت ضحيته "لينا" الجميلة، وفقد مارتل نظره!

لكن الفيلم ينتصر في نهايته للمبدع السينمائي ويجعله يحقق انتقامه الشخصي من الشر ممثلا في بلانكو، بعد أن ينجح في انقاذ فيلمه وإعادة عمل المونتاج له بحيث يخرج كما كان يريده في الأصل!

السرد الخافت

أحداث وشخصيات عديدة أخرى في هذا العمل، الذي يهمس أكثر مما يصرخ، وينتقل من حكاية إلى أخرى، كعادة ألمودوفار في السرد، وبطريقة مشوقة، وأسلوب فيه طعم الكوميديا التي تنتج من المفارقات المضحكة.

الحوارات هنا قد تكون طويلة، ولكن الشخصيات تتكلم كما لو كانت تهمس لنفسها. ولقطات الكلوز أب القريبة تساعد على الإحساس بالشخصية بشكل مباشر، والكشف عن مشاعرها عن قرب.

والاستخدام الرصين الحذر للموسقى يساعد على التأمل دون أن يعيق الاندماج. هذا فيلم يصل إلى عمق المأساة الميلودرامية لكنه يتجاوزها، ليصبح أيضا احتفالا بالحياة.

في أفلام ألمودوفار الميلودرامية يمكنك أن تتوقع في أي لحظة أن يعثر البطل على ابن له مثلا في النهاية، كما يحدث هنا، فنحن نكتشف أن ابن مساعدة مارتل الشاب الذي أصبح متداخلا في الموضوع، والذي يستمع لأحداث الماضي كما يقصها عليه مارتل، ليس سوى ابن مارتل من مساعدته، التي لم تخبر مارتل بالحقيقة، بل ولم تخبر ابنها إلى حين تفجر المفاجأة في النهاية، وينتهي الفيلم بالخاتمة السعيدة.

فيلم واحد

ويمكن القول إن ألمودوفار يصنع فيلما واحد طيلة الوقت، رغم أنه لا يكرر الفيلم نفسه، بمعنى أن له طابعه وأسلوبه ولغته الخاصة بل وعالمه السينمائي المعروف بمفرداته الثابتة، لكنه يصوغ كل هذا من خلال "حبكة" جديدة، وحكاية مختلفة تماما عما سبق أن شاهدناه، دون أن يفقد قدرته على شد الانتباه وإثارة الفكر والخيال.

في "عناقات مهشمة" تبرز قدرة ألمودوفار على تجسد خياله من خلال السيطرة المدهشة على الأدء التمثيلي الذي يصل إلى أرقى مستوياته.

ولن يكون مدهشا إذا ما فازت بنيلوبي كروز بجائزة التمثيل في كان عن دورها في هذا الفيلم.

ويمكن القول أخيرا أن "عناقات مهشمة" تحية كبيرة إلى عمل المخرج السينمائي وإلى عالم السينما عموما.

ويعد الفيلم بأسره احتفالا بقدرة المبدع السينمائي على الابتكار والخيال حتى وهو أعمى.

وفي الفيلم إحالات سينمائية عديدة إلى أفلام من الخمسينيات ومن العصر الذهبي للسينما في هوليوود، وهي الأفلام التي يغرم بها ألمودوفار نفسه.

وفي الوقت نفسه هناك الفيلم داخل الفيلم الذي نتابع أيضا أحداثه، وهو الفيلم الذي يخرجه مارتل وتمثله لينا، وهو بعنوان "فتيات وحقائب"، ولعله يحيل في أكثر من زاوية، إلى نوع من كوميديا الأخطاء التي تتناقض بالتالي مع نسيج "عناقات مهشمة". ألمودوفار أحد الفائزين من قبل بالسعفة الذهبية، لكنه يبقى أيضا أحد المرشحين للفوز مجددا بها هنا في كان.

موقع "الـ BBC العربية" في 21 مايو 2009

 
 

حينما تسيطر الحواس على الذات

الدانماركي لارس فون ترير يقدّم «المسيح الدجال»

عبد الستار ناجي

السينما الدانماركية وعبر عدد من الاسماء المرموقة استطاعت ان تذهب بعيداً الى مفردات التجديد والبحث والابتكار في عالم الفن السابع، واذا كان بيل اوغست قد نالَ السعفة الذهبية مرتين فان مواطنه لارس فون ترير فاز بها مرة واحدة عن فيلمه «الأمواج المتكسرة» او «القلوب المحطمة». وهو اليوم يعود بفيلم جديد بعنوان «المسيح الدجال» «Antichtist» سينما تتجاوز الفعل الدرامي التقليدي سينما تدعونا لان نفكر وننشغل بجميع التفاصيل.

والفيلم الجديد من بطولة الأميركي وليم دافو والفرنسية شارلوت جونسبورغ.

الفيلم يبدأ بمقدمة تعتبر درساً حقيقياً في الفن السينمائي مشهد متداخل مصنوع بالحركة البطيئة عن علاقة جنسية تتم في الحمام بين زوج وزوجته وفي تلك الاثناء يتحرك طفلهم الوحيد من سريره الى النافذة.. ليسقط.. وليلقى حتفه.

انها المقدمة..

وبعدها تدخل الام في حالة من الحزن.. والضعف.. والخوار النفسي.. والتعب... ويحاول في المقابل الزوج انقاذها من ذلك الوضع وتلك الازمة العاصفة.

وبعد اشهر بين المستشفى والبيت يقرر ان يذهب معها الى الغابة حيث يمتلكان كوخاً من اجل العمل على مساعدتها على تجاوز مرحلتها النفسية.

وتبدأ الحقائق بالتكشف.. امرأة تحركها الرغبة تسيطر عليها لا تريد رجلها ان يفارقها.

بل انها تعطي اشارات واضحة بانها شاهدت ابنها الصغير وهو يصعد الى النافذة في لحظة وصولها الى قمة الرغبة مع زوجها، ولكنها فضلت ان تبقى في حضن زوجها عن منع طفلها الوحيد من الذهاب الى الموت.

انها تحاول ان تتجاوز تلك الخطيئة، وتلك الجريمة التي لن تغفرها لنفسها.

ولهذا فانها تذهب الى الحزن.. والعنف الجسدي، وفي لحظة تقرر مهاجمة زوجها، حتى تمنعه من الابتعاد عنها، لأنه لم يبق أمامها سواه.

وتقيده وتقسو عليه.

وفي الحين ذاتها، تظل الرغبة تسيطر عليها، تدمرها وتفعل الكثير.. بل انها تقطع أجهزتها الحساسة لتدمير وقتل الرغبة التي تدفعها الى التصرف بجنون.. ولكن الزوج وبعد ان يخلص نفسه.. لا يجد مفراً من قلتها لأنها تمثل حالة مرضية سوداوية عنيفة متمردة ستدمر كل شيء حولها. ويظل الفيلم يمزج المشهديات، ويفك الرموز، مشهد بعد آخر، عبر لغة سينمائية لا يرتقي اليها الا مخرج بمستوى ومكانة لارس فون ترير. ومن خلال أداء صعب.. نادر. ولدور الزوج هناك الممثل الكبير وليم دافو، الذي يمتلك تاريخاً سينمائياً رائعاً، اعتبار ان دوره الخالد في فيلم «بلاتون» مع اوليفر ستون، كما عمل أعمال عدة مع لارس فون ترير، من بينها فيلم «ماندرلي».

أما دور الزوجة فتقمصته باقتدار وتفرد الممثلة شارلوت جونسبورغ ابنة المطرب القدير سيرغ جونسبورغ والممثلة البريطانية جين بيركن.

ممثلة من الطراز الأول، ذهبت بعيداً في تفسير و تحليل الشخصية بعمق وتعيش مع تطور الشخصية بكل ابعادها ومضامينها. المخرج لارس فون تيرير يذهب الى البحث السينمائي على صعيد الصورة.. الرؤية.. وايضا القضية، فهو لا يذهب الى البساطة والتقليدية، بل الى سينما جديدة، صعبة وقاسية، على صعيد الصورة والمضمون ولهذا يظل منفردا، للذهاب لمثل هذا الموضوع الكبير، وهو سيطرة الحواس على الذات الانسانية، فعندها يتحول الجسد الى الفعل الحيواني الأرعن.. والذي يذهب الى اقصى درجات التطرف في كل شيء.. التطرف في التعامل.. والعيش.. والتواصل مع الاخرين.

سينما تشغل البال.. سينما تدعو لان نعمل الفكر لمرحلة ابعد من حدود المشاهد والصورة التقليدية.

ويبقى ان نقول..

سينما الدانماركي لارس فون ترير تستفز الوعي والذاكرة وتحول المشاهد الى خلية من التفاعلات والحس والمعايشة.

النهار الكويتية في 21 مايو 2009

####

وجهة نظر

عرب

عبد الستار ناجي

العرب في السينما العالمية صورتهم تزداد قتامة.

فيلم بعد آخر، والعربي في السينما العالمية، ودائما هو الارهابي، والمجرم، والمتطرف، واحد الرموز الحاضرة للشر.

والامر لا يقتصر على السينما الأميركية بل يكاد العربي حاضراً كرمز لذلك الجانب في السينما في مكل مكان.

احدث تلك الافلام التي تذهب الى ذلك الجانب، فيلم «نبى» اخراج جاك دويار، الذي يتحدث عن عالم السجون في فرنسا.

وهناك الحاضر الاساسي هو «العربي» بل ان الفيلم يتمحور بكامله حول شخصية شاب عربي يدخل السجن وهو صفحة بيضاء، وحينما يخرج يتحول الى زعيم مافيا، يقتل.. ويسرق.. ويتاجر بالمخدرات.

وخلال السردية الدرامية للفيلم، يكون الحضور العربي والافريقي والكورسيكي هو الغالب، حيث لا مجرم في فرنسا الا العربي الاسمر والافريقي والكورسيكي ولكن لاسباب سياسية «فقط».

هذه الصورة المشوهة..

وهذه الصورة المكررة.. التي راحت تعمق صورة العربي المسلم كرمز للشر.. الجريمة وكل مفردات التطرف، تدعونا لان نطالب صناع الاعلام في العالم العربي، والقيادات السياسية على وجه الخصوص، بالتحرك صوب تغيير هذه الصورة، والامر لايتم بشكل فردي، بل تحرك منهجي وضمن استراتيجيات مدروسة، يتم اعدادها بالتعاون مع كبريات شركات وستديوهات الانتاج وايضاً القطاعات الاعلامية.

فهل من يتحرك...

وهل من يبادر..

انها دعوة لتغيير صورتنا المشوهة.

وعلى المحبة نلتقي

النهار الكويتية في 21 مايو 2009

####

 وجهة نظر

هوليداي

عبد الستار ناجي  

النجم الفرنسي جوني هوليداي احتفل منذ ايام بعيد ميلاده السادس والستين، ورغم ذلك لايزال في قمة الحيوية والنشاط، وايضا اللياقة البدنية والفنية العالمية.

منذ ايام اقام حفلا غنائيا أمام أكثر من 30 الف مشاهد وعنون ذلك الحفل بمفردة «الوداع» حيث اعلن اعتزاله الرسمي للغناء، ورغبته بالتقاعد والاستراحة، بعد اكثر من خمسة عقود من النجاح والغناء والنجومية.

انها المهمة الاصعب، حيث يظل نجم ما يتربع على عرش النجومية لمدة خمسين عاما، بل هي المهمة الاصعب في عالم الغناء على وجه الخصوص.

وقد تزامن اعتزاله الغناء، مع عرض فيلمه الجديد «انتقام» داخل المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي، وهو في الفيلم يخوض تجربة تعمق مكانته الفنية وقيمته الدولية والمرتبة الفنية الرفيعة التي يتمتع بها وبمناسبة وجوده في كان قال:

بودي ان اقول كلمة للشباب: لا تتعجلوا، فكل شيء قادم، النجومية والشهرة والمال، ولكن هنالك سر يجب ان تتعلموه وهو كيفية المحافظة على كل ذلك، وهذا لا يتم الا بالمثابرة، والاجتهاد، والعمل، فما اروع ان تواصلوا العمل والاجتهاد.

ونحن بدورنا ننقل لشباب الحركة الفنية في الكويت والعالم العربي بالا يتعجلوا، وان يقرنوا العمل بالاجتهاد، من اجل تمهيد طريق النجومية.

انها المعادلة الصعبة، والتي تبدو سهلة للبعض، ولكنها في حقيقة الامر، المهنة الاصعب، التي تجعل الفنان دائما في حالة من التوثب والاستعداد والبحث عن الجديد والتجديد.

نقتبس من مشوار النجم الفرنسي الكبير جوني هوليداي هذه الكلمة لتكون بمثابة الدرس للمستقبل.

وعلى المحبة نلتقي

Anaji_kuwait@hotmail.com

النهار الكويتية في 20 مايو 2009

 
 

«حوض الأسماك» للبريطانية أندريا آرنولد

في الجحيم الطبقي والعائلي

زياد الخزاعي

لم يشذّ جديد المخرجة البريطانية أندريا آرنولد «حوض الأسماك» (المسابقة الرسمية لمهرجان «كان») عن سابقه «شارع رد» (2006)، في انتصاره إلى بطلته التي تحاصرها ارتباكات ظروفها الشخصية. فكما كانت جاكي في «شارع رد» مكلومة بمصرع ابنتها الصغيرة وزوجها، الأمر الذي دفعها إلى إقصاء ذاتي عن الجميع، بمن فيهم أهل بعلها؛ فإن الشخصية الرئيسة في فيلمها الأخير تعاني تهافت علاقاتها العائلية، التي ترغمها على تكريس عدائيتها لمحيطها وأناسه ومحيطهم ومواقعهم. ويأتي خيار المخرجة في تشديد سوداوية المصيرين لإثبات أن الوقائع الاجتماعية في بريطانيا المرفّهة لا تخلو من فواجع عائلية، تصل في معظم الأحيان إلى تدمير مقصود وماحق للجسد كقيمة اعتبارية، وللأعراف كوحدة تآخي جمعية.

تتشارك البطلتان في محيط يشبههما بشراسته وتغريبيته لهما. إنهما كائنان لا يملكان تغييره، أو على الأقل إحداث رجّة حقيقية، تعيد بعض مسلمات الوعي بالمخاطر وإدراكها بشكل عملي. إنهما إجماع ثنائي على رفض ذاتي لقانون سلطوي، يسعى إلى تنظيم المجتمع بوسائله وقوانينه، ولا يضع في حساباته سوى رضوخ الجموع. فجاكي، الموظّفة في مركز للمراقبة عبر الكاميرات المبثوثة في زوايا المدينة الاسكتلندية غلاسكو، تستخدم تلك الأداة المتلصّصة لإقناع نفسها بقدرتها على الأخذ بانتقامها من الشخص الذي تسبب بموت ركني عائلتها، فتكتشف أن العين تلك لا تحوط بظروفه، بل تدلّها على مكانه وحسب. أما باقي الفعل، فعليها أن تنجزه بنفسها، حتى لو تطلّب الأذى الجسدي. وكلّما اقتربت من القاتل، وعت أن عليها تقديم المزيد، ولن يكون سوى جسدها الذي يرضخ لمواقعة الغريب جنسياً. في المقابل، تعيش بطلة «حوض الأسماك» المراهقة ميا (أداء مفاجىء لكيتي غيرفس) وسط مناكفات لا حدّ لعنفها. ذلك أن سعيها الشخصي كامنٌ في دفع الآخرين إلى الاعتراف بإمكانية قيامها بفعل يُطرَى ويُثمّن. أول هؤلاء، والدتها المتصابية (كريستون ويرينغ) التي لا تغيب الإهانة عن مقاصدها، وتقليل شأنها عن نزعتها المغرقة بالعدائية. إن المحيط العائلي لميا جحيم مصغّر للخارج الفقير الطبقة، وما المجمّع السكني الحكومي المتواضع المعمار سوى صندوقه الذي يجمع أقدار عائلات فقيرة، متشظّية العلاقات وميتة العواطف. أهل هذا الجحيم جميعهم يعانون اغترابه الذاتي الذي يُغرقه بالإدمان والفوضى والاستعداء. ميا الطرية العود تستخدم غطاء التعنيف لردّ عنف الآخرين المقابل، وتخوض لعبة مريرة بين توحّدها وخشيتها من الانضمام الى «القطيع الاجتماعي». عندما نقابلها للمرة الأولى، نراها في حالة قطع النفس، ذلك أنها توهمنا بإنهائها فعلاً عصابياً، بيد أن المخرجة آرنولد تفاجئنا بموهبة بطلتها في رقصة الـ«هيب هوب» الشبابية الوافدة على سكان المجمّعات، التي أصبحت إحدى علاماتها الثقافية في بريطانيا المعاصرة. وهي كذلك العنصر الأجنبي الوحيد في عالم الأسرة البيضاء هذه.

عالم لا يرحم

إن سعي البطلة المراهقة إلى الانسلاخ من واقعها المتهافت لا يُحل ضمن نسيجها، إذ عليها انتظار منقذ خارجي يُضفي على حياتها ويومياتها معانيَ أعمق، ويكشف عن عواطفها المقموعة. إنها تشارك بطلة «شارع رد» في تصميمها على الثأر: المراهقة، للإغفال المقصود من قبل الآخرين؛ والأم المكلومة بعجز القانون على استكمال معاقبة القاتل، الذي يُطلق سراحه إثر انتفاء الأدلّة. في الحالتين، تضع أندريا آرنولد بصيرتها السينمائية على كيفية تفكير بطلتيها وحيلتيهما في سن شرعيتهما، ضمن حدود مدينة تعاني أكبر معدل للفقر والإدمان في الجزيرة العجوز. والعمل التلصّصي لجاكي لا يبيح لها مراقبة أسرار الشارع فقط، بل يقودها إلى الانقلاب الكبير في حياتها المجدبة، كما هو قدوم الشاب كونور (المميّز مايكل فاسبندر، الذي عرف شهرته الفنية في تأديته شخصية بوبي ساندز في «جوع» لستيف ماكوين) في «حوض الأسماك»، الذي تسهّل له الأم العاشقة اقتحام عالم ميا المغرق بسوداويته، فتتحوّل الحكاية إلى صراع بين تضادين، يسعى كل منهما إلى تصحيح مسار الآخر. تجد الأم أن موظّف الأمن في إحدى الشركات يضمن لها إشباعاً جسدياً، هي في أمسّ الحاجة إليه، بينما ترى فيه ميا أباً مستنسخاً لآخر غاب منذ زمن بعيد، وطمست معالم شخصيته إلى الأبد. يُمعن الشاب في فسوق مكشوف مع السيدة، التي ما زالت تحمل نظارة شبابها الآفل، ولا يمنع نفسه في لحظة ضعف من اغتصاب ميا، التي تشعر أن فتح فخذيها له فعلٌ مختلف عمّا تفعله والدتها. إنه الحبيب المخفي في كيانها، والخافي عن هذا الكيان في آن. تنسى ميا أن مجامعات أوكنور ووالدتها تتمّ، كما حدث معها، وهو تحت تأثير الخمرة. فالشاب طارئ على الأسرة الصغيرة، كما هو طارئ بتأثيره على ميا، التي اتخذته حامياً لها من يأسها بلقاء من تُحب. بيد أن تجسيد هذا العاشق كشيطان لا يُنجز إلاّ باختفائه المفاجئ، الذي يدفع بها إلى اكتشاف سره: إنه أب عائلة متطامنة، تنتمي إلى طبقة أرقى، وتقطن في بلدة أنظف. عندما تقتحم المراهقة دارته، تجد أن مرض هذا الوحش يكمن في خيانته أبوّته وليس زوجته. هنا، يحدث انقلاب وعيها وسعيها إلى الانتقام، فتجد أمامها طفلته الصغيرة، فتخطفها لبثّ الرعب في قلب والدها المستعار. لكن هذا الانتقام يتحقّق بصورة أكثر راديكالية في حالة جاكي، بطلة «شارع رد»، لأنها تسعى إلى نطفته التي تحوّلها إلى شاهد إثبات على جريمته. بذلك، تتشابه المواقعتان الجنسيتان في عملي آرنولد، مع الكثير من الزخم المبرّر بالنسبة إلى ميا، التي تفهم لاحقاً أن المضاجعة السريعة كانت بمثابة استهانة كبرى لكيانها، إذ تحوّل جسدها الفتي إلى مغامرة أخرى سَهُلت على ساقط ضمير، وتجد أن عليها الدخول عبر زلّتها غير المقصودة هذه إلى العالم الحقيقي، عالم الكبار الذي لا يرحم، وهي برفقة شاب يسايرها طبقياً، حيث تكون هجرتهما إلى لندن إعلاناً عن مستقبل يشي بالاعتراف المنتظَر.

)كان(

السفير اللبنانية في 21 مايو 2009

 
 

«آغورا» لآمينابار و«أمريكا» لشيرين دعبس في «كان»

مرافعة ضد التعصب

نديم جرجورة/ «كان»

يستمرّ مهرجان «كان» في إدهاش عاشقي السينما، لأنه قادرٌ على تقديم الجديد المثير للجدل والتحليل والمتعة البصرية في آن واحد، في مسابقته الرسمية وبرامجه الأخرى. يستمرّ في التأكيد اليومي على أن الفن السابع لا يزال سيّداً مطلق الصلاحية في منح المُشاهدين أجمل الصُوَر والحكايات والأساليب، وإن استلّ السينمائيون مواضيعهم الدرامية من بؤس الحياة وشقاء الموت. يستمرّ في إضفاء أقصى الجمال الممكن على العنف والجريمة والجنس والعلاقات المرتبكة والخيبات والإحباط والهزيمة، لأن مخرجين عديدين يملكون سلطة أن يأمروا الكاميرا بخلق البديع، فترسم الكاميرا إبداعاً يحفر عميقاً في الذات والوعي والمخيّلة. يستمرّ في إضحاك المتلقّي، وحثّه على التمتّع بلحظات بسيطة وهادئة، من دون أن تسقط غالبية الأفلام في التسطيح والسذاجة.

ثلاثة أيام فقط تفصل عن الإعلان الرسمي للنتائج النهائية الخاصّة بالمسابقة الرسمية، التي ضمّت عشرين فيلماً عُرضت للمرّة الأولى عالمياً (يتمّ اختيار أفلام حديثة الإنتاج فقط لهذه المسابقة، وإن عُرِضت تجارياً في بلد الإنتاج الأساسي، كما هي حالة «عناقات مكسورة» للإسباني بدرو ألمودوفار، الذي بدأت عروضه التجارية في الصالات الإسبانية قبل بدء الدورة الثانية والستين لمهرجان «كان»). ثلاثة أيام تدفع مُشَاهِد أفلام المسابقة هذه إلى إجراء تكهّنات أو ترجيحات ما، أحياناً، على الرغم من أن خمسة أفلام لم تُعرض بعد، منها الفيلم الأخير للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان «الزمن المتبقّي»، و«وجه» للماليزي تساي مينغ ـ ليانغ و«في الأصل» للفرنسي زافييه جيانولي، وغيرها. والتكهّنات/ الترجيحات/ التمنّيات ليست حكراً على صحافيين عرب، يتباهون بإطلاق «أحكام مؤكّدة» منذ اليوم الأول؛ لأن هناك صحفاً ومجلات فرنسية وغربية متفرّقة بدأت، منذ مطلع الأسبوع الجاري على الأقلّ، بنشر ترجيحات معيّنة. هذه لعبة صحافية تساهم في إثارة حماسة القرّاء/ المُشاهدين. هذه إضافة مهنية لا علاقة لها بما يدور في لقاءات أعضاء لجنة التحكيم، الذين ينفّذون المهمّة بصمت وشبه عزلة، بانتظار الاجتماع الأخير المخصّص بمناقشة الأفلام العشرين كلّها، وتوزيع الجوائز على العناوين التي يتوصّلون إلى اتفاق جماعي عليها.

آغورا

لا يُمكن للقراءة النقدية الخاصّة بالفيلم الأخير للإسباني الشاب أليخاندرو آمينابار (مواليد 31 آذار 1972) «آغورا» (خارج المسابقة) أن تفصل مضمونه الدرامي، المغلّف بتقنية الملاحم السينمائية والاستعراضات التاريخية واللقطات الواسعة، عن المعاناة «الأبدية» التي يعيشها العالم، في ظلّ الصراع الدائم بين التنوير (العلم وإعمال العقل والاجتهاد في تفسير النصوص والحالات) والظلامية (الجهل/ الأمية واغتيال التفكير وحرية التعبير). لا يُمكن تحرير المُشاهدة من تداعيات الآنيّ، لأن اللحظة الراهنة مليئة بعنف الصدام القاسي بين أنصار الوعي والعقل (وهم أقلية في هذا العالم الداكن) والمنصهرين في بوتقة التعصّب والتزمّت والرجعية، الذين يلتحفون بالدين (اليهودي، المسيحي، الإسلامي) تارةً، أو يخضعون لسطوة الإيديولوجيات الفاشية والأحادية والقمعية تارةً أخرى. ذلك أن «آغورا»، العائد إلى مصر القرن الرابع عشر ومكتبتها الشهيرة في الإسكندرية في زمن احتلال الامبراطورية الرومانية، أعاد إلى المشهد الأمامي إحدى أبشع الصُوَر المتكرّرة في تاريخ البشرية، والمتمثّلة بالنزاع الخطر بين متطرّفين مسيحيين ويهود مقيمين في تلك المدينة المتوسّطية من جهة أولى، وطالبي العلم الباحثين عن أسرار الكون والفلك بما لديهم، حينها، من معطيات وأدوات، من جهة ثانية؛ علماً بأن الصراع الديني المتطرّف قائمٌ بعنف بين المتطرّفين المسيحيين واليهود أيضاً. وعلى الرغم من أن الفيلم يعيد التذكير، في مشاهد مُملّة، بالعذاب المدقع الذي عاناه اليهود، بدا الفيلم نشيداً لانتصار العلم، وإن مرّ الانتصار في حقول من الألغام والموت والعفن والفساد والجنون؛ وانعكاساً لبشاعة التسلّط الديني والهوس بالقتل باسم الدين. هذا كلّه، في حكايات متوازية بين مسار العلم وتنامي الأحقاد الدينية بين مسيحيين متزمّتين وعبدة أوثان، ثم بين مسيحيين ويهود، ثم بين مسيحيين وباحثين في علوم الفلك.

شكّلت الحيوية الدرامية أساساً جمالياً لـ«آغورا» (في اليونان القديمة، تعني «آغورا» مكان التجمّع أو سوق المدينة، حيث يتمّ التداول بشؤون العلم والمعرفة)، على مستوى الاشتغال البصري والمعالجة الفنية. فمن داخل المدرسة التي تدرّس فيها هيباثيا (راشل وايز) علوم الفلك والطبيعة، تبدأ الحكاية الممتدة من نزاع خفي بين عبد وتلميذ إلى صراع أعمق بين ديانات وإيديولوجيات، ومن كفاح يومي من أجل معرفة أسرار كونية إلى قسوة الحياة الواقعة في ظلّ الاحتلال والتمزّق والانهيارات المدمِّرة.

أمريكا

إذا تجاوز المرء التركيز على التعاطف الوحيد الذي تلقّته العائلة الفلسطينية المهاجرة إلى إلينوي من قبل اليهوديّ البولوني الأميركي؛ فإن «أمريكا»، الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرجة الفلسطينية المقيمة في الولايات المتحدّة الأميركية شيرين دعبس، المشارك في مسابقة «نصف شهر المخرجين»، لم يبلغ مرتبة درامية مهمّة، ولم يصنع من واقع الصراع الفلسطيني الغربي (هذه المرّة) عنواناً إنسانياً قادراً على فرض حضوره في المشهدين الإبداعي والاجتماعي، لضعف في حواراته (الساذجة والمباشرة أحياناً عدّة)، ولخلل في تركيبته الدرامية/ الحكائية، ولنقص في إدارة سليمة للممثلين. وإذا تغاضى المُشاهد عن أهمية «القضية»، بجانبها الإنساني (تعرّض الفلسطيني والعربي لمواجهات عنصرية حادّة في داخل المجتمع الأميركي، بعد الحادي عشر من أيلول 2001؛ والمواجهة اليومية بين الفلسطينيين والمحتلّين الإسرائيليين منذ عام 1948)؛ فإنه لا يستطيع إغماض عينيه عن بؤس المخيّلة الدرامية والإبداعية، التي تحوّل القضايا الجماعية والفردية (تكمن إحدى الميزات القليلة للفيلم في أنه يروي سيرة أفراد، ولا يغرق في خطاب الجماعة) إلى شعارات نضالية وكلام انفعالي، كان يُمكن الاهتمام به أكثر ليتلاءم والكتابة السينمائية.

عندما بلغتها الموافقة على السفر إلى الولايات المتحدّة الأميركية، كادت منى (نسرين فاور) تتراجع عن قرارها الذهاب إلى شقيقتها رغدة (هيام عبّاس) وعائلتها، لولا بشاعة الممارسة اليومية للجنود الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، ولولا سعيها الدؤوب إلى حماية وحيدها فادي (ملكار معلم) من أي سوء قد يتعرّض له في بلده. لكن الواقع الأميركي لا يقلّ قسوة عما يعانيه المجتمع الفلسطيني من قبل إسرائيل، لأن مناخاً مناهضاً للعرب والمسلمين يخيّم على الأميركيين، ويدفع غالبيتهم إلى «اضطهاد» هؤلاء بسبب... أسامة بن لادن.

السفير اللبنانية في 21 مايو 2009

####

 هتلر وموسوليني يتنافسان على «السعفة الذهبية»

نديم جرجورة/ «كان»

قبل يومين من انتهاء الدورة الثانية والستين لمهرجان «كان» السينمائي الدولي، مساء الأحد المقبل، بدا أن احتدام التنافس بين الأفلام العشرين المُشاركة في المسابقة الرسمية على «السعفة الذهبية» بلغ مرحلة دقيقة، لأن غالبية العناوين مثيرة للجدل النقدي، ومحرّضة للتمتّع بفضاء جمالي مفتوح على أسئلة الذات والجسد والخطيئة والنزاع الدائم بين التناقضات المتحكّمة بالعالم ومجتمعاته وناسه، كما على الواقع الإنساني والحكايات التاريخية. غير أن فيلمين منها التقيا عند تشابه ما بينهما، لأنهما اختارا زعيمين حليفين خاضا معاً الحرب العالمية الثانية، واستفادا منها كمساحة زمنية وحالات إنسانية لاستعادة «الحكاية» بسيرتين مختلفتين، تخصّان الزعيمين الألماني النازي أدولف هتلر والإيطالي الفاشيستي بينيتّو موسوليني. وإذا شكّلت «الجغرافيا الزمنية» أرضية درامية للفيلمين، فإن المقاربتين الأميركية والإيطالية لها اختلفتا جذرياً في معاينة الحالتين المتناقضتين.

ذلك أن كوانتين تارانتينو، أكثر السينمائيين الأميركيين دلالاً في «كان» (إلى جانب وودي آلن)، وضع ثقله الإبداعي الساخر في «السفلة المجهولون»، كي يعيد تركيب الحكاية التاريخية الخاصّة بالنازية وقادتها وسلوكها بحسب مزاجه الفني الإبداعي، مستعيناً بالكوميديا المريرة لتمرير رسائله السينمائية والإنسانية والفنية والثقافية، على الرغم من سقوطه في ثرثرة مطوّلة، أحياناً، صنعها بإفراده مساحة واسعة لمونولوغات تكاد لا تنتهي، في حين أن زميله الإيطالي ماركو بيلّوتشيو غــاص في أعمــاق التاريــخ الشفهي السابق لاندلاع الحرب العالمية الثانية، في جديده «الانتصار»، كي يكشف إحدى المساوئ المخفية للديكتاتور الفاشيّ.

في «السفلة المجهولون»، قدّم تارانتينو روايته الخاصّة بهذه الحرب، من دون أن يردعه أي شيء عن رسم صورة مغايرة كلّياً للحقائق التاريخية من أجل السينما، كدليل على قوة الفن السابع في خلق الحياة والذاكرة، أو في إعادة خلقهما بمزاجية السينمائي المبدع؛ بينما استعاد «الانتصار» رواية «مقتولة» (إذا جاز التعبير) عن واقعة أدركها أناس عديدون، لأنهم عاشوا تفاصيلها، لكن الجبروت السياسي للزعيم الإيطالي موسوليني أفضى إلى تغييبها بالمطلق من الذاكرة الجماعية والحكايات الرسمية، تماماً كما فعل بتغييبه البطلة الحقيقية للقصّة ووحيدها، بإقصائهما (الأقرب إلى التصفيتين الروحية والجسدية) عن المشهد، على الرغم من عشق المرأة الكبير له أعواماً طويلة، ومن دعمها الدائم لمسيرته منذ بدايات سطوع نجمه في الأعوام العشرة الأولى من القرن العشرين، وصولاً إلى العام 1937، الذي شهد موتها التراجيديّ، بعد تمضيتها «قسراً» فترة طويلة في مصحّات عقلية بأمر من الزعيم نفسه.

قاد كوانتين تارانتينو مجموعة من الجنود اليهود الأميركيين (على رأسهم الممثل الوسيم براد بيت)، عُرفوا عند جماعة هتلر بـ«السفلة المجهولين»، في مطاردتهم النازيين وقتلهم وقصّ «فروة» رؤوسهم (كما يفعل الهنود الحمر بأعدائهم، بحسب الصورة النمطية للسينما الهوليوودية عنهم)، وصولاً إلى «قتل» هتلر وغوبلز وعدد من كبار قادة الرايخ الثالث رمياً بالرصاص في صالة سينمائية في باريس.

ونبش ماركو بيلّوتشيو تاريخاً شفهياً (انطلق في تحقيق مشروعه هذا من وثائقي إيطالي شاهده قبل أعوام، ومن تحقيقات متفرّقة أخذته إلى القرية الريفية التي عاشت فيها البطلة)، كي يُقدّم الحكاية المغيّبة لإيدا دالسر (الرائعة جيوفانّا ميزّوجيورنو)، عشيقة موسوليني (فيليبّو تيمي، في واحد من أدواره البديعة) وزوجته «الشرعية» (مع أن الوثائق الرسمية اختفت كلّياً) ووالدة ابنه البكر بينيتو ألبينو (فابريزيو كوستيلاّ)، التي عانت الأمرّين إثر تنكّر الدوتشي لها ولوليدها، ومحاربته إياهما حتى موتهما ودفنهما في مكان مجهول.

اختار تارانتينو السخرية أداة درامية لسرد حكايته. وارتكز بيلّوتشيو على النسق الأوبرالي المشهدي الساحر (إضاءة ومونتاجاً وسرداً وتمثيلاً)، كي يعيد خلق المرأة (وسرد حكايتها)، التي ضحّت بكل شيء من أجل حبيب بات، سريعاً، حاكماً ديكتاتورياً. وإذا أطال المخرج الأميركي في إعادة رسم التاريخ بحسب مزاجه الساخر والجميل، إلى درجة بدا معها الفيلم محشوّاً بمشاهد وثرثرة يُمكن تلافيهما، على الرغم من البراعة الحرفية في إبداع الصورة وصناعة السخرية؛ فإن السينمائي الإيطالي كثّف الحبكة، جاعلاً إياها مرايا الذات وانهياراتها وقسوة الحياة والعشق وجنونهما.

مع هذا، فإن قوّة المنافسة بينهما على «السعفة الذهبية» واضحة، لأن المادتين مثيرتان لشهية السينمائيين والمهتمّين بالفن السابع وعوالمه، ولأن الحكايتين مشغولتان، وإن بتفاوت جمالي ودرامي ما، بحرفية سينمائية جادّة؛ إلى درجة يُمكن القول معها إن كوانتين تارانتينو يواجه بينيتو موسوليني على شاطئ الـ«كروازيت»، في المدينة الفرنسية الجنوبية «كان».

السفير اللبنانية في 21 مايو 2009

####

كلاكيت.. عين على العالم

نديم جرجورة

ينزعج المرء من بعض العرب القادمين إلى «كان» أثناء مهرجانها السينمائي الأهمّ في العالم، لأنهم لا يتخلّون عن هوسهم بالمسطّح والنميمة والفراغ، بدلاً من أن يستفيدوا من مجيئهم إلى هذه البقعة الجغرافية والثقافية والفنية الأجمل والأبرز. يحار كيف يُفسّر هذا الاهتراء العربي، المتمثّل بأمية ورجعية واضحتين في سلوكهم اليومي، والمنبثق من سطوة الجهل والتقوقع في حصون تعزلهم عن التواصل السليم مع تطوّرات الدنيا وجنونها البديع في ابتكار أنماط شتّى من الجمال والحرية. فهم لا ينتبهون إلى حيوية الإبداع الذي تمنحه «كان» لزوّارها المبدعين وسيّاحها المقبلين إليها من أصقاع مختلفة؛ ولا يكترثون بالغنى الزاخر في الأقسام المتفرّقة للمهرجان، الذي تصنعه أفلام مستلّة من أعماق الذات الفردية ومعاناتها ومن تناقضات الحياة والموت، ومشغولة بهواجس وأساليب تستند إلى حرفية المهنة، ولا بأس إذا لم تبلغ كلّها حدّاً أقصى من الإبداع، لأن الكمال حكرٌ على أسياد في صناعة الصورة.

يتجنّب المرء المستهترين بالطقوس السينمائية، الذين يظنّون أن التزام نمط أخلاقي تقليدي في التعاطي مع الشؤون العامّة كفيلٌ بتحصينهم من الوقوع أسرى الانفلات، مع أن الإبداع محتاجٌ إلى أقصى الانفلات، ومُطَالبٌ بالانفتاح الإنساني المتحرّر من أي قيد على الآخر؛ ويحتمي بالصالات المضيئة بأجمل الصُوَر والحكايات، كي ينمّي في روحه مزيداً من جرأة البحث عن المختلف، ومن قوة المقارعة الدائمة لأشكال الرجعية والانهزامية، المتفشية في جسد الأمّة العربية وروحها. ذلك أن عرباً منغلقين على أنفسهم يأتون إلى «كان» ومهرجانها زائرين عابرين، حاملين معهم أحقادهم الدفينة على الجميل والمتطوّر، ومتمسّكين بعادات جامدة ومحنّطة في مقارباتهم الأمور كلّها؛ بدلاً من أن يغوصوا في معانيها السينمائية المفتوحة على الأسئلة كلّها، من دون «تأنيب ضمير أخلاقي ساذج»، ومن دون خضوع مدوّ لصنمية الخطاب المتزمّت في مقاربة أمور الدنيا وأحوال ناسها وتقلّبات مجتمعاتها وحراك ثقافتها.

والأنكى من هذا كلّه، أن بعض هؤلاء لا يخجل من إطلاق أوصاف «بشعة» (بل شتائم سوقية) على أفلام مشاركة في المسابقة الرسمية أو في البرامج الأخرى، كعادته في معاينة أفلام بلده، التي يتنطّح علناً للدفاع عنها، مع أنه يشتمها في اللقاءات المغلقة. وهذا ينطبق على عديدين، لا يتردّدون في القول إن هذه «أفلام زباله»، مشيرين إلى نتاجات عمالقة حقيقيين في صناعة صُوَر سينمائية يصعب، أحياناً، وصفها بكلمات أثبتت التجارب منذ زمن بعيد أنها (الكلمات) أعجز من أن تفي الصورة البديعة حقّها الجمالي. ولأنهم لا يملكون شيئاً من عبقرية الإبداع السينمائي المصنوع في دول منتمية، هي أيضاً، إلى «العالم الثالث»، لكنها متفوّقة على بلادهم بأشواط كثيرة وفي مجالات عدّة، أبرزها السينما؛ تراهم ينحرون الإبداع بكلمات لعلها تليق بمنتوجاتهم المسطّحة أكثر من أي شيء آخر.

السفير اللبنانية في 21 مايو 2009

 
 

تاريخ فلسطين العام أم الفلسطيني الذي نسيناه في معمعة التاريخ؟

«الزمن الباقي» لإيليا سليمان على عتبة انتصار جديد في مهرجان «كان»

كان (جنوب فرنسا) - ربيع إسماعيل

الذين كانوا في دورة العام 2002 من مهرجان كان السينمائي قد شاهدوا فيلم «يد إلهية» للمخرج الفلسطيني ايليا سليمان حين عرض ضمن اطار المسابقة الرسمية، كانوا من القلة التي لم تفاجأ حين أعلن عن فوز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الكبرى وهي ثاني أهم الجوائز في هذا المهرجان السينمائي العالمي الكبير. ومنذ ذلك الحين نعرف كيف قدم سليمان مساهمة أساسية في عالمية السينما الفلسطينية في درب سبقه فيها مواطنوه ميشال خليفي ورشيد مشهراوي ولحقه آخرون مثل هاني أبو أسعد وهن ماري جاسر ونجوى نجار وغيرهم من مبدعين يحسب لهم حساب، في المهرجانات العالمية على الأقل، وليس دائماً لأسباب سياسية تعاطفية. اليوم ها هو ايليا سليمان من جديد في «كان» وتحديداً في المسابقة الرسمية يخوض منافسة كبرى مع بعض كبار مبدعي السينما في العالم بفيلمه الجديد «الزمن الباقي» وهو فيلم يشتغل سليمان عليه منذ ما لايقل عن خمس سنوات. وهي في الحقيقة سنوات تبدو على الشاشة مثمرة، وببساطة لأن هذا المخرج الفلسطيني الذي له عمر القضية، يبدو هنا أكثر مما في أي فيلم سابق له قابضاً تماماً على لغته السينمائية الخاصة جداً والتي سبق لها أن ظهرت بقوة في أفلامه السابقة جميعاً سواء طويلة كانت أو قصيرة: لغة تجمع البعد الذاتي بالتاريخ والراهن العامين وتستند إلى تاريخ طويل من الهزل الصامت في السينما الأميركية (تراث تشارلي شابلن، أداء باستر كيتون التعبيري الايحائي...) مدغمة إياها بأبعاد ما بعد حداثية يسمح المخرج (الذي هو كاتب أفلامه ومنتجها وكذلك ممثل الأدوار الرئيسة فيها) لنفسه من خلالها بنوع من الكولاج الذي يسهل له قول أشياء كثيرة وأشياء أساسية. ومن هذه الأشياء القضية الفلسطينية وموقعه كفرد من هذه القضية والتساؤل عما إذا كان من حق الفلسطيني أن يضحك أن يحب أن يشتم أن يسخر من كل شيء ومن ذاته قبل كل شيء. في اختصار، مقابل سينما اليقين التي كانت بامتياز السينما الفلسطينية أتى ايليا سليمان منذ عقد ونصف العقد بسينما القلق الفلسطيني. وهو أتى بهذه السينما ليس كامتداد لسينما فلسطينية ما، بل من «الريبرتوار» العالمي (مسرحيات بريخت وبيكيت مثلاً، وسينما جارموش) ثم استعار من الحياة اليومية الفلسطينية الأغاني الرائحة والشتائم المبتذلة والخناقات الصغيرة والحواجز الإسرائيلية وقصص الحب واللقاءات المستحيلة، «كاتباً بذلك تواريخ صغيرة لفلسطين لأهله في فلسطين لاستحلة العيش في فلسطين، وخصوصاً لذاته الفلسطينية التي تحضر وسينماه في كل لقطة وصورة في كل فيلم من أفلامه، إلى درجة يرى كثير أنها تدنو كثيراً من حدود النرجسية التي تجعل منه ناني موراتي السينما الفلسطينية».

كل هذا شكل سينما ايليا سليما ولا سيما في أفلامه الأساسية مثل «يوميات اختفاء» و»يد الهية» و»سيبر فلسطين». في هذه الأفلام كتب سليمان تواريخ صغيرة ومتفرقة لفلسطين أو بالأحرى لفلسطينه الخاصة داخل فلسطين وبقي عليه أن يكتب التاريخ الكبير، وهذا ما فعله اليوم في جديده «الزمن الباقي» الذي ثمة من بدأ يراهن على فوز أساسي له يوم تعلن النتائج في اختتام المهرجان مساء السبت المقبل. ويقيناً أنه لو حدث هذا فلن يكون الفوز سياسياً. وذلك لأن سليمان حتى حين حاول هذه المرة أن يكتب التاريخ جعله مرة أخرى خاصاً وذاتياً كما كانت حاله دائماً. ولنكن أكثر تحديداً: كتب من خلال تاريخ فلسطين حكاية أمه وأبيه المتطابة زمنياً مع حكاية القضية. وهو في الوقت نفسه كتب حكاية والديه من خلال حكاية الوطن الضائع.

هذه ليست المرة الأولى التي نتعرف فيها على والدي ايليا سليمان من خلال سينماه. فالمتفرجون الذين تابعوا هذه السينما يتذكرون بالتأكيد ذلك المشهد الشهير في «يد الهية» حين يقود والد ايليا سليمان سيارته عابراً باشمئزاز شديد شوارع وأزقة مدينته الناصرة شاتماً كل من يراه في تأتأته فيما هو يسلم عليه علنا. أما الذين شاهدوا الروائي الطويل الأول لسليمان «يوميا اختفاء» فإنهم توقفوا طويلاً عند المشهد الختامي في الفيلم: مشهد يرينا والدي المخرج جالسين ليلاً أمام التلفزيون، إنهما الآن غافلان تماماً، إذ انتهت برامج المحطة الرسمية الاسرائيلية التي كانا يتفرجان عليها (في وقت لم تكن القنوات الفضائية العربية قد وجدت فيه لتصل إلى كل بيت إسرائيلي عربي فلسطيني لتحل تماماً مكان القنوات الإسرائيلية في حياة عرب «إسرائيل» الذين ينتمي ايليا ووالداه إليهم). يومها كان مشهد هذين الكهلين الفلسطينيين مدهشاً وغريباً وأثار الكثير من التساؤلات عن وجودهما. عن حزنهما. عن مشاهدتهما المحطة الإسرائيلية وخاصة عن وجود النشيد الوطني الإسرائيلي في خلفية المشهد بشكل استفز كثيراً من العرب الذين لم يفهموا المشهد رغم بساطته ووضوحه. لم يفهموا دلالة أن ينعس الكهلان أمام الشاشة ولا يشعران بأية مبالاة تجاه رمز الكيان الإسرائيلي الذي صار رمزهما قسراً

حسناً ربما كان في إمكاننا القول إن فيلم ايليا سليمان الجديد قد ولد من رحم ذلك المشهد: من رحم رغبة المخرج في أن يجيب على أسئلة تبقى على الدوام شائكة، من هم هذان الشخصان؟ ما هي هويتهما «ماذا يفعلان هنا؟ هل تهما تاريخ خاص حتى خارج اطار القضية التي لم نعد ندري أصارت عبئاً عليهما أم صاراً عبئاً عليها.

للوصول إلى إجابات مقترحة على هذه الاسئلة يروي لنا ايليا سليمان هنا. إذاً ستون سنة من عمر القضية بالتوازي مع ستين سنة من عمر والديه وسنوات كثيرة من عمره هو، وهو يروي جزءاً أساسياً من هذا من خلال رسائل وأفكار وفقرات وأحلام كتبها أبوه خلال كل تلك المرحلة تأتي شهدت تجواله ونضالاته وافتراقاته مع حبيبته وخيباته واستسلاماته. يروي هنا سليمان على هذه الطريقة ليس فقط تاريخ فلسطين بل التاريخ الفلسطيني الذي نتذكر فجأة كيف انه لم يروَ بعد.

فنحن جميعاً في غمرة اهتمامنا بفلسطين، بالسياسات الكبرى، بالصراعات، بالشتات، بالهزائم، وحتى بالانتصارات وخاصة الوهمية منها، نسينا شيئاً أساسياً وهو الإنسان الفلسطيني وحسناً يفعل ايليا سليمان حين يذكرنا بهذا بفضل سينماه الكبيرة المميزة. ولا بأس أن يكون قد فعل عبر فيلم قد يراه الكثير نرجسياً. لكنها بالتأكيد تلك النرجسية الخلاقة التي لا يملك سرها سوى المبدعين الكبار. وايليا سليمان هو بالتأكيد واحد منهم. وكان سبق لمهرجان «كان» أن اعترف له بهذا مرة أولى فهل يعيد الكرّة مرة ثانية الآن؟

الوسط البحرينية في 21 مايو 2009

 
 

إيليا سليمان يصنع علامة من علامات الإبداع الفلسطينى الفارقة

بقلم   سمير فريد

شهدت مسابقة مهرجان «كان»، أمس الجمعة، عرض الفيلم الفرنسى «الزمن الباقى» إخراج فنان السينما الفلسطينى إيليا سليمان، وهو أحد أضلاع المربع الذهبى للسينما الفلسطينية فى المنفى مع ميشيل خليفى فى بلجيكا، ورشيد مشهراوى وهانى أبوأسعد فى هولندا،

وهم الذين وضعوا الإبداع السينمائى الفلسطينى على خريطة السينما العالمية منذ عام ١٩٨١، عندما أخرج خليفى «الذاكرة الخصبة» والذى عرض فى مهرجان كان ذلك العام، وعرضت كل أفلامهم فى المهرجانات الكبرى الثلاثة «كان وبرلين وفينسيا»، وفازت بالعديد من الجوائز الدولية المرموقة.

وفى أفلام المخرجين الأربعة، ولكل منهم أسلوبه الخاص ورؤيته الفكرية، وطوال العقود الثلاثة الماضية، كانت قضية شعبهم هى محور اهتمامهم، ولكن نجاحهم فى وضع السينما الفلسطينية فى المنفى على خريطة السينما العالمية لم يكن بسبب اهتمامهم بهذه القضية، وإنما لتعبيرهم عنها بأساليب حداثية وما بعد حداثية،

ولذلك لفتت أنظار العالم فى الشرق والغرب عبر المستوى الفنى المتميز، الذى أهلها للاختيار فى المهرجانات الكبرى، وأصبحت «سلاحًا» مؤثرًا من «الأسلحة» التى يناضل بها الشعب الفلسطينى على الأرض، ولو أننى لا أحب أن أصف أى عمل فنى بالسلاح، فالسلاح ضرورى للمقاومة إن لم يكن منه بد من أجل تحقيق العدل، وللفن وسائل أخرى لتحقيق الهدف نفسه.

فلسطين فى أبعادها المركبة

«الزمن الباقى» هو العنوان العربى المطبوع على الفيلم، وهو الوحيد الناطق بالعربية فى المسابقة الأقوى منذ سنوات طويلة فى مهرجان «كان»، وإن كانت الترجمة العربية الصحيحة للعنوان الإنجليزى «الزمن الذى يتبقى»، ولكننا سوف نستخدم العنوان المطبوع اتباعًا للقواعد العلمية فى هذا الصدد،

وهذا هو الفيلم الروائى الطويل الثالث لمخرجه، الذى ولد فى الناصرة عام ١٩٦٠، بعد «سجل اختفاء» ١٩٩٦، و«يد إلهية» الذى فاز بجائزة لجنة التحكيم فى مهرجان «كان» ٢٠٠٣، إنها ثلاثية وضعت فى عشر سنوات من التأمل العميق والصبر الطويل و«الكفاح» الصعب لإنتاجها، وإن كانت جائزة «كان» ٢٠٠٣ قد ساعدت بالطبع على جعل الأمور أكثر يسرًا.

وكما أن تناول أى قضية سياسية لا يمثل قيمة بمعزل عن الأسلوب والرؤية الفكرية، كذلك لا يمثل كون الدراما عن السيرة الذاتية لفنان السينما المؤلف قيمة بمعزل عن هذا الأسلوب وتلك الرؤية، فلا توجد مذكرة تفسيرية تصاحب عرض أى فيلم، ويكفى الفيلم ذاته من داخله، ولذلك فقوة «ثلاثية سليمان»، والتى أصبحت منذ أمس من الإبداع الفلسطينى الباقى أبدًا مثل شعر درويش وأدب جيبى ومسرح بكرى، ترجع إلى أسلوبها ما بعد الحداثى الذى يستمد جذوره من مسرح بريخت وسينما جودار، وإلى رؤيتها الفكرية النقدية الصارمة التى تعبر على نحو صادق وصادم وجميل يجمع بين الشعر والفكاهة مثل كل عمل فنى كبير،

هنا قضية فلسطين على حقيقتها ليست صراعًا مبسطًا بين حق وباطل أو أبيض وأسود، وإنما صراع مركب شديد التعقيد، ويختلف «الزمن الباقى»عن الفيلمين السابقين لأنه يعبر عن القضية منذ إنشاء إسرائيل على أرض فلسطين عام ١٩٤٨، وحياة بطله الطفل فى السبعينيات، وهو فى العاشرة، ثم فى مطلع شبابه، وحتى الوقت الحاضر.

يهود ٤٨ وليس عرب ٤٨

وكون القضية مركبة لا يعنى اختلاط الحق بالباطل، فالحق واضح فى الفيلم، وهو أن الشعب الفلسطينى صاحب الأرض والتاريخ والثقافة، والباطل واضح، وهو أن من جاءوا إلى فلسطين سرقوا الأرض والتاريخ والثقافة بقوة السلاح، بل إن مجرد تسمية إيليا سليمان بأنه من «عرب ١٩٤٨» أو «عرب إسرائيل» مهزلة كاملة، فالتعبير يوحى بأنهم جاءوا إلى فلسطين عام ١٩٤٨، بينما الذين جاءوا هم اليهود من مشارق الأرض ومغاربها.

ويصل إيليا سليمان فى «الزمن الباقى» إلى ذروة النضج على شتى المستويات، وسوف يكون فوزه بالسعفة الذهبية غدًا لحظة فارقة فى تاريخ السينما العربية، رغم أنه أمل بعيد، مع وجود أكثر من فيلم جدير بالسعفة، ولكن من الصعب جدًا أن يخرج من دون جائزة، وسواء فاز أو لم يفز بهذه الجائزة أو تلك، فهو حدث من أحداث سينما ٢٠٠٩.

رينييه فى خلاصة الفن والحكمة

آلان رينييه أحد أساتذة السينما فى العالم منذ ٤٠ سنة، وليس فى فرنسا فقط، وقد جاء فيلمه الجديد «العشب البرى»، الذى عرض فى المسابقة يوم الأربعاء، تحفة من تحف مهرجان «كان» هذا العام، حيث بلغ درجة الكمال فى الشكل الذى عبر به عن رؤيته الشاملة للوجود بعد أن تجاوز الثمانين من عمره المديد، وهى رؤية عبثية بالمعنى الفلسفى، وكأن بيكيت ويونسكو معًا كتبا الفيلم ومن المعروف أن رينيه لم يفز بالسعفة الذهبية، ولذلك فإن فوزه بالجائزة يشرف نادى الفائزين بها، ولن يضيف إليه بقدر ما يضيف إلى المهرجان.

المصري اليوم في 22 مايو 2009

####

فيلمان عظيمان داخل وخارج المسابقة.. «المنتصر» تحفة أخرى جديرة بالسعفة

بقلم   سمير فريد

عرض أمس الأول الفيلم الإيطالى الوحيد فى المسابقة «المنتصر» أحدث أفلام فنان السينما الإيطالى العالمى ماركو بيلوكيو، الذى جاء تحفة أخرى جديرة بالسعفة الذهبية بعد الفيلم الدنماركى «المسيح الدجال» إخراج لارس فون ترير، وقد سبق أن اشترك بيلوكيو خمس مرات فى مسابقة مهرجان «كان»، ولكنه لم يفز أبدًا، وإذا فاز بالسعفة يوم الأحد المقبل، سيكون ذلك تتويجًا رائعًا لمسابقة كبيرة ولفنان كبير ولفيلم كبير.

ومن الصعب على أى لجنة تحكيم تجاهل فيلم بيلوكيو أو فيلم فون ترير، ومهمة لجنة إيزابيل هوبير صعبة حقًا فى مسابقة يشترك فيها ١٧ مخرجًا وثلاث مخرجات، عشرة منهم اشتركوا من قبل وفازوا، وتسعة اشتركوا ولم يفوزوا، ومخرجة واحدة فقط تشترك لأول مرة وهى ايزابيل كوازيه التى تشترك بالفيلم الإسبانى «خريطة أسوات طوكيو»، والذى يختتم عروض المسابقة مساء السبت، والأيام الأخيرة من المهرجان تشهد عرض ثلاثة أفلام ثلاثة من أساتذة السينما المعاصرة، وهم الفرنسية آلان رينيه، والإسبانى بيدرو آلمودوف، والنمساوى مايكل هانكى، فضلاً عن فيلم ثارانتينو، وفيلم إيليا سليمان المنتظر بشغف، وما خفى ربما كان أعظم.

موسولينى المنتصر

كان وصول الحزب الفاشى بقيادة موسولينى إلى الحكم فى إيطاليا فى العشرينيات من القرن الميلادى الماضى، ووصول الحزب النازى بقيادة هتلر إلى الحكم فى ألمانيا فى الثلاثنيات أهم أحداث القرن إلى جانب الثورة الشيوعية فى روسيا عام ١٩١٧، ولذلك عبر أساتذة السينما الإيطالية جميعًا فى فيلم أو أكثر عن الفترة الفاشية التى انتهت مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥، وإعدام موسولينى فى العام نفسه، وفى كل أفلام الأساتذة مثل فيسكونى وفيللينى وبازولينى ودى سيكا وبيرتو بوتش وروزى وغيرهم، كان التعبير عن هذه الصفحة المظلمة فى تاريخ إيطاليا، التى انعكست على كل العالم ليس بهدف التأريخ، وإنما بهدف التحذير من تكرارها، وكذلك جاء فيلم بيلوكيو «المنتصر»، وهو عنوان ساخر من ديكتاتور إيطاليا وكل الديكتاتوريين.

وبالطبع يتميز كل فيلم من الأفلام التى تدين الفاشية وتحذر من عودتها بأسلوب مخرجه ورؤيته الفكرية، وفى «المنتصر» يعبر بيلوكيو عن رؤية إنسانية عميقه من دون أى تأثيرات إيديولوجية من خلال علاقة موسولينى مع زوجته الأولى إيدا دالسير وابنه منها والذى كان يحمل نفس اسمه، حيث أودعهما مستشفيات الأمراض العقلية وماتا قبل إعدامه. هنا موسولينى الإنسان الفاقد لإنسانيته حتى وهو يمارس الجنس مع زوجته التى أحبته بصدق قبل أن يصبح زعيمًا، ولم تطلب منه شيئًا سوى الاعتراف بها وبابنه، وبقدر ما كان بيلوكيو حديثًا منذ أول أفلامه «الأيدى فى الجيوب» عام ١٩٦٥، بقدر ما يحقق فى «المنتصر» بداية جديدة يصل فيها إلى ذروة سينما ما بعد الحداثة فى الجمع بين الروائى والوثائق التسجيلية على نحو مبتكر، وفى تحويل شريط الصوت بحواره ومؤثراته وموسيقاه إلى «أوبرا» كاملة.

مكتبة الإسكندرية وهيباتيا

وخارج المسابقة عرض الفيلم الإسبانى «أجورا» إخراج إليخاندرو أمينابار، والترجمة الحرفية للعنوان بالإسبانية «الميدان» أو «الساحة»، ولكن الكلمة أصلها يونانى ولها معانى يفضل معها ألا تترجم إلى العربية، ومن المذهل حقًا ألا يعرض هذا الفيلم فى المسابقة، والمرجح أن يفوز بالأوسكار العام المقبل أو يرشح على الأقل، وكذلك ممثلة الدور الرئيسى راشيل ويز، وقد فاز مخرجه بأوسكار أحسن فيلم أجنبى عام ٢٠٠٤ عن فيلمه السابق «البحر فى داخلى»، كما فازت راشيل ويز بأوسكار أحسن ممثلة فى دور ثان عام ٢٠٠٥، وفيه يلمع أيضًا الممثل الفلسطينى أشرف برهوم بعد نجاحه فى «الجنة الآن» عام ٢٠٠٥.

وبغض النظر عن الجوائز فإن «أجورا» من تحف الفن السينمائى، إنه فيلمنا فى «كان» ٢٠٠٩ حيث تدور أحداثه فى الإسكندرية فى القرن الرابع الميلادى، وبه ديكور فذ للمدينة ولمكتبة الإسكندرية «تم التصوير فى مالطا» ويبرئ العرب من تدمير المكتبة فى القرن السادس، حيث نرى المتشددين المسيحيين يدمرونها باعتبارها مركزًا للأفكار الوثنية، كما أنه فيلم عصرنا من حيث إدانة التطرف الدينى، آفة هذا العصر، بتعبيره عن حياة الفيلسوفة المصرية هيباتيا، التى حكم عليها بابا الأقباط بالرجم والحرق باعتبارها كافرة وساحرة، وهذا أول فيلم فى تاريخ السينما يتناول حياة هيباتيا وموتها.

هل من موزع فى مصر

«أجورا» فيلم يجب أن يوزع فى مصر ليشاهده جمهور السينما فيها، لأنه فيلم عن مصر والحضارة المصرية، وينتهى بخريطة مصر فى الفضاء الخارجى، كما يجب توزيع «المنتصر» فى مصر أيضًا، فكلا الفيلمين يمكن أن يساهما مساهمة فعالة فى مواجهة الفاشية والتطرف الدينى.

أنا أحسن مخرج فى العالم

التزمت السلطات الصينية الصمت تجاه الفيلم الفرنسى «حمى الربيع» الذى صور فى الصين من دون موافقتها، ويتناول المثلية الجنسية. ولكن صدرت تعليمات صريحة لقنوات الراديو والتليفزيون الحكومية بعدم تغطية عرض الفيلم، وإن لم تلتزم كل وسائل الإعلام فى الصين بتلك التعليمات.

وكما هو متوقع أثار الفيلم الدانماركى «المسيح الدجال» الانقسام الأكبر فى المهرجان بين من يرون أنه «تحفة» ومن يرون أنه «صفر»، فلا يوجد موقف وسط تجاه الأعمال الفنية المبتكرة والصادمة، أما مخرجه لارس فون ترير فقد قال فى المؤتمر الصحفى: «أنا أحسن مخرج فى العالم»، و«عندما أصنع أى فيلم لا أفكر فى أى متفرج»، وقال: «لست مدينا لأحد بأى تفسير للفيلم.. إننى لا أملك أى اختيار، وإنما هى مشيئة الله».

المصري اليوم في 21 مايو 2009

####

«المسيح الدجال» جدير بالسعفة الذهبية وسكور سيزى يقبل دعوة مهرجان القاهرة

بقلم   سمير فريد

مع عرض الفيلم الدانمركى «المسيح الدجال» إخراج لارس فون ترير أصبح أكثر الأفلام الجديرة بالفوز بالسعفة الذهبية، وستكون الثانية لفنان السينما الكبير بعد فوزه عن «راقصة فى الظلام» عام ٢٠٠٠.

الأفلام الأخرى التى حازت إعجاب أغلب النقاد: الفرنسى «نجمة لامعة» إخراج جين كامبيون، والبريطانى «حوض الأسماك» إخراج أندريه أرنولد، أما الذى رشحه النقاد للسعفة الذهبية قبل عرض فيلم فون ترير فهو الفيلم الفرنسى «رسول» إخراج جاك أوديارد، ومن المرجح أن يأتى ضمن الأفلام الفائزة يوم «الأحد» القادم، ولكنه لا يستحق السعفة الذهبية.

لارس فون ترير قدم أهم أفلام المسابقة مع بداية النصف الثانى من المهرجان على الصعيدين الفنى والفكرى، ولا يوجد فن عظيم من دون فكر عظيم، وليس من الضرورى أن يتفق الناقد مع رؤية الفنان، وإنما عمله تقييم هذه الرؤية.

وفى «المسيح الدجال» يعبر فون ترير عن رؤية مخيفة لنهاية العالم مع ظهور المسيح الدجال، وبأسلوب سينمائى شديد النقاء ومبتكر على نحو لا يجعل المتفرج يتذكر أى فيلم آخر، وكأنه يرى أول فيلم فى العالم، وفى الفيلم وخاصة فى بدايته ونهايته مشاهد صادمة لم يسبق لها مثيل من حيث المحتوى الجنسى ومن حيث العنف وكأن الشيطان ذاته أصبح مخرجاً.

«رسول» فيلم واقعى جيد عن الحياة داخل السجون، وربما يكون أحسن أفلام مخرجه، ولكنه أطول نصف ساعة على الأقل من الدراما التى يعبر عنها، ومن السخف المطلق أن يكون عنوانه «رسول» فى إشارة إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، خاصة أن «بطله» أمى لا يعرف القراءة والكتابة، وكان عنوان الفيلم «الرسول» وتغير عشية عرضه فى المهرجان إلى «رسول». ولا يشير الفيلم إلى معنى عنوانه إلا فى مشهد واحد عابر ومرتبك، وهى إشارة مبتذلة وركيكة مثل العنوان، ولا تسىء إلا لصاحبها.

سكور سيزى يقدم «المومياء»

لا يقدم سكور سيزى كل الأفلام التى تقوم «مؤسسة السينما العالمية» التى يرأسها بترميم أصولها وإعداد نسخ جديدة لها، ولكنه قام بتقديم النسخة الجديدة من «المومياء»، ووجه الشكر إلى وزارة الثقافة المصرية، والمركز القومى للسينما فى مصر، ورحب بالدكتور خالد عبدالجليل رئيس المركز، وبالسيدة مهيبة عبدالسلام شقيقة مخرج الفيلم الراحل شادى عبدالسلام، والتى قدمت له درع جمعية أصدقاء شادى عبدالسلام.

وليس من المعتاد أن تكون قاعة بونويل التى تعرض النسخ الجديدة من الأفلام الكلاسيكية «كاملة العدد» حيث يزدحم المهرجان بالأفلام الجديدة من أهم أفلام العالم، ولكن عرض «المومياء» كان «كامل العدد»، وتم توزيع الكتاب الذى أصدره المركز القومى للسينما على جميع الحاضرين، وبعد العرض وجهت سهير عبدالقادر، نائب رئيس مهرجان القاهرة الدعوة إلى سكور سيزى لتقديم النسخة الجديدة إلى الجمهور المصرى أثناء المهرجان، وقبل فنان السينما الأمريكى العالمى الكبير الدعوة، كما رحب برغبة الدكتور خالد عبدالجليل بترميم المزيد من الأفلام المصرية.

نجاح المشاركة المصرية

حققت مشاركة غرفة صناعة السينما المصرية فى السوق الدولية التى تقام أثناء مهرجان «كان» نجاحا كبيراً على مختلف المستويات، رغم عرض ثلاثة أفلام فقط فى السوق وهى «إبراهيم الأبيض» إخراج مروان حامد، و«دكان شحاتة» إخراج خالد يوسف، و«هليوبوليس» إخراج أحمد عبدالله الذى يعرض اليوم، لأول مرة كانت الإعلانات عن مكتب مصر فى السوق، وخيمة مصر فى القرية الدولية، فى أهم المواقع داخل السوق، وتكررت فى نشرة السوق، وفى النشرة اليومية لـ«فارايتى» و«سكرين إنترناشيونال» على نحو لم يسبق له مثيل، بل صدر ملحق خاص عن مصر فى عدد «فارايتى» يوم ١٤ مايو، وكان غلاف العدد الأول من «فيلم فرانسيه» إعلاناً عن «إبراهيم الأبيض» الذى عرض فى نفس اليوم.

ومن المعروف أن الأزمة الاقتصادية العالمية انعكست على سوق مهرجان «كان» هذا العام، ومن قبلها سوق مهرجان «برلين».

ولكن النتائج النهائية تصدر مع نهاية المهرجان، وقد صرح جيروم بيلارد مدير السوق بأن هناك أربع دول ارتفعت مشاركتها هذا العام وهى مصر بزيادة ٨٢ فى المائة، والصين بزيادة ٤٨ فى المائة، والمكسيك بزيادة ٢٨ فى المائة، وهولندا بزيادة ١٧ فى المائة.

المهرجان الأفريقى الثانى

ينعقد فى الخامسة والنصف مساء اليوم مؤتمر صحفى تنظمه وزارة الثقافة فى الجزائر للإعلان عن المهرجان الثقافى الأفريقى الثانى الذى ينعقد فى العاصمة الجزائرية من ٥ إلى ٢٠ يوليو المقبل، وتشمل أنشطته المسرح والسينما والموسيقى والرقص والغناء، وقد قررت وزارة الثقافة الجزائرية إنتاج فيلمين طويلين مع جنوب أفريقيا وعشرة أفلام قصيرة للعرض فى المهرجان، يحضر المؤتمر المخرجان الجزائريان محمد الأخضر حامينا ورشيد بوشارب.

المصري اليوم في 20 مايو 2009

####

سينما سرية فى إيران لأول مرة واليوم درس السينما للأخوين داردينى

بقلم   سمير فريد

يشهد مهرجان كان هذا العام فيلمين طويلين لمخرجين من أكراد إيران: الفيلم الإيرانى «لا أحد يعرف القطط الفارسية» إخراج باهمان جودباى، والذى عُرض فى افتتاح برنامج «نظرة خاصة» من اختيارات إدارة المهرجان، والفيلم العراقى «الهمس مع الريح» إخراج شاهرام العيدى الذى يعرض غداً فى «أسبوع النقاد» الذى تنظمه نقابة نقاد السينما فى فرنسا.

«الهمس مع الريح» أول فيلم طويل لمخرجه، وهو من إنتاج وزارة الثقافة فى كردستان العراق، وينطق باللغة الكردية. أما «لا أحد يعرف القطط الفارسية» فهو الفيلم الطويل السادس لمخرجه الذى كان فيلمه الأول «زمن الخيول الثملة» عام ٢٠٠٠، أول فيلم إيرانى ناطق بالكردية، وشهد مهرجان كان عرضه الأول ذلك العام فى برنامج «نظرة خاصة» أيضاً، وفاز بجائزة الكاميرا الذهبية لأحسن مخرج فى فيلمه الطويل الأول، التى تمنح للأفلام الأولى فى كل برامج المهرجان داخل وخارج المسابقة، وفى البرنامجين الموازيين لنقابتى النقاد والمخرجين.

أول فيلم سرى فى إيران

ويختلف فيلم جودباى الجديد عن أفلامه السابقة، فقد تم تصويره سراً فى إيران بكاميرا الفيديو، وتحول بعد ذلك إلى شريط سينما فى ألمانيا، وبذلك أصبح أول فيلم سرى فى إيران على الأقل منذ الثورة «الإسلامية» عام ١٩٧٩، أى يتم تصويره بمعزل عن الرقابة، وعن كل السلطات الحاكمة.

كما يختلف الفيلم عن أفلام جودباى من حيث إنه أول فيلم يصوره فى طهران، وليس فى كردستان إيران. ويعتبر اختياره لافتتاح برنامج «نظرة خاصة» اختياراً حاذقاً لأنه بالفعل «نظرة خاصة»، ومن أحداث السينما هذا العام. ومن المرجح أن يفوز بالجائزة الوحيدة التى تمنح لأحسن فيلم فى هذا البرنامج بواسطة لجنة تحكيم خاصة.

ومثل كل الأعمال الفنية الأصيلة لا يستمد الفيلم قيمته من كونه صُور سراً، وسيوزع سراً فى إيران، وإنما من أسلوبه البارع الذى ينتمى إلى السينما الخالصة وسينما ما بعد الحداثة، حيث يجمع بين الروائى والتسجيلى، والواقعية والفانتازيا فى أغانى الفيديو كليب، إلى جانب كونه سياسياً بامتياز، ومعارضاً بامتياز، ومن دون أى ابتذال لإرضاء أحد فى الشرق أو الغرب، وإنما بحب عميق للوطن الذى ينتمى إليه، وللشباب الإيرانى الذى يتطلع للحياة مع العالم، والتخلص من الحكم باسم الدين، ومن حكم رجال الدين رغم أنه لا كنيسة فى الإسلام ولا رجال دين، وإنما علماء فى الدين، والفرق شاسع وكبير.

الموسيقى السرية والغناء المحرم

وقد كان من الضرورى أن يصور الفيلم سراً لأنه عن الموسيقى السرية فى طهران، وهى موسيقى الروك الغربية المحرمة منذ «الثورة»، أى منذ ٣٠ عاماً تماماً، وذلك ضمن محرمات كثيرة، منها غناء المرأة حيث لا يسمح للنساء بالغناء إلا ضمن المجموعة «الكورس». والسيناريو من تأليف جودباى وخطيبته الصحفية الأمريكية من أصل إيرانى روكسانا صبرى، التى واجهت الاتهام بالتجسس لحساب أمريكا، وأفرج عنها قبل أيام من عرض الفيلم فى مهرجان كان، كما أنها المنتج التنفيذى للفيلم. ولا أحد يدرى حتى الآن ردود أفعال السلطات الإيرانية بعد عرض الفيلم فى المهرجان.

ويعبر فنان السينما عن موقفه ضد تفسيرات رجال الدين الذين يحكمون إيران للعلاقة بين الإسلام والفنون، وذلك من خلال شاب وشابة فى العشرينيات، مثل غالبية أعمار الشعب الإيرانى اليوم، ومثل آلاف من هؤلاء الشباب، يحبان موسيقى الروك الغربية، وتريد الفتاة أن تغنى وحدها مثل كل المغنيات.

وإزاء الخوف من الاعتقال كما حدث لمئات الشباب الذين يعزفون الموسيقى «السرية» فى الأقبية والدهاليز يقرران الهجرة إلى أوروبا، ويساعدهما مهندس صوت يعرف الطريق إلى مزور للجوازات والتأشيرات، ولكن الشرطة تقبض على المزور، وتقوم بحملة واسعة للقبض على الشباب الذين يعزفون ويغنون ويرقصون، ومنهم الشاب الشخصية الرئيسية فى الفيلم، أما صديقته الشابة فلا تجد مفراً من الانتحار بإلقاء نفسها من سطح المنزل.

وفى الفيلم مشاهد مونتاج، أو ما يُعرف الآن بالفيديو كليب لمدينة طهران ربما كما لم تظهر فى أى فيلم إيرانى طوال ثلاثة عقود: المدينة بكل جمالها وعراقتها وحداثتها فى النهار وفى الليل، ولكن هناك أيضاً أطفال الشوارع الذين ينامون مع القطط والكلاب والفئران وسط أكوام القمامة. وعلى شريط الصوت فى كل تلك المشاهد أغانى الشباب التى تبدو أقرب إلى الصرخات المعبرة عن غضب عارم وتوق عظيم إلى الحرية.

درس الأخوين داردينى

اليوم يلقى الأخوان داردينى اللذان فازا بالسعفة الذهبية مرتين «درس السينما»، وهو محاضرة من واقع الخبرة العملية تعقبها مناقشة، وتعتبر من التقاليد الثقافية التى ابتكرها مهرجان كان، وأصبحت فى العديد من مهرجانات العالم. وقد صدر أكثر من كتاب عن محاضرات «درس السينما» التى بدأت منذ أكثر من عشرين عاماً.

المصري اليوم في 19 مايو 2009

####

اليوم يصل المهرجان إلى ذروته أعظم تحية من فن السينما إلى فن الشعر

بقلم   سمير فريد

اليوم يشهد المهرجان ذروته ومنتصفه بعرض الفيلمين التاسع والعاشر من الأفلام العشرين التى تشترك فى المسابقة، وهما «البحث عن إريك» إخراج كين لوش، و«المسيح الدجال» إخراج لارس فون ترير، وكلاهما فازا من قبل بالسعفة الذهبية من بين أربعة مخرجين فازوا بها، ويتنافسون على الحصول عليها مرة ثانية مع جين كامبيون وكوينتين تارانتينو.

وإلى جانب جين كامبيون تشترك فى المسابقة مخرجتان وهما أندريه أرنولد وإيزابيل كوازيه. وقد شهدت الأيام الأربعة الأولى من المهرجان عرض ثمانية من أفلام المسابقة، ومنها «نجمة لامعة» إخراج كامبيون، و«حوض الأسماك» إخراج أرنولد، وكلاهما من الأفلام الجديرة بالفوز، ومن أهم أفلام العالم هذا العام بغض النظر عن الفوز أو عدم الفوز بجوائز.

فى «حوض الأسماك» تقدم أندريه أرنولد فى فيلمها الطويل الثانى بعد «طريق أحمر» ما يؤكد موهبتها الأصيلة وقدراتها الكبيرة فى التعبير عن الواقع الاجتماعى فى المجتمع البريطانى المعاصر، فالفيلم ينتمى إلى السينما الواقعية البريطانية الحديثة، بل ويتأثر بأستاذ هذه السينما الذى أعاد أمجاد الواقعية فى السينما مايك لى، خاصة فى التعبير عن قاع الطبقة الوسطى، ومن ناحية أخرى عمل فنى نسائى بامتياز فى دراسته الفنية العميقة لمرحلة المراهقة فى حياة فتاة من هذه الطبقة فى واقع اليوم.

أعظم تحية إلى فن الشعر

أما جين كامبيون فى «نجمة لامعة» فتقدم نجمة تلمع فى سماء الإبداع الباقى أبداً، وليس فقط فى سماء مهرجان كان ٢٠٠٩. وعنوان الفيلم قصيدة من قصائد جون كيتس، أحد أعظم شعراء الإنجليزية فى كل العصور، وموضوعه: السنوات الأخيرة فى حياة الشاعر منذ عام ١٨١٨.

«نجمة لامعة» ربما يكون أعظم تحية من فن السينما إلى فن الشعر، حيث تعود فنانة السينما إلى عصر جون كيتس وتصنع فيلماً «كلاسيكياً» يذكرنا برائعة جوزيف لوزى «الوسيط» وغيره من روائع السينما الكلاسيكية. وصنع فيلم عن الشعر فى زماننا العاصف العنيف له دلالاته بعيدة المدى.. إنه فيلم عن الحب والمرض والعذاب والصراع الكلاسيكى بين العاطفة والواجب: عن خطابات الغرام، والحب بلمس الأيدى، وعبر القبلات الخجولة، والعواطف المشبوبة.

ويتكامل الموضوع مع المضمون والأسلوب كما فى كل عمل فنى كبير.. الإضاءة هنا قبل اختراع الكهرباء مستمدة من الضوء الطبيعى ومن ضوء الغاز ومستوحاة من لوحات كبار الرسامين فى القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر.

وتقوم المناظر الطبيعية للزهور وأشجار الغابات والبحر وساحل البحر بدور رئيسى فى التعبير عن قصائد كيتس. ويتنوع إبقاء الشعر على شريط الصوت بين الاقتصار على الصوت فقط مع صورة الشاعر ليبدو منبع الشعر من داخله، وبين ترديد القصيدة بينه وبين حبيبته حتى تكتمل.. وبعد موته فى إيطاليا تقرأ الحبيبة، التى تقوم بدورها الممثلة البارعة آبى كوميش، قصيدة «نجمة لامعة» فى الجليد الذى يغمر الغابة فى لقطة واحدة طويلة ينتهى بها الفيلم.

هوبير: لن أكون مثل بين

هاجمت إيزابيل هوبير، رئيس لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة هذا العام، الممثل والمخرج الأمريكى شون بين، الذى ترأس لجنة تحكيم العام الماضى هجوماً صريحاً، وذلك فى المؤتمر الصحفى لأعضاء اللجنة. قالت هوبير: «لا أنوى أن أكون مثل شون بين الذى وجه أعضاء اللجنة حسب ميوله السياسية».

وتعليقاً على أن أغلبية أعضاء اللجنة من النساء «٥ من ٩ بمن فى ذلك الرئيس» قالت الممثلة والنجمة الفرنسية العالمية: «لا أحب تصنيف الأشياء إلى ذكورية وأنثوية، ولكنى سعيدة بوجود هذا العدد من النساء فى اللجنة».

وقالت: «ربما تختلف وجهات النظر ولكنها مسألة كيميائية، وكل شىء يحدث فى وقته». واتفق معها أعضاء اللجنة فى أنهم ليسوا «قضاة» يصدرون الأحكام، ولكنهم عشاق يحبون السينما، ولا يمانعون فى مشاهدة أى فيلم مرتين.

من يجمع المعلومات عن الإيرادات؟

عقدت، أمس، ورشة العمل السنوية التى تنظمها «المراقبة الأوروبية للوسائل السمعية والبصرية» أثناء مهرجان «كان»، وكان موضوعها «من الذى يجمع المعلومات عن الإيرادات فى الأسواق»، و«كيفية ضمان حقوق حاملى الأسهم فى الشركات»، اشترك فى الورشة المحلل مارتين كانزلر، وسوزان نيكولتشين، رئيس قسم المعلومات القانونية فى المراقبة، وأندريه لانج، رئيس قسم معلومات الأسواق والتمويل.

وأمس الأول، نظمت غرفة التجارة الدولية مؤتمرها السنوى الثالث والعشرين، الذى يعقد أثناء مهرجان «كان» أيضاً، عن «القوانين الدولية للوسائل السمعية البصرية»، واشترك فيه المحلل فرانشسكو كابريرا والمحلل مارتين كانزلر القاسم المشترك بين المؤتمر وورشة المراقبة الأوروبية.

المصري اليوم في 18 مايو 2009

####

افتتاح رائع وبداية ضعيفة للمسابقة واليوم يعرض «دكان شحاتة» فى السوق

بقلم   سمير فريد

تواجد السينما المصرية فى السوق الدولية التى تقام أثناء مهرجان كان لم يسبق له مثيل منذ عام ١٩٨٥ من حيث الكم والكيف معاً، فهناك مكتب فى «مجمع الريفيرا» وبافليون فى القرية الدولية، وإعلانات فى النشرات اليومية لأكبر مجلات السينما الدولية (فارايتى وسكرين وهوليوود ريبورتر وفيلم فرانسيه) ويوم الخميس عرضت شركة جود نيوز «إبراهيم الأبيض» إخراج مروان حامد، واليوم يعرض «دكان شحاتة» إخراج خالد يوسف، والفضل فى ذلك التواجد الناجح يعود إلى غرفة صناعة السينما واتحاد الصناعات المصرية.

سبق أن ذكرنا أن مهرجان «كان» منذ سنوات أصبح لا يحدد جنسيات الأفلام التى يتم اختيارها للعرض فى مسابقة الأفلام الطويلة، وأن هذا خطأ علمى، لأن جنسية الفيلم حقيقة مادية لها دورها فى تقييم الفيلم، فالفيلم الذى ينتج فى مصر غير الذى ينتج فى أمريكا أو السنغال، وذلك أمر بدهى.

ومن ناحية أخرى يؤدى عدم ذكر جنسيات الأفلام فى موقع المهرجان الرسمى على الإنترنت، وفى البيانات الصحفية الرسمية، إلى تضارب المعلومات بين الصحف والمجلات حول جنسيات الأفلام لأنها تلتزم أمام القراء بذكرها، وقد اعتمدنا فى تحديد جنسيات أفلام المسابقة على «فارايتى» ومع صدور الكتالوج الرسمى للمهرجان تبين وجود العديد من الأخطاء فى معلومات «فارايتى» وغيرها من الصحف والمجلات.

قومى أم إقليمى أم دولى؟

الأفلام الفرنسية فى المسابقة تسعة، وليست خمسة، ففيلم «الزمن الذى يبقى» إخراج الفلسطينى إيليا سليمان فرنسى، وليس إسرائيلياً، وفيلم «كيتاناى» إخراج الفلبينى بيرلانتى ميندوزا فرنسى، وليس فلبينياً، والفيلمان المنسوبان إلى الصين فرنسيان، وهما «حمى الربيع» إخراج ليو يى، و«انتقام» إخراج جونى تو، وفيلم «كتيبة الأوغاد» إخراج كوينتين تارانتينو ألمانى، وليس أمريكياً، وفيلم «نجمة لامعة» إخراج جين كامبيون بريطانى، وليس أسترالياً، وبذلك تصبح الأفلام الـ ٢٠ لأول مرة فى تاريخ المهرجان ١٨ فيلماً من أوروبا (٩ من فرنسا و٣ من بريطانيا و٢ من كل من ألمانيا وإسبانيا وفيلم واحد من كل من إيطاليا والدنمارك، وفيلم واحد من الولايات المتحدة الأمريكية وفيلم واحد من آسيا من كوريا الجنوبية).

وهذه المعلومات من واقع كتالوج المهرجان الرسمى، حيث يتم ذكر شركة إنتاج كل فيلم وعنوانها، ثم الشركات الأخرى التى اشتركت فى الإنتاج إذا كان الفيلم من الإنتاج المشترك، وفى هذه الحالة تعتبر الشركة الأولى هى منشأ الإنتاج، ومعنى هذا أن إدارة المهرجان تتجاهل جنسيات الأفلام فى موقعها الرسمى وبياناتها الصحفية الرسمية حتى لا يبدو المهرجان قومياً للأفلام الفرنسية أو إقليمياً للأفلام الأوروبية، وليس دولياً.

وهذا خطأ آخر لأن الأفلام الفرنسية التسعة منها ٤ لمخرجين فرنسيين و٥ لمخرجين من الصين وتايوان والفلبين وفلسطين، ومعنى هذا أن السينما الفرنسية تفتح أبوابها لكل مخرجى العالم مثل هوليوود، وهو أمر يدعو للفخر وليس للإخفاء.

وفى النهاية فالحق أولى أن يتبع من دون أسباب ولا أغراض، وليس من المعقول أن تترك إدارة المهرجان كل جريدة ومجلة تحدد جنسيات الأفلام حسب اجتهاد كل صحفى، فليس هناك اجتهاد فى المعلومات، وإنما تكون صحيحة أو خاطئة.

أخصائى الممنوعات الصينى

جاء الفيلم الأمريكى «نحو الأعالى» إخراج بيتر دوكتير، وهو أول فيلم تحريك يعرض فى افتتاح المهرجان، تحفة رائعة على جميع المستويات الفنية والدرامية والفكرية، ولا أحد يدرى لماذا لم يعرض فى الافتتاح وفى المسابقة، وقد حدث ذلك أكثر من مرة فى سنوات سابقة، ورغم أن مهرجان كان يظل أول مهرجان فاز فيه فيلم تحريك بالسعفة الذهبية، وذلك فى دورته الثانية عام ١٩٤٧ (الفيلم الأمريكى «رومبى» إخراج والت ديزنى).

وهناك ثلاثة أفلام تحريك طويلة فى المهرجان هذا العام إلى جانب فيلم الافتتاح، ففى خارج المسابقة يعرض من بلجيكا «مدينة اسمها بانيك»، وفى أسبوع النقاد الفيلم الفرنسى «لاسكارز».

أما أول فيلم عرض فى المسابقة وهو الفيلم الفرنسى ـ الصينى المشترك «حمى الربيع» إخراج ليو يى فقد جاء ضعيفاً، ويبدو بوضوح منذ مشاهده الأولى سبب اختياره للمسابقة، حيث يعبر عن قصة حب بين شابين مثليين فى مدينة نانجينج الصينية، وهو لا يعبر عن هذه العلاقة بالإشارة أو الرمز، وإنما فى مشهد جنسى «بورنو جرافى» صريح. ولكن أسلوب الفيلم أقل من عادى، ولا تكفى جرأة الموضوع وجرأة المعالجة فى أى فيلم ليصبح من الأعمال الفنية الكبيرة أو المتميزة، وهذا الفيلم يؤكد أهمية جنسية شركة منشأ الإنتاج، فمن المستحيل أن يكون فيلماً صينياً أو أن يعرض فى الصين، ومن السهل جداً أن يكون فرنسياً ويعرض فى فرنسا ودول أخرى فى أوروبا وبعض ولايات أمريكا، وربما تكون الصين الدولة الوحيدة فى العالم التى تعتبر المثلية الجنسية مرضاً عقلياً، وتودع المثليين فى مستشفى الأمراض العقلية، وقد اعتاد المخرج أن يقتحم المحرمات الصينية فى أفلامه، وهو أمر إيجابى، ولكن ما الجدوى إذا كانت لا تعرض فى الصين؟

samirmfarid@hotmail.com

المصري اليوم في 17 مايو 2009

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)