كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

محطـات فـي السينمـا البديلـة

نديم جرجوره

رندا الشهال

مفاجأة الرحيل

   
 
 
 
 

منذ بدايات مسارها المهني، سعت رندة الشهّال صبّاغ إلى طرح أسئلة الهوية والانتماء والنزاعات الداخلية في الذات الإنسانية، في إطار سينمائي توزّع بين الوثائقي والروائي، وإن التزم النوعان همّاً إنسانياً صافياً، لعلّها اكتسبته بفضل انخراط عائلتها في النضال السياسي والإيديولوجي، من الوالدين (العراقية فيكتوريا نعمان واللبناني قصدي الشهّال) إلى الشقيق تميم والشقيقة نهلة. وعلى الرغم من إقامتها الأساسية في باريس، إلاّ أن أفلامها ظلّت على تماس حقيقي بالواقع الإنساني العربي، أكان ذلك على مستوى الفرد، أم من خلال الجماعة.

في منتصف سبعينيات القرن المنصرم، انتسبت رندة الشهّال صبّاغ إلى جامعة باريس الثامنة، وانتقلت منها إلى المدرسة الوطنية لوي لوميير لدراسة السينما. لكنها، في حوار صحافي نشره »الملحق« الأسبوعي الصادر عن الزميلة »النهار«، قالت إنها عملت في البداية بنصيحة والدها: »إكراماً له، درست الصيدلة، ثم حاولت دراسة الفلسفة. في الصيدلة، لم تستمر دراستي أكثر من ستة أشهر. وفي الفلسفة، منيت بفشل فظيع (...). تمكّنت من أن تكون لي مهنة أخرى إلى جانب السينما، التي قصدت باريس لدراستها. هناك، التحقت بادئ الأمر بمعهد »فانسان«، وسرعان ما انتقلت إلى »فوجيرار«. كان نظام التخرّج في هذا المعهد قائماً على حيازة الطالب ستة دبلومات. أنا لم أنتظر نهاية السنة الأخيرة من دراستي. تركت المعهد وجئت بيروت« (٥ كانون الأول ١٩٩٢).

كاميرا الحرب

حين عادت إلى لبنان، كانت بيروت خاضعة لأتون الحرب اللبنانية، التي مزّقت النسيج الاجتماعي والعمراني والثقافي، بعد أعوام عدّة شهدت العاصمة اللبنانية في خلالها ذروة الغليان الفكري والنضالي العربي. في الحوار نفسه، الذي أجراه معها الناقد اللبناني محمد سويد، قالت الشهّال إنها تركت المعهد »حين سمعتُ باندلاع الحرب في لبنان، في العام .١٩٧٥ ولما كان المعهد معروفاً بتخريج طلاّب مُتمكّنين بوصفهم تقنيين وميّالين عموماً إلى أن يكونوا مُصوّرين، قررت العودة إلى بيروت، وتصويرها في الحرب«. سرعان ما حملت رندة الشهّال آلة الكاميرا، وذهبت إلى الناس، وصوّرت ما يجري، تماماً كما فعل زملاء لها، التقوا جميعهم قبيل العام ،١٩٧٥ وأسّسوا، بشكل غير مباشر، ما عُرِف باسم »السينما البديلة«، التي ارتكزت على مواجهة النتاج السينمائي السائد (أفلام حكايات رومانسية عادية، أو مغامرات تقليدية، بتأثير مباشر من السينما المصرية المهاجرة إلى لبنان في الستينيات، هرباً من قرارات التأميم الناصرية)، وعلى إعادة صوغ المشهد السينمائي الملتزم قضايا المجتمع والناس. وإذا كان بعض النقد يعيب على هؤلاء السينمائيين (برهان علوية وجوسلين صعب وهيني سرور وبهيج حجيج والراحل مارون بغدادي، ومعهم الشهّال أيضاً) إعلاء المضمون على حساب الشكل، فإن النتاج الذي وضعوه في تلك الفترة، لا يزال حاضراً في الذاكرة اللبنانية والعربية، كشهادات مُصوَّرة عن التحوّل الاجتماعي والإنساني والسياسي والحربي لبيروت الذاهبة إلى دمارها، ولناس بيروت المهشَّمين بالعنف والحقد والانكسار والخيبات.

في خلال أعوام الحرب اللبنانية كلّها، أنجزت رندة الشهّال أفلاماً وثائقية متنوّعة. وفي مطلع التسعينيات المنصرمة، حقّقت فيلمها الروائي الطويل الأول »شاشات الرمل« (١٩٩١)، عن النزاعات الإنسانية الذاتية في داخل المرأة، من خلال ثلاث شخصيات نسائية أدّت أدوارهنّ ماريا شنايدر ولور كيلينغ وساندرين دوما. بعده بأربع سنوات تقريباً، أنجزت »حروبنا الطائشة«، الفيلم الوثائقي الذي قرأت فيه التجربة النضالية لعائلتها، فحاورت والدتها وشقيقها وشقيقتها (كان والدها قد توفي قبل هذا الوقت بأعوام عدّة)، وهم يناقشون الذاكرة الفردية والجماعية، ويعيدون طرح أسئلة الحرب والنضال والفكر والسياسة والعلاقات الإنسانية. فيلمها الروائي الثاني، كان تلفزيونياً بعنوان »الكفّار« أو »الخائنون«، عن رجل أمن فرنسي يلتقي أصولياً مصرياً لمفاوضته على إطلاق سراح مسؤول دبلوماسي فرنسي مُعتقل لدى جماعة هذا الأصوليّ نفسه. وفي »متحضّرات«، فيلمها الروائي الطويل الثالث، أضاءت جوانب عدّة من يوميات الحرب اللبنانية القذرة، وهو الفيلم الذي منعته الرقابة اللبنانية ورفضت السماح بعرضه، بسبب »مضمونه« كما قالت الشهّال: »يقول الفيلم إن اللبنانيين جميعهم مسؤولون عن الحرب اللبنانية، وإنه لا يوجد لبناني بريء، من الولد الصغير إلى السيّدة البورجوازية الكبيرة« (»الأسبوع العربي«، ٧ أيار ٢٠٠١). وها هي، في فيلمها الروائي الرابع، »طيّارة من ورق«، تذهب أيضاً إلى الممنوع، وتخترق الحواجز، كي ترسم أفقاً ما للعلاقات الإنسانية المدمّرة، على الأسلاك الشائكة المرتفعة في داخل القرية العربية الواحدة، وفي الذات الفردية أيضاً.

في هذا كلّه، يمكن القول إن »شاشات الرمل« فيلم سياسي عن وضع المرأة العربية، وعن السلطتين السياسية والدينية. و»الكفّار« سياسي أيضاً، وإن اتّخذ منحى مختلفاً في قراءاته المتعدّدة عناوين فاقعة في بنية المجتمع العربي وعلاقاته بالغرب: واقع الحركة الأصولية الإسلامية/ العربية في صراعها مع الغرب ومع أنظمة سياسية محلية، البيئة المصرية التي تنبثق من الكاميرا مليئة بواقعيتها الموغلة في التباساتها وهواجسها، علاقة الدين بالجنس، المنفى الداخلي قبل الخارجي إلخ. ذلك أن هذه العناوين تقف بمحاذاة القصّة الجوهرية، التي توظّف مادتها من أجل البحث في مدلولاتها. لا تتردّد المخرجة في كسر الطوق التقليدي الذي يلتفّ حول البيئة العربية، لكنها في مقابل ذلك لا تقدّم للغرب ما يرغب هذا الغرب في رؤيته عن الشرق.

أما »متحضّرات«، فهو »أقلّ سياسية« من العملين السابقين، كما قالت الشهّال، مع أنه يروي فصولاً من سيرة الحرب اللبنانية، بالتداخل الكبير فيها بين السياسة والفكر الإيديولوجي والقراءة النقدية للمجتمع اللبناني. وتعتبر المخرجة أن »طيّارة من ورق« فيلمها السياسي الأول: »لأنني فكّرت ملياً ماذا يعني الاحتلال، وكيف يمكن طرح فكرة الاحتلال في فيلم« (»المستقبل«، ٢٤ تشرين الأول ٢٠٠٣). فالفيلم يصوّر قرية درزية في الجنوب اللبناني، احتلّ الإسرائيليون نصفها، فتشرذمت عائلات عدّة، عاش بعض أفرادها في الجانب المحتلّ، والبعض الآخر في الجانب المحرّر. هناك، في الجانب المحرّر، تمضي لميا (فلافيا بشارة) وقتها في اللعب بطائرة ورقية مع شقيقها ورفاقهما. تقع عليها عينا مجنّد إسرائيلي شاب، من خلال منظاره العسكري، فيغرم بها. لكن التقاليد المتّبعة بصرامة، أدّت إلى تزويجها من ابن عم لها مقيم في الجانب المحتلّ. العبور والحب الرومانسي الصامت واستحالة العيش مع زوج لا رابط بينهما إطلاقاً، عناوين فيلم أثار لغطاً، على مستوى المضمون الطائفي والأبعاد السياسية، لكنه قدّم صورة عن واقع إنساني متحرّر من خطابه السياسي النضالي المباشر، من خلال نصّ درامي مغلّف بشكل بصري بدا أنضج فنياً وتقنياً، على مستوى الصورة والتقاط بعض المشاهد، عما كانت عليه أفلامها الروائية السابقة، في حين أن المعالجة السينمائية للموضوع الشائك ظلّت، في أحيان كثيرة، منقوصة، إما لأن المخرجة لم ترغب في التوغّل كثيراً في داخل الخصوصية الثقافية والحياتية للطائفة الدرزية، وإما لأنها عجزت عن التعمّق في التفاصيل والحساسيات، وإما لأن المادة المختارة لم تكن أكثر من قراءة إنسانية شفّافة لحكاية يومية يعانيها أناس يعيشون القهر والذلّ، من دون أن يفقدوا تمسّكهم بحقّهم الطبيعي في العيش الحرّ، في محاولة جادة لطرح سؤال الآخر في الوعي العربي.

العبور

اختارت رندة الشهّال صبّاغ الطائفة الدرزية حيّزاً إنسانياً واجتماعياً، كي تروي فصلاً من فصول التمزّق والانكسار، الناتجين من الاحتلال الإسرائيلي، وكي تصوّر معنى الحياة والمواجهة والتحدّي اليومي في مقارعة هذا الاحتلال، الفارض عليها انفصالاً بشعاً في الأرض (أي في الجغرافيا)، من دون قدرته على تفعيل هذا الانفصال على مستوى الذاكرة والتاريخ والحياة. ففي قرية جنوبية لبنانية (بحسب الفيلم، إذ إن لا وجود لمثل هذه القرية الدرزية في الجغرافيا اللبنانية، بل في الجولان السوري)، احتلّت إسرائيل جزءاً منها، ممزّقة إياها إلى قسمين (محرَّر ومحتلّ)، وفاصلة العائلات بعضها عن البعض الآخر، دارت أحداث »طيّارة من ورق«، في بحث دؤوب عن معنى الحدود الجغرافية والروحية، وفي سؤال الحياة والموت، متّخذة من الفرد أساساً لمعاينة الواقع: بلغت لميا سن الزواج (١٥ سنة)، وبات عليها أن تعبر الحدود كي تذهب إلى الجانب المحتلّ، وتلتحق بابن عمها، الزوج المنذور لها منذ طفولتهما، والذي لا تعرفه. لكن العبور مثقل بألف همّ وخيبة، والزواج قسوة لم تحتملها الصبية المتفتّحة على الحياة والمراهقة الضائعة، ولعبة الذهاب والإياب عبر الأسلاك الشائكة في هذه القرية، تشبه أشكالاً متنوّعة من الحدود المرتفعة على تخوم المجتمع والفرد العربيين، وفي داخلهما أيضاً. في مقابل هذا كلّه، ظلّت لميا منجذبة إلى طفولة دائمة، والمجنّد الدرزي الإسرائيلي مغرم بها، بفضل المنظار العسكري الذي تحوّل بين يديه إلى عين تعكس هوى القلب والروح، وتفتح الباب أمام سؤال الآخر والعلاقة به. والعبور الذي قامت به لميا لم يكن فقط عبوراً بين منطقتين وحالتين، بل أيضا تجسيد لـ»رحلة نضوجها وتحوّلها إنساناً كاملاً، له همومه«، كما قالت الشهّالالمستقبل«، العدد نفسه)، مضيفةً أن »عبورها الثاني (العودة إلى أهلها) هو عبور اختياري، قرار ناضج بمواجهة الحدود، لكي لا تنتهي إلى مصير جميلة (قريبة لها حاصرتها الأسلاك الشائكة في البقعة المحرّرة، ففرضت عليها عزلة وانكساراً). هي (لميا) تمثّل إذاً الجيل الذي نتمنّى أن يكون أفضل«. وأشارت إلى أن العبور يعكس تحوّل الصبية إلى »امرأة خارج المعتقدات السائدة عن العذرية وارتباطها بالبراءة«.

لم تذهب المخرجة بعيداً في تفعيل البعد الدرامي للحكاية، ولم تصنع من عفوية المراهقة في الجانبين، صورة ما عن معنى التواصل الإنساني المطلوب لكسر الحصار وإلغاء الحدود، دربا إلى استعادة الذات من أسر الاحتلال، أكان عسكريا (إسرائيل) أم اجتماعيا (المجتمع العربي المحاصر بتقاليده وعاداته وعزلته)، ومن بشاعة واقع الانغلاق والتخلّف. مسألة الحدود هذه بدت، في أحيان عدّة، ملتبسة وضائعة بين قوة الموضوع وبساطة المعالجة الدرامية، وبين جمالية اللحظات الإنسانية والرومانسية والوجودية والعجز عن الغوص في متاهة هذه الذات المشحونة بالقلق والألم والتمزّق.

إحدى ميزات الفيلم: ابتعاده عن لغتي الخطاب السياسي والتنظير الإيديولوجي، إذ إن الشهّال ارتأت إفساح المجال واسعا أمام الفرد كي يحتلّ المساحة كلّها في المشهد السينمائي والإنساني، في وسط دائرة الانغلاق الاجتماعي والديني والثقافي العربي.

السفير اللبنانية في 27 أغسطس 2008

 
 

يصل جثمانها إلى لبنان غداً وتوارى الثرى في طرابلس الجمعة

المخرجة رنده الشهال صنعت «طائرة من ورق» وأقلعت على وجهتها الأخيرة

بيروت: سوسن الأبطح

وقع خبر وفاة السينمائية اللبنانية رنده الشهال صاعقاً على محبيها وأصدقائها وعائلتها في لبنان يوم أول أمس. ولعل كل الذين علموا بالسرطان الذي عانته طوال السنتين الأخيرتين، كانوا قد تخيلوا ان هذه المرأة القوية بشخصيتها الصلبة لن تترك مجالاً للمرض كي ينتصر عليها. أما وأن الخبر الذي جاء من باريس قد تبين انه صحيح، وان المخرجة الممتلئة حيوية وتصميماً ستعود جثماناً هامداً إلى مسقط رأسها طرابلس، بعد ربع قرن من الغربة، وكانت المشاريع والرؤى ما تزال تغويها، فإن الحزن يتضاعف ونبرة الأسى لا تفارق من واكبوا عزيمتها السينمائية التي لا تكلّ. يتكلم بحزن إبراهيم الهندي، أحد الذين عرفوها باكراً، متذكراً ـ وكأنما شريط يعود ليظهر أمامه ـ كيف كانت رنده الصغيرة تواظب على حضور نشاطات نادي السينما في طرابلس في سينما «شهرزاد»، تناقش وتحاجج باندفاع قلّ نظيره بين الفتيات اللواتي في عمرها. من ذلك الوقت كانت رنده تحلم بأن تدير الكاميرا بدل ان تكون متفرجة سلبية. ويوم أخبرت والدها بذلك وافق على الفور. فيلمها الروائي الأول «شاشات الرمل» تأخر حتى عام 1991، وهو يجسد حياة مدينة صحراوية تموت بذخاً وغنى، وسارة بطلة الفيلم تحلم بحرية تبقى سراباً. فيلم يحظى بجائزتين لكنه لا يبعد رنده عن لبنانها المصاب، إذ ستعود إليه عبر فيلمها الوثائقي الأشهر «حروبنا الطائشة» الذي تستنطق خلاله عائلتها فرداً فرداً، وتسحب اعترافاتهم حول الحرب، في محاولة لمحاسبة الذات قبل محاسبة الآخر. يحظى هذا الفيلم الذي يخلط الخاص بالعام بجائزة «معهد العالم العربي» عام 1996. فيلمها «الكافرون» 1997 حول الإسلاميين والعلاقات العربية الغربية الذي تدور أحداثه في القاهرة يمر سريعاً، لكن فيلم «المتحضرات» الذي تصرّ الرقابة اللبنانية على ان تقتطع أجزاء منه تصل إلى 47 دقيقة، بحجة ألفاظه النابية وخروجه عما يستطيع ان يحتمله الذوق العام، تشعل من أجله المخرجة حرباً مع الرقابة وضجيجاً إعلامياً كبيراً، وقد عرضته في مهرجانات عدة وحاز جائزتين خارج لبنان. لم تتمكن رنده الشهال من ان تبقى متفرجة أمام تحرير الأسيرة سهى بشارة من السجون الإسرائيلية فخصتها عام 2000 بوثائقي مؤثر يلقي الضوء على تجربتها القاهرة في السجن، ويعرّف بفتاة تحولت بعد أسرها إلى رمز. أما فيلم «طيارة من ورق» عام 2004 الذي سيكون الروائي الرابع والأخير لها، فقد لا يكون أفضل افلامها، لكنه أثار اهتماماً بسبب موضوعه حول مأساة سكان الجولان بين الطرفين الإسرائيلي والسوري، معاناة إنسانية احسنت المخرجة اختيارها لتلقي الضوء على مشكلة نادراً ما اعتنت بها السينما. فعرض الفيلم في صالات عالمية، ونال جوائز عدة من بينها «جائزة الاسد الفضي» في «مهرجان البندقية السينمائي» عام 2003. واقيمت للفيلم احتفالية في لبنان في «قصر اليونسكو» بحضورها، ومنحت يومها وسام الارز اللبناني من رتبة فارس تقديراً لأعمالها. وقد نعى وزير الثقافة اللبناني تمام سلام رنده الشهال يوم امس وقال: «رندة الشهّال... اسم سيتذكره محبو الفن السابع للجرأة التي طبعت أعمالها، وللاسلوب الواقعي في طرح القضايا بقساوتها الفعليّة لا بالتجميل الفني والمواربة والتقليل من وطأتها. فهي في معالجتها للمواضيع السياسية كانت تحكي قصص الحب والحرب والوطن والمنفى، وكانت تقف عند التقاطعات الثقافيّة مع تلك القضايا التي تشغل بال الانسان العربي» وقد ذكر وزير الثقافة بأن «رنده الشهال رفضت ان تتقاسم جائزة اليونسكو للسلام مع المخرج الاسرائيلي عاموس غيتاي عام 1999» ووصفها سلام بأنها «الشاهد على فترة قاسية في لبنان والعالم العربي».

لكن رنده الشهال التي انغمست في الحرب حتى بات اي فيلم يبعدها عنها، يبدو نافراً وغريباً، أرادت في سنواتها الأخيرة ان تخرج من هذا السجن الذي حبست نفسها فيه دون ان تدري. وبعد ان قابلت الفنانة هيفاء وهبي في أميركا مصادفة قررت ان تكتب وتخرج فيلماً كوميدياً موسيقياً تدور أحداثه في عالم كرة القدم، تلعب فيه هيفاء وهبي دور صاحبة مطعم ويشارك في تمثيله الأميركي فال كريمر، والإسبانية فيكتوريا ابريل، لكن المرض أعاق الكتابة وفرملها، وبقي الفيلم معلقاً ينتظر من يكمل فصوله.

رنده الشهال رحلت، ويصل جثمانها إلى لبنان يوم غدٍ (الخميس) ويوارى الثرى يوم الجمعة في مقبرة عائلتها بطرابلس. وكانت المخرجة التي تعلم بخطورة مرضها قد زارت هذه المقبرة قبل أقل من سنة راغبة في تسجيل فيلم وثائقي يروي سيرتها، لكن المرض لم يمهلها والموت قسى عليها، وها هي تعود إلى مدينتها التي تسكن بعيداً عنها منذ أكثر من ربع قرن، لتأوي إلى ترابها بقرب والديها اللذين كان لهما اعظم الأثر في صلابتها وسيرتها العنيدة.

الشرق الأوسط في 27 أغسطس 2008

 
 

رندا الشهال... نهاية اللعبة

آخر أفلامها «طيّارة من ورق» حاز الأسد الفضي في البندقيّة

بيار أبي صعب

فجع الوسط السينمائي في لبنان والعالم العربي برحيلها المبكّر، بعد صراع مرير مع المرض. ثلاثة عقود مرّت منذ تحقيق فيلمها الأوّل، حافظت رندا الشهّال خلالها على مسافة مثيرة مع الواقع ومع السينما، وظلّت مستعصية على التصنيف، في تعدد أساليبها ومحاولاتها، وتنوّع مشاريعها

حين وصل الخبر، مساء الاثنين، كنّا في صالة أمبير صوفيل في بيروت، حيث يقام مهرجان «نما في بيروت». وكان الفيلم الذي يعرض على الشاشة هو «تلك الرائحة التي للجنس»، للمخرجة الشابة دانيال عربيد. رندا الشهّال «المشكلجيّة» يمكنها أن تغمض عينيها وتمضي بسلام، مطمئنّة إلى مصير السينما اللبنانيّة الجديدة التي وضعت لبناتها الأولى عشيّة الحرب، مع أبناء ذلك الجيل الفريد: الراحل مارون بغدادي، برهان علويّة، جوسلين صعب...

إن نساء الجيل اللاحق يضاهينها جرأة وقدرة على استفزاز الجمهور. إنهنّ من الطينة نفسها، ولو بحساسيّات وأساليب أخرى، «باحثات» في المكبوت الجماعي، والمسكوت عنه، عن مفاتيح الراهن، واحتمالات مستقبل مختلف. أليس هذا باختصار رهان رندا الشهّال، على اختلاف مراحل تجربتها السينمائيّة؟، تلك التجربة التي انتهت عنوة أوّل من أمس في باريس، بعدما قال المرض الخبيث الذي تصارعه منذ أربع سنوات، كلمته الأخيرة.

رندا الشهّال الصبّاغ (طرابلس/ ١٩٥٣ ــــ باريس/ ٢٠٠٨)، حالة خاصة في السينما اللبنانيّة والعربيّة. غرفت مواضيعها من الراهن المتوتّر كأنها دائماً تلهث خلفه، ولا تتمكّن من اللحاق به كما ترغب، وكما ينبغي. الحرب الأهليّة، أوّلاً وأخيراً، الطفرة النفطيّة في مدن الرمل، التطرف الديني، الاحتلال الإسرائيلي، الحبّ الممنوع أداةً للعصيان، المثليّة الجنسية، البذاءة كوسيلة أخيرة للمقاومة والبقاء لدى الأفراد المسحوقين في أسفل الهرم، التمرّد الذي يأتي دائماً من النساء. لميا المراهقة التي ترتاد أرض المحظور في «طيّارة من ورق»... إنّها رندا تحديداً، وإن شاءت لها الحياة أن تسلك دروباً أكثر استقراراً وترفاً وطمأنينة.

أفلامها غاليري من الوجوه والأسماء والحالات. الشيخ إمام وزياد الرحباني وطلال حيدر وماريا شنايدر أيضاً. سهى بشارة. أمّها، تلك الشخصيّة الاستثنائيّة التي رحلت عام ٢٠٠٣، الشيوعيّة العراقيّة المسيحيّة، المتزوّجة طبيباً ليبرالياً سنّياً من طرابلس، تتألّق في أنضج أفلامها على الإطلاق. كان ذلك بعد فيلم روائي أوّل إشكالي، عادت إلى حضن تلك العائلة ــــ الرحم، أعطت الكلمة لأفرادها، غاصت في ذاكرتها الخاصة التي تتقاطع مع المشهد السياسي العام، لبنانيّاً وعربياً، فكان فيلم «حروبنا الطائشة» (١٩٩٥).

بقيت رندا على مسافة (أرستقراطيّة) من الواقع ومن السينما، وظلّت مستعصية على التصنيف، في تعدد أساليبها ومحاولاتها، وتنوّع مشاريعها، وذلك المذاق الغامض لـ«غير المنجز» الذي بقي بالمرصاد. كان لا بدّ من انتظار «طيّارة من ورق» آخر أفلامها، والحلقة الأخيرة من ثلاثيتها الروائيّة الطويلة، كي تقترب المخرجة الشابة أخيراً من طموحاتها ومشاغلها، وكي تتصالح مع نفسها ومع الجمهور. إنّه فيلم التكريس (إنتاج الراحل أومبير بلزان)، الذي ختمت به مسيرة متعرّجة ومتقطّعة لا تشبه إلا نفسها.

في عام ١٩٧٣ ذهبت إلى جامعة «فانسان» (باريس الثامنة) بؤرة الثورة الطلابية، لتدرس السينما، قبل أن تواصل إعدادها في «معهد لوي لوميير». كانت الحرب الأهليّة قد نشبت حين عادت، فتركت بصماتها على «خطوة خطوة» (١٩٧٨) شريطها الوثائقيّ الأوّل، من «إنتاج مؤسسة السينما الفلسطينيّة»، مع مدير التصوير الراحل روبي بريدي. التجربة الثانيّة ستكون مختلفة تماماً، مشغولة بالبعد الجمالي والحنين. على هامش معرض للبطاقات البريديّة نظّمه جورج الزعنّي، صوّرت رندا حنينها إلى «لبنان أيّام زمان» (١٩٨٠) في زمن الحرب، على وقع صوت الشاعر طلال حيدر.

بعد الاجتياح الإسرائيلي، مضت رندا إلى باريس، مع رفيق دربها الكاتب والمهندس إيلي ــــ بيار صبّاغ. وفي كواليس «مسرح الأماندييه» كانت الشاهدة على لحظة تاريخيّة نادرة في ذاكرة اليسار العربي: خروج الثنائي أحمد فؤاد نجم/ الشيخ إمام من السجن الكبير، لإحياء أمسيتين استثنائيّتين في عاصمة الأنوار. رندا لمست تلك الأسطورة التي عاشت معها في بيتها وبيئتها الأولى، في ظلّ أختها الأكبر نهلا، المناضلة الشيوعيّة التي لم تفقدها السنوات (والهزائم) من صفائها الثوري. هكذا أنجزت «الشيخ إمام» (١٩٨٤)، الشريط الوثيقة الذي لم ينل بعد نصيبه الحقيقي من العرض!

وذات يوم في باريس، حسمت المخرجة الشابة أمرها، ورأت أن الوقت قد حان لتحقيق فيلمها الروائيّ الأوّل. الفكرة الأولى كانت اقتباس رواية حنان الشيخ «مسك الغزال»، لكنّ خلافاً مع الكاتبة جعلها تخوض المغامرة بشكل آخر. صار «شاشات الرمل» (١٩٩١) ملكها، من خلاله تحكي تلك العلاقة الملتبسة من زمن النفط، في مدينة تنبت كالفطر وسط لامكان، بين سارة المطلّقة الثريّة التي تشعر بأن كل شيء بمتناولها ومريم الآتية من الحرب اللبنانيّة. امرأتان وسط عالم من الترف والحجب والممنوعات والرغبات الدفينة. بدا الفيلم مفكّكاً في بعض الأماكن، لكنّ الشهّال نبشت لدور سارة ممثّلة مشهورة غارقة في غياهب النسيان. إنّها ماريا شنايدر التي تختزن ربّما علاقتها بالسينما. هي التي أحبّت الفنّ السابع مراهقة بعد اكتشاف ميكلانجلو أنطونيوني، ها هي تعيد الصلة بطوطم من عالمه، بطلة فيلمه الأشهر «المهنة مخبر».

في عام ١٩٩٧ ستخوض تجربة مع التلفزيون (arte) من خلال فيلم «كفّار» الذي يذهب بالمشاهدين إلى المياه الآسنة للأصوليّة الإسلاميّة والإرهاب. تدور أحداث القصّة في القاهرة، حيث قرّر فريد، الإسلامي ــــ عن ترف لا عن عوز ـــــ أن يسلّم الفرنسيين أسراراً خطيرة تعلّق بشبكة إرهابيّة في فرنسا مقابل إطلاق سراح رفيقه. لكن العلاقة مع شارل الملحق الثقافي في القاهرة، ستنقلب إلى غواية وانجذاب جسدي بين الاثنين.

في العام التالي حقّقت رندا الشهّال فيلمها الروائي الطويل الثاني «متحضرات» (١٩٩٨) الذي سيحظى بالشهرة... إنما عن طريق الفضيحة. يعود الفيلم (تمثيل جليلة بكّار، كارمن لبّس، مريم معكرون، رينيه ديك، تميم الشهّال، سوتيغي كوياتي...)، إلى الحرب الأهليّة بعد «نهايتها» المفترضة، وذلك من خلال أهل الحضيض، من خدم وفقراء اضطروا إلى البقاء في أسرى المدينة وأتونها المشتعل. جنس وعلاقات مثليّة وبؤس وعنف وفقر وقنّاصة، وخادمات يختزنّ على طريقتهنّ ذاكرة الحرب. أثار العمل حفيظة الرقابة لفجاجة لغته، وشتائمه، وفظاظة أحداثه وعلاقاته، وتحريكه جراحاً كان الخطاب الرسمي قد «قرّر» التئامها. وإذا برندا بطلة ثوريّة، كما نتصوّرها دائماً، تواجه الذهنيّة المتحجّرة وتصعّد في مواجهتها... أما النقاش حول نضج الفيلم وتماسكه الدرامي، ومقدرته على الإقناع... فأجهض إلى غير رجعة.

بعد وقفة تسجيليّة مع المناضلة سهى بشارة، تزامنت مع خروجها من المعتقل الإسرائيلي وتحرير الجنوب اللبناني (٢٠٠٠)... توقّفت الشهّال لتستعيد أنفاسها، استعداداً لتحقيق فيلمها الأخير. عملها الروائي الثالث الذي صفق له نقّاد العالم في «مهرجان البندقيّة/ فينيسيا» حيث فاز بالأسد الفضّي. إنّه «طيارة من ورق» (٢٠٠٣)، فيه تحاول أن تضع اليد على إحدى مفارقات الاحتلال الإسرائيلي، من خلال حياة قرية في الجولان نصفها محتلّ، ترزح تحت عبء التقاليد التي تصادر حريّة المرأة.

ولعلّه الفيلم الأكثر اكتمالاً فنياً وتقنياً، بسبب تماسكه الدرامي، وقوّة مونتاجه، وطرافة موضوعه، وأداء ممثلاته (فلافيا بشارة، رينيه ديك، جوليا قصّار، رندا الأسمر، و... زياد الرحباني) وغنى شريطه الصوتي (موسيقى زياد الرحباني). عند الحدود مراهقة تلاعب الرياح بطائرتها الورقيّة. تلك الحدود ستجتازها أوّل مرّة بملابس العرس لملاقاة زوج لا تعرفه على الضفّة الأخرى. ثم تجتازها كفعل تمرّد، تعبر حقول الألغام إلى الجندي الإسرائيلي الذي أحبّته عند ذلك الشرخ بين عالمين وحقيقتين وحريّة مستحيلة. تختار المخرجة لفيلمها نهاية غرائبيّة... كأنها تريد للوطن أن ينتصر على الاحتلال، وللحبّ أن يتحرر من وطأة العشيرة.

لا يمكننا أن نتخيّلها إلا في صورة تلك الصبيّة النضرة، المشاكسة، ذات الطبع الصعب، والشخصيّة الصداميّة التي تلتقي عندها نرجسيّة الفنّان براديكاليّة ابنة العائلة اليساريّة العريقة، حيث تختلط الأصول والأديان والخيارات الوطنيّة والاجتماعيّة والقوميّة، لتخلق بؤرة خصبة فكريّاً وإبداعيّاً (وسياسيّاً)... كأنّها بطلة لأحد أفلام غودار، بين عفويّة وسذاجة وتمرّد. ولعلّها عاشت حياتها شريطاً سينمائيّاً هو الأنجح في مسيرتها، من دون أن تدري.

رحلت رندا الشهّال، من دون أن تحقّق «لسوء حظّهم» مشروعها الروائي مع هيفا وهبي وفيكتوريا ابريل وفال كيلمر. المشروع الذي صرفت النظر عنه لأسباب ماليّة وصحيّة، كان سيشارك في إنتاجه إيلي سماحة من هوليوود... وآخر ما حقّقته فيديو كليب لأغنية زياد الرحباني «أمّنلي بيت» مع لطيفة التونسيّة.

الأخبار اللبنانية في 27 أغسطس 2008

 
 

لماذا يرحلون "بكّير"؟

مارون صالحاني

عندما تناولت وسائل الاعلام خبر رحيل السينمائية اللبنانية رندا الشهال صباغ عن 55 عامًا (بعد صراع طويل مع مرض السرطان)، تذكرت فجأة سينمائي لبناني رحل هو الآخر "بكير": مارون بغدادي.

لماذا يرحلون هكذا فجأة وكأنهم اتموا المهمة وقالوا كلمتهم ومشوا... يتفاجأ المرء برحيلهم. يأخذونك على حين غرّة... تلاحظ بأنّ عندك الكثير لتسألهم إيّاه. وماذا لو قدّر لك أن تحصل على لقاء أخير معهم... لدقائق معدودة - تستدعيهم مجددا- وكأنّك أمام وقت مستقطع في مباراة كرة السلّة أو كرة القدم وستعطى فيها فرصة ثانية... لتطرح أسئلة، للأسف ستبقى دون إجابة. إنها أسئلة ترحل بسرّها والاجابة عنها مع صاحبها.

رندا الشهّال قالت مرّة: "تكتشف في أفلامي قاسمًا مشتركًا. ألم تلاحظ بأنّ حركة الكاميرا هي فقط من اليمين إلى اليسار... تمامًا مثل الكتابة باللغة العربيّة".

ربما كان هناك أكثر من اللغة العربيّة في حركة كاميرتها – من اليمين الى اليسار - . هل هناك إيديولوجيّة الالتزام اليساري (وهي اليسارية الملتزمة من بيت يساري سياسي ملتزم وناشط). وهنا كنت أودّ لو أسألها: هل "تجنح" دائمًا حركة الصورة أو حركة الكاميرا عندك نحو اليسار في تبيان للنضال والثورة والقضايا الكبرى – قضايا الانسان المظلوم والمقهور وقضايا العالم العربي- التي التزمتِ بها.

أسألك هذا وكأنّ "المراهقة" التي سافرت يومًا إلى باريس لتدرس مادة السينما عام 1972 لم تستطع إزالة دمغة أو وشم أيّار 68 وتداعياته في سبعينات الايديولوجيّات والحركات الطلابيّة وفيتنام ووترغيت وودستوك... وصولا إلى الحرب اللبنانيّة.

ووددت أيضا أن أسألك: "ترى هل رست حركة الكاميرا في أفلامك على نهج أراد أن يؤكّد وأن يحرص على لغة سينمائيّة أردتها أنت باللغة "الام"، وهي مسيحيّة عراقيّة حملت مشعل التزامها الشيوعي وكانت من أولى النساء الشيوعيّات في العالم العربي؟

صفّق الكثير لرندا الشهّال عندما فاز فيلمها "طيّارة ورق" بجائزة الأسد الفضّي في مهرجان البندقيّة السينمائي. الدولة منحتها وسام الارز اللبناني من رتبة فارس تقديرا لهذا العمل وكأنّها أرادت أن تقدّم لرندا الشهّال إعتذارًا جاء متأخّرًا لمنع الرقابة اللبنانيّة فيلمها "متحضّرات" (1999) بذريعة بذاءة تعابيره والحوارات. السواد الاعظم من النقّاد والجمهور رأوا في هذا الفيلم "طيّارة من ورق" صرخة في وجه الاحتلال الاسرائيلي "والعدو الغاصب الصهيوني الغادر" –نسبة إلى اللغة الخشبيّة- وربّما برّروا موقفهم هذا بالجملة التي قلتِها في حفل "تتويجك" في البندقيّة: "أنا أتيت من بلد صغير إلى درجة أنكم لا تجدونه على الخريطة... هل أنا أشكّل لكم مصدر تهديد... هل أنا أمثّل محور الشر والرئيس بوش محور الخير" وعزوا موقفهم أيضا إلى حركة يدك "النضاليّة" عندما هممّت بمغادرة المسرح.

أما أنا، وهنا أعتذر منكم كلّكم، فقد شاهدت نضوج تلك "المراهقة الابديّة". فما تناوله الفيلم خاصة كان الإنسان العربي الذي يبقى أوّلا وأخيرًا ضحيّة التخلّف والجهل. عفوًا، وقتها لم أشاهد في فيلم رندا الشهّال "الاسرائيلي الغاصب" الذي كان الغائب الأعظم (بقي خارج الصورة Hors-champs ) وإن "حزرنا" وجوده من خلال الاسلاك الشائكة والالغام وأبراج المراقبة والزي العسكري، وهو ما نراه بكثرة في الفيلم.

لقد توقّفت وقتها عند قراءة تذهب أبعد من القراءة الاولى. وأنت أيضًا يا رندا... فقد عبرت مع بطلة الفيلم إلى حقل الالغام... إلى تلك المساحة المحرّمة عبر الاسلاك الشائكة... لقد عبرتي مع لميا- بطلة فيلمك- إبنة الـ 16 ربيعًا لا لملاقاة حتفها بل لتتحرّر من "العشيرة" (الكبرى؟)
ألم تقولي أيضًا في أحد الايّام: "في أفلامي تجدون دائما أحدهم يجتاز مساحة ممنوعة، محرّمة"... وهذا أيضًا سؤال كنت أود لو أسألك إيّاه... للأسف سيبقى أيضًا من دون جواب.

رندا الشهّال (مارون بغدادي قبلها) حفظا وطبّقا بعناية فائقة درس كتابة السيناريو والدراماتورجيا.

فعلم السيناريو ينصح "بالخروج" من المشهد، من الصورة أو الكادرCadre باكرًا جدًا... لإبقاء المشاهد على عطشه وشوقه وربما حسرته...

لقد قلتي Cut (إقطع) لحياتك قبل الاوان... وبذلك أردتِ أن تكوني مخرجة وسينمائيّة لحياتك حتى آخر لحظة ورمق.

النهاية.

موقع "لبنان الآن" في 28 أغسطس 2008

 
 

رحيل المخرجة رندة الشهال في باريس

بيروت - “الخليج” ووكالات: توفيت في العاصمة الفرنسية باريس أمس الأول المخرجة السينمائية اللبنانية رندة الشهال عن عمر يناهز 55 عاماً بعد صراع مع مرض السرطان.

وقال مصدر من العائلة في باريس في اتصال هاتفي مع “يونايتد برس انترناشونال” إن الشهال توفيت مساء أمس الأول، وسوف ينقل جثمانها إلى لبنان غداً، على أن توارى الثرى في اليوم التالي في مسقط رأسها بطرابلس شمال لبنان.

وولدت الشهال في طرابلس - لبنان 1953 ودرست السينما في جامعة فينسان وبعدها في مدرسة لوي لوميير الوطنية العليا .

وحققت أول أفلامها “خطوة خطوة” عن دور الدول المعنية بالحرب اللبنانية عام ،1979 ثم فيلم “لبنان أيام زمان” عام 1980 وقدمت أول أفلامها الروائية عام 1991 “شاشات الرمال” الذي شارك في مهرجان البندقية السينمائي.

وقدمت الشهال الفيلم الوثائقي “حروبنا المتهورة”، ثم فيلمها الروائي “متحضرات” عام ،1988 قبل أن ينال فيلمها “طيارة من ورق” عن الجولان السوري مع زياد الرحباني جائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية الستين عام ،2003 والشهال متزوجة من إيلي بيير صباغ ولها منه ثلاثة أولاد، صبيان وبنت.

ومع الإعلان عن وفاتها رثاها وزير الثقافة تمام سلام أمس وقال: “انطفأت كاميرا رندة الشهال، ونال المرض العضال من هذه السينمائية اللبنانية الجريئة، وانتقلت إلى رحمة الله، تاركة إرثا قيما من الأفلام التي وصلت إلى المهرجانات العالمية وباتت محور النقاشات الفنية والسياسية في العالم العربي والعالم.

وتابع: رندة الشهال اسم سيتذكره محبو الفن السابع للجرأة التي طبعت أعمالها، وللأسلوب الواقعي في طرح القضايا بقساوتها الفعلية لا بالتجميل الفني والمواربة والتقليل من وطأتها. فهي في معالجتها للمواضيع السياسية كانت تحكي قصص الحب والحرب والوطن والمنفى، وكانت تقف عند التقاطعات الثقافية مع تلك القضايا التي تشغل بال الإنسان العربي.

وختم: هي ابنة طرابلس الفيحاء وتحمل وسام الأرز اللبناني من رتبة فارس تقديرا لإعمالها، وهي التي وقفت ورفضت ان تتقاسم جائزة اليونيسكو للسلام مع المخرج “الإسرائيلي” عاموس غيتاي عام 1999. رحم الله الفقيدة وهي تغادر الفن السابع والدنيا تاركة بصماتها التي ستكون حتما الشاهد على فترة قاسية في لبنان والعالم العربي”.

وقد أشادت الصحف اللبنانية امس “بجرأة” المخرجة اللبنانية رندة الشهال، و”عنادها” في نقل المعاناة السياسية والانسانية للانسان العربي الى الشاشة في اعمال “نخبوية”.

وكتبت صحيفة “النهار” ان “الشغل الشاغل للشهال كان العبث بالمسلمات” في افلام “نخبوية” “اتسمت “بالذاتية والحميمية” وواجهت “سيلا من الانتقادات وسوء الفهم والتحليل”.

ولفتت الى ان الشهال “يسارية مناضلة بقيت على موقفها بعد انهيار كل الايديولوجيات” وانها “استفزازية في طباعها مشاكسة متعنتة في قناعاتها عنيدة وطموحة”.

وعنونت صحيفة “السفير” مقالتها بعبارة “رحيل غزالة السينما اللبنانية”.

وكتبت الصحيفة انها “صنعت مساراً من التساؤلات الجمة وتمارين خصبة في آلية صنع سينما لبنانية عربية منفتحة على افاق الاختبارات الانسانية والثقافية والفنية العالمية”.

وقالت صحيفة “المستقبل” ان رندة الشهال كانت “شخصية جدلية بامتياز صدامية ومقاتلة ومتمردة في كافة مراحل حياتها”.

ومن ابرز افلامها الروائية “متحضرات” (1999) الذي منعته الرقابة في لبنان بذريعة بذاءة تعابيره و”طيارة من ورق” (2003) الذي نال جائزة الاسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائي.

الخليج الإماراتية في 28 أغسطس 2008

 
 

رحيل رندة الشهال

الصوت النسائي اللبناني المتفرد

بقلم: هدي إبراهيم - باريس (ا ف ب)

لم تكن رندة الشهال مكثرة كمخرجة لكنها رحلت عن ثلاثة أفلام روائية وعدد من الأفلام الوثائقية ومشاريع روائية ووثائقية لم يتح لها المرض الخبيث إتمامها وتأخر تيسر المال اللازم لانتاجها،وقد انتظر سيناريو فيلمها الأخير طويلا علي الورق ورحلت بعد أن كتبته ولم تنجزه وهو نوع من كوميديا موسيقية حول عالم كرة القدم كان يفترض أن تقوم ببطولته الفنانة هيفاء وهبي في دور صاحبة مطعم إلي جانب فال كريمر الأمريكي والنجمة الأسبانية فيكتوريا ابريل كما سبق للمخرجة أن ذكرت في أحاديث صحفية.

وكان فيلمها الروائي الأخير طائرة من ورق الذي تدور أحداثه في أوساط الدروز في قرية حدودية مقسومة جزء منها لبناني- سوري والآخر محتل من قبل إسرائيل نال جائزة الدب الفضي في مهرجان البندقية عام 2003 وانتجه الفرنسي الراحل امبير بلزان منتج يوسف شاهين وعدد من المخرجين العرب الذين غدوا يتامي من دونه،وافتتح هذا الفيلم أيام قرطاج السينمائية عام 2005 حيث كان أول فيلم روائي قصير لها فاز بجائزة قبل سنوات من ذلك،وكانت الرقابة في لبنان منعت فيلمها الروائي الثاني متحضرات عام 1998 وإلا كان علي المخرجة أن تحذف منه 47 دقيقة وهو ما رفضته رندة الشهال، وركز الفيلم في كتابة درامية لا تخلو من سخرية مريرة علي شخصيات تعيش حمي الحرب الأهلية اللبنانية وعلي خادمات متروكات في بيروت الحرب. أما فيلمها الروائي الأول فحمل عنوان شاشات الرمل عام 1991 وحكي قصة صداقة حميمة بين امرأتين، وقد تناولت رندة الشهال في أعمالها وباستمرار مواضيع بدا أنها ثوابت لديها مثل السياسة والحب والحرب والوطن والمنفي وقد برزت هذه المواضيع في أفلامها الوثائقية كما الروائية. وبعد أن درست المخرجة في باريس التي جاءتها عام 1973 في السوربون وفي معهد لويس لوميير أنجزت عددا من الأفلام الوثائقية كان أولها خطوة بخطوة عام 1997 الذي تناول الحرب والتدخل الخارجي في لبنان، وبعد عدد من الأعمال الوثائقية وفيلم تلفزيوني عرضته قناة آرتي الفرنسية الألمانية أنجزت رندة الشهال أحد أهم أفلامها الوثائقية حروبنا الطائشة الذي صورت فيه الحرب الأهلية اللبنانية من خلال أفراد عائلتها ومسؤوليتهم وعلاقتهم بهذه الحرب في مزيج غير معهود بين العام والخاص، ونال هذا الفيلم الذي يعتبر من أهم أعمالها الوثائقية والذي أنجز عام 1995 جائزة الفيلم الوثائقي في بيانالي السينما العربية في باريس، عام 2000 صورت رندة الشهال بورتريه لسهي بشارة المحررة من معتقل الخيام أيام الاحتلال الإسرائيلي للبنان في خطة أخري تبين مدي التزامها القضايا الوطنية ومناهضتها للاحتلال عبر أعمالها. وكانت الشهال قبل ذلك زارت مصر وأنجزت عام 1984 فيلما وثائقيا عن الشيخ إمام تحول اليوم إلي وثيقة حول المغني الراحل. وهي في رحلتها الفنية لم تتردد حتي في تصوير الفيديو كليب حيث وقعت كليب لطيفة معلومات مش أكيدة التي كتب كلماتها ووضع موسيقاها الفنان زياد الرحباني الذي تعاونت الشهال معه لوضع الموسيقي التصويرية لفيلمها طائرة من ورق وهو يظهر أيضا ممثلا فيه. كانت رندة الشهال مخرجة جريئة أنجزت أفلاما حميمة ملتزمة وبرعت في الوثائقي اكثر منه في الروائي وظلت يسارية بعد أن ارتد الكثيرون عن قناعتهم في لبنان وظلت طموحة متمردة. وعاشت رندة الشهال في باريس تحلم بلبنان الآخر وتنجز أفلاما عنه تتصارع مع المرض الذي انتصرت عليه سنوات قبل أن يعود وينتصر عليها فتمضي الفترة الأخيرة من حياتها في كفاح مرير ضده لكنها ظلت مقاومة وشجاعة حتي اللحظة الأخيرة.وذكرت مصادر عائلية في باريس لوكالة فرانس برس أن جثمان رندة الشهال التي توفيت الاثنين سينقل إلي لبنان اليوم ثم يواري الثري في مدينتها طرابلس غدا.

الراية القطرية في 28 أغسطس 2008

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)