كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

تقدير..

المخرجة اللبنانية رندة الشهّال

محمد رضا

رندا الشهال

مفاجأة الرحيل

   
 
 
 
 

أمّت رندة الشهال السيـنـما من باب الأ يديولوجيا وحققت ثلاثة أفلام روائية طويلة فقط ما يعكـس صعوبة الطريق أمام المخرج اللبناني، والمخرجة اللبنانية بالتحديد٠

التقيت برندة الشهّال لأول مرّة في باريس في ستديو صغير كان يقع (وربما لا يزال) في أحد المتفرّعات الصغيرة من قوس النصر في الشانزليزيه٠ والذاكرة المحفوظة من ذلك اللقاء توحي بأنها كانت فتاة جادّة رسمت، ربما قبل هذا اللقاء الذي تم في مطلع الثمانينات، طريقها ووثقت به٠

بدت رندة الشهّال آنذاك سينمائية واعدة أكثر منها منجزة. إمرأة في مقتبل العمر لديها طريق طويل لكي تسير فيه وهي بعد في أول الطريق. وفي عالم عربي يتعرّض فيه المبدع لكل ما هو معروف -وغالباً مفتعل لا داعي له- من أزمات ومشاكل ومصاعب، فإن أحداً لم يكن يتوقّع أن تستطيع إحتلال مكانة لها بهذا القدر اليسير جدّاً من الأفلام٠ وهي ليست أفلام فنيّاً متكاملة وأوّلها لم يكن حتى جيّداً، لكن المرء احترم لديها ذلك الإيمان العميق برسالتها والبذل الداخلي لإنجاز أعمال تقول شيئاً عن القضايا وقضايا المرأة في مطلعها٠

كانت واحدة من سينمائيات لبنانيات قليلات استطعن تحقيق أفلام٠ إثنتان من جيلها تخطران على البال هما هيني سرور (»دقّت ساعة التحرير... برّا يا إستعمار«- هل يذكره أحد؟) وجوسلين صعب التي أنجزت قبل عامين »دنيا« ويبدو أن وقتاً طويلاً سيمر قبل أن نشاهد فيلماً آخر لها٠ لكن حتى يكون الأمر المطروح واقعياً لابد من القول أن الظروف ذاتها تواجه المخرجين اللبنانيين الجادّين عموماً. الذكور كما الإناث. الراحل العزيز مارون بغدادي هو الفلتة المحظوظة الوحيدة إذ استطاع مواصلة العمل ما بين لبنان وفرنسا منجزاً ما بين سنة 1975 وسنة 1992 ستة عشر فيلماً ما بين روائي وتسجيلي٠

الباقون، ومنهم برهان علوية وبهيج حجيج وغسّان سلهب وجان شمعون، تمر السنوات رتيبة عليهم وتعلو الغبار مشاريعهم وتمتد المواسم طويلة بين فيلم لأي منهم وآخر٠

رندة اهتمّت بقضية المرأة ووضعها في كل فيلم من أفلامها الروائية الثلاث٠ لكن يمكن أن يُقال الأمر ذاته لأي فيلم أنثوي الطرح او الموضوع، ما ميّز أعمال رندة أن طرحها لقضية نسائية كان دائماً محاطاً بالظروف التي صنعت هذه القضايا٠ المرء لم يكن دائماً مع تفسيراتها ومداخلاتها وتعريفها الظروف التي تجعل المرأة العربية ضحيّة، لكنه كان لابد له أن يحترم ذلك الرأي الذي تبديه٠ من الناحية الفنيّة الصرفة، فيلماها الأوّلان »رمال من ذهب« و»تضحيات« يبدوان اليوم، كما حين إنتاجهما، أشبه بتجارب عانت من كثرة الوارد من الأفكار وقّلة المتوفّر من معرفة تقنية وفنية٠ الثالث، »طائرة من ورق«، أفضلها.

آخر مرّة شاهدتها فيها كانت سنة 2006 حين جاءت الى لوس أنجيليس في زيارة واخذتها بسيارتي، وكان معنا جورج شمشوم، الى منزل المنتج اللبناني إيلي سماحة. كان المشروع الذي بين يديها (والذي قرأته وأعجبت بفكرته والذي لم تتمكن من تحقيقه للأسف) بحاجة الى تمويل وإيلي سماحة أبدى الإستعداد. لكن أما أن هذا الإستعداد كان وقتياً وإما أنه لم يكن موجوداً في الأساس. وعدها أيضاً أيمن حلواني عن شركة روتانا وكانت له طلبات على السيناريو والمباحثات بينهما بدأت ثم توقّفت. هذا الآخر لم يمض معها الشوط الذي كان يمقدوره إنجازها ذلك السيناريو٠

التالي ما كتبته عن »طائرة من ورق«، الفيلم حين شاهدته في مهرجان ڤنيسيا العام 2003 حيث نال جائزة لجنة التحكيم المعروفة أيضاً بالجائزة الفضّية . كانت علاقتي معها متوتّرة بسبب ما تعرفه عني من رأي سلبي بخصوص فيلميها السابقين، لكن حين شاهدت »طائرة من ورق« طلبت من الراحل العزيز غسّان عبد الخالق إبلاغها إعجابي بالفيلم ثم كتبت مقالتي التالية في صحيفة »الحياة« (ولاحقاً نشرتها في كتابي السنوي »كتاب السينما«. ردّاً على ذلك أبلغتني عن طريق غسّان أنها سعدت لرأيي٠  

طائرة من ورق

 *** 1/2  

تقدّم رندة الشهال صبّاغ في ثالث وأفضل عمل روائي لها الى اليوم فيلماً على مستوى فني جيّد برسالة متبلورة ضمن رؤية سياسية خاصّة وذات بعد إنساني وأنثوي مثير للإهتمام في الوقت نفسه. والصفة الأنثوية هنا هي تأكيد على منحى أفلام رندة الروائية الثلاثة الى اليوم، فأفلامها من بطولة نساء حيث المرأة، بوجوه مختلفة إنما عادة ما هي وجودة ودودة تستحق التعاطف ولا تحصده، هي مفتاح ما تتناوله من مشاكل إجتماعية تود المخرجة طرحها٠

قوّة »طائرة من ورق« تكمن في أنه، في الصلب، هو قصّة حب بين فتاة درزية أسمها لميا (فلافيا بشارة) وبين مجنّدي درزي في الجيش الإسرائيلي أسمه يوسف (ماهر بسيبس) وذلك في قرى الجولان. قرى محتلة من قبل اسرائيل، وأخرى لم يتم إحتلالها وذلك إثر حرب الـ 1973 وجميعها درزية٠ نشاهد لميا أوّلاً وهي تشارك أخيها الصغير اللعب بطائرة من ورق. ونحس برغبتها المتمثّلة في الإنعتاق من اللحظة الأولى التي نراها فيها وقد أشرأب عنفها ليلاحق تلك الطائرة وهي تموج في الهواء٠ حينما تسقط الطائرة على الأسلاك الشائكة التي نصبها الجيش الإسرائيلي مقسّماً تلك القرى الى نصفين، زارعاً حولها الألغام الخفية، تغامر لميا بحياتها لأجل تخليص الطائرة من الأسلاك والعودة بها. هنا تلفت نظر ذلك المجنّد الواقف على برج المراقبة في الجانب الإسرائيلي، والى حد مراقبتها بعد ذلك كلما بدت له. فعلتها تلك تستدعي اجتماع الشيوخ وكبار المعنيين في القرية السورية التي تعيش لميا فيها حيث يتم على أثر الإجتماع القرار بتزويج الفتاة من قريب لها يعيش مع أمه في الجانب المحتل٠

لا هي تريده ولا هو يريدها أيضاً، لكنها تُزفُّ إليه على أي حال ولا تختلط به. وحياتهما -وقد انتقلت للعيش معه بموجب موافقة خاصّة من السلطات الإسرائيلية- سريعاً ما تصبح حلماً بالإنعتاق ورغبة في الإفتراق. ماحدث لها هي أنها انتبهت بدورها الى ذلك المجنّد الذي منذ أن لمحها وهو منشغل بها. الان، هي منشغلة به أيضاً ولا تريد العودة الى قريتها كما يقترح عليها زوجها. لكنها في النهاية تعود. تخاطر في أن تصبح عانساً (حسب التقاليد لا تُعرض على أحد آخر) على أن تبقى لجانب زوجها، لكن قلبها الآن بات مع المجنّد في صومعته السعكيرة وهي ستخاطر بحياتها من جديد لأجل اللقاء به٠

الطريقة التي صاغت المخرجة هذا اللقاء رمزية: مرّة أخرى تجتاز المسافة المزروعة بالألغام، لكننا هذه المرّة نراه تنفجر إذ داست على لغم. نشاهد أشلاء متطايرة. فجأة ما تظهر لذلك العسكري في برجه وما يدور فوق ذلك البرج بالغ الأهمية. إنها هي التي تعلّم العسكري أنها تريده. وهي التي تعلمّه أيضاً كيف تريده: "سأفك أزرار سترتك، ستخلع هذه السترة. الحذاء أيضاً. أهم شيء هو الحذاء ... وتلك النجمة" وتأخذ لميا قبّعة العسكري حاملة الرمز العسكري الإسرائيلي وترميها. ما تفعله رندة الشهّال هنا هو أنها تتيح لبطلتها تعرية المجنّدم ن حياته العسكرية وتحويله الى إنسان من جديد. تمنحه الأكسجين الذي هي وتخلق الوضع الوحيد الذي يمكن لسلام حقيقي أن ينمو ويعيش: إسرائيل بلا عسكر٠

فيلم »طائرة من ورق« محاولة المخرجة لتقديم صورة عن الصراع العربي- الإسرائيلي من دون ولوج الحرب، وبل من دون تقسيم الجانبين الى ألوان٠ وهي تفعل ذلك عبر مفاتيح كثيرة بينها الرسالة التي تحملها، لكن، مشهدياً، تضيف الى هذه الرسالة رغبتها في تقديم بطلة تعيش أنوثتها. والفيلم أنثوي جدّاً كفيلمي المخرجة السابقين رنما من دون التوقف عند المسائل الكبيرة وحدها. هنا تقحم الكاميرا نفسها في جمال المرأة وفي حركاتها الصغيرة وتلاحظ تلك التفاصيل الحية الجميلة الساكنة تحت الجلد والمتحركة فوقه. ومن حسن حظ الفيلم أن رندة وجدت ممثلة مثالية لهذا الدور هي فلافيا بشارة. فتاة شابة تملك العينين ونظراتهما المناسبة. لون البشرة وحجم الجسد وقدراً كبيراً من القوّة الذاتية المجسّدة٠

في المقابل، إخراج رندة للشخصيات الرجالية أقل تفصيلاً وعناية للأسف. ليس فقط أن أيا منها لا يشترك في الحوار الناتج على مستوى البعد الإنساني المطروح، ولا يؤلّف قدراً كافياً من الإسهام في الدراما الحاصلة، بل بطولة الجميع بإستثناء زياد الرحباني (الذي لم يكن يمثّل بقدر ما كان يشخّص) على الدرجة الأولى من سلّم الإجادات. ربما هذا مقصود وهو بالتأكيد يساعد على إبراز لميا كشخصية قويّة، لكن في مقابل تسجيل هذه الحسنة، يتعرّض الفيلم الى تفاوت بين القدرات. الممثل الذي يؤدي دور الزوج الشاب لديه ردّات فعل محدودة جدّاً يمارسها ولا تتغير من مشهد لآخر لأن الشخصية خُلقت هامشية ولا تتعلم غير أن تدقى كذلك، لكن من الجيّد والمفيد لو أنها فعلت وشاهدنا تطوّرها وكيف أصيبت بالروح المتمرّدة لبطلة الفيلم٠

الى ذلك، هناك إحساس مفقود بالوقت وبترتيب بعض المفارقات خصوصاً الوقت الذي تمضيه بطلة الفيلم في الجانب الإسرائيلي بعد زواجها... أهو بالأيام أم بالأسابيع. وهناك حقيقة أننا إذ علمنا متى لفتت نظر المجنّد الدرزي لا نعلم متى لفت هو نظرها٠ رغم هذا، هذا أفضل فيلم روائي حققته المخرجة اللبنانية الى اليوم. وسبق لها أن أخرجت »شاشات الرمل« و»المتحضّرات« . وكل منهما عانى من إشكالات متعددة كاشفاً عن أن عقل المخرجة قد يكون مليئاً بالأفكار، لكن الأفكار لا تصنع فيلماً جيّداً بالضرورة. »شاشات الرمل« و»المتحضّرات« كشفا عن جرأة في الطرح، لكن عن فوضى في السرد وعثرات في الصياغة الفنية والسردية الإجمالية٠

هنا تعكس رندة الشهال اليوم تقدّماً واضحاً في هذا المجال. لقد وضعت سيناريو أفضل بكثير من مرّتيها السابقتين. انتبهت، او وافقت في نهاية الأمر على النقد الذي ذكر مكامن الضعف السابقة وتجنّبت العديد منها. تجاوزت عثرات الأمس لتبدو اليوم مدركة أهمية أن تلتزم بسيناريو بسيط في الظاهر توليه عناية مركّزة ما يجعله قادراً على استيعاب البيذة والأجواء وتقديم الفكرة شفّافة ورقيقة وفي ذات الوقت صادقة وعميقة. هي أيضاً الوحيدة بين المخرجين العرب التي على علاقة جيّدة مع المنتج ورجل الأعمال طارق بن عمّار (أشرف على التركيبة الإنتاجية ) بعدما أخفق في التعاون معه كل مخرج عربي قصده من قبل بمن فيهم أسماءاً نيّرة مثل الناصر خمير ورضاي الباهي وأحمد الراشدي ومحمد لخضر حامينا٠

CAST & CREW

Director: Randa Chahal Sabag

Producer: Humbert Balsan

Cast: Flavia Bechara, Ziad Rahbani, Randa Asmar, Julia Kassar, Lialiane Nemri, Renée Dick, Nayef Naji

Script: Randa Chahal Sabag

Camera: Alain Levent

Editing: Marie-Pierre Renaud

Sound: Jérôme Ayasse, Fawzi Tabet, Joël Rangon

Music: Ziad Rahbani

Production Design: Sylvain Chauvelot

مدونة "ظلال وأشباح" في 28 أغسطس 2008

 
 

هوامش على رحيل المخرجة رندة الشهال...

سينما قدمت الإنسان من حيث لم نتوقع

إبراهيم العريس

هناك، على الأقل فيلمان يبرران، بقوة، وضع المخرجة السينمائية اللبنانية الراحلة، رندة الشهال، في خانة أولئك المخرجين اللبنانيين المميزين الذين صنعوا، بدءاً من السنوات الأولى للحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1989) مجموعة أفلام قدمت وثيقة متكاملة حول تلك الحرب، وأيقظت السينما اللبنانية من سبات عميق، ناهيك بأنها قالت - وكان هذا شيئاً جديداً في لبنان - ان للسينما كلمتها في السياسة (وفي النضال بالنسبة الى مبدعين مثل رندة الشهال). واللافت أن هذين الفيلمين اللذين نشير إليهما هنا، وثائقيان، وليسا من النوع الروائي الذي واصلت رندة الشهال طريقها فيه. إنما بتوفيق جاء أقل من توفيقها في المجال التسجيلي: أول الفيلمين هو باكورة أعمالها «خطوة خطوة»، والثاني «حروبنا الطائشة» (ويعنونه آخرون «حربنا الطائشة»). بين الفيلمين حازت الشهال نضجاً كبيراً، من الناحية السياسية كما من الناحية الفنية. والفيلمان يمكن أن يقال عنهما اليوم، إنهما رسما حديّ الحرب، البداية والنهاية. ففي الأول عرضت المخرجة «أسباب» الحرب ضمن إطار تصور يساري معاد للإمبريالية كان سائداً في ذلك الحين. وفي الثاني عرضت «نتائج» الحرب من خلال مشاهد رائعة وصادقة دارت حول عائلتها والمقربين إليها وكيف تعاطوا مع تلك الحرب، فلم يعتبروا في الواقع شيئاً، لكنها - أي الحرب - غيرت الكثير فيهم.

إن مشاهدة هذين الفيلمين اليوم، والمقارنة بينهما وبين السينما الأخرى التي حققتها الشهال، ستكون لمصلحة سينماها الوثائقية على حساب الروائية، خصوصاً إذا أضفنا إليهما «تحفة صغيرة» أخرى حققتها كذلك عن «أيام زمان»، ما يشي في نهاية الأمر بأن هذه الفنانة الشابة التي فاجأت عالماً سينمائياً بأسره بموتها المبكر، كانت ذات حسّ مرتبط بزمن معين ومجتمع معين، كانت ستصل الى قمة إبداع ومكانة حقيقيين في تاريخ السينما اللبنانية والعربية، لو انها ركزت عملها عليه. لكنها، بدلاً من هذا، اختارت ما يعتبره السينمائيون، عادة، الطموح الأكبر: السينما الروائية. وهي حققت في هذا المجال عدداً لا بأس به من شرائط، قد يكون كل واحد منها حقق نجاحاً من هنا أو جائزة من هناك. بل إننا رأينا بأم العين نساء يبكين في عرض ثقافي قاهري لواحد من أعمالها الروائية الأخيرة «طيارة من ورق». غير ان هذه الشرائط ظلت دائماً عند حدود الطموح و «الرغبات الفنية» أكثر مما عند مستوى الإنجاز المتكامل. ولعل السبب الأول في هذا، هو أن رندة الشهال أرادت من السينما الروائية أن تكون بين يديها أداة لقول القضايا الكبرى. وما قول القضايا الكبرى، على طريقة رندة الشهال، سوى الغوص في لعبة استفزازية، يقيناً أنها كانت تتقنها، وتملك من الإمكانات المادية ومن الشجاعة ما يسهلها عليها.

هذا الغوص جاء مع دائرة التحدي التي رافقته، على حساب القدرة على تحويل الفيلم، من فيلم ذي نزعة إنسانية الى فيلم عن الإنسان. ولعل ما نقوله عن سينما رندة الشهال هنا ينطبق على معظم السينما الأيديولوجية التي تنطلق من الأفكار لتصل الى السينما. فالحال أن ما يقف وراء أفلام رندة الشهال مثل «شاشات من رمل» و «الكفار» و «متحضرات» وأخيراً «طيارة من ورق»، كانت أفكاراً سياسية، صائبة أو غير صائبة ليس هذا هو الموضوع، تُزيّن، لتصل الى الناس، بلغة سينمائية لا تخلو طبعاً من أناقة ومهارة وحداثة. فرندة الشهال تخرجت في أرقى معاهد السينما في فرنسا وكانت تنتمي بالتأكيد الى سينما جيلها في العالم كما في لبنان، وكان المهم بالنسبة الى المخرجة، إيصال هذه الأفكار، ما جعل شخصياتها أقرب الى الرموز، منها الى الكائنات البشرية.

والغريب أن ما ترصده في سينماها التسجيلية (أو الوثائقية) هو عكس هذا تماماً، بما في ذلك ما تقدمه لنا في «خطوة خطوة» عملها المهم الأول. إذ هنا، حتى وإن أرادت أن تبرهن على أن الصراع الدائر في لبنان (1975 - 1976) كان من فعل سياسة الوزير الأميركي (السابق) هنري كيسنجر، المسماة سياسة الخطوة خطوة، داعمة هذا بتحليل سياسي يتوافق مع مقتضيات تلك المرحلة، ومع كونها - أي رندة الشهال - في ذلك الحين، عضواً في تنظيم يساري، تمكنت في مشاهد عدة من الفيلم، من تصوير البشر كائنات حية تعيش الحرب والصراع كما يعيشها أي إنسان يقلق، يحب، يأكل.

جيل الصمت والرحيل

وهي لاحقاً، بعدما خفّت حماستها السياسية، وصورت «حروبنا الطائشة»، فعلت ما هو أفضل: أتت بأناس حقيقيين، بينهم أخوها تميم، لتضعهم أمام الكاميرا، طالبة منهم أن يرووا تجاربهم. فكانت النتيجة أن تلك الخطابات بدت صادرة من عمق أرواح تعاني حقاً وتعيش حقاً، فيما راحت كاميرا الشهال تخترق أفئدتهم وتقدم إلينا، من خلالهم، الإنسان في نضاله في سبيل العيش، لا المناضل / الرمز في عيشه السياسة المؤدلجة.

بالنسبة الى النقد الجاد، والجمهور المعني، كان في الوسع وصف «حروبنا الطائشة» بأنه فيلم نهاية الحرب. فيلم الدرس الإنساني العميق الذي يمكن لنفس مرهفة وفؤاد معنىّ، أن يستخلصاه من صراع عبثي (طائش بحسب العنوان)... ما جعل كثراً يتوقعون لرندة الشهال مستقبلاً سينمائياً يضعها على تماس مع قضايا وأفكار وتطلعات تعرفها جيداً ويمكنها ان تصورها بالكاميرا نفسها المحبة المتفرسة القلقة. لكن نجاح «حروبنا الطائشة» أيقظ في داخل المخرجة نزوعاً الى تبني القضايا الكبرى. وكان هذا مشروعاً بالطبع، شرط أن يكون المبدع في قلب تلك القضايا معتبراً إياها جزءاً من حياة يعيشها ويرصدها، لا أن يتعامل مع تلك القضايا من مواقع أيديولوجية، معتبراً إياها جزءاً من سجال عام لا بد للكاميرا من أن تتدخل فيه. فتتدخل إنما من خارجه. وهكذا رأينا سينما رندة الشهال تدنو من قضايا ومسائل لعل من حقنا التساؤل دائماً عما إذا كانت عايشتها حقاً. مسخّرة سينماها المتفوقة دائماً، إما للحديث (الاستشراقي في نهاية الأمر) عن بعض أصول نساء خليجيات متخيلات (في «شاشات من الرمل»)، وإما عن معاناة صحافيين وأفراد فرنسيين، أو غير فرنسيين في القاهرة مثلا («الكفار»)، أو عن قضية العنصرية الاجتماعية المتفشية في لبنان تجاه الخدم السيرلنكيين وغيرهم («متحضرات»). ربما في أخيرها «طيارة من ورق» دنت كاميرا رندة الشهال من موضوع كان يمكن القول إنها على تماس معه... لكنها إذ وفقت في البعد العام لفيلمها وموضوعه السياسي/ الإنساني، لم توفق في بعض التفاصيل، ومنها حشر صديقها الفنان زياد الرحباني في الفيلم، في دور ضرب إيقاع الفيلم كله، من دون أن يكون لوجوده أدنى مبرر.

يقيناً أن رندة الشهال لو عاشت أكثر ودرست في شكل أفضل تجاربها (الجريئة بالتأكيد)، لكان من شأن سينماها أن تكون أكبر. ولكن هذا ما اختاره لها القدر، لتلحق بأفضل زملائها، مارون بغدادي، موقعة في جيل بأسره من السينمائيين اللبنانيين والعرب، خسارة كبيرة، حاجبة ما كان طموحها وذكاؤها الوقاد، قادرين بعد على إبداعه.

وبالتأكيد ما هذا الرحيل المبكر لرندة الشهال، إحدى المؤسسات الحقيقيات لجيل الحرب في السينما اللبنانية، وإحدى أبرز مبدعات السينما العربية الجديدة، سوى إشارة الى موت جيل وربما أكثر من جيل: جيل من المحزن أن أفضل أهله يرحلون أو يصمتون، وهم بعد في عز عطائهم.

الحياة اللندنية في 29 أغسطس 2008

 

سينمائية لبنانية من جيل المؤسسين ...

رحيل رندة الشهال

بيروت - ابراهيم العريس 

بعد مضي عقد ونصف عقد على الرحيل المفجع للسينمائي اللبناني مارون بغدادي، يفقد جيل الحرب، من السينمائيين في هذا البلد، مبدعة أخرى، هي: رندة الشهال.

ويقيناً ان رحيل صاحبة «حروبنا الطائشة» و«طيارة من ورق» يؤشر الى مصير جيل بأسره من مبدعين أخذوا على عاتقهم، منذ الشهور الأولى لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، عبئاً مزدوجاً: من ناحية اعادة خلق سينما لبنانية بالكاد كان لها وجود مستقل قبلهم، ومن ناحية ثانية، التعبير بالكاميرا عن الحرب ثم محاولة تجاوزها. بعضهم، قام بالمهمة وبعضهم الآخر أخفق، لكنهم في طريقهم مهدوا لولادة جيلين متلاحقين من سينمائيين يدينون لهم بالكثير. درست الشهال، ابنة طرابلس، السينما في باريس، مع فنون النضال السياسي اليساري، وتميزت مسيرتها بالتوازن بين النجاح والإخفاق، لكنها، ظلت وفية لبداياتها المشاكسة، ولأصدقاء اثنوا دائماً على كرمها الفني واهتمامها بشتى ضروب الإبداع، ناهيك بطموحها الكبير الذي جعلها دائماً تخوض مجازفات فنية صعبة، ساهمت في احساسها بتلك المرارة التي طبعت ســنواتها الأخــيرة متضافرة مع مرض صارعته طويلاً وبشجاعة، إضافة الى فقدان متلاحق لرفاق وأصدقاء، وخيبات أمل ســياسية.

هذا كله جعل رنده الشهال متفردة في عالمها، محيّرة في علاقتها بسينماها... وشخصية استثنائية في الحياة الثقافية اللبنانية.

الحياة اللندنية في 27 أغسطس 2008

 
 

مجــرد غيــاب

عباس بيضون

تنطفئ رندة الشهال على سرير في مستشفى فرنسي. لا تعرف إذا كان هذا عام الموت. لا تريد أن تفكر أن هناك أعواماً للموت، إن الموت ينشط أحياناً. ليس الموت وباء ولا مرضا، تفكر أن هذا من سقط الأدب، وأنت لن تتخلص من المسألة على هذا النحو. لن تقول لنفسك إنه عام الكارثة، فالكوارث تجرف وأنت عندئذ لن ترى من شدة الإعصار. سيكون عليك أن تبصر وأن تفتح عينيك جيداً لئلا تفقدهم في الخوف، لئلا تفقدهم في تلك الاستعارة الكبيرة، أو تسلمهم للطوفان وتروح ترتجف من أن يكون اقترب منك. أن تتكلم عن العاصفة كأن لا وقت يعد لتسمي أحداً وكأن الأشجار جميعها تتساوى في الريح. لن تتكلم عن الغرق، سيكون عليك مع ذلك أن تبدأ من الأول. مي غصوب على سرير في مستشفى لندني، جوزف سماحة على سرير في لندن، محمود درويش على سرير في الولايات المتحدة، والآن رندة الشهال على سرير في مستشفى فرنسي. لن يكون هناك عام للموت وسنرتجف مع ذلك لأننا لا نرى شيئا سوى أن الناس تقع. ما من إعصار لكن الناس تقع. بهدوء أكثر من أي وقت آخر يغادرون، لا يتركون لنا أي إنذار حقيقي ويختفون بدون صوت. أهذا هو الموت. إذن، صمت كامل، فاصل غير ملحوظ ومجرد اختفاء. لن يكون هناك عام للموت لكننا مطوقون، مطوقون تقريباً باللاشيء، باللامنظور لهذه القوى على الغياب فوراً وبدون إشعار. لا يمكن أن نتكلم عن معركة، لم يكن شيء في وزن روح مي غصوب هو الذي أخذها. لم يكن شيء في خصوبة جوزف سماحة هو الذي أخذه. لم يكن شيء في حجم خيال محمود درويش هو الذي أخذه، وليس شيء في سحر رندة الشهال هو الذي أخذها. لم يكن هناك أي معركة. مجرد غياب، شيء لا قوة له وليس له عينان ولا سحر فتنة هو الذي أخذهم. شيء هو فقط فقدان أو صفحة بيضاء أو حتى نسيان، هل يجرؤ على ان نصدق الموت الى هذا الحد. هل يمكن أن ندير حديثاً معه، أن نتكلم إليه كما لو كنا اثنين، أن نصارعه حقاً. فعل ذلك محمود درويش غير مرة لكنه أضاف قصيدة أخرى. لقد أعاره خياله وصوته وربما عينيه، وقد رأيناه بصوت محمود وعينيه انيسا بالتأكيد. لم يخف من قصيدة محمود درويش، لكن حين غدا الموت بلا قصيدة خفنا حقاً. كان علينا أكثر من أي مرة أخرى أن نسمع صوت درويش الجميل طوال ليال في رؤوسنا ولا نصدق. كان علينا أن نشعر بعيون رندة الشهال وزقزقتها في دواخلنا ولا نصدق. لا نعرف من أين يأتي كل ذلك. هل بات صوت محمود درويش معادلاً للموت، هل باتت سماحة مي غصوب وانتباه جوزف معادلين للموت. هل باتت رأرأة عيني رندة وزقزقتها معادلتين للموت، هل هناك ما يخيف الآن في الصوت والضحكة حتى نسعى لطردهما من أنفسنا.

انطفأت رندة الشهال على سرير فرنسي. البعض يحسب أننا حين نمدح الجمال نمدح الطبيعة، وأن المرء يمدح بصفات أخرى. لا أعرف ماذا للإنسان وماذا للطبيعة، ولا أريد أن أمتدح رندة لكن الجمال الذي لم نستحقه هو أول ما ننتبه بعد الغياب الى أنه عاش غريباً بيننا واننا في شقائنا المعلن وغير المعلن وكركبة حياتنا لم نلحظه، وأن عينين ليس مثلهما عينان غابتا بدون أن تلون وجودنا بهما. نقص الجمال عندنا بغياب رندة لكن غيابها أيضاً كان توديعاً للجمال وللطبيعة ولكل ما يشعرنا الآن بأننا عشنا في النقص الكبير، وأن حياتنا المستعجلة كانت بسبب ذلك، بلا طعم. لتكن أيضا لحظة نصرخ فيها من عطشنا للجمال. لتكن لحظة نعرف أننا نتصحر بدونه. لتكن لحظة ندم على حياة انقضت في الصعب والصراع العقيم ولنشكر أن عينين جميلتين وجدتا بيننا.

رندة الشهال انطفأت وهي في هذه السينما اللعينة التي لا تكبر ولا تلبث أن تعود الى البداية وتستأنف البداية ، »السينما اللبنانية«. ولا يسعنا الآن أن نعرف كم بداية أهدت رندة الى السينما اللبنانية، وكم بداية كان يمكن أن تهدي. إذا فكرنا أن الأحلام تظل تعمل. اذا فكرنا ان الجرأة تظل في الجو. فإن رندة الشهال كانت ورشة احلام. كان في وسعها ان تصدمنا بما لا يقدر اكثرنا خيالا على ان يتصوره، مثلا اصولي مثلي جنسيا. حروب تخترق التابو الطائفي. حب مكتوم بين درزيه لبنانية »او سورية« ودرزي مجند في الجيش الاسرائيلي. سيرة عائلية ذاتية. لم يكن التأني مثاليا في هذه السينما اللعينة التي تحتاج الى من يهمزها لتنطلق. كان واضحا ان لا شيء حقيقيا لتبنى عليه وان على كل ان يبدأ من نفسه. كان الجميع روادا ومؤسسين وعليهم ان يرتجلوا ويبتكروا في كل خطوة وان يتسامحوا مع هفوات البداية. لا بد من ان رندة كانت المثابرة الاولى في هذه السينما التي تقتل الصبر. المثابرة والقادرة على ان تجترح كل مرة معجزة جديدة، علما بأن كل فيلم جديد معجزة. قادها جموح أكيد الى ان تصارع تابو تلو تابو الطائفة والدين والاسرة والكليشيه القومي، والى ان تضع افلاما بقوة الجموح نفسه وقدر اقل من الصبر. لقد سبقت لكن تعثرت بالدرجة نفسها. سينما رندة الشهال هي بالتأكيد حياتها، ولا بد لغرام كبير كهذا من ان يكون مثمرا. لكن المرأة التي سعت الى تحقيق نفسها في السينما قدمت نموذجا فريدا لامرأة. لم يكن التمهل افضل صفات امرأة احرقت في كل اطوارها مراحل ومحطات واندفعت كالشعلة. لا التمهل ولا الصبر وعلى طريق العجلة شطحت كثيرا. لم تكن نموذج البرجوازية الجميلة ولا ابنة العائلة ولا.. ولا. لا بد من انها صارعت مثالها وسددت الى صورتها كل مرة ضربة جديدة. لا بد من انها كانت مجنونة سينما. على الاقل ومن أجل فيلم كانت لا تبالي بأن تحطم اساطيرها الخاصة وتتعدى نفسها. اليسارية النورية التي باشرت مع رعيل كامل من اليسار السينمائي سينما بديلة كما قيل يومها، لم تنحبس يوما في هذا النطاق. لقد قادها شغف كبير الى مواضع فجة ليس تحريكها بالأمر السهل، والى موقع اشكالي يصعب تحديده. كانت تبدأ في الغالب من استفزاز، من صورة مناقضة وقلما تهتم الى اين يقودها ذلك. في الغالب كان يتركها وسط طريق اشكالي واحيانا بلا خاتمة واضحة وبنصف رسالة او بلا رسالة، واحيانا كثيرة كان هناك شبه ضياع على الطريق وغموض نسبي. الا ان رندة الطائشة كانت ايضا رندة الجميلة. جمالها اعطى حتى لعثراتها فتنة. كانت الجميلة التي، مع كل ما حطمته، بدت اكثر جمالا.

في هذه السينما الملعونة الشقية، ناضلت رندة الشهال وكان لا بد لنضالها من ان يكون ككل مصائر هذه السينما، مرا وشائكا. لا شيء يمثل لبنان اليوم اكثر من هذه السينما، انها بعجزها عن ان تتجاوز البداية تشبهه في مأزقه، ومثله هي تكدس الوعود وتنفخها في لحظة. لكن موت رندة يشير من بعيد الى هذه المعركة، كما يشير اكثر الى انها لم تكن على غير طائل. لقد أُنتج حلم مهدد، واذا شطحنا قليلا قلنا ان الحلم بحاجة الى هذه التضحية، الى هذه العروس الفادية، لينجو. احتاج الى ان اقول لك شيئا يا »نهلة« ولا أجد ما أقوله، ان صداقتي الصامتة منذ زمن بعيد لن تكون اليوم أفضل كلاما. لن تنقصك هذه الصداقة في حدادك الكبير، لكني، من أجلي، اتصور اني ادخل مجددا بيتكم القديم ولا أعرف ماذا اصنع بعد ذلك بنفسي.

السفير اللبنانية في 29 أغسطس 2008

 
 

رندة الشهال.. حياة قصيرة أطول من سنواتها الخمس والخمسين بثراء تجاربها

الطفلة والمرأة والمقاتلة في مونولوغ الحرب والسينما

ريما المسمار

لم تكن كثيرة المرات التي التقيتها فيها ولكنها كانت تصاعدية. من لقاء عابر في بيتها باليرزة إبان تحضيرها لفيلم "متحضرات" الى زيارة موقع التصوير من دون أن أتمكن من محادثتها، بدت لي رندة الشهال مخرجة متعالية صعبة المنال. التقيتها مجدداً خلال تصوير "طيارة من ورق" في البقاع الغربي. فهمتها أكثر. كانت خلال التصوير في عالم خاص . لم أسعَ الى محادثتها. قابلت فريق العمل والممثلين وانتزعت منها بعض الكلمات. كان الامر مختلفاً تماماً بعيد خروج الفيلم في الصالات اللبنانية مصحوباً بسمعة عالمية بعد ان فاز في مهرجان البندقية السينمائية. بدت رندة في الحوار الذي تلا العرض الافتتاحي شديدة الالتزام بالاجابة على الأسئلة ومنح الوقت الكافي لمحاورها. انها مسألة منوطة بفهم دورها واحترام دور الآخر. كان الحوار ممتعاً. كانت حادة انما بشكل عفوي وصادق. تتحدث عن الاشياء كأنها تعيشها للتو . كانت كتلة من الأعصاب متأهبة لاتخاذ موقف من كل ما يجري حولها. هكذا تربت وعاشت دائماً على انها جزء من هذا العالم ومشكلاته فلم يعد بمقدورها أن تقف متفرجة حتى عندما يكون ذلك لصالحها أحياناً. ولكن الحوارات الأمتع معها كانت تلك غير الرسمية تماماً التي انطلقت مع فكرة التحضير لفيلم وثائقي عن حياتها ومسيرتها السينمائية. شرعت أبواب الطفولة والعائلة والسينما والحرب والغربة في جلسات جرت على مراحل وعلى مسارح عدة بدت خلالها في أحيانٍ كثيرة كأنها تناجي نفسها، تستعيد مراحل حياتها، تعيد تقويمها. كانت قد خاضت النقاش مع ذاتها منذ وقت طويل حول مفاهيمها السابقة. فكانت تتحدث بلغة الماضي عن ذكرياتها وتعود الى لغة الحاضر للتعليق عليها .

اليوم إذ تُوارى رندة الشهال الثرى في مسقط رأسها طرابلس نستعين على الفقدان بكلماتها الحميمة والصادقة ننقلها بتلقائيتها. وربما يواسينا أن نعثر في تلك الكلمات على امرأة عاشت حياتها القصيرة بأطول من سنواتها الفعلية. عاشت اللحظة والفرح والألم والخيبات والانتصارات وأخطأت وصوبت وواجهت وتمردت قبل أن تغادر بصمت حافرة الكثير من الألم والدموع والغربة في محبيها. اذا كانت طوع لكلمات وحدها طوع أيدينا اليوم فلتكن اذاً كلماتها...

الطفولة والعائلة

كنا عائلة مختلفة في كل شيء. أمي عراقية مسيحية من البصرة. شيوعية في طرابلس. مع ستالين والعذراء في آن. متزوجة من شيوعي علماني. كانت خبصة. كلاهما مسيسان. عشت في خوف دائم من كل شيء. كان عمري ثلاث سنوات عندما أخذوا والدي أمام عيني. نظر الى أختي نهلة وقال لها "انا معتمد عليك". اجتماعات الحزب الشيوعي كانت تجري في منزلنا وغالباً ما كانت تنتهي بكبسة من الشرطة. شجرة عيد الميلاد كنا نلفها بسجادة لنتمكن من نقلها الى المنزل ولم نكن نستقبل الزائرين في فترة عيد الميلاد. جو المنزل وارتيادي مدرسة للراهبات والاختلاف الديني كانت أموراً تضاعف احساسي بالشيزوفرينيا. لم تكن طفولة سهلة لاسيما ان الحرب أتت باكراً ولم تتح لنا فرصة إقامة نقاش مع أهلنا حول هذه التفاصيل. لم تكن القيم السائدة في بيتنا تزويج البنات أو جمع المال. كانت الانسانية هي الهم. كلنا في عرف أهلي مسؤولون عن حرب فييتنام. هذه التربية جعلتني مهتمة بشيء خارج عن ذاتي وكانت مهمة لتكويني الانساني بالدرجة الاولى. انها قدرة والديَّ على أن يجعلوا منا أناساً مختلفين. كانا ثوريين وسابقين لعصرهما وكانوا يستمعون الينا ويناقشوننا في سن مبكرة.

كانت أمي انسانة حادة الطباع لا تساوم. تبنت كل حالة ثورية في العالم والأولوية عندها كانت المعرفة. أما شغل البيت والتبرج والطبخ فكانت بالنسبة اليها مضيعة للوقت. لم تكن تسمح بالعلكة والانوثة كلمة خارج قاموسها لدرجة انها منعتني من شراء لعبة سباربي7-7- لابنتي 7-7-نور7-7- لاحقاً لأنها لعبة بورجوازية! الحياة اليومية وتفاصيلها تفاهات بالنسبة اليها. تعلمت منها القيم ومعنى التحرر ليس كخطاب وانما كواقع يومي. كانت قاسية وحنونة في آن. اما أبي فكان يحب الحياة واللبس والسينما والخروج والموسيقى. كان يدافع عني حتى لو كنت مخطئة. باختصار كنا عائلة متمردة على العالم الخارجي. مشهد من طفولتي لا يبرح ذاكرتي: كنت أقف الى جانب والدي نستمع الى خطبة الجمعة من نافذة لا يصل رأسي الى أعلاها بينما أبي ممعن في الاصغاء. لاحقاً فهمت ان الخطبة كانت موجهة ضدنا. كل هذا أغنانا وشرّع لنا أبواب الثقافة والسياسة.

السينما (1)

لم يكن في طرابلس شيء سوى السينما. كنت أذهب ووالدي لمشاهدة فيلم ودائماً كانوا بنادونه في منتصف الأحداث بصفته طبيب. فيتركني أتابع الفيلم وحيدة في الصالة ثم يعود لاصطحابي لنعود في مرة أخرى ونشاهد الفيلم من جديد.

اول فيلم شاهدته كان 7-7-سيدتي الجميلة7-7- وكانت تلك المناسبة بمثابة سهرة مهمة بالنسبة الي. شاهدته مؤخراً وأعتقد انه فيلم ذكي. اما في ذلك الوقت، فلم تكن الصورة هي التي جذبتني بل الكتابة او فكرة تأليف حالة ما ووضع الناس فيها وتوظيفهم في تلك الحالة التي لا تشبههم. هكذا بدأ ميلي الى الكتابة او تأليف مواقف كنت أجبر عائلتي على تمثيلها. وأنا بطبعي كنت أكذب طوال الوقت وأخترع قصصاً غريبة. دائماً كانت الطريق من البيت الى المدرسة حافلة بالمغامرات المتخيلة التي كنت أرويها لأصدقائي. ولكن التجربة الأعمق أثراً في كانت مشاهدة فيلم أنتونيوني Blow Up . كنت في الثالثة عشرة او أكثر بقليل وأقل ما يمكن قوله انني أصبت بصدمة وانقطعت عن الطعام لأيام. كان الفيلم بجرأته وحسيته وفلسفته تجربة مختلفة ومنها فهمت ان السينما تقوم على دراسة.

اليسار

ما كان عندي خيار الا ان اكون يسارية وهذا امر سابق للحرب. لم أكن سياسية انا كنت الفنانة في العائلة. لم ألتزم حزباً لأنني لا أملك النظام والانضباط الكافيين لذلك. دخلت منظمة العمل الشيوعي لوقت قصير وبقيت قريبة من الجو اليساري. بدون فلسفة ما هو اليسار؟ هوتفكير يعتمد على ان الانسان مهم والقيم مهمة. هذا فكر لا أنفصل عنه. هو ليس التزاماً بل طريقة حياة وتفكير. لم تعد هنالك شيوعية فعلية ولا يمين رجعي فعلي. اليسار ليس التزاماً بل تيار واسع وتفكير واسع. اليمين المتحرر هو الموضة اليوم وهذا ليس صدفة بل مخطط له. هناك خطة لجعل كل الشباب العربي سطحي وتافه ومتفق على حبه لستار أكاديمي. مقصود ما يكون فيه ثقافة فعلية. مقصود تكون الرجعية هي الموضة.

السينما (2)

في 72 سافرت الى فرنسا لدراسة السينما وفي بالي أنني سأكمل في المجال الذي أحببته وهو إخبار القصص. كانت التقنيات خيبة أملي الفظيعة لأنها لم تستهوني وأحسست انها من خارج العالم السينمائي الذي عشقته. أعترف الآن بأنني نسيت كل شيء درسته ولا أنصح اي شخص موهوب ويحب السينما ان يضيع وقته في الدراسة. المهم أتت الحرب باكراً وجعلتني أخبر قصة الحرب والوطن المفقود فقط. أما يومياتي وهمومي وهواجسي فذهبت سدى الريح. اختفت اليوميات واضمحل الفرد. صار هناك مجتمع في مواجهة حرب. العالم الاوروبي هو كناية عن أفراد. اما عالمنا العربي فهو مجتمعات في مواجهة حرب ما او ظلم ما. الفردية عندنا بدأت بالتبلور أخيراً والسينما كفن لم تكن واردة في أيام الحرب. لم يكن ممكناً أن أستمع الى الموسيقى ابان الحرب. كنت في حالة تيقظ دائمة. الآن أحاول ان اكون أقل تيقظاً.

الحرب (2)

أتت الحرب وأنا لم أتم الثالثة والعشرين بعد وكانت فرصة لتطبيق كل ما آمنت به. أتت الحرب لننفذ كل ما حلمنا به عن غيفارا. لم يكن هنالك مكان للشعور بالخوف او الموت او الأذى. عملت مرسالاً بين عرفات وكمال جنبلاط فكنت أقطع الحواجز بتذاكر مزورة من دون أن يرف لي جفن. كان ذلك نوع من اللاوعي كما أراه الآن. لا أظن أنني كنت جريئة بل حمقاء. ولكني في قرارة ابنة العشرين التي كنتها كنت أعتقد أنني أعمل لتحسين الانسانية وأنني أحارب من أجل قضية وأسير مع التيار الذي سينقذ لبنان ويقضي على الطبقية ويعيد فلسطين. ما كنت رايحة أبعد من هيك. ولكن حين يبدأ الموت بالاقتراب منك ويسقط الاصدقاء تبدأ الغصة والتساؤلات. في النهاية فظاعة الحرب الاهلية كانت في طولها وتكرارها وعنفها وتبدل تحالفاتها. من هناك بدأ الشك وبدأت أبتعد.

السينما (3)

السينما خلال سنوات الحرب الاولى لم تختلف عندي عن تأدية واجب وعن فكرة القضية المكملة منذ الطفولة حيث نحن بنات الشهال لم نكن بناتاً بل حملة قضية. كانوا يوزعون الادوار علينا وبما أنني كنت أدرس السينما فكان من الطبيعي أن أُستغل في ذلك الجانب. أول شيء صورته شاب على مدخل مركز لحزب المرابطون في المصيطبة. كنت برفقة المصور الذي رحل روبي بريدي وانشغلت أنا بإخراج دفتر دراسي كنت أحمله معي دائماً خاص بالتقنيات. جلست القرفصاء وبدأت أقلب صفحاته فاقترب مني روبي وسألني عما أفعله فأجته بأنني أحاول ان أكتشف اي "فيلتر" هو الافضل للتصوير في هذا الضوء. ضحك كثيراً وقال مش مهم المهم في هذه الحالة ان نلتقط المشهد. اكتسبت عادة التصوير بشكل يومي ابان الحرب. لم تخطر في بالي فكرة عمل فيلم كنت فقط أشعر بضرورة تصوير ما يجري. صورت طلعة النسوان من سجن الظريف وصورت المسلخ سنة 76. كنت أعيش اللحظة من دون اي تفكير او تخطيط للمستقبل. صورت اشياء كثيرة معظمها احترق في استديو بعلبك. وكان رأيي حينها ان المنظمة يجب ان تخترق الحريق لتنقذ أفلامي! بعدما تراكمت الصور في الارشيف، فكرت في انجاز فيلم عن يوميات الحرب فكان 7-7-خطوة خطوة7-7- الذي أنتجته مؤسسة السينما الفلسطينية وكان الفيلم السياسي النضالي الملتزم الذي لم أعد الى مشاهدته أبداً. عندما فاز بجائزة في بلجيكا تفاجأت لأنني لم أفكر فيه. لم يكن هنالك وقت للتفكير. كل شيء كان مفروضاً علي.

الاجتياح

في 4 حزيران سنة 1982 كنت في الطائرة متجهة الى باريس عندما قال لنا الستيورات ان إسرائيل دخلت لبنان. في 7 حزيران ركبت الباخرة من قبرص وفي 8 حزيران كنت في جونية. ركبت تاكسي أنزلني على طريق صيدا القديمة فركضت من أمام القناص وظللت على تلك الحالة الى أن تنبهت الى ولد يركض الى جانبي ويسألني لماذ أركض فهمت انني وصلت الى رأس النبع ووجدت في قميصي لاحقاً رصاصة فاحتفظت به الى يومنا هذا. حتى الاجتياح الإسرائيلي، كان كل شيء ممكناً بالنسبة الي على الرغم من سنوات الحرب الطويلة. ولكن بعد الاجتياح تبدل كل شيء وترافق مع زواجي في العام 1982 وولادة ابنتي 7-7-نور7-7- في العام التالي. صار عندي وقفة وصرت في عالم آخر. عرفت الخوف للمرة الاولى منذ بداية الحرب. تغيّرت. أقولها لأولادي دائماً: بسببكم صرت جبانة. الفرق فظيع بين المرأة الحرة وبين الأم. قبل الاجتياح، كنت صبية حرة مؤمنة بالنصر. بعده صرت متزوجة وأم وإسرائيل في لبنان! كانت مرحلة غامضة ابتعدت فيها عن كل شيء وانتهت بموت والدي عام 88.

السينما الوثائقية

الحرب دفعتني الى صنع أفلام وثائقية وأجد هذا العمل صعباً ويؤذيني نفسياً. أنجزت ثلاثة أفلام وثائقية هي "خطوة خطوة" و"حروبنا الطائشة" و"سهى". وقبلها هناك "لبنان أيام زمان" الذي أعتبره اول عمل إخراجي فعلي وكان تصوير معرض لجورج الزعني. لولا الحرب لما كانت كل تلك المسيرة. كنت صنعت أفلاماً على علاقة بالفرد.

السينما (4)

أفلامي على علاقة مباشرة بحياتي سواْ أكانت ذاتية ام لا. "حروبنا الطائشة" جاء من احساسي بأنني أنتمي الى عائلة استثنائية بالفعل وهكذا بدأت أصورهم على مدى 15 سنة قبل ان انجز الفيلم. كل أفلامي تعبر عني عن الالزدواجيات التي أعيشها وان كنت أشعر بأن "متحضرات" أكثرها شبهاً بي. السينما هي طريقة عيش بالنسبة الي. عندي نظام يومي أصحو باكراً وأكتب. ما عندي ملذات أخرى. السينما مشوار حياتي وليست فقط مهنتي. لكل انسان ما يحبه والسينما هي كذلك بالنسبة الي.

البحر

البحر مازال يشدني الى لبنان. بيروت تغيرت كثيراً. لم تعد مدينتي. أحب البحر كثيراً واسبح في كل مكان ودائماً أتذوق طعم المياه. طعم البحر هنا مختلف. ثمة ملوحة خاصة بلبنان. الطعم يختلف حتى بين طرابلس والجية.

الحرب (3)

بيروت مدينة ناطرة. لبنان كله بلد ناطر. ما صار فيه فعلاً نقاش حول الحرب. ما صار فيه وقفة لنقول من المسؤول. حرب طويلة عريضة وما حدا مسؤول. أسهل شيء نقول لا علاقة لنا بما جرى. هذه عقلية المافيا. هذا لا يبني بلداً. الحرب لم تكن حرب الآخرين على أرضنا كنا يقال دائماً بل كانت حرباً سياسية وطبقية. حرب سلطة. كنا نقاتل وقتها لمفهوم ما للقيم والتغيير.

متحضرات

الحرب بالنسبة الي ليست استعراضاً. لا أستطيع ان تصور في الاوقات الصعبة. أحتاج الى وقت. فضلت ان أبتعد قبل ان اقدم فيلمي الروائي عن الحرب. استغرقتني كتابة "متحضرات" وقتاً طويلاً. كان لازم الألم يخف. أعترف ان "متحضرات" فيلم قاسٍ ولكنه ظلم. لا أعتقد ان الشتائم هي التي أزعجت الأمن العام والرقابة وانما الجو العام الذي يبرهن ان الكل مسؤول عن الحرب وان الحرب لوّثت الجميع من دون استثناء. كما ان المرحلة التي خرج فيها الفيلم كانت مؤاتية لتلقين المثقفين درساً فكان من خلال "متحضرات". كنت مستعدة ان أغير في البداية ولكنهم لم ينتظروني ومنعوا عرض الفيلم. اعتبرت انهم فتحوا جبهة فقررت المواجهة وبعدها آثرت عدم عرضه. تأذيت من "متحضرات" كثيراً.

الغرب

أنا مواطنة عالمية. انتمائي فكري. ولكن يشتد انتمائي الاثني عندما أشعر أنني مرفوضة. انا ضد الظلم أينما كان. وفي أوروبا مؤخراً حالة متكررة من الاعتداء الفكري على العرب والمسلمين تقوم على التعميم. أنا أقاتل الإجمال والتعميم. لست ضد الغرب ابداً. خياري الشخصي كان أن أقيم هناك وأحترم الفرنسيين كثيراً.

التمويل

الحياة مش أبيض وأسود. ما عندي مشكلة يكون تمويل أفلامي أجنبي ما دمت مقتنعة بما اقدمه. الاوروبيون يفهمون أهمية الصورة ولا يمولون أفلاماً تؤذيهم. علينا ان نعترف بشيء: في اوروبا حرية رأي كبرى لا نفهمها في العالم العربي. لم أواجه أية مشكلة في تمويل أفلامي في الغرب لأن العلاقة واضحة. المشكلة مع العرب. ولكنني لست من المخرجين المعتمد عليهم في أوروبا. أفلامي هناك منتقدة بشدة ومهاجمة. جوائزي نتشتها نتشاً والصحافة لم تدلعني لأنني مختلفة سياسياً.

حرب تموز

بقيت عاطفية حتى حرب تموز 2006. تلك الحرب كانت الضربة القاضية. عدا الظلم، كنا نتفرج على أنفسنا تحت الحرب. لم نكن فقط مُستغلين بل كان هنالك سيناريو وإخراج للحياة والموت. تأذيت أكثر من الحرب الأهلية. كرهت أوروبا والعالم العربي. صرت افهم شو يعني واحد يلف حالو بزنار ويفجر نفسه. شعرت بخيانة هائلة. المنفذ الوحيد كان ان نصير ضحية.

المرض

المرض محطة. ولكنني لا أحب ان أقول انني مريضة بل أنا مصابة بالسرطان. مريضة يعني عندي حرارة مرتفعة او رشح او برد او ما شابه. أنا مصابة بالسرطان وأتعاطى معه كمرحلة تتطلب المواجهة والصلابة. وانا أصلاً أحب الحياة فلذلك لا يمكن أن استسلم. أصلاً يعنيني في كل حياتي أنني لم أتصرف يوماً كضحية. مهما حدث وسيحدث من مرض وحروب وطلاق لن أكون ضحية. ولكن مرضي مشكلة عاطفية في الأساس. هكذا انا دائماً أمرض في الازمات. ومع كل أزمة اليوم، ينبت السرطان من جديد في جسدي.

المستقبل اللبنانية في 29 أغسطس 2008

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)