كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

ثنائية التعصب الديني والتسلط السياسي

في مهرجان كان

أمير العمري/ كان ـ بي بي سي

مهرجان كان السينمائي الدولي الثاني والستون

   
 
 
 
 

بعيدا عن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة في مهرجان كان، عرض فيلمان اعتبرا من "التحف" السينمائية الكبيرة.

الأول هو فيلم "أجورا" Agora للمخرج الإسباني اليخاندرو أمينبار، مع طاقم عالمي من الممثلين، وبتمويل مشترك وامكانيات فنية هائلة.

وأعد للفيلم نسخة ناطقة بالإنجليزية، لضمان التوزيع في السوق الأمريكية، وهي الأكبر في العالم. وقد عرض خارج المسابقة.

أما الفيلم الثاني فهو الفيلم الروسي "قيصر" للمخرج الشهير بافل لونجين، وهو من التمويل الفرنسي وبامكانيات إنتاجية كبيرة تتناسب مع موضوعه الكبير.

عرض الفيلم في قسم "نظرة خاصة" رغم أنه يتميز بمستواه الفني الكبير على الكثير مما شاهدناه في المسابقة الرسمية.

الفيلمان يشتركان في أكثر من سمة، الأولى أنهما من الأفلام "التاريخية"، أي تلك التي تدور في الزمن الماضي البعيد، أو مما يطلق عليها period films.

أما السمة الثانية فهي أن كليهما يتعرض بشكل أو بآخر، لموضوع التعصب الديني أو التفسير الخاطيء للدين عندما يصبح مبررا للقمع والإرهاب وإنكار "الآخر" وشطبه.

في الاسكندرية القديمة

"أجورا" كلمة يونانية معناها "الساحة" التي كان يجتمع فيها المثقفون والشعراء والعلماء في أثينا القديمة أو في الاسكندرية في زمن الامبراطورية الرومانية بعد انقسامها حول عاصمتين: روما والاسكندرية.

أما الشخصية الرئيسية في الفيلم فهي شخصية هيباتيا.. تلك العالمة الاغريقية الأسطورية التي أثارت سخط الكنيسة القديمة التقليدية، كنيسة الاسكندرية، بسبب نبوغها العلمي وتأثيرها الكبير في المجتمع رغم كونها يونانية "وثنية" رفضت الانصياع للتعاليم الجامدة للكنيسة في تلك الفترة من القرن الرابع الميلادي.

وهيباتيا بالمناسبة، هي إحدى الشخصيات الرئيسية في رواية "عزازيل" للكاتب المصري يوسف زيدان الفائزة بجائزة جونكور العربية لعام 2009. وهي التي ينتهي مصيرها في الرواية والواقع بالقتل بطريقة تقشعر لها الأبدان، على أيدي المتعصبين، الذين يبيحون قتل الآخرين باسم الدين، بل ويحرقونها وهي مازالت حية.

وقد قدم زيدان في روايته وصفا تفصيليا أدبيا رفيعا لحادث اغتيالها في "الساحة" الرئيسية بمدينة الاسكندرية وهي في طريقها لإلقاء محاضرة على جمهورها.

وهيبا- من هيباتيا- هو الإسم الذي أطلقه على بطل الرواية، الراهب المصري الذي جاء من الصعيد إلى الاسكندرية للتزود بعلوم اللاهوت، وبدلا من ذلك انساق وراء التعلم من تجارب الحياة ذاتها. وقد تسمى باسم هيبا تحية وإعجابا بالعالمة اليونانية العظيمة التي راحت ضحية التعصب والتزمت والجهل.

أما فيلم "أجورا" فهو الأول في تاريخ السينما الذي يتناول شخصية "هيباتيا، وقد جرى تصوير الفيلم في جزيرة مالطا، حيث شيدت ديكورات هائلة لمدينة الاسكندرية القديمة التي كانت العاصمة الثانية للإمبراطورية الرومانية في تلك الفترة، بفنارها الشهير، ومكتبتها التي اعتبرت مهد العلم والمعرفة في العالم القديم.

واستخدم المخرج آلاف الممثلين الثانويين، في المشاهد التي تستخدم فيها الجموع، خاصة المشاهد النهائية في الفيلم، وذلك على نحو يذكرنا بالأفلام التاريخية الملحمية الكبيرة التي كان يخرجها سيسل دي ميل، أو الأفلام الكبيرة التي خرجت من هوليوود في الخمسينيات والستينيات. أساس موضوع الفيلم هو ذلك الصراع الشهير الذي ميز العصر الأول بعد اعتناق الإمبراطورية الرومانية المسيحية التي أصبحت الديانة الرسمية للدولة، والسماح لمسيحيين بالدعوة لديانتهم والتحرك بحرية في أرجاء البلاد.

لكن من بين هؤلاء من استخدموا الاعتراف الرسمي بديانتهم من أجل إرغام الآخرين على اعتناق المسحية، حتى أولئك الذين لم يكن يمكن اعتبارهم من الذين يقفون في معسكر أعداء الديانة بأي شكل من الأشكال.

وعلى رأس هؤلاء بالطبع "هيباتيا" عالمة الفلك والرياضيات والفيلسوفة الشهيرة التي اعتبرت الأم الروحية للعلوم الطبيعية الحديثة. رمز الحكمة

ويصور الفيلم هيباتيا ابنة رئيس مكتبة الاسكندرية العالم الكبير "ثيوس" الذي يكن له الجميع الاحترام والتقدير، باعتبارها رمزا للحكمة والتسامح، وبتركيز خاص على أبحاثها المتعلقة بوضع الإنسان في الكون، وموضع كوكب الأرض بالنسبة للشمس، وهل الأرض كروية أم مسطحة، وما الذي يبقي الأرض سابحة في الفضاء.

في الوقت نفسه يصور الفيلم علاقتها بشخصية "متخيلة" هي شخصية "أوريستوس" الروماني الذي يتدرج في السلك العسكري والسياسي إلى أن يصبح الحاكم الفعلي للمدينة وممثل الامبراطور الروماني بعد انشقاق الامبراطورية وإشرافها على التفكك، مفسحة الطريق لنظام عالمي جديد مع انتشار المسيحية.

هناك علاقة عاطفية واضحة بين هيباتيا وأوريسيوس، الذي يقف مدافعا عنها إلى ما قبل النهاية عندما يستسلم لمنطق القوة مثل أي سياسي في عصره، ويتخلى عن حمايتها أمام تشبثها بفكرة الحرية: حرية العقيدة والاختيار.

ومن جهة أخرى هناك أيضا "دافوس" العبد الذي يتحول تدريجيا إلى اعتناق المسيحية، وتمنحه هيباتيا حريته، لينطلق وينضم إلى الجماعات المتطرفة التي يقودها رجل الدين "أمونيوس" (يقوم بدروه أشرف برهوم الممثل الفلسطيني في فيلم "الجنة الآن").

يحرض "أمونيوس" على الاستيلاء على معابد الرومان والاغريق إلى أن نصل إلى اقتحام مكتبة الاسكندرية من جانب الجماعات المهووسة بالدين كما يصورها الفيلم، حيث تأخذ في هدم وتدمير المحتويات بدعوى أنها تنتمي إلى التراث الوثني، وتهدم التماثيل وتسقط الرموز الفنية وتحرق الوثائق والأبحاث العلمية والخرائط.

بعد ذلك يبرز دور الأسقف "سيرل" وتتصاعد الدعوة إلى ضرورة الفتك باليهود المقيمين في الاسكندرية والتنكيل بهم وهو ما يصوره الفيلم في مشاهد هائلة: تحطيم المحلات التجارية والاستيلاء على أموال اليهود ونهب بيوتهم ثم قتلهم بأكثر الطرق وحشية فيما يصرخ كبير الحاخامات: "لو لم يكن اليهود لما كنتم أنتم أيها المسيحيون.. لقد كان المسيح يهوديا"!

ومع اشتعال حمى رفض الآخر والفتك بكل من يختلف مع "الجماعات" التي تدعي احتكار الحقيقة المطلقة، تتجه دعوة الأسقف سيرل إلى منع الاستماع للنساء، بل وحظر بروز المرأة في المجتمع والعمل على إعادتها للمنزل، وحظر اشتغال المرأة بالفكر أو التدريس، بل والتحريض على قتل هيباتيا باعتبارها "وثنية" معادية للديانة الجديدة رغم دفاعها عن حق الآخرين في الاعتقاد كما يشاءون.

يقبضون عليها ويسوقونها بعيدا ويجردونها من ملابسها، ويستعدون لحرقها في الساحة، إلا أن الفيلم لا يصور النهاية الحقيقية التي انتهت إليها هيباتيا في الواقع كما تحفظ كتب التاريخ، أي تمزيق جسدها ثم حرق أشلائه.

بدلا من ذلك نرى عبدها السابق "دافوس" الذي يكن لها حبا ممزوجا بالاشتهاء، وهو يحتضنها بقوة ثم يقوم بخنقها بينما هو يتمزق ألما وحسرة عليها، حتى يجنبها مصيرها البشع المحتوم. ولاشك أن المصير الذي تنتهي إليه هيباتيا له تأثيره، لكن تغيير المسار الصحيح يبدو غير مفهوم في سياق الفيلم.

أصداء معاصرة لاشك أن الفكرة الأساسية وراء الفيلم هي فكرة ذات أصداء معاصرة تماما. وكما تستخدم رواية "عزازيل" التاريخ للإسقاط على الواقع الحاضر، يستخدم الفيلم قصة "هيباتيا" للتطرق إلى معالجة فكرة التعصب الديني، ورفض التعايش مع الآخر، ونبذ المرأة واستبعاد دورها وتقزيمه، واحتقار العلم بدعوى تعارضه مع الدين، وغير ذلك من الأفكار المعاصرة تماما والتي تتسق مع ما يحدث في عالمنا حاليا.

ولاشك أن الفيلم يعبر عن رؤيته الفكرية باستخدام أقصى ما تسمح به لغة التعبير المرئي في السينما: التجسيد البصري للأماكن والأحداث والشخصيات، خلق حبكة تدور من حولها الدراما دون أن تكون الحبكة مقصودة في حد ذاتها، الاستخدام الموحي للتكوين وحركة الكاميرا وزوايا التصوير التي تتنوع وتتباين حسب مزاجية المشهد وما يحتويه، الموسيقى التي تغلف الصورة وتلعب دورا مباشر محسوسا تحت جلدها.

وعلى العكس من أفلام سيسل دي ميل التوراتية أو الأفلام التاريخية التي خرجت من هوليوود حديثا مثل "المصارع" وغيره، ليس الهدف من تصوير تلك الدراما الهائلة الإبهار أو إثارة المشاعر، بل أساسا، الدعوة إلى التأمل: تأمل الماضي للاستفادة من دروسه.

ولذا، يفرد الفيلم مساحات واسعة يتوقف خلالها ويركز على الفضاء، والكواكب السابحة في السماء، ويصور علاقة هيباتيا بالعالم من خلال بحثها فيما وراء العالم المحسوس المرئي والمباشر.

عندما يهددها رجل الدين "أمونيوس" بالموت إذا لم تعتنق المسيحية، تقول أمام الجميع في بساطة وعفوية مخلصة إنها تؤمن بالفلسفة.

القيصر

لكنه يسخر من تلك "الفلسفة" ومن قدرتها على إنقاذ صاحبتها من الموت. وهذا نفسه، وإن على صعيد آخر، ما يصل إليه فيلم مختلف كثيرا في موضوعه وبنائه وإن لم يختلف في جوهره هو الفيلم الروسي "قيصر" Tsar.

نحن هنا أمام سيناريو شديد الرونق والإحكام، يدور أساسا حول شخصيتين: القيصر الروسي الشهير باسم إيفان الرهيب من القرن السادس عشر (1565 تحديدا)، والرجل الطيب الورع فيليب، صديق طفولة القيصر الذي يعينه رئيسا للكنيسة الروسية بعد استقالة رئيسها في أعقاب هزيمة الجيش الروسي أمام القوات البولندية.

غير أن القيصر يتجه رويدا رويدا إلى اعتناق الخرافات باسم الدين، وينتقي من الدين ما يدعم سلطته ويكفل لها أن تظل سلطة مطلقة استبدادية. وهنا يبدأ وينمو الصدام بينه وبين الأسقف فيليب.

الفيلم مقسم إلى عدة فصول يحمل كل منها عنوانا مثل "حرب القيصر" و"تضحية القيصر" و"ساحة ألعاب القيصر" وما إلى ذلك.

جنون إيفان

ويصور الفيلم كيف يتحول القيصر تدريجيا في اتجاه الجنون المطلق عندما يبدأ في الاعتقاد بأنه امتداد للإله، أو "ظل الله على الأرض"، ويأخذ في إصدار تعليماته بالتنكيل بالجميع: الأمراء الذين يتهمهم بالخيانة بعد هزيمة الجيش، قواد الجيش الذين يأمر باعدامهم، بل وأفراد الشعب إذا لم يحضروا لمشاهدة تنكيله بخصومه علانية في ساحة المدينة.

ويصل إلى الصدام مع صديقه القديم، أسقف الكنيسة الروسية، بسبب رفض الأخير الانصياع لرغبات القيصر وإدانة الأمراء بتهمة الخيانة، التي يعرف أنهم أبرياء منها.

يعترف القيصر في إحدى المواجهات بينه وبين الأسقف فيليب، أنه كإنسان من الممكن أن يخطىء، بل ويظلم الآخرين، أما كقيصر فكل أحكامه صحيحة لأنه يستمد قوته وشرعيته من الحكم الإلهي نفسه. ولا يفتأ يكرر أن الله أمر بطاعة الحكام وتنفيذ أوامرهم.

هذا أساس الصراع العنيف هنا بين مفهومين للدين: مفهوم يرى الدين مجسدا في العدل والتسامح والحب، ومفهوم آخر يراه في القوة.

يقول القيصر متسائلا في استنكار: هل تريدني أن أنتظر أن يحاسب الله هؤلاء الأمراء؟ ومن الذي سيحمي البلاد إذن من الخونة والمتآمرين؟ إن هذا دوري في الحفاظ على الدولة وإلا انهارت.

هذا التبرير للاستبداد يصل إلى أقصاه عندما يُعتقل الأسقف، ويُسجن داخل دير، وتُقيد يداه، ويتعرض للإذلال من جانب خصومه من رجال البلاط الذين كانوا يرفضونه ويخشونه من البداية بسبب تعارض منطقه القائم على إحقاق العدل، مع منطقهم في تغليب القوة.

وينتهي الفيلم بالنهاية المنتظرة المؤجلة أي باعدام الأسقف خنقا، ولكن دون أن نرى المشهد مجسدا على الشاشة لأنه من تحصيل الحاصل هنا. ميزات السيناريو بطبيعة الحال ما يميز الفيلم إلى جانب السيناريو الدقيق الذي يعد اعادة تسليط للأضواء على شخصية القيصر "إيفان الرهيب" الذي يعتمد على عكس ما توصل إليه أيزنشتاين في فيلمه بالعنوان نفسه حول دور رجل الدين في دعم الاستبداد، هناك أسلوب ولغة الإخراج التي تعتمد على حركة الكاميرا والتكوين والتشكيلات البصرية والأداء التمثيلي الفذ المبهر حقا، والموسيقى وإعادة تجسيد ديكورات الفترة وأزيائها.

ومن ضمن الجوانب الثرية التي يرسمها السيناريو جيدا ويجسدها المخرج بعبقريته الفريدة بالاستعانة بالطبع بامكانيات تصميم المناظر، ذلك الجزء الذي يحمل عنوان "ساحة ألعاب القيصر".

وفيه يستعرض القيصر أمام رعيته من سكان موسكو الكثير من وسائل وأساليب التعذيب المبتكرة التي صممها له أتباعه وعلى رأسهم الرجل ذو السحنة الشيطانية الذي يتلذذ بابداء ازدرائه للأسقف وأفكاره، ويتمرغ في مداهنة القيصر وتزيين الشر له، إلا أنه ينتهي بالموت حرقا بعد أن يسخر من القيصرة الشابة بدعوى أنه لا يردد سوى "الرؤية" المستمدة من صحيح الدين!

ويجسد الفيلم البراءة في طفلة صغيرة تعاني من اعتلال صحي يتبناها القيصر (في اطار تناقضاته الشخصية) ويمنحها صورة للمسيح والعذراء، لكنه لا يستنكف أن يأمر باطلاق دب متوحش لالتهام الأمراء الذين أدانهم بالخيانة. وعندما تحاول الفتاة وقف اعتداء الدب تلقى مصيرها في مشهد مثير للرعب. درس في الأداء ولعل الأداء التمثيلي في هذا الفيلم تحديدا يعد من أفضل ما شاهدناه في هذه الدورة حتى الآن بل ربما الأحسن والأرقى على الإطلاق.

إن أداء الممثل العظيم بيوتر مامونوف في دور القيصر نموذج مبهر للمدرسة الروسية في التمثيل: إنه يعبر بالعين وبحركة الرموش والجفنين، وارتجافات الشفتين، وتشنج اليدين، والتلوين في الصوت، والحركة الفسيحة الواثقة الموحية للجسد في الفراغ، كأعظم ما يكون الأداء السينمائي، وبحيث يتوارى تماما الفرق بين الممثل والشخصية. إنها مدرسة ستانسلافسكي في أرقى مستوياتها في التعبير بالتقمص.

وعلى الناحية الأخرى لا يقل أداء الممثل الكبير أوليج يانكوفسكي في دور فيليب، بصمته المعبر الآسر الحزين، وصموده بصبر على الألم، والتعبير عن الألم بنظراته وإيماءاته وليس بحركات جسده الخارجية.

يستخدم لونجين الإضاءة بحيث تجسد الظلال القاتمة في جوانب الصورة، ويحيط المناظر الخارجية بالضباب، ويعبر عن ذروة بلوغ المأساة قمتها في مشهد حرق الكنيسة التي يرفض رهبانها إعطاء جنود القصير جثة الأسقف.

يقول المخرج لونجين: "لقد كان إيفان الرابع رجلا مثقفا ذكيا، ربما أكثر الرجال معرفة وعلما في عصره، وكان كاتبا وشاعرا. ولكن ليس هناك ما هو أسوأ من الفنان وهو في السلطة. لقد كان وحشا، منع دخول روسيا عصر التنوير مبقيا عليها في العصور الوسطى. ونحن لازلنا نعيش في العصور الوسطى على نحو ما، حتى الآن"!

بالنسبة لفيلم "انتقام" كانت الأنظار مشدودة إلى أداء جوني هاليداي النجم الذي يتربع على عرش غناء الروك في فرنسا منذ أربعين سنة والذي سبق له التمثيل في بعض الأفلام من دون أن يثبت تفوقاً كممثل، وعليه لم ينتظر النقاد منه التألق بعد هذا العمر، لكن أداءه في هذا الفيلم الصيني كان مفاجئاً رغم بعض الافتعال في المشاهد الأولى. وهو يجسد في "انتقام" شخصية طباخ وصاحب مطعم فرنسي جاء إلى هونغ كونغ كي ينتقم لابنته التي تعرضت وعائلتها لاعتداء أسفر عن مقتل زوجها وولديها وإصابتها بالشلل. وفي رحلة انتقامه التي يصطحب فيها مجموعة من القتلة المأجورين يسترجع ماضيه حين كان بدوره قاتلاً مأجورا ومع تتابع الأحداث يسترجع الطباخ مهارة القاتل السابق في إطلاق النار ويتمكن من تحقيق انتقامه. الفيلم الذي أخرجه الصيني جوني تو يعرض الأحداث بشكل خاص وبدرجة من الكاريكاتورية المحببة تجعل الفيلم أنيقاً مسليا وأقرب إلى قصص المجلات المصورة، لكنه لا يرقى بالطبع إلى درجة التنافس في المسابقات الرسمية. 

موقع "الـ BBC العربية" في 18 مايو 2009

####

فيلمان بريطانيان في مهرجان كان السينمائي

أمير العمري/ كان ـ بي بي سي 

حتى الآن عرضت ستة أفلام في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة 62 لمهرجان كان السينمائي هي فيلم يمثل الصين هو "حمى الربيع"، وفيلمان من بريطانيا هما "حوض الأسماك" و"نجمة لامعة"، وفيلم "عطش" من كوريا الجنوبية والفيلم الأمريكي "الاستيلاء على وودستوك"، والفيلم الفرنسي "نبي".

فيلم "نجمة لامعة" للمخرجة النيوزيلاندية المتميزة جين كامبيون التي حصلت على السعفة الذهبية في 1993 عن "البيانو"، جاء في نظر الكثير من النقاد هنا، مخيبا لآمال.

نجمة لامعة

التساؤل الأولي الذي يخطر على البال بعد مشاهدة هذا الفيلم الذي كتبته مخرجته بنفسها هو: ما هي الحدود الفاصلة بين عالمي الأدب والسينما؟.

أو بالأحرى، هل يكفل الارتكان في السيناريو على شخصية مرموقة في عالم الشعر مثل بطل فيلمنا هذا الشاعر الانجليزي من القرن التاسع عشر جون كيتس، التوصل إلى فيلم جيد، ممتع، معاصر، يشبع أغوار الشخصية كما يمتع جمهر سينما اليوم؟

والسؤال التالي المنطقي هو: هل من الممكن أن تعتمد معالجة فيلم من هذا النوع على ترجمة الشعر الذي يكتبه جون جيتس أو التعبير عنه بالكلمات أو الحديث عنه كما في الحوارات الطويلة المرهقة بين بطلي الفيلم؟.

الرأي السائد أن السينما لها عالمها الخاص الذي ينسج أساسا من الصور، ومن اللقطات، ويعتمد على التكثيف أكثر من الإسهاب والشرح، كما أن المخرج-المؤلف عادة ما يسعى لتقديم "رؤية" شخصية معاصرة لوقائع وأحداث أصبحت الآن في ذمة التاريخ، وهي مدونة في كتب التاريخ الأدبي بتفاصيلها.

ولا يوجد مبرر لتقديمها في السينما سوى من خلال "رؤية" جديدة أو سباحة سينمائية حرة داخل عالم الشخصية الرئيسية المراد الحديث عنها، وليس من خلال "ترجمة" الشعر أو تلخيصه أو تقديمه للمشاهدين عبر علاقة الحب التي ربطت الشاعر بجارته المقدامة الجريئة "فاني بروان" التي كانت تصمم ملابسها بنفسها.

مشكل هذا الفيلم أنه يكتفي بالالتزام الحرفي بالمنهج القديم في معالجة هذا النوع من الأفلام، أي منهج الدراما التاريخية التي تهتم كثيرا جدا بالأزياء، وبمطابقة الديكورات والاكسسوارات، نمط الإضاء، وطريقة الحركة والأداء، أي باختصار، مراعادة المقاييس "الكلاسيكية" حرفيا.

هذا الجانب لاشك أن مخرجة الفيلم نجحت فيه، ولكن السؤال الذي لا يفتأ يطرح نفسه عليك: وماذا بعد، وأين رؤيتك الخاصة للموضوع ومغزاه؟ وما الجديد الذي يمكن اضافته إلى أفلام أخرى بريطانية كلاسيكية اكتسب سمعة عالمية كبيرة لعل أشهرها من هذا النوع نفسه "حجرة تطل على منظر طبيعي" لجيمس إيفوري (1985).

الفيلم لا ينجح في تجاوز قصة الحب الجميلة المأساوية بين الشاعر كيتس وجارته فاني التي تبدأ أولا على استحياء شديد في ظل التقاليد المتزمتة في الريف الانجليزي ومع رفض وتهكم بل ومحاولة تمييع من جانب رفيق كيتس وراعيه على نحو ما الاسكتلندي الساخر المتهكم دائما الذي يتورط هو نفسه في اقامة علاقة مع خادمة في منزل براون تحمل منه وتنجب له ولدا يضطر للاعتراف به.

علاقة الحب بين كيتس وفاني يتم التعبير عنها من خلال لمسات اليد والتهامس والأحضان المتباعدة وليس من خلال العلاقاة المكشوفة الملتهبة التي قد يتوقعها مشاهدو اليوم.

أما المشكلة الرئيسية هنا فهي أن الفيلم نفسه، بايقاعه البطيء وخلو حبكته من أي مفاجآت أو مشاهد خاصة تثير الخيال، تجعل من قصته التي تنتهي بموت الشاعر وتألم الحبيبة، قصة معروف سلفا ما ستنتهي إليه.

وأخيرا "نجمة لامعة" هو بالمناسبة عنوان قصيدة شهيرة كتبها جون كيتس لحبيبته في اطار تغزله فيها، وقد كانت لها أيضا اهتماماتها بالشعر ورغبة عميقة في فهم عالم الشعر والاقتراب الحسي منه.

وقد حاول هو أن يصف لها إحساسه بالشعر على صعيد يختلف تماما عن "الحسي" ويقرب من "الروحاني".

حوض الاسماك

أما فيلم "حرض الأسماك" للمخرجة الانجليزية أندريا أرنولد فهو شديد الاختلاف في موضوعه ومعالجته عن "نجمة لامعة" فهو يدور في بريطانيا المعاصرة، في أوساط الأسر المهمشة المنبوذة اجتماعيا التي تقطن مساكن الدولة التي تدنت وبلغت حالة من التدهور تعبر عما وصل إليه المجتمع نفسه حاليا.

بطلة الفيلم فتاة مراهقة في الخامسة عشرة من عمرها: مقتحمة، جريئة، تمتليء في داخلها بكل ذلك التوتر الذي يشوب فترة المراهقة والبحث عن الذات، كما يملؤها أيضا غضب على الواقع، ورفضا عنيفا لمحيطها الخالي.

إنها "ميا" التي تعيش مع أمها المنفصلة منذ زمن عن والدها، وشقيقتها الصغيرة "تيلر".

لكن أمها لا تبدي أي اهتمام حقيقي بالاقتراب من ابنتها، بل تعيش أسيرة رغبة مستمرة في الاستمتاع بالحياة، بالشراب، بالحفلات، بالصحبة، وبالجنس مع رفيقها الجديد "كونور" الذي يعمل حارسا في شركة للنقل.

"ميا" تبدو وقد سئمت الحياة نفسها حتى قبل أن تبدأ النفاذ إليها بشكل جدي.

إنها ترفض امها، ومحيط علاقاتها، كما ترفض الاختلاط بغيرها من الفتيات اللاتي تجد أنهن فارغات لا يصلحن لشيء، وترفض المدرسة التي انقطعت عنها وتقاوم بكل السبل العودة إليها تحت كل الضغوط.

وهي تهب بنفسها، تقتحم شقة خالية في إحدى البنيايات المجاورة، لكي ترقص على أغام الموسقى التي تحبها. ويتخذ رقصها الانفرادي هنا مرادفا للرغبة في التحرر والانطلاق بعيدا عن كل القيود.

لكن حياة ميا تنقلب عندما تجد لدى كونور، صديق أمها، كل تفهم ولطف، فهو يعاملها برقة، يتحاور معها، يبدي اهتماما بأمرها ويناقشها فيما تريد أن تفعل مستقبلا دون أي محاولة للقيام بدور الأب.

في البداية تقاوم ميا الاقتراب منه، لكنها تجد نفسها تدريجيا مشدودة إليه، ليس فقط كنموذج للأب البديل، بل وتبدأ في الإحساس نحوه بمشاعر أخرى أقوى وأكثر حسية.

وذات يوم، يقع المحظور بين الاثنين، وصاحبنا تحت تأثير الخمر، وتكون النتيجة أن يختفي كونور تماما خشية من عواقب تلك العلاقة "الخطيرة" مع فناة في الخامسة عشرة من عمرها.

تطارده ميا، وتذهب إلى منزله، وتتسلل أثناء غيابه لتكتشف أنه متزوج ومنفصل وإن لديه ابنة صغيرة، بل وتشاهد الأسرة الصغيرة التي تعود فجأة إلى المنزل أثناء وجود ميا فيه، فتهرب الفتاة وتكمن ثم تستدرج ابنته الصغيرة، وتحاول الانتقام من أبيها في شخصها وتكاد تقتلها غرقا في النهر القريب.

هذا فيلم ينتمي حرفيا للمدرسة الواقعية البريطانية الأصيلة، إلى أفلام عالم أفلام المخرج مايك لي: دقة السيناريو، تلقائية الأداء التمثيلي، السيطرة المدهشة على الإيقاع العام، التحرر في استخدام الكاميرا (المحمولة المتحركة المهتزة في الكثير من المشاهد)، والاختيار العبقري لمواقع التصوير بحيث تكون العلاقة حاضروة دوما بين الشخصية والمكان.

إنه على نحو ما، دراسة بالكاميرا في نمو وعي "فتاة تحت السن" بالعالم والدنيا، وبموقعها الذي ترفضه داخل الهامش: هامش المعزولين اجتماعيا، والمهمشين اقتصاديا في بريطانيا المعاصرة: البطالة، الفراغ، تشرد الشباب، المخدرات، التكدس في مجمعات سكنية عتيقة بنيت بفلسفة ورؤية أخرى فيما بعد الحرب العالمية الثانية ,اصبحت اليوم مرتعا لكل الأدران الاجتماعية دون حسب أو رقيب.

وتتعمد المخرجة عدم تصوير وجه الأم كثيرا بل تتجنب مواجهتها بالكاميرا، فهي شخصية تعيش في عالمها المغلق الحزين بسبب الوحدة رغم جمالها الذي يوشك على الزوال وخشيتها بالتالي من الزمن.

الأم موجودة في الصورة وغير موجودة في الفيلم إلا للتعبير عن ضعف تأثيرها الإيجابي القوي على الابنة-البطلة-المتمدة، التي تبحث عن عالم أكثر رحابة ربما لن تتمكن من الوصول إليه إلا بعد أن تترك تلك الضاحي الصغيرة وترحل مع صديقها المتشرد الحائر مثلها وإن كان لا يتمتع بنفس قوة الشخصية.

اهتزاز الكاميرا يعكس الاهتزاز القائم في الواقع، والاستخدام المتميز للاضاءة غير المباشرة طوال الفيلم يخلق ظلالا قاتمة حول الوجوه أحيانا، أو يجعل الصورة ضبابية كما هي أمام بطلتنا الصغيرة "ميا".

أما ميا نفسها فلعل أبرز عنصر في الفيلم هو تمثيل الممثلة الجديدة كاتي جارفيس التي اكتشفتها المخرجة من خارج عالم التمثيل الاحترافي- التي تناسب الشخصية تماما، تبتعد عن الافتعال والمبالغة، وتمزج السخرية والتهكم، بالرقة المفاجئة، قبل أن ترتد إلى توحشها الذي يخفي قلقها وخوفها من الدنيا كثر مما يظهر رغبة في الامتثال للعنف.

المخرجة أندريا أرنولد التي حققت مفاجأة بفوزها بجائزة لجنة التحكيم عن فيلمها الأول "الطريق الأحمر" في كان 2006، ربما تعود هذا العام فتحصل على جائزة رئيسية في كان 2009.. فمن يدري!.

موقع "الـ BBC العربية" في 17 مايو 2009

 
 

عرض تجاري لفيلم دكان شحاته في مهرجان كان

أجورا فيلم إسباني رائع ينطلق من مكتبة الإسكندرية ليتغنى بالتسامح

قصي صالح الدرويش من كان

بعد عرض الفيلم الفرنسي "لا تلتفت إلى الخلف" خارج المنافسة بحضور نجمتيه الجميلتين مونيكا بيلوتشي وصوفي مارسو في ساعة متأخرة من الليل، كان جمهور "كان" على موعد مع نجم فرنسي آخر هو المغني جوني هاليداي الذي لعب دور البطولة في فيلم "انتقام"  وهو فيلم مشارك في المنافسة على السعفة الذهبية، أما جمهور السينما العربية فأتيحت له الفرصة لمشاهدة عرض تجاري لفيلم "دكان شحاتة" بحضور نجومه محمود حميدة وهيفاء وهبي وعمرو سعد إلى جانب مخرجه خالد يوسف ومنتجه كامل أبو علي. وللأسف الشديد لم يكن موعد عرض "دكان شحاتة" ولا مكانه موفقاً، إذ تم عرضه بعد الظهر في قاعة جانبية مخصصة للعروض التجارية وكان من الأفضل عرضه في صالة أكبر مستقلة عن قصر المهرجان تتسع لعدد أكبر من المشاهدين. نقول للأسف الشديد لأن الفيلم جميل يستحق المشاهدة وهو يستمد أحداثه من قصة النبي يوسف الذي تحمل جور الكثيرين بمن فيهم أخويه من دون أن يحمل لهما بغضاً لأنهما من أسرته. وسنعود لاحقاً لتناول هذا الفيلم نقديا. 

بالنسبة لفيلم "انتقام" كانت الأنظار مشدودة إلى أداء جوني هاليداي النجم الذي يتربع على عرش غناء الروك في فرنسا منذ أربعين سنة والذي سبق له التمثيل في بعض الأفلام من دون أن يثبت تفوقاً كممثل، وعليه لم ينتظر النقاد منه التألق بعد هذا العمر، لكن أداءه في هذا الفيلم الصيني كان مفاجئاً رغم بعض الافتعال في المشاهد الأولى. وهو يجسد في "انتقام" شخصية طباخ وصاحب مطعم فرنسي جاء إلى هونغ كونغ كي ينتقم لابنته التي تعرضت وعائلتها لاعتداء أسفر عن مقتل زوجها وولديها وإصابتها بالشلل. وفي رحلة انتقامه التي يصطحب فيها مجموعة من القتلة المأجورين يسترجع ماضيه حين كان بدوره قاتلاً مأجورا ومع تتابع الأحداث يسترجع الطباخ مهارة القاتل السابق في إطلاق النار ويتمكن من تحقيق انتقامه. الفيلم الذي أخرجه الصيني جوني تو يعرض الأحداث بشكل خاص وبدرجة من الكاريكاتورية المحببة تجعل الفيلم أنيقاً مسليا وأقرب إلى قصص المجلات المصورة، لكنه لا يرقى بالطبع إلى درجة التنافس في المسابقات الرسمية. 

أما الفيلم الذي وقف جمهور النقاد يصفق له دقائق طويلة، فكان فيلم "أجورا" للمخرج  الإسباني اليخاندرو أمينابار وتم عرضه خارج إطار المنافسة في المهرجان. هوية الفيلم الإسبانية لا تتنافى مع حقيقة أنه فيلم عالمي بكل معنى الكلمة، فهو ناطق بالانجليزية وأحداثه  تدور في مدينة الإسكندرية إبان الهيمنة الرومانية في القرن الرابع الميلادي حين كانت الإسكندرية تضم بين سكانها خليطاً من الهويات والأديان والجنسيات ـ وكلمة "أجورا" تعني الساحة العامة أو مكان التجمع حيث السوق وحيث مركز الحياة الاجتماعية والسياسيةـ تلك المرحلة التي شهدت صعود المسيحية بعد فترة اضطهاد اتسمت بصراعات عنيفة بين المتزمتين والمتحزبين من مختلف الطوائف والأديان، ونتابع استناداً إلى هذه الخلفية السياسية والاجتماعية شخصية العالمة الفلكية والمثقفة هيباتي التي تحاول إنقاذ ما تراكم من معارف ومخطوطات في مكتبة الإسكندرية بغض النظر عن هوية كتابها الدينية أو العقائدية. هيباتي الوثنية المتسامحة وابنة الحكيم تيون تستعين في مهمة إنقاذ المكتبة بعدد من تلاميذها الذين يتنافس اثنان منهم لكسب قلبها وهما أوريست الشاب الشجاع ودافوس عبدها الممزق بين حبه لسيدته وبين فكرة اعتناق المسيحية التي قد توفر له الخلاص من العبودية.

 هيباتي المتسامحة التي دافعت عن المسيحيين حين كانوا أقلية أو حين جرى قمعهم تجد نفسها أسيرة المكتبة فيما يتصاعد العنف في الساحة خلف أبواب المكتبة ويطالب المتزمتون المسيحيون برجمها لأنها كافرة، لكنها تفضل أن تختار شكل نهايتها بمساعدة دافوس. 

في "أجورا" الساحة هاجم الوثنيون المسحيين ونكلوا بهم وهاجم اليهود المسيحيين ونكلوا بهم في مذبحة المعبد، ثم انتقم المسيحيون من اليهود وعذبوهم وقاتلوهم. وتجدر الإشارة إلى أن الفيلم يبرئ المسلمين من مكتبة الإسكندرية خلافاً لبعض الاتهامات السائدة في الغرب فمن المعروف أن الإسلام لم يصل مصر حتى القرن السادس الميلادي.  

 فيلم "أجورا" من الأفلام الضخمة تجاوزت ميزانيته الخمسين مليون يورو وكان اختيار مواقع التصوير موفقاً ينقل المشاهد إلى إسكندرية العصور القديمة بساحتها ومعبدها ومكتبتها. واستعان المخرج بمجاميع هائلة من الكومبارس، وتألق أبطال الفيلم وفي مقدمتهم الجميلة راشيل وايز التي أدت دور هيباتي والمعروف أن وايز ممثلة مكرسة لفتت الانتباه منذ بداياتها في فيلم "جمال مسروق" لبرتولوتشي، كما تألق ماكس مانجيلا في دور دافوس وأوسكار اسحق في دور أوريست، ناهيك عن مايكل لانسدال في دور تيون وهو نجم فرنسي من أصل بريطاني.

أجورا تميز على مستوى السيناريو وإدارة الممثلين والإيقاع المحكم والتصوير المبهر والديكور والملابس والموسيقى، فيلم جميل ممتع يحمل رسالة ضد التزمت مهما كان مصدره فيلم يحكي عن دورة التزمت والتسامح التي تحكم المجتمعات منذ العصور القديمة حتى الآن، حيث تدفع فئة نحو اضطهاد الأخرى فيدفع الثمن الكثير من الأبرياء والعلماء. فيلم يعرض الحدث من دون أن يحاكم ويترك للمشاهد فضاء التأمل. إنها لعنة الساحة حيث يتبع الرعاع ممن لا رأي لهم أصحاب الأصوات المرتفعة ويتبنون أفكارهم التي قد تكون مستندة إلى أسس صحيحة لكنها تفقد هذه الأسس مع التزمت والعنف. 

موقع "إيلاف" في 18 مايو 2009

 
 

ثلاثة أفلام إيراني وتايواني وأوسترالي في مهرجان «كان»

الموسيقى تترجم العالم والحضيض هو الأصل

نديم جرجورة/ «كان»

لم تكن عطلة نهاية الأسبوع الفائتة شبيهة بالأيام السابقة لها، على شاطئ «بولفار كروازيت»، في المدينة الفرنسية الجنوبية «كان». فبعد يومين ماطرين، ارتدت السماء لونها الأزرق الصافي، وأطلّت الشمس بحرارتها المرتفعة، دافعة الناس إلى التمدّد على الرمل، بعضهم أشباه عراة، وجاعلة الاحتفال بالعام الثاني والستين للمهرجان السينمائي الأهمّ في العالم مزيجاً من الفن والعيش والتواصل المتحرّر من أي حاجز أو ارتباك. وبعد انطلاقة جميلة للدورة الحالية هذه، استمرّ محبّو السينما في البحث عن مقاعد تتيح لهم مشاهدة أنماط متفرّقة من العناوين الحديثة الإنتاج، التي تُعرض للمرّة الأولى في العالم بعد إنجازها، والموزّعة على المسابقة الرسمية والبرامج الأخرى، التي لا تقلّ أهمية عن الفئة المخصّصة بالمنافسة الحادّة، أحياناً، للحصول على «السعفة الذهبية»؛ على الرغم من أن بعض النقّاد رأى أن أفلاماً مختارة لبرنامج «نظرة ما» مثلاً تستحقّ التنافس على هذه الجائزة الأولى، من دون أن ينسى الأهمية الجمالية والفنية والثقافية للبرنامج المذكور نفسه، مشيراً إلى الفيلم الإيراني الجديد لبهمن غوبادي «لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية» مثلاً، و«شمشمون ودليله» للأوسترالي وارويك ثورنتون أيضاً، اللذين نالا تصفيقاً حادّاً من النقّاد والصحافيين الذين شاهدوهما في اليومين الفائتين.

بين التلاعب الجميل للطقس بزائري «كان»، والأمسيات المفروشة على سهر ومتابعة ليلية لأفلام يكاد عددها لا ينتهي؛ وبين بحث عن جديد بصري ومتعة تتيح للمرء أن يكتشف معنى أن يكون المهرجان احتفاءً حقيقياً بالحياة والسينما معاً؛ تمضي أيام الدورة الثانية والستين لمهرجان «كان» بشكل عادي (قياساً إلى عادته السنوية في تحويل المدينة إلى حيّز للإبداع المتنوّع)، مع أن عدد القادمين إلى المدينة ومهرجانها تضاءل، بشكل ملحوظ، عن أعدادهم في الدورات السابقة، كما أكّد زملاء وأصدقاء عديدون تابعوا هذه الدورات، وباتوا قادرين على إقامة مقارنة جدّية وواقعية. مع هذا، بدت أفلامٌ عدّة مثيرة للنقاش النقدي، ومحرّضة فعلية للتمتّع بالصُوَر البديعة التي تلتقط نبض الحياة وتوتراتها، ومعاني الانفعال والعشق والعنف والجريمة، وتفاصيل العيش على الحدّ الواهي للموت، ومغزى المواجهة الدائمة والحتمية بين التنوير والظلامية المتمثّلة بأصولية دينية أو بتزمّت اجتماعي. بدت أفلامٌ عدّة انعكاساً للمأزق الإنساني وسط الانكسار والخيبة، أو تصويراً بديعاً للتحدّي والانبعاث من داخل البشاعة إلى أقصى الجمال.

العالم السفلي

يُمكن القول، باختصار شديد، إن توغّل الفيلم الجديد للإيراني بهمن غوبادي، «لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية» (بحسب الترجمة الإنكليزية للعنوان الفارسي)، في عالم موسيقى «أندرغراوند» في إيران اليوم، أفضى إلى تعرية جانب أساسي من مأزق المجتمع الإيراني القابع في سطوة السلطة السياسية/ الدينية، بحراكه التحرّري الذي يحاول شباب إيرانيون صنعه عبر الموسيقى والغناء. ذلك أن هذين الفنين يعكسان، بألحانهما وكلماتهما وأنغامهما وعشق الشباب لهما، حجم التمزّق الداخلي في البنية المجتمعية كما في الذات الإنسانية. في حين أن الفيلم نفسه مرآة صادقة وشفّافة وحيوية وقاسية لهذا البؤس القاتل، من دون التورّط الفني بالتنظير أو الثرثرة البصرية، خصوصاً أن اللغة المستخدمة في تحقيقه حافظت على بساطة جميلة غلّفت عمق الغضب والتوتر والارتباك.

شكّل الفيلم صدمة جميلة وقاسية، لاستعانته بالأسلوب العفوي والبسيط الذي اشتهرت به الغالبية الساحقة من الأفلام الإيرانية الخارجة على النظام الإنتاجي السائد والمرتبط بالمؤسّسات الحاكمة؛ من دون أن يفقد عمقه الدرامي والجمالي في قراءة اللحظة الإنسانية الآنية. شكّل محطّة مثيرة للتساؤل عن الواقع الحالي في إيران المرتبكة أمام تحوّلاتها القاسية وانغلاقها السياسي/ الديني وتحدّيها العالم، لأنه ناقش واقعاً شبابياً إيرانياً، يحتفل بالموسيقى والغناء احتفاله بالعيش والحلم بالحرية والانعتاق من وطأة الظلم الحياتي والاجتماعي الذي يقيم فيه هؤلاء الشباب. شكّل لحظة استكشاف جديد للمشهد الإيراني، على الرغم من الحصار المضروب على البيئة المجتمعية وناسها، لأن المخرج ترك عدسة الكاميرا تلتقط تفاصيل القصّة الحقيقية، معيداً صوغ الفيلم في غرفة المونتاج، كي يتلاءم وموقفه من الحدث، أو كي يُقدّم الحدث نفسه كما هو، من دون أن يستقيل من دوره كسينمائي فذّ وجميل في تصويره البؤس والألم والتمزّق والرغبة القصوى في التحرّر من سطوة الحصار المضروب على شباب إيرانيين، وجدوا في الموسيقى والغناء (راب) منفذاً للتنفيس عن الاحتقان الخطر في صدورهم وعقولهم وانفعالاتهم.

في هذا الفيلم، اختار غوبادي نمطاً وإيقاعاً مختلفين عن أفلامه السابقة، لأنه حاول الاقتراب قدر المستطاع من إيقاع ودينامية الحياة المتقلّبة والمتحرّكة في طهران. أراد أن يُظهر العاصمة من منظار مختلف. الموسيقى، خصوصاً نصوص الأغاني أوحت إليه إيقاع الفيلم: «أعشق الموسيقى. لو لم أصبح مخرجاً، لكنت أصبحت موسيقياً أو مغنياً. أتقن عزف موسيقى «كوبايي»، وأصدقائي يقولون إن صوتي ليس سيئاً. أنا الآن بصدد تسجيل ألبومي الأول. كنتُ قلقاً جداً أثناء التصوير، لأني لم أكن أملك تصريحاً به. معاينة أمكنة التصوير والتصوير نفسه فيما بعد تمّا بواسطة ثلاث دراجات نارية. بدأت العمل من دون تحضير مسبق. كان عليّ تصوير المشاهد بسرعة، وفي حالة طوارئ جدّية، كي لا ينتبه رجال الشرطة إلينا، فريق العمل وأنا، أثناء اشتغالنا. لديّ شعور أني، في سبعة عشر يوماً فقط (مدّة تصوير الفيلم) تقدّمت في العمر سبعة عشر شهراً. إنها شروط مرعبة تلك التي نمرّ بها أثناء إنجاز أفلامنا».

وودستوك

عاد المخرج التايواني آنغ لي إلى نهاية الستينيات المنصرمة (إلى العام 1969 تحديداً)، باحثاً عن جذور أحد أبرز النشاطات الفنية في الولايات المتحدّة الأميركية، الذي أسّس منعطفاً حقيقياً في المسار التاريخي للمجتمع الأميركي، بعد اندلاع أحداث أيار 1968 في فرنسا، والتحوّلات الاجتماعية والثقافية والإنسانية والحياتية التي زُرِعت في قلوب ملايين البشر وعقولهم وانفعالاتهم. أراد أن يستكشف آلية التأسيس لهذا التحوّل، عندما اختار شخصية إليوت تيبر (ديمتري مارتن)، الشاب الأميركي اليهودي المتخصّص بهندسة الديكور الداخلي، المقيم مع والديه والمرتبك جرّاء عيشه لحظة تحوّل حياتي وإنساني من دون أن يتّخذ القرارات الملائمة لطموحاته وأحلامه، محوراً لفيلم مصنوع بتقنية التوثيق، ومغلّف بأسلوب روائي سردي، لا يخرج على الخطّ التاريخي للأحداث، ولا يغرق في التسطيح، بل يحافظ على المعطيات الواقعية كي يرسم ملامح مرحلة وتفاصيل ذاكرة لا تزالان فاعلتين، إلى حدّ ما، في الوجدان الجماعي للمجتمع الأميركي على الأقلّ. ذلك أن «اكتساح وودستوك» (المسابقة الرسمية) شهادة بصرية عن معنى المواجهة السلمية لملايين الشباب الأميركيين ضد الحرب والسياسة، والدفاع عن الحرية والجنس والتحرّر المطلق من قيود البيئة الغارقة في الدم والعنف والموت. لم يُصوّر الحدث نفسه، بل حفر في التفاصيل المتفرّقة التي بدّلت وجه أميركا والتاريخ، في ظلّ حرب فيتنام، واحتدام النزاع القائم بين إسرائيل والفلسطينيين إثر هزيمة الأيام الستة (1967) وارتفاع حدّة المواجهة الصامتة في حرب الاستنزاف بين إسرائيل ومصر، بالتزامن مع إحدى أهم الرحلات الأميركية، حينها، إلى القمر. فهذه كلّها مُقدَّمة في المشاهد الأولى من الفيلم، الذي يدخل سريعاً في الحياة اليومية المملّة في المدينة الأميركية «غرينويتش فيلاج» القريبة من نيويورك، قبل أن تنقلب الأمور كلّها رأساً على عقب.

والحدث، إذ رسم معالم التحوّل الجذري في بنية التفكير الشبابي وآلية عيشهم اليومي منعتقين من أي قيد، عُرف باسم «وودستوك»، تلك الحفلة الموسيقية الصاخبة التي دفعت كثيرين إلى التعرّي، بالمعنيين المادي والروحي، من أي صنمية أو تبعية أو انسحاق أمام أي قيد أو تقليد. والتحوّل، إذ جعل وجه أميركا يتغيّر، شبابياً على الأقلّ، رُسم بشفافية صادقة في فيلم لم يغرق في التنظير، ولم يسقط في الأدلجة، ولم يقع في المحظور الخطابيّ الساذج. أبعد آنغ لي حدث الحفلة الموسيقية/ الغنائية نفسها عن المشهد، لأنه أراد تقديم صورة مختزلة وواقعية ومكثّفة (درامياً وفنياً) للمخاض الذي أفضى إلى لحظة التحوّل، إذ وجد في المخاض طريقه إلى استكشاف المسار المطلوب للانتفاض ضد طغيان الفساد والقمع والجهل والخيبات. وهو، إذ شدّد على القطيعة القائمة بين إليوت ووالديه، أو بالأحرى بين إليوت ونفسه تحديداً، أراد أن يعيد صوغ الحكاية السابقة للحدث من خلال شخصية الشاب الذي لعب دوراً أساسياً في صنعه.

شمشمون ودليله

هنا أيضاً، يُمكن القول إن الفيلم الروائي الطويل الأول هذا للأوسترالي وارويك ثورنتون، صورة قاسية عن حجم التمزّق الإنساني، والاستسلام للخيبة، والتقوقع في العزلة والقهر. فالقرية المرمية في اللامكان حيز طبيعي للروتين القاتل المقيم في طرقاتها الرملية وغبارها الفاسد ووسخها المقزّز، وناسها القلائل الذين يميلون إلى صمت مدوّ وعادات بدوا كأنهم لا يُتقنون غيرها. والشخصيتان الأساسيتان، شمشون (روان مكنمارا) ودليله (ماريسّا غيبسون)، متورّطتان حتّى الموت البطيء في المناخ العابق بالضجر والضيق والانهزام والتبعية. في حين أن الحدث الدرامي لم يرو قصّة ولم يرسم معالم أناس أو بيئة، بقدر ما أتقن تحويل العمل إلى حالات إنسانية متداخلة ومتصادمة بعضها مع البعض الآخر، من خلال المسار الحياتي لهاتين الشخصيتين نفسيهما. والأجمل من هذا كلّه، غياب الحوارات، لإضفاء مزيد من القسوة والألم الذاتي على المُشاهد وعلاقته بالفيلم، كي تكتمل لعبة السينمائي في إحكام قبضته على النصّ والصُوَر والمشاهدين معاً.

في مئة دقيقة، يذهب الثنائي العاشق بصمت إلى تخوم العذاب الداخلي والبحث عن مخرج من ورطة العدم وقسوة الطبيعة وفراغ الدنيا ووجع الحياة. يذهب إلى الاستسلام الأقصى للدمار الداخلي، لأنه ظنّ أن النزول، بطريقة حادّة، إلى جحيم الأرض، سيكون ملاذاً له من بشاعة البيئة المقيم فيها، من دون أن يدري أن هذه البشاعة قادرة على التحوّل إلى جمال ما، طالما أن الحبّ حاضرٌ، وطالما أن الاختبارات اليومية، وإن كانت قليلة، متمكّنة من دفعه إلى تبديل أسس حياته. في مئة دقيقة، ساد الصمت على الشاشة الكبيرة، كسيادته على الحياة وأنماطها، والتغييرات وأشكالها. فالعبور في مطهر الأرض، والأرض مطهر من الجحيم الذي تصنعه هي أيضاً، محتاجٌ إلى تضحيات شارفت، في أحيان عدّة، تخوم الموت، إن لم يكن الموت نفسه. والولادة الجديدة نابعة من الغرق في أسفل الدنيا، قبل أن يتحقّق الانعتاق من القذارة.

بدت صناعة «شمشون ودليله» بسيطة للغاية: كاميرا تلتقط الروتين اليومي لمجموعة من الناس، من دون ملل. إضاءة تعيد رسم الوجوه والملامح نفسها، كأنها ترغب في نسج خلفياتها لإكمال صورتها. توليف قاس لا يملّ من تكرار الحالات/ اللقطات نفسها، تأكيداً على تكرار الحياة نفسها قبل أن يُقدم المرء على كسره والتحرّر منه. والقصّة، إذ تختفي في نسيج الحالة بدلاً من أن تكون ركيزة درامية للفيلم، تحفر عميقاً في الذات الإنسانية وتحوّلاتها، وتتوغّل في جذور الخلق، لأنها سردت محنة الإنسان في بؤسه، قبل أن يعثر على خلاصه.

السفير اللبنانية في 18 مايو 2009

 
 

«نجم» جين كامبيون يسطع على الكروازيت

«كان 2009»: أربع نساء أنقذن أيامه الأولى

كان ــ عثمان تزغارت

كادت الدورة الـ62 تبدو متثائبة في انتظار المواعيد الكبرى. لكنّ صاحبة «البيانو» قلبت المعادلة واستحضرت على ضفاف المتوسّط طيف الشاعر الرومنطيقي جون كيتس. أما صوفي مارسو ومونيكا بيللوتشي فمثّلتا تحوّلات الجسد والهويّات الجنسية الملتبسة، فيما تناولت كارين ييدايا العنصريّة الكامنة في اللاوعي الإسرائيلي

الدورة الـ62 من «كان» تدخل الآن مرحلة الإثارة. وفي انتظار أفلام لارس فون تراير وكين لوتش التي ستعرض اليوم، وبيدرو ألمودوفار وماركو بيلّوكيو (غداً)، وألان رينيه وكوينتن تارنتينو (الأربعاء)، فإنّ جردة سريعة للأفلام المعروضة حتى الآن تُبيّن أنّ سمة الدورة نسوية بامتياز. في المسابقة الرسمية، تألّقت أفلام جين كامبيون (النجمة الساطعة) وأندريا أرنولد (حوض الأسماك). أما خارج المسابقة، فاستقطبت أفلام نسائيّة عدة الأضواء، بينها «لا تلتفت» لمارينا دي فان، و«يافا» لكارين ييدايا. بينما كانت المفاجأة الأداء المبهر الذي قدّمته آبي كورنيش في فيلم جين كامبيون.

المحطة الأبرز حتى الآن كانت «النجمة الساطعة» للنيوزيلندية جين كامبيون، المرأة الوحيدة التي نالت «سعفة ذهبية» في «كان» (البيانو ـــــ 1993). وقد سجّلت هذه السنة عودة مدوّية بعدما خيّبت الآمال في «كان 2003» بفيلمها Into the Cut. هذه السنة، ساد انطباع، فور عرض «النجمة الساطعة»، بأنّ كامبيون سجّلت نقاطاً أساسيّة ضدّ ثلاثة سينمائيين، هم لارس فون تراير وتارانتينو وكين لوتش الذين يسعون مثلها للحصول على «السعفة الذهبية» مرةً ثانية.

في هذا الفيلم الذي يعبق بالشجن والشاعرية، صوّرت كامبيون الشهور الأخيرة في حياة الشاعر البريطاني جون كيتس (1795 ـــــ 1821) الذي يعتبر من علامات الأدب الرومنطيقي، عبر قصة حب تراجيدية جمعته بعشيقته فاني براون. وقد اقتُبس عنوان الفيلم من قصيدة شهيرة كانت آخر ما كتبها لها قبل أن يموت بمرض السل في روما، وهو في السادسة والعشرين. حتى الآن، يمكن القول إن الممثلة آبي كورنيش التي تقمّصت دور الحبيبة في الفيلم (راجع الكادر) ستكون من الاكتشافات الكبرى هذا العام. وأجمع النقاد على أنّ العمل الذي اتّسم بلغة تشكيلية بالغة الجمال ـــــ تعطي عمقاً بصرياً لمضمونه التراجيدي ـــــ يُعدّ أفضل ما قدّمته كامبيون منذ «البيانو».

من جهتها، قدّمت البريطانية أندريا أرنولد في «حوض الأسماك» ـــــ ضمن المسابقة ـــــ عملاً آسراً اتسم برؤية إخراجية محكمة. قد لا تكون قصته جديدة، إذ تتعلق بتيمة جرى تناولها مراراً على الشاشة: تسليط الضوء على أزمة الهوية لدى مراهقة تحاول تحقيق ذاتها والانعتاق من ضغوط محيطها العائلي والاجتماعي. لكنّ الفيلم اكتسب تميّزه من لغته البصرية المختزلة ورؤيته الإخراجية المينيمالية التي حملت بصمات واضحة من المعلم التركي نوري بيلج شيلان. ضمن البرمجة الرسمية، لكن خارج المسابقة، كان اللافت شريطاً لمارينا دي فان «لا تلتفت». العمل يعدّ أول مشروع مشترك بين صوفي مارسو ومونيكا بيللوتشي، أعطى بعداً حيوياً للمهرجان الذي بدا مستغرقاً في سباته. فقد شهد الدرج الشهير للمهرجان، بسجادته الحمراء، حشداً قياسياً لدى عرض «لا تلتفت»، في دورة تتسم بالفتور، حتى لحظة كتابة هذه السطور على الأقلّ. هذا النجاح الاستعراضي الذي حقّقه الشريط بفضل نجمتيه، لا يجب أن يُنسينا أن مخرجته أبعد ما تكون عن السينما التجارية. مارينا دي فان خرجت من معطف سينما المؤلف الفرنسية، وشهدت بداياتها مع فرانسوا أوزون، ثم قدّمت عام 2002 باكورتها «في جلدي» الذي صوّر قصة حب سادية، مغرقة في الغرابة والسوداوية. في عملها الجديد، تواصل استكشاف تيماتها الأثيرة: تحوّلات الجسد والهويّات الجنسية الملتبسة، عبر كاتبة فصامية تشترك صوفي مارسو ومونيكا بيللوتشي في تقمّص الوجهين المتناقضين لشخصيتها الإشكالية.

أما الفيلم النسائي الرابع، فعُرض ضمن تظاهرة «نظرة ما» (خارج المسابقة الرسميّة، علماً بأن «الكاميرا الذهبيّة» تكافئ أحد أفلام «نظرة ما» و«أسبوعي المخرجين»). إنّه «يافا» للإسرائيلية كارين ييدايا. اكتشفنا هذه المخرجة التي تجاهر بمناهضتها للصهيونية، حين قدّمت عملها الأول «أور» وقد أحرز «الكاميرا الذهبية» (2004). ويتذكّر كثيرون نداءها إلى العالم خلال تسلّم جائزتها: «متى سيفهم الغرب أن أفضل خدمة يمكن إسداءها لنا، نحن الإسرائيليين، هي منعنا من مواصلة الاحتلال؟».

يروي الفيلم قصة حب محرّمة بين فلسطيني وإسرائيلية. ومن خلالها تكسر ييدايا الصورة المروّجة في السينما الإسرائيلية عن يافا (تحديداً أفلام عاموس غيتاي)، بوصفها الأكثر «تسامحاً واختلاطاً»، حيث يتعايش «الوافدون» الإسرائيليون مع جالية هي الأكبر في أراضي فلسطين التاريخية، من أهل المدينة الأصليين، أي فلسطينيي الـ48. تدور أحداث الشريط في ورشة تصليح سيارات تديرها إسرائيلية تدعى روفين، برفقة ابنها ماير وابنتها مالي، ويشتغل فيها فلسطينيان هما حسن وابنه توفيق، وتعاملهما صاحبة الورشة كأفراد العائلة. لكنّ قناع التسامح سرعان ما يسقط بعدما تنشأ علاقة حب محرّمة بين توفيق ومالي. هنا تعود إلى الظهور الذهنية العنصرية التي تتحكم في قطاعات واسعة من الإسرائيليين ذوي الأفكار اليسارية ممن يزعمون ظاهراً أنهم يؤيدون السلام ويعترفون بحقوق الفلسطينيين، لكنّهم في أعماقهم يتماهون مع أسطورة «النقاء العرقي» التي تنادي بها الصهيونية.

الأخبار اللبنانية في 18 مايو 2009

####

آبي كورنيش... هل تفوز بجائزة أفضل ممثّلة؟

لم تكن الأوسترالية آبي كورنيش (1982) تتصوّر أنها ستستقطب الأضواء يوماً فوق البساط الأحمر الشهير في «مهرجان كان». فقد بدأت عارضة أزياء في سن الثالثة عشرة، ولفتت أنظار الأوساط الفنية بسرعة، ما فتح أمامها أبواب التمثيل. هكذا، اختارت التلفزيون، وأدّت بطولة أفلام ومسلسلات أوسترالية عديدة، لعلّ أشهرها «مستشفى الأطفال» (1997). لكن ذلك الخيار لم يكن موفّقاً، لأنه أغلق في وجهها لاحقاً أبواب العمل السينمائي، لأنّ أوساط الفن السابع تنظر دوماً بفوقية إلى ممثلي التلفزيون وممثلاته.

لذا لم تحظ آبي ـــــ على رغم جمالها الساحر وحضورها المميز أمام الكاميرا ـــــ بأي فرص للتمثيل في السينما، إلى أن اختارها ريدلي سكوت، بالمصادفة، لأداء دور صغير في فيلمه «موسم خصب» (2007).

ذلك الشريط تقاسم أدواره الرئيسية الأميركي راسل كرو والفرنسية ماريون كوتيّار.

وإذا بذلك الدور الصغير يلفت انتباه السينمائي شيكار كابور، فيقرر بدوره منحها دوراً صغيراً في فيلمه «إليزابيث، العصر الذهبي» (2007) الذي أدّت بطولته النجمة كيت بلانشيت.

لكن آبي كورنيش تعتبر أن بدايتها الحقيقية في السينما هي دور البطولة الذي أسندته إليها جين كامبيون في «النجمة الساطعة» الذي يشارك حالياً في المسابقة الرسمية في مهرجان كان السينمائي».

هنا، تؤدي آبي كورنيش شخصية فاني براون، الحبيبة السرية للشاعر جون كيتس.

وتقول: «أنا سعيدة بالحفاوة التي استُقبل بها الفيلم هنا في كان... وما أسعدني أكثر ليست إشادة النقاد بأدائي كممثلة، بل استحسانهم للفيلم، واعتباره أفضل أعمال جين كامبيون منذ «البيانو».

من خلال عملي معها على هذا الفيلم، أُبهرت بعبقريتها الفنية وببساطتها وتواضعها في الوقت ذاته. لذا، أتمنى من كل قلبي أن تنال «سعفة ذهبية» ثانية عن هذا الفيلم، لأنها تستحقها وأكثر».

على الرغم من أنّ لعبة التكهنات بخصوص «السعفة الذهبية» تبدو أكثر تعقيداً هذه السنة من أي دورة أخرى من دورات المهرجان، إلا أنّ غالبية النقاد يرجّحون بأن أول ما ستفكر فيه لجنة التحكيم، إذا أحجمت عن إدخال كامبيون إلى النادي الضيق لـ«أصحاب السعفتين»، هو منح آبي كورنيش جائزة أفضل ممثلة عن أدائها المبهر في هذا الفيلم.

الأخبار اللبنانية في 18 مايو 2009

####

تحفة بالأبيض والأسود... من جنى الكروم هكذا استعاد كوبولا «شرفه الضائع»

عثمان تزغارت 

فيلم رذله جيل جاكوب فصار حدث المهرجان. Tetro هو التجربة الأكثر اكتمالاً في مسيرة صاحب «العرّاب» الذي يسيطر على أدواته، عبر رؤية إخراجية مبهرة

ربّ فيلم رذله جيل جاكوب فصار حدث المهرجان. Tetro هو التجربة الأكثر نضجاً واكتمالاً في مسيرة صاحب «العرّاب» الذي يحكم السيطرة على أدواته، عبر رؤية إخراجية مبهرة حين أعلن فرانسيس فورد كوبولا أنه يعتزم تصوير فيلم ملحمي مستوحى من سيرة ثلاثة أجيال في عائلته، توقّع كثيرون أن ينجرّ صاحب Apocalypse Now نحو سقطة مدوّية على غرار العثرات المتكررة التي اشتهر بها، طوال مسيرته الحافلة بالتحوّلات التي جعلته يُلقّب بـ«نابليون السينما» حيناً، و«نيرون الفن السابع» حيناً آخر! لذا، تخوف كثيرون من أن يسبب هذا المشروع الملحمي ذو المنحى البيوغرافي سقطة جديدة تقضي نهائياً على أحلام كوبولا بالعودة إلى واجهة السينما العالمية. وقد تزايدت هذه المخاوف حين أُعلن برنامج هذه الدورة من «مهرجان كان»، واتّضح أن الفيلم الجديد لصاحب «العرّاب» لم يُقبل في المسابقة الرسمية، ما أثار حفيظة كوبولا، فقرّر عرضه في افتتاح «أسبوعي المخرجين» التي أُطلقت قبل ربع قرن كتظاهرة موازية للمهرجان ثم تحوّلت إلى «ضرّة» تنافس البرمجة الرسمية.

اعتقد بعضهم أن استبعاد الشريط يعني أنه غير ناجح. بينما رجّح آخرون أن السبب يعود إلى تدهور العلاقة بين كوبولا ورئيس المهرجان جيل جاكوب. وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده على هامش عرض «تيترو» في «أسبوعي المخرجين»، لم يعلّق كوبولا على ما رُوِّج عن خلافه مع جاكوب. قال إنّه رشّح الفيلم للمسابقة، لكنّ إدارة المهرجان اقترحت تقديمه في عرض خاص خارج المسابقة، ما دفعه إلى سحبه، وعرضه في «أسبوعي المخرجين» «نوعاً من التحدي» كي يُتاح لرواد المهرجان مقارنة عمله بالأفلام التي قُبلت في المسابقة الرسمية. وقد كان كوبولا محقّاً. إذ أجمع كل من شاهد الفيلم على أنّه يعد الأكثر نضجاً واكتمالاً في مسيرته. وهو هنا لا يتحدى إدارة «مهرجان كان» فحسب، بل يكسر كل المعايير التي تتحكم في الأوساط السينمائية العالمية، وفي مقدّمها الاستوديوات الهوليودية التي تربطه بها عداوة متجذّرة منذ نصف قرن.

في Tetro، يستعرض كوبولا وقائع بيوغرافية في حياة عائلته، ومنها العداوة التي اتسمت بها علاقة والده بعمّه تيترو الذي يحمل الفيلم اسمه. وكان عمّه «عرّاب» العائلة قد فتح أمامها فرصة الهجرة إلى أميركا. وكان طريفاً أنّ كوبولا ـــــ حين سُئل عن تشابه بعض أجواء عمله البيوغرافي مع عوالم ثلاثيته المافياوية «العرّاب» ـــــ أجاب ضاحكاً: «حين أنجزت «العرّاب»، لم أحتج إلى مقابلة أي قادة عصابات، بل استوحيت الشخصيات من عمّي تيترو وإخوته».

يسلّط كوبولا الضوء في عمله على جوانب خفية في صلاته بوالده الذي كان عازفاً شهيراً في «أوركسترا نيويورك السيمفونية» وورث عنه كوبولا أناه الفنية المنتفخة، إذ لم يتقبّل كارمين كوبولا فكرة دخول ابنه فرانسيس الوسط الفني، وظل يكرر حتى وفاته أن «العائلة لا تتسع سوى لعبقرية فنية واحدة»! لكن الأهم في «تيترو» ـــــ ككلّ أفلام كوبولا ـــــ تلك اللغة البصرية الساحرة والرؤية الإخراجية المبهرة. ويقول كوبولا إنه استطاع أن ينجز هذا الفيلم مستقلاً عن أي ضغوط، لأنه موّله (20 مليون دولار) من عائدات النبيذ الذي يحمل اسمه، والذي تفرّغ للاعتناء به طوال عشر سنوات، ما سمح له بأن يقدم شريطاً يحوي خلاصة رؤاه الفنية وتصوّره لما يجب أن تكون عليه السينما في عالمنا المتحول.

والمذهل أن كوبولا جرّب مرارة الفشل سنة 1984، بسبب إصراره على تصوير فيلمه Rusty James بالأبيض والأسود، ما جعل الجمهور يعزف عن مشاهدته. وبسبب تلك السقطة، ظل مديوناً طيلة 15 سنة. لكنّ ذلك لم يمنعه من معاودة الكرة، حيث صوّر «تيترو» بالأبيض والأسود أيضاً! وقال خلال مؤتمره الصحافي: «قنوات التلفزيون التجارية هي التي تضغط على شركات الإنتاج لعدم تصوير أفلام بالأبيض والأسود. والشركات المنتجة، بما فيها الاستوديوات الهوليودية الكبرى ترضخ لهذه الديكتاتورية التلفزيونية. أما أنا، فلا يهمّني شبّاك التذاكر. في سنّي، لم أعد في حاجة إلى الكسب المادي. أنا سعيد وسط كرومي وأقبية نبيذي»!

الأخبار اللبنانية في 18 مايو 2009

 
 

نجاح باهر لأفلام الرعب والكوميديا في مهرجان كان

فؤاد البهجة/ بي بي سي- مهرجان كان

دخل مهرجان كان السينمائي مراحله الحاسمة بعرض أفلام لمخرجين من الوزن الثقيل يرشحهم النقاد والمتابعون للفوز بجائزة السعفة الذهبية التي يمنحها المهرجان بعد حوالي أسبوعين من التنافس.

ومن بين هذه الأفلام " انتي كرايست" والذي يصنف في خانة أفلام الرعب وهو من اخراج الدنماركي، فون لارس تريير، وفيلم "لوكينج فور اريك" (البحث عن اريك) وهي كوميديا اجتماعية للمخرج البريطاني كين لوتش.

وعادة ما تحقق أفلام الرعب والكوميديا درجة امتاع عالية لدى عشاق السينما لا سيما عندما تحمل توقيع أسماء كبيرة في هذا المجال. ولا يستبعد النقاد في كان ان يفوز أحد اثنين من الافلام المذكورة والتي عرضت مع دخول المهرجان مراحله الحاسمة بالجائزة الكبرى للمهرجان.

مواجهة الذات

وكعادته لم يكن المخرج لارس فون ترييرصادما فقط في اختيار موضوعاته ولا طريقة تناولها بل أيضا في تصريحاته التي تلت عرض فيلمه أنتي كرايست"، حيث رفض بداية الحديث عن دواعي اختيار موضوع الفيلم ثم عاد ليقول ان فكرة تصويره جاءته بعد اصابته بنوبة اكتئاب قرر على اثرها الدخول في هذه التجربة لتحقيق متعة ذاتية.

وقال المخرج الدانمركي في مؤتمر صحافي: " لا يكون لدي الاختيار في الغالب. انها يد إلهية. وأنا أفضل مخرج في العالم."

وأضاف قائلا: "البداية كانت عبارة عن نوبة اكتئاب أصابتني. ولكي أستعيد عافيتي، قررت اخراج فيلم سينمائي وليس بالضرورة هذا الفيلم.

ويتحدث الفيلم عن زوجين يسعيان للانعزال في دروب موحشة لاصلاح ما تحطم بينهما ويبدأ بلقطات غاية في الاتقان تصورهما وهما يعيشان التحاما جسديا وروحيا على ايقاع الموسيقى الكلاسيكية، لتتعاقب عليهما بعد ذلك "فصول" مأساوية تجلت في مواجهتهما للطبيعة أولا ثم للطبع الإنساني في قسوته وعنفه. وبحسب النقاد فان الفيلم يكشف قدرة هذا المبدع على الولوج إلى أعمق مكان في الإنسان إلى طبيعته.

كليب

وياتي فيلم انتي كرايست بعد ثلاث سنوات عن الفيلم الأخير للمخرج لارس فون تريير والذي يحمل عنوان "ديريكتورير فور هيت هيل". وفي الورقة التعريفية للفيلم قال المخرج: "أريد أن أدعوكم لإلقاء نظرة ثاقبة خلف الستار، نظرة إلى عالم مظلم لخيالي: إلى طبيعة مخاوفي هذه، إلى طبيعة أنتي كرايست.

كانتونا الفيلسوف

وبدوره سيعيش بطل فيلم "لوكينغ فور اريك" مأساة أخرى لكن حلها سيمر عبر مسالك غريبة قدمت في طابع كوميدي أبدع فيه المخرج البريطاني كين لوتش.

ولمن لا يعرف كين لوتش فهو يبلغ من العمر 72 عاما وسبق له أن فاز بجائزة "السعفة الذهبية" عام 2006 عن فيلمه "ذا ويند ذات شيكس ذا بارلي" حول كفاح ايرلندا من أجل الاستقلال. أما فيلمه الجديد لوكينغ فور اريك فينتمي لنسق أفلام الكوميديا الواقعية الاجتماعية.

وتدور أحداثه حول ساعي بريد من مدينة مانشستر البريطانية، يعاني تفككا اسريا فظيعا ويكتشف بعد حادثة سير ان البسمة لم يعد لها وجود في حياته منذ آخر حضور له لمباريات كرة القدم حيث كان نجمه المفضل اريك كانتونا يحقق له بتمريراته الموفقة درجة امتاع تفوق الوصف.

وفي غمرة المشاكل التي يتخبط فيها بطل الفليم يقرر الاستعانة بنجمه المفضل للتغلب على مشاكله وتصحيح مسار حياته.

وتتناسل خيوط الحكاية في طابع تغلب عليه الدراما أحيانا وتسارع الأحداث على طريقة أفلام الأكشن ثم يعود الطابع الكوميدي ليغلب عليه لا سيما عندما يوجه لاعب كرة قدم سبق دروسا فلسفية لساعي بريد مكتئب.

وتقول الورقة التقديمية للفيلم ان كانتونا اللاعب الفرنسي المولد عرض فكرة الفيلم على لوتش الذي يعشق كرة القدم ولاقت لديه استحسانا كبيرا.

وقد انطلق كانتونا في فكرته للفيلم من قصة أحد المغرمين به من عشاق كرة القدم والذي ترك أهله وعمله وأصدقاءه من أجل مصاحبة نجمه المفضل الى مانشستر.

ويقول كانتونا ان تحوله من لاعب بين صفوف أندية الدوري الممتاز إلى ممثل: هي محاولة للعثور على طرق مختلفة للتعبير عن الذات.

أما مخرج الفيلم كين لوش فاعتبر ان الجمع بين الفرجة الكروية والسينمائية لا تنجح دائما.

وقال لوتش في مؤتمر صحافي: "أعتقد ان الايقاع في لعبة كرة القدم يختلف عن ايقاع الأفلام السينمائية. فاذا كنت تحكي قصة في فيلم ما يتعين عليك ان تحافظ على ايقاع معين وعندما تكون مباراة كرة القدم هي موضوع قصتك يتعين عليك الا تحرم المشاهد من متابعتها، ومن ثم يصعب التوفيق بينهما هذا بالاضافة الى انه يكاد يكون من المستحيل أن تعيد تصوير مباراة في كرة القدم."

وربما يكون لوتش قد وفق في الجمع بين المحبوبتين في قالب سينمائي فريد، ولكن درجة التنافس المرتفعة في دورة هذه السنة لمهرجان كان تجعل الانظار تتجه أيضا الى ابداعات غيره من المرشحين مع دخول المهرجان اسبوعه الثاني بأسماء قوية منها كوينتين تارانتينو وبيدرو المودوفار وماركو بيلوكيو.

موقع "الـ BBC العربية" في 19 مايو 2009

####

فيلم "قطط فارسية" يعزف أوتارا ممنوعة في كان

فؤاد البهجة/ بي بي سي - مهرجان كان  

من الأفلام التي استأثرت باهتمام النقاد والمهتمين بالسينما في مهرجان كان لهذه السنة الفيلم الايراني "لا أحد يعرف شيئا عن القطط الفارسية" للمخرج بهمن قبادي الذي سبق ان أحرز جائزة الكاميرا الذهبية في دورة عام الفين.

ويحكي الفيلم الذي شاركت في كتابة نصوصه الصحافية روكسانا صابري التي اتهمتها السلطات الايرانية بالتجسس عن واقع الرقابة الفنية في ايران وانتشار الفساد في المؤسسات الادارية.

وقد سعى قبادي في الفيلم الذي استغرق تصويره سبعة عشر يوما وصورت مشاهده خلسة بكاميرا رقمية الى تقديم صورة عن ايران تختلف عن تلك التي يعرفها الناس عنها في فيلم وقع عليه الاختيار ليكون في افتتاح التظاهرة التي تعرف باسم نظرة خاصة والتي تعرض فيها عادة نخبة من أجود الأفلام خارج المسابقة الرسمية.

وقال قبادي الذي حقق فيلمه السابق "زمن الجياد المخمورة" نجاحا باهرا في كان، ان فيلمه الجديد صور دون إذن من السلطات. وقال في مؤتمر صحافي في "كان" انه اضطر للكذب عندما أخبر الرقابة بانه يصور فيلماً وثائقياً عن المخدرات.

الأوتار الممنوعة

وفي الفيلم أيضا يلجأ أبطاله من المتعاطين مع الموسيقى الغربية الممنوعة في ايران الى أساليب ملتوية من الكذب والتزوير للافلات من قبضة الرقابة والهروب الى باطن الأرض للعزف على أوتار ممنوعة.

وفي لقطة مثيرة قال أحد الشبان انه قرر ان يؤدي اغانيه الممنوعة فوق عمارة شاهقة لان الموسيقى التي تعزف تحت الأرض يقدر لها أن تبقى مدفونة تحت الأرض.

ويضيف قبادي إن الفيلم صرخة في وجه الوضع الراهن، والذي يسجن فيه أصحاب الرأي من دون أي رحمة.

وشاركت في كتابة سيناريو الفيلم روكسانا صابري التي احتل اسمها عناوين الصحف العالمية اثر اعتقالها بتهمة التجسس، وربما تكون مشاركتها أعطت للفيلم دفعة وقبولا لدى النقاد الغربيين.

ويبدأ الفيلم بقصة البطلين اشكان ونيجار الذين يبحثان عن وسيلة للحصول على تأشيرة مزورة الى أوروبا لتحقيق احلامهما الفنية.

وفي طريق البحث عن عناصر أخرى لفرقتهما الموسيقية يقطع البطلان رحلة تأخذهما الى شبان يؤدون أشكالا مختلفة من الموسيقى الغربية لا يجمع بينهم سوى المنع الذي يخضعهم لتمرينات في الأقبية والقرى المهجورة وفي اسطبلات الحيوانات أحيانا.

ايقاع سريع

ويتأرجح انتماء الفليم بين الوثائقي التسجيلي والعمل الروائي ويشكل الاكثار من الأغاني المصورة فيه أحد الجوانب التي استوقفت اهتمام النقاد، بالاضافة الى اهتمامه بشكل واضح بالجمهور الغربي وأيضا ايقاعه السريع.

ويقول الصحافي والناقد الأمريكي علي نادرزاد وهو من أصول ايرانية: " لقد فاجأني هذا الفيلم فهو لا ينتمي الى الأفلام الايرانية التي تشارك عادة في مهرجان كان، حيث الايقاع بطيء عادة وطبيعة الأفلام تأملية في الغالب.

أما هذا الفيلم فهو اشبه بالافلام الوثائقية وايقاعه سريع، كما ان حبكته الروائية قوية".

والى جانب الرقابة يصور الفيلم استشراء الفساد وتسلط الادارة الحاكمة وتجلى ذلك في لقطة مثيرة دار فيها حوار بين مسؤول أمني وشاب متهم بترويج افلام واغان ممنوعة في ايران.

وبينما لقي الفيلم استحسانا لدى عرضه هنا في قاعة العروض الكبرى لقصر المهرجان في كان، أمام جمهور غربي في معظمه، اعتبر بعض النقاد ان الفيلم ربما أعطي هالة تفوق قيمته الفنية بسبب جوانبه السياسية التي تثير اهتمام الغربيين لا سيما عندما يتعلق الأمر ببلد كايران، إلا أن الناقدة الايرانية شيهاد شيرازي اعتبرت انه يعكس حقائق موجودة على ارض الواقع.

وقالت: " بالنسبة لنا نحن الذي نعيش في ايران فان هذا الفيلم يعكس الواقع الى حد كبير وهو عبارة عن فيلم وثائقي لكنه يتضمن ايضا قصة مثيرة".

ولعل الاثارة هي إحدى الأوراق التي تعمد غوبادي لعبها لنيل رضا النقاد ولجنة التحكيم في كان بتقديمه فيلما يخرج عن نسق الافلام الايرانية التقليدية ويدشن حسب مدير مهرجان كان لعهد جديد في تاريخ السينما الايرانية.

موقع "الـ BBC العربية" في 18 مايو 2009

 
 

مهرجان كان السينمائي الدولي الدورة (الثانية والستون)

فيلم «نبى» مافيا تخلق مافيا دراسة تحليلية لمافيا السجون في فرنسا

عبد الستار ناجي  

كل مرة يطل بها المخرج الفرنسي جاك دويار، فإنه يحمل معه كماً من الفرجة السينمائية، وأيضاً تفجير جملة من القضايا والطروحات التي تثير الجدل، هكذا هو جاك دويار، الذي يدهشنا هذه المرة، من خلال فيلمه الجديد «نبى» الذي يذهب بعيداً في تقديم دراسة تحليلية، تمتاز بالشفافية، لمافيا السجون، وتورط الكثير من الجهات الرسمية في هذا الجانب أو ذاك.

فيلم «نبى» سينما تسحب المشاهد من كرسيه الى خضم الحدث والشخصيات المكتوبة بعناية، والتي تعطي اشارات ودلالات واضحة للظروف الموضوعية التي تحكم السجون الفرنسية.

الحكاية تبدأ حينما تم ايداع مالك الجبنة في أحد السجون، لقضاء فترة حكم مدتها 6 سنوات، وحينما دخل السجن، كان بمثابة صفحة بيضاء، لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف أي شيء عن عالم السجون وما يتحكم بها.

ومنذ اللحظة الأولى هو لوحده.. فكيف له ان يواجه موجة العنف الضاري في ذلك السجن، الذي تحكمه مجموعة من المافيا ومنها الكورسيكية والعربية والافريقية، وفجأة يجد نفسه مطلوباً للعمل مع المافيا الكورسيكية التي يديرها سيزار لوشتاني (يجسد الشخصية الممثل الفرنسي نيلز ارستروب).

ويجسد شخصية مالك، الممثل الفرنسي الشاب طاهر رحيم، وأول المهمات التي يقوم بها لصالح المافيا الكورسيكية اغتيال أحد الشهود داخل السجن، وعندها يتم الوثوق به، ولكنه يظل مجرد تابع لتلك المافيا ينفذ الأوامر ويقوم بخدمتهم، حتى يأتي اليوم الذي يتم خلاله الافراج عن المتهمين السياسيين. الا - سيزار - الزعيم الذي يظل وحيدا، ولا يجد امامه من ينفذ اوامره وطلباته، الا «مالك» الذي يرسله في مهمات عدة خارج السجن للتعامل مع كم من الشخصيات المافياوية، «مالك» لا يتردد في تنفيذ الاوامر وايضا تطوير علاقاته مع تلك العصابات، التي ر.اح يتعاون معها لتخليص بعض قضاياه مع عصابات اخرى.

ويتم ارساله الى مرسيليا للقاء زعيم احدى العصابات، ويكون قبلها بيوم قد حلم بوجود غزلان في الشارع العام، وحينما تتسلمه العصابة العربية في مرسيليا، وفي احدى الطرق البعيدة وسط الغابات، يحذر زعيم العصابة من الغزلان على الطريق، وفجأة يقفز احداها امام السيارة، ولولا تنبيه مالك للزعيم والسائق لمات الجميع، ولهذا يطلق عليه لقب «النبي» ويتم دعمه ومساعدته من قبل زعيم العصابة.

وتخص الاحداث، كما من المهمات، والجرائم والعنف والقتل، وايضا مزيدا من التورط الرسمي، ومزيدا من الفضح لمافيا السجون، وفي حين يترفع نجم «مالك» تبدأ المواجهات مع الزعيم الكورسيكي، وحينما يجد مالك نفسه في ورطة، يذهب باتجاه الافيا العربية الاسلامية ويقدم لها المساعدة، وهي بالتالي تثق به وتحتضنه لتأتي المواجهة الكبرى مع الكورسيكي، ويولد زعيم جديد هو مالك يدير كما من العصابات والعلاقات المافيوية.

العنف يولد العنف والمافيا تولد المافيا

هكذا هي حال فيلم «نبى» لجاك دويار، الذي يذهب ابعد من حدود الصورة، وهو يعري كل شيء، شرطة السجون، والقضاه، وغيرهم.

في الفيلم سيناريو مكتوب بعناية، يجمع بين الوثيقة والطرح المغامراتي الذي يجمع جميع الاذواق.

وفي الفيلم اداء رفيع المستوى لمجموعة من النجوم، من ابرزهم الممثل الشاب طاهر رحيم، الذي يبشر بميلاد موهبة سينمائية شابة.

ومعه في الفيلم النجم القدير نيلز ارستروب الذي يعيش شخصية الزعيم المافياوي الكورسيكي، وباداء يخلو من التكلف والذهاب الى العنف البارد على الطريقة الاوروبية. وفي ذلك الفضاء، المتمثل بالسجون، نعيش القسوة والعنف. وفي الفيلم حالة من الشفافية، الخالية من العداء المسبق للعرب والمسلمين او السود او غيرهم.. بما فيهم الكورسيكيين. لاننا امام كم من الحقائق والحكايات التي تعتمد كثيراً من البحث والدراسة الموضوعية لواقع السجون الفرنسية.

انها حكايات المافيات التي تؤكد كماً اخر من الحويصلات المافيوية الجديدة.

وفي المشهد الاخير نشاهد - مالك - وهو يسير وحوله كم من الحرس، والمرافقين، كما كان يفعل من ذي قبل حينما يرافق الاخرين.

ونعود لجاك او ديار.

فهو من مواليد 30 ابريل 1952 في باريس، حيث درس السينما، في عام 1994 من خلال فيلمه الاول - انظر كم هم مجانين - وتتواصل اعماله، ومن ابرز ما قدم فيلمه الجميل - اقرأ شفتي - و- تعمل تصنيع بطلا -.

وهو هنا يصنع زعيم مافيا من خلال انسان بريء.. بسيط.. شفاف.. الى انسان مافياوي يقتل ويتزعم العصابات.

هكذا هو فيلم - بنى -.

سينما فرنسية تحمل الفرجة السينمائية العالية المستوى.

وايضا التقنية العالية المستوى.. والموضوعية في الطرح.. وهي احدى المفردات الايجابية التي تأتي لصالح هذا العمل الذي يمثل خطوة متقدمة في سينما المغامرات في السينما الفرنسية.

####

وجهة نظر

ازدحام

عبدالستار ناجي

يوجد في كان عدد بارز من مديري المهرجانات السينمائية العربية، ورغم هذا الوجود شبه اليومي في عدد من الافلام والمناسبات الا ان الحوار في التنسيق من أجل جدولة المواعيد والتداخل بين المهرجانات السينمائية على وجه الخصوص لا يتم بأي صورة من الصور. ولنا أن نتصور ان بين شهري أكتوبر ونوفمبر المقبلين ستقام حفنة مهرجانات سينمائية عربية، ومنها دمشق والقاهرة ومراكش وأبوظبي (الشرق الاوسط) ودبي.

ومثل هذا الغياب للتنسيق وكأننا في حرب ضروس يجعل السينما العربية وأيضا تلك المهرجانات تغرق في التكرار والخلافات، في الوقت الذي تبقى في أمس الحاجة لمزيد من الحوار والتنسيق والتعاون لخدمة الفن السابع.

ولذلك ندعو الى الحوار، لان الصحافة والاعلام والنقاد هم الأكثر تضررا لعدم مقدرتهم على التحرك، وبهذه السرعة بين تلك المجموعة من المهرجانات، في زمن ضيق وقصير.

ان خدمة الفن السابع والسينما العربية على وجه الخصوص لا تتم بالفعل الفردي، ولا تتم بالتحرك الاحادي، بل بالتنسيق والحوار المشترك.

ومن خلال تجربة تمتد لأكثر من ثلاثة عقود في المهرجانات السينمائية الدولية نشير الى ان اتحاد المنتجين الدوليين يعمل سنويا على برمجة مئات المهرجانات الدولية دون أن تتداخل المواعيد أو يتم سرقة هذا الفيلم أو ذلك النجم والمخرج. كل شيء عبر الحوار والتنسيق واعتماد المواعيد بشكل يحفظ حقوق جميع المهرجانات ويمنع التداخل والازدحام كما هو حاصل على المستوى العربي، حيث لدينا في العام 365 يوما و12 شهرا ورغم ذلك لا تقام المهرجانات الا بين أكتوبر وديسمبر، في حين يتم نسيان بقية العام.

من يبادر الى الحوار والتنسيق لخدمة المهرجانات السينمائية العربية؟

وعلى المحبة نلتقي  

####

وجهة نظر

الأبيض

عبد الستار ناجي  

أحب أفلام المغامرات، وأعرف نجومها واتابعها، بل أقتنيها، ولكن لو تأملنا، جملة تلك الافلام، لوجدنا بان هناك مقولة وموضوع يتم ايصاله من خلالها.

هذا الامر نلمسه في افلام «ترفيتور» و«رامبو» و«روكي» و«ماتريكس» وغيرها، حتى وان اختلفنا معها، الا انها تأتي مقرونة بحرفية عالية المستوى، وجودة في الانتاج والتنفيذ والسياق البصري والفني، وفي جميع تفاصيل الفيلم.

وحينما ذهبت الى فيلم «ابراهيم الأبيض» الذي عرض في سوق الفيلم في مهرجان «كان» السينمائي الدولي، وجاء مباشرة، بعد موعد عرض الفيلم الاخير للأميركي فرانسيس فورد كابولا مبدع العراب وابو كاليبس نو).

عرفت بانني ذاهب اولا لفيلم عربي.. وايضا فيلم مغامرات.

وكانت النتيجة كما توقعت، فيلم عربي بمواصفات انتاجية عالية الجودة، في سياق افلام المغامرات، ولكن ضمن سياق عالمي الملامح، ولكن دونما قضية.. ودون رسالة.

فيلم «إبراهيم الأبيض» يذهب في اتجاهات عدة، الا المقولة، تمثيل يسير في اتجاهات دونما وجود تنسيق مشترك في الاداء، وهذا ما جعل الفيلم ينشطر الى كم من الاتجاهات راح كل منها يشكل حالة لا ترتبط بالاخرى.

فيلم «إبراهيم الأبيض» يذهب الى مرحلة متقدمة من الانتاج السينمائي لافلام المغامرات، المخرج شاب هو مروان حامد، الذي عرفناه من خلال فيلمه الاول «عمارة يعقوبيان» وهو في فيلمه الاول اعتمد على نص روائي، ولكنه هنا، يجد نفسه امام سيناريو غير قادر على ان يقول أي شيء سوى الركض.. والضرب ولهذا نحزن حينما يأتي الانتاج ولا يأتي الفكر.

وعلى المحبة نلتقي

Anaji_kuwait@hotmail.com

 
 

أربعة أفلام آسيوية في مهرجان «كان»

الطبيعة كنيسة الشيطان

نديم جرجورة/ «كان»

في إطار المسابقة الرسمية الخاصّة بالدورة الثانية والستين (13 ـ 24 أيار 2009) لمهرجان «كان» السينمائي الدولي، ومن أصل عشرين فيلماً اختارتها إدارة المهرجان للتنافس على «السعفة الذهبية» وجوائز أخرى، عُرضت أربعة أفلام آسيوية، لغاية الآن: «كيناتاي» للفليبيني بريانت ماندوزا، «ليالي السُكْر الربيعية» للصيني لو يي، «عطش» للكوري بارك شان ـ ووك و«انتقام» للصيني أيضاً جوني تو؛ علماً أن هناك فيلماً آسيوياً خامساً لم يُعرض بعد، بعنوان «وجه» للسينمائي الماليزي تساي مينغ ـ ليانغ، المختلف كلّياً عنها، بحسب التعريف الصحافي به، الذي أورد أنه يدور في كواليس الفن وصناعة المسرحيات. هذا نمط آخر من صناعة الصورة السينمائية. هذا شكل مستقلّ بحدّ ذاته، مزج روحانية الشرق الأقصى بمفردات العيش الواقعي في مجتمعات متحرّكة دائماً، وجعل الصورة أقرب إلى كوريغرافيا العنف منها إلى أي نسق تعبيري آخر. هذه تفاصيل مستلّة من واقع إنساني مجبول بالألم والانكسار، وقائم على لعبة التحدّي الدائم للخروج من نفق الخراب العظيم.

العنف

فعلى الرغم من التنويعات المتفرّقة التي قدّمتها الأفلام الأربعة تلك، هناك رابط خفي يجمعها معاً في لحظة السقوط المدوّي للفرد في بؤر التوتر الجماعي القائم على الخديعة والقهر: العنف بدلالاته وتحوّلاته وتعبيراته كلّها. في الفيلمين الصينيين، اتّخذ العنف شكلين مختلفين، جاهر الأول بحضوره من خلال قصّة حبّ بين شابين يدفعهما ومحيطهما إلى التحطّم القاسي على صخور الواقع والانفعال المرتبك وارتفاع الجدران الحديدية بين المرء ونفسه أحياناً (ليالي السكر الربيعية)؛ وعبّر الثاني عن حيويته الدموية إثر مقتل عائلة كاملة، باستثناء الأم، جرّاء تصفية حسابات بين عصابات وقتلة مأجورين (انتقام). لكن العنف الكوري (عطش) مرسوم في أروقة الحكاية التقليدية المعروفة عن مصّاص الدماء، في محاولة سينمائية جميلة للانتقاد العنيف للمؤسّسات الدينية والاجتماعية والسياسية المتسلّطة بخرافاتها وقمعها وهوسها بالسلطة؛ في حين أن براءة الولادة الجديدة عبر العرس صباحاً، تحوّلت سريعاً في فجر اليوم التالي (أليس الفجر ولادة جديدة ودائمة؟) إلى خيبة الحياة، إثر المشاهدة السلبية لجريمة بشعة، وسط الانهيار وضجيج المدينة والانفصام القاتل بين تناقضات شتّى (كيناتاي).

والعنف، إذ يتّخذ أشكالاً بصرية متفرّقة، يصنع من الآنيّ في المجتمعات البشرية صدى التمزّق الحادّ في الذات الفردية وعلاقاتها بالجماعة. في حين أن التعبير عنه، وإن ارتدى أنماطاً عدّة قد تكون متناقضة أحياناً، جعل السينما أقرب إلى «محلّل نفسي» للذات البشرية أساساً، مختبئ في داخل الفن البديع وتداعيات دلالاته وأهواء صانعيه. غير أن التفاوت في المعالجة الدرامية واضحٌ بين الأفلام الأربعة، إذ بدا «عطش» أجملها زخرفة في مقاربة التحلّل الجسدي والروحي إزاء بطش المؤسّسة الأخلاقية في معاينتها اليوتوبية قضايا الحياة والعلاقات؛ في حين تشَابَه «ليالي السكر الربيعية» و«كيناتاي» في تصويرهما نبض المدينة (نانكين في الأول ومانيلا في الثاني)، على الرغم من انفصالهما الكلّي على مستوى الحبكة والسياق والمناخ، إذ غاص الأول في الأحاسيس القائمة بين شابين، والخراب الناتج منها؛ وتابع الثاني مسار جريمة قذرة أبطالها رجال شرطة مدنيون وضحيتها عاهرة وشاهدها شاب بريء، بدا أنه تلقّى «معمودية» الولادة بالدم والقذارة اللذين كلّلا تلك الليلة المجنونة، بعد زواجه رسمياً في الصباح، ظنّاً منه أن الزواج ولادة ثانية مليئة بالحبّ والفرح والمتع. أما «انتقام»، الذي أدّى فيه المغنّي والعازف الموسيقي والممثل الفرنسي جوني هاليداي دور البطولة الأولى، فظلّ عادياً في قراءته الانحدار الدموي لطالبي انتقام لا ينتهي إلاّ بالموت والسكينة.

«إن المسامحة (يُمكن القول أيضاً المغفرة أو الغفران) أنبل الانتقامات». هذا ما قاله لاعب كرة القدم الفرنسي السابق إريك كانتونا لصديقه إريك بيشوب (ستيف إيفيتس)، في الفيلم الأخير للإنكليزي كن لوتش «البحث عن إريك»، المُشارك في المسابقة الرسمية أيضاً (لي عودة نقدية لاحقة إليه). لكن كوستيلّو (هاليداي) في «انتقام» بدا أكثر انتماءً إلى مقولة الزوجة/ الأم المفجوعة بموت وحيدها (شارلوت غاينسبيرغ) في رائعة الدانماركي لارس فون ترير «المسيح الدجّال» (المسابقة الرسمية أيضاً)، ومفادها أن «الطبيعة كنيسة الشيطان»، إذ بدا واضحاً أن «الطبيعتين المادية والبشرية» مسكونتان بالشيطان، أمير العتمة (لي عودة نقدية إليه لاحقاً). فكوستيلّو هذا لا يعرف النبل والفضيلة، لأنه متحدّر من ماض مليء بالقتل والتصفيات، وها هو اليوم مُطالَب بالانتقام لمقتل عائلة ابنته، تلك الفتاة الجميلة إيرين تومبسون (سيلفي تستود) التي نجت، بأعجوبة، من المجزرة. وكوستيلّو، الآتي إلى ماكاو وهونغ كونغ للبحث عن القتلة بهدف تصفيتهم الجسدية، بات طبّاخاً يملك مطعماً في باريس، من دون أن يتحرّر كلّياً من ماضيه الدموي هذا. غير أن للانتقام صُوَراً مختلفة، في الأفلام الثلاثة الأخرى: انتقام الزوجة الشابة لين كسيو (جياكي جيانغ)، في «ليالي السكر الربيعية»، اصطدم بتمزّق المشاعر العشقية بينها وبين زوجها وانغ بينغ (واي وي)، المغرم بعشيقه جيانغ شينغ (هاو كين). وانتقام الأب سانغ ـ هيون (سونغ كانغ ـ هو)، في «عطش»، مال إلى التمرّد المبطّن على سطوة المؤسّسة الدينية المسيحية المنتمي إليها، إذ عاش صراعاً داخلياً بين رغباته المنفتحة على العشق والشبق الجنسي المكبوتين في أعماق ذاته بسبب التزاماته الدينية، والأشكال البغيضة للقمع الديني المفروضة عليه، ما دفعه إلى التطوّع في اختبار طبي جعله، من دون قصد، مصّاص دماء متعطّشا للدم والجنس والتخريب، قبل أن تُثقل عليه وحشيته المتحرّرة من أسرها، فيذهب وحبيبته إلى حتفهما برضاه هو، لأن الموت خلاصٌ من جحيم الدنيا هذه.

لا يجد المُشاهد دلالة واحدة على الانقتام في «كيناتاي»، لأن المناخ العام للحبكة وتفاصيلها المتشعّبة من ركيزة درامية (التحوّل الداخلي المبطّن للمرء) إلى عناوين متفرّقة (الجريمة، اللامبالاة، العنف، الضجيج، المدينة، إلخ.) انعكاسٌ شفّاف وقاس للآني والراهن في الذات الفردية والمدينية (إذا صحّ التعبير). ذلك أن بيبينغ (كوكو مارتن)، المقبل على الحياة بفرح وطمأنينة صنعتهما علاقة الحب القائمة بينه وبين من أصبحت زوجته في صباح يوم الأحداث المتتالية، غرق سريعاً في الجحيم الذي صنعته الأرض، ما جعله رجلاً سلبياً في تعاطيه مع المسائل الحياتية، إلى درجة أنه، في صباح اليوم التالي على الحدث العنفي، عاد إلى زوجته وابنهما «كأن شيئاً لم يكن»، وإن لم يُعبّر عن اللامبالاة بوضوح وقسوة، على نقيض رجال الأمن المدنيين الذين قتلوا العاهرة بعد إخضاعها لممارسة الجنس مع أحدهم، وقيامهم جميعهم بتقطيعها ورمي أجزائها في أماكن مختلفة، قبل أن يتناولوا الطعام فجراً، كأنهم لم يفعلوا شيئاً إطلاقاً.

الجنس

إلى ذلك، يُمكن القول إن العنف والمشاهد القاسية الناتجة منه حاضران في أفلام عدّة مشاركة في الدورة الحالية لمهرجان «كان»: عنف الأصولية الدينية والشبق الجنسي والانهيار العصبي الذاهب بصاحبه إلى أقصى تخوم التمزّق والبؤس؛ عنف الجريمة المنظّمة والجرائم التي يرتكبها أناس غارقون في أعماق الخراب والانفصال عن الذات، وإن بدا بعضهم إنسانيين يمتلكون «أخلاقاً» رفيعة إذا وجدوا أنفسهم في حالات تُحتّم عليهم إبداء قليل من الاحترام للأعداء، خصوصاً أمام الأطفال («انتقام»، مثلاً). والجنس مكمّل طبيعي للعنف الممُمارَس على الفرد والجماعة: في الأفلام الآسيوية الأربعة هذه، شكّل الجنس (سواء ارتبط بالحبّ والانفعال الشبقي بين رجلين أو بين رجل وامرأة، أو بتلك الرغبة القديمة في امتلاك الآخر وإخضاعه لنزوتة ما بسبب انغماس المرء باللذّتين الحسية والروحية) عنواناً إضافياً للأفلام المشاركة في «كان». كأن الرابط بين العنف والجنس قوي لاستحالة الفصل بينهما وبين نتائجهما. أو كأن ممارسة العنف، بتداعياته وتأثيراته، لا تختلف كثيراً عن ممارسة الجنس، بملذاته وقدرته على إثارة المتع الحسية والروحية.

مسألة أخرى مثيرة للاهتمام النقدي: المغنّي والموسيقي الفرنسي جوني هاليداي ممثّلاً في فيلم صيني، علماً أن للأفلام الآسيوية، عموماً، نمطاً خاصّاً بالعنف، أقرب إلى تصميم الرقصات (إقرأ «كوريغرافيا» العنف) منه إلى أي شيء آخر. غير أنه، على الرغم من ممارسته مهنة التمثيل سابقاً (من دون التوقّف عند مدى قدرته على إيفاء هذه المهنة شروطها الفنية الإبداعية)، لم يُقدّم دوره كأب مفجوع بمقتل عائلة ابنته، التي أصيبت بشلل شبه كامل، ولم يظهر على الشاشة الكبيرة/ الحياة الواقعية رجلاً مقبلاً إلى الانتقام (أصيب، قبل أعوام طويلة، برصاصة في الرأس باتت تُفقده ذاكرته) بروحية قاتل مأجور سابق، ولم يكشف مواهب فذّة أو متواضعة حتّى في التمثيل. على النقيض من هذا كلّه، بدا مترهلاً وبطيئاً وعاجزاً عن امتلاك المتطلّبات الضرورية لشخصية أب وقاتل وطبّاخ ومنتقم، علماً أن جوهر الحبكة لم يكن مُقنعاً على المستوى الدرامي: تورّط ربّ العائلة في مشاكل مافياوية، ورغبة الزعيم الظاهر في أكثر من مشهد أقرب إلى المهرّج منه إلى صاحب امبراطورية فاسدة في تصفية أعدائه جميعهم، وأقرب المقرّبين إليه لشكّه في إخلاصه له، وإن حلّل البعض المسألة بالقول إن المخرج جوني تو أراد، بهذا كلّه، إظهار نوع من السخرية السينمائية، مع أن قراءة الفيلم انطلاقاً من هذا النوع كفيلةٌ بجعل «انتقام» مجرّد عمل عنفي يخلو من دلالات مؤشّرة على فلسفة الوجود والحياة والقدر والصدفة، على غرار أفلام آسيوية أخرى برع صانعوها في مزج الفلسفة المذكورة بالعنف والمطاردة والنَفَس البوليسي. بل إنه مجرّد عمل عادي يروي العنف بلغة بسيطة.

السفير اللبنانية في 19 مايو 2009

 
 

«المسيح الدجّال» لترير و«عناقات مكسورة» لألمودوفار و«البحث عن إيريك» للوتش في مهرجان «كان»

ثنائية العنف والجنس.. والذاكرة المدمّاة

نديم جرجورة/ «كان»

لم يكن العنف والجنس حكراً على أفلام آسيوية مشاركة في الدورة الثانية والستين لمهرجان «كان» السينمائي الدولي، المنعقدة حالياً في المدينة الجنوبية الفرنسية «كان» لغاية الرابع والعشرين من أيار الجاري. ذلك أن هاتين السمتين ملتصقتان بالحياة اليومية للبشر، ومتسلّطتان على المسار العام للأفراد والجماعات معاً، سواء توصّل البعض إلى المصالحة مع الذات إزاء الجسد والجنس أم لا، وسواء نتج العنف من ضغط البيئة والانفعالات أم نبع من انتصار جانب على آخر في البنية الطبيعية للإنسان. ولأن السينما اختزلت الفنون والعلوم معاً، وباتت انعكاساً للحياة، إن لم تتفوّق عليها أحياناً وتبزّها وتسبقها في استطلاع المقبل من الأيام؛ ولأن غالبية الأفلام منسجمة والتشريح الإبداعي للذات والنفس والروح؛ بدا التركيز على ثنائية الجنس والعنف امتداداً حيّاً للواقع والمجتمع والعلاقات.

اختبارات

هذا ما ظهر جليّاً في فيلمي «المسيح الدجّال» للدانماركي لارس فون ترير و«عناقات مكسورة» للإسباني بدرو ألمودوفار. فالأول مستلّ من الاختبار الدموي للصراع الدائم بين الحياة والموت، من بين أمور أعقد وأخطر تناولها النصّ السينمائي المنخرط في أعماق جانب من دون آخر في داخل الإنسان (كي لا أسقط في التعميم، فأقول في الجانب الأسود مثلاً)؛ والثاني منسوج على وتيرة الصدام الدائم بين الانفعال والعقل، على مستوى الحب والعلاقة الحسّية والتواصل الروحي بين الأفراد. لم يكن الأول مجرّد تحليل نفسي للذات البشرية، لأنه غاص في لعبة الأساطير والاستعادة الدرامية لسطوة الشيطان على الأرض من خلال المرأة؛ ولم ينغلق الثاني على رومانسية تدفع أبناءها إلى الدمار الذاتي، لأنه مال إلى ابتكار حيوية ما في معاينة العناوين الثابتة للتركيبة الإنسانية الموزّعة على الحب والجسد والروح.

إليهما، اختارت إدارة مهرجان «كان» الفيلم الجديد للإنكليزي كن لوتش «البحث عن إيريك» للمسابقة الرسمية (مثلهما تماماً)، المختلف عن المسار السينمائي لصانعه، المرتكز غالباً على قراءة الصراع الطبقي والنضال من أجل الفقراء والمدافعين عن حقوقهم التاريخية في الأرض والحرية، كي يرسم ملامح العلاقة القائمة بين نجم ومُعجب به، بأسلوب مال إلى الكوميديا الخفيفة، القادرة على أن تكون تجارية بالمعنى العادي للكلمة. ومع أن الفيلم لم ينل إعجاب كثيرين من النقّاد والصحافيين، كما حصل بالنسبة إلى «المسيح الدجّال» تحديداً، إلاّ أن لوتش برع في مزج حكاية بسيطة بمناخ إنساني عام قائم، حالياً، في الأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة أو المقيمة فيها، من دون ادّعاء بصري أو تنظير أخلاقي. والفيلم، بهذا، مختلف جذرياً عن فيلمي فون ترير وألمودوفار، مع أن «عناقات مكسورة» لم يبلغ المستوى الإبداعي الراقي الذي عرفه «المسيح الدجّال»، مثلاً. في حين أن كن لوتش، الملتزم قضايا الفرد والجماعة تاريخياً وآنيّاً، لم يتخلّ عن همومه العامة، مُدخلاً إياها في صلب السياق الدرامي بسلاسة وبساطة جميلتين، متّخذاً من مكانة أسطورة كرة القدم الإنكليزية إريك كانتونا عنواناً لحكاية منفتحة على الحبّ والذاكرة المدمّاة والرغبة في الانعتاق من قذارة الماضي وفساد الراهن.

مع ممثلين اثنين فقط هما الأميركي ويليام دافو والفرنسية شارلوت غينسبيرغ، اختار الدانماركي لارس فون ترير سيرة الصدام الأبدي بين الشيطان والله، من خلال قصّة زوجين يتعرّضان لواحدة من أبشع التجارب الفردية المتمثّلة بمقتل ابنهما الصغير أثناء ممارستهما الجنس معاً. ومع ممثلين اثنين أيضاً هما الإسبانيين بينيلوبي كروز ولويز هومار في الدورين/ المحورين الأساسيين للحبكة، قدّم مواطنهما بدرو ألمودوفار حكاية الحبّ المدمَّر والعشق المهزوم والحياة المجنونة والشبق الطالع من داخل القلب إلى حيوية الجسد في سعيه إلى التحرّر من سطوة العقل. لم يختلف كن لوتش عنهما باختياره، هو أيضاً، ممثلين اثنين أساساً متيناً لحبكة جميلة، هما الرياضي السابق والممثل/ المنتج الحالي الفرنسي الأصل إيريك كانتونا والممثل الإنكليزي ستيف إيفيتس. لعلّها صدفة، لكن الأعمق من ذلك كامنٌ في أن هناك توجّهاً ما إلى تركيز النصّ السينمائي على أساسيات جوهرية متمثّلة بثنائيات تصارع من أجل البقاء، وتقاتل من أجل التحرّر من قذارة الحياة وبشاعة الموت وسطوة الخطيئة وانعدام التوازن بين القيم وتناقضاتها. لعلّها صدفة، لكن الأجمل منها نابعٌ من كون هذه الثنائيات نفسها أقدر على تفكيك البنى المجتمعية والنفسية والروحية، بهدف إعادة صوغ المعاني الواقعية للبناء الفردي/ الجماعي للإنسان.

ثنائيات

فالثنائي الأول (غينسبيرغ/ دافو) محمّل بسطوة الأسطورة الدينية والأخلاقية عن النزاع الأبدي بين الشرّ والخير، في محاولة جادّة وبديعة للقول، من بين أمور أخرى قد تكون أهمّ وأخطر، إن لا شيء في الدنيا قادرٌ على تحديد ما هو الشرّ وما هو الخير. والأمور الأخرى، إذ تنصهر في إطار التحليل النفسي للمبطّن في الذات الفردية، تتوزّع على مفاهيم العلاقة بين الرجل والمرأة، وانعكاس الشيطان في المرأة، وانكسار هذا الشيطان في واحدة من معاركه الأبدية. لم يكن الفيلم (المسيح الدجّال) سهلاً، لأنه غائصٌ في متاهة الفرد وتمزّقاته وأسئلته المعلّقة عن الحياة والموت والعلاقة الجنسية والحب الشبقي والذنب والخطيئة/ الخطأ. لم يكن بسيطاً، لأنه مصنوع بأدوات سينمائية جاذبة، كاستخدام الأسود والأبيض في مدخل الحكاية ونهايتها، وكلعبة التوليف والدلالات والرموز المكثّفة التي استخدمها المخرج في تعريته المرء أمام نفسه أولاً وأساساً. والثنائي الثاني (كروز/ هومار) انعكاسٌ لمرارة الانفعال وحيوية السينما في مقاربتها أحوال الدنيا ومنعطفاتها، ولازدواجية الشخصية نفسها الراغبة في قتل الماضي والتفرّغ للحاضر، إذ إن ماتيو/ هاري (هومار) سينمائي مقيم في ظلام عينيه المغلقتين إثر اصطدام عشقه الحقيقي بالموت، ولينا (كروز) منشغلةٌ بانفعالها وإن تطلّب الأمر تمرّداً صعباً على العشيق الثري إرنستو مارتل (خوسي لويز غوميز)، المهووس بها حتّى الجنون. لكن الثنائي المذكور، وإن كان جزءاً ثابتاً في صناعة الحبكة الدرامية للفيلم، شكّل مفتاحاً جمالياً للتواصل مع شخصيات أخرى، لا تقلّ معاناتها عن تلك التي عاشها السيناريست/ المخرج المتحوّل من ماتيو إلى هاري والصبية الجميلة لينا، الراغبة في أن تكون ممثلة، قبل أن تكتشف الحب الحقيقي والانفعال الجسدي الأجمل في علاقتها بماتيو، قبل أن يتحوّل إلى هاري إثر وفاتها في حادث سير مفجع. والثنائي الثالث (كانتونا/ إيفيتس) مشارك فعلي في تشريح جانب من البيئة الإنكليزية، بانطلاقه من العلاقة العشقية بين ساعي بريد يُدعى إريك بيشوب (إيفيتس) ولاعب كرة القدم إيريك كانتونا، البطل السابق في فريق «مانشتسر يونايتد»، وصولاً إلى معاينة حسّية للواقع الإنساني المقيم في الفقر والقهر والتمزّق. ومع أن الفيلم مبني على شخصية كانتونا، الذي أدّى دوره الحقيقي فيه، إلى درجة الأنانية القصوى في إظهار نفسه (ألم يقل في الفيلم ما ردّده مراراً في حياته اليومية، من أنه ليس إنساناً/ رجلاً بل إيريك كانتونا؟)؛ إلاّ أن النصّ مشغول بتقنية كوميدية لا تخلو من تسليط درامي على الواقع القاسي الذي يعيش فيه فقراء الضواحي، إذا جاز التعبير. وأنانية كانتونا تبدّت، أيضاً، في تأديته دور المحلّل النفسي والمنقذ الأخير لبيشوب من ورطته في علاقته المعلّقة بحبيبته القديمة، والمساعد الأساسي له في عملية إنقاذ ابنه من تورّطه في العمل مع إحدى العصابات.

على الرغم من هذا كلّه، يُمكن القول إن «المسيح الدجّال» أقوى هذه الأفلام الثــلاثة، درامياً وجمالياً وإنسانياً وقدرة على طرح الأسئلة الوجودية، من منظار الباحث عن معنى أن يكون الشيطان سيدّاً على الحياة والموت معاً. في حين أن «عناقات مكسورة» لم يبلغ مرتبة الإبهار المعتاد في جزء بارز من السيرة المهنية لبدرو ألمودوفار، مع أنه حافظ على نسق عاديّ في قراءة العلاقات الإنسانية بين البشر. و«البحث عن إيريك»، عمل محكم البناء، ومشغول بتقنية كوميدية لا تخلو من تحليل اجتماعي لبيئة ولأناس.

السفير اللبنانية في 20 مايو 2009

 
 

"أمريكا" في "كان": عربية أم أمريكية؟

مخرجة فلسطينية تبحث عن هويتها في "كان"

كان- تمزج المخرجة الفلسطينية-الأميركية شيرين دعيبس في شريطها "أمريكا"، أول تجربة سينمائية لها، الشخصي العائلي بالعام من خلال سيرة العائلة المهاجرة في علاقتها بالمجتمع الآخر مع اسئلة كثيرة عن الانتماء والهوية.

عرض الفيلم ضمن تظاهرة "خمسة عشر يوما للمخرجين" في مهرجان كان السينمائي الـ 62 دافعا الى الضوء بتجربة سينمائية فلسطينية جديدة بدت أكثر اكتمالا في "امريكا" منها في عملين روائييين اولين سبقا لمخرجتين فلسطينيتين.

وكان العملان الآخران "ملح هذا البحر" لآن ماري جاسر و"المر والرمان" لنجوى نجار خرجا في غضون عام ليضعا المرأة الفلسطينية المخرجة في الواجهة ويقدماها للعالم في مهرجانات دولية.

ويطرح شريط "امريكا" سؤال: من هو الامريكي حقا؟ في ارض مجبولة بعرق هجرات اناس متعددي الاعراق على مدى اجيال، معبرا عن الامكنة المختلطة لهذه المخرجة المولودة في اوهايو من والدين احدهما فلسطيني والآخر اردني، من هنا حرصها الدائم وهي صغيرة على قضاء عطلاتها في الأردن.

"امريكا" الاسم العربي للولايات المتحدة الذي كانت تسمعه في طفولتها، لكنه ايضا امريكا كما تحياها وتراها وكما خبرتها وارادت ان تحكيها في السينما. تقول المخرجة "هوليوود حافلة بالكليشيهات وهي تصور العرب على انهم اشرار وتجربتي لم اشاهدها في اي من الافلام الاميركية".

وتضيف دعيبس "عزمت على تغيير الصورة من خلال السينما التي اعتبرها لغة عالمية للتعبير عن المشاعر تعطيك القوة للوصول الى الناس الذين يتخلون عن تحفظهم امامها لانها خيال".

وتحاول دعيبس في أماكن متعددة التذكير بالجوانب المضيئة للثقافة العربية التي بدا ان العالم والعرب انفسهم نسوها تماما لتقبع تحت غبار الركام السياسي والعداء الغربي.

وردا على سؤال حول معنى تقديم شريطها للمهرجان كشريط اميركي، تقول "انا اميركية للغاية لكني عربية ايضا واحمل انتمائي فيما اطرحه في الفيلم".

وتضيف "منذ انتخاب اوباما لم اعد أشعر بالعيب من ابراز جواز سفري الاميركي. مع ذلك فبالنسبة للاميركيين لست اميركية بما يكفي كذلك لست عربية بما يكفي بالنسبة للعرب".

هذا الواقع جعلها تشعر بالغربة اينما كانت خاصة في مرحلة مراهقتها، وتقول "لم اكن ابدا اشعر اني في وطني في اي مكان، هذا جزء من هويتي ويزيد من شعوري بعدم الانتماء لمكان محدد".

وتقول المخرجة ان الافكار التي عالجتها نابعة من تجاربها وافراد اسرتها فوالدها الطبيب تعرض للمقاطعة من قبل المرضى خلال حرب الخليج الاولى فقط لانه عربي وقتها كانت المخرجة في الرابعة عشرة من عمرها.

كما تلقت هي نفسها تهديدات في المدرسة خلال تلك الحرب وتم التحقيق مع اختها لمجرد اشاعة تقول بانها هددت الرئيس الاميركي بالقتل.

من هذه المنطلقات تعمد شيرين دعيبس الى مداعبة مناهج السياسة الاميركية في المنطقة في اكثر من مكان من الشريط وتندد بها على لسان الجدة التي تقول لابنتها على الهاتف وهي تحادثها من فلسطين "اذا التقيتت بوش قولي له ان يتركنا بحالنا نحن بنحب نعيش بهدوء مثله".

اما خبرتها في مواجهة الاحكام المسبقة فاسبغتها المخرجة على الصبي فادي الوافد مع امه الى التراب الاميركي بعد الحصول على "غرين كارت" واظهرت مدى صعوبة تعاطيه مع هذا المجتمع تماما كما امه.

وتؤدي نسرين فاعور ببراعة ودقة دور الام منى الشخصية الرئيسية في الفيلم والتي كانت "اساسية للدخول في هذا العالم وهي تمنح الجمهور نظرة جديدة وغير منتظرة"، كما تقول المخرجة التي تجعل منها شخصية متفائلة قوية الارادة وثابتة.

وتوضح "نسرين وجدتها في حيفا واخترتها لما لديها من حضور طبيعي ولقلبها الذي يفيض حساسية".

اما عن هيام عباس فكتبت المخرجة الدور لها اساسا، وتوضح "اردت تقديمها في دور مختلف عن ادوارها السابقة في الاعمال الفلسطينية الدرامية".

فيلم "امريكا" دراما خفيفة ممتعة حافلة بمشاهد مؤثرة ومضحكة مسبوكة بقالب من الصدق القريب من الحياة وتبتعد عن عوالم العنف والجنس المسرف التي يحفل بها مهرجان كان لتقدم في المقابل صورة دافئة لاسرة شرقية تختبر شرقيتها وتماسكها امام كل امتحان خارجي.

والفيلم رغم معانيه وابعاده السياسية والاجتماعية يساوي بين البشر في حبكة حاذقة تتحول فيها مسألة الهجرة الى امريكا بحثا عن حياة افضل الى تحد لا بد ان يدفع الى النجاح والاستمرار واخيرا الى البوح عوضا عن الصمت.

وهو بوح سيستمر، اذ ان المخرجة بصدد الانتهاء من كتابة فيلم اخر يتناول هذه المرة موضوع هجرة عكسية. وتشرح قائلة، "نحن لا ننتهي ابدا من الحديث عن هذه القصص وفيلمي القادم سيتناول حياة فلسطينية تعود للعيش في الاردن بعد قصة حب خائبة".

العرب أنلاين في 20 مايو 2009

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)