كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

يوسـف شاهين وأفلامه ...

حياة في السينما ... وسينما في الحياة!

يوخنا دانيال

عن رحيل

يوسف شاهين

   
 
 
 
 
 

- 1 -

لم يتجرأ أي مخرج من قبل، أو من بعد، على طرح ذاته بهذه الجرأة والحدة في العالم العربي … مثلما فعل يوسف شاهين في معظم أفلامه. هذه الذات التي تغادر نفسها والعائلة والأصدقاء، فتحاول الأحاطة والأمساك بنكهة وإيقاع مدينة "كوسموبوليتانية" كبيرة مثل الاسكندرية في النصف الأول من القرن العشرين … وصولاً إلى احتضان وطن وشعب بأسرهِ في النصف الثاني من القرن العشرين. ويتفِّق معظم النقاد والمراقبون، بناءاً على تصريحات أو "تضليلات" شاهين، على ثلاثة أفلام كبيرة باعتبارها تمثل المرحلة الذاتية (النموذجية) في سينما شاهين؛ اسكندرية ليه (1978)، حدوته مصرية (1982)، اسكندرية كمان وكمان (1990) … متجاهلين أو متناسين تفجّر الذات الشاهينية أو (جو المجنون) وسط  أفلامه المختلفة مثل عفريت العلبة، منذ فلم باب الحديد (1958). حيث لا يكتفي شاهين بالإخراج والتمثيل، بل يُحمِّل (قناوي) بائع الجرائد "الكسيح" الكثير من عناصر شخصيته ... بما فيها الأشكاليات الجنسية والانبهار أمام الجمال، وكذلك الحسد أو الغيرة من النماذج الرجولية أو الذكورية المتطرفة Macho types ... إذ يبدو شاهين/ قناوي عالقاً في المثلث البشري الذي يتشكّل منه مع فريد شوقي وهند رستم. لكن هذا المثلث لا يسبح في الهواء بل يتجذّر في المكان : باب الحديد أو محطة القطارات المركزية في القاهرة التي تربط قلب مصر بالأقاليم والبحر والصعيد.

والحقيقة أن اختيار هند رستم "قنبلة الإغراء في السينما المصرية" وفريد شوقي "بطل الترسو او الطبقات الشعبية" لدوري البطولة … محمَّل بكل الدلالات والإيحاءات الجنسية الذكورية والانثوية الشعبوية. لكن هل كان من الممكن إيجاد أو اختيار أي ممثل "آخر" يستطيع تجسيد قناوي من بين نجوم السينما المصرية في ذلك الوقت غير شاهين نفسه؟ أشك في ذلك … وربما كان الفنان الكبير (محمد توفيق) مؤهلاً للدور إلى حدٍ ما، وخصوصاً أنه لعب دوراً مقارباً لدور قناوي في رائعة المخرج الكبير توفيق صالح (درب المهابيل) عام 1955. لكن بينما يهتم الفلم الأخير بكشف وتفكيك عالم أو مجتمع صغير Microcosm وفضح أخلاقياته المزدوجة تقاليده المنافقة الخاضعة للمال بشكل رئيسي، فإن "باب الحديد" ورغم كل تشعباته واهتماماته الانسانية والاجتماعية، يغوص عمودياً في قناوي وخيالاتهFantasies  ومركبات نقصه المختلفة او المتعددة وصولاً إلى نهايته التراجيدية.

ولأول مرة في فلم عربي، تصبح عوامل النقص الجسدي والعقلي مضافاً لها الهوس والوساوس الجنسية والرغبات والكوابت… ظاهرة أو مُعلنة إلى هذا الحد. وأحياناً، اتصوّر أن لعاب قناوي يسيل "فعلاً" لمرأى هنّومة (الأنثى السوبر) كتعبير عن حقيقة الصراع أو الشدّ الجنسي الذي يسود الفلم. بالطبع يبقى هناك عالم المحطة الخارجي والنقابة وصراعات العمال مع المستغلِّين، والتي تعمل جميعها على تخفيف حدّة الثيمات والوساوس الجنسية في الفلم وتضعها في اطارها المكاني/الزماني الواقعي. وبينما يفصل او يعزل توفيق صالح نفسه عن فلمه او أفلامه في معظم الاحيان، فإن شاهين يغرس نفسه بقوة وعمق في باب الحديد: المكان ... وقناوي: الإنسان.

وتجسيد شاهين لقناوي مُدهش إن لم نقل مذهل، ويستحق أعلى وأرقى الجوائز في العالم. لقد ترك لنفسه الحرية المطلقة داخل الفلم وخارجه، أمام الكاميرا وخلفها. وتفوّق في صنع فلم يمكن اعتباره واحداً من أهم أفلام شاهين، إن لم يكن واحداً من أهم الأفلام العربية والعالمية على الاطلاق. وعن شاهين الممثل، فقد شاهدنا بعضاً من هذا الأداء الشاهيني الرائع لاحقاً في فلم فجر يوم جديد (1964)، في دور زوج عابث من البرجوازية المصرية الكبيرة، وهو يفكِّك ويسخر من أخلاقيات ومظاهر هذه الطبقة في أيامها الأخيرة، خصوصاً في مشهد الحفل الخيري الزاخر بالنفاق والإيماءات الجنسية. لكن هذه الموهبة التمثيلية يبدو أنها تآكلت بمرور الوقت وعدم الاستعمال لصالح الاخراج، إذ شاهدنا أشباحاً أو بقايا منها في فلمه اسكندرية كمان وكمان الذاتي/التسجيلي (1990) وفي افلام اخرى بالطبع.

 أن الذات الشاهينية المهمومة بالجنس والجمال والسياسة والموقف من العالم والآخرين تستعرض أو تتظاهر من خلال نموذج المثقف المهزوز أو الممزّق في أفلام عديدة مثل العصفور (1972) وعودة الأبن الضال (1976) السياسييّن، وكذلك في فلم الاختيار (1970) بالطبع؛ المكرّس كلياً لتحليل أو دراسة ظاهرتي الانفصام والتخاذل في شخصية المثقف العربي في السنوات القليلة التي تسبق وتلي هزيمة 1967. والحقيقة أنّ موقف شاهين السلبي (سينمائياً) تجاه المثقفين في العالم العربي يبدو انعكاساً –  تعوزه الأصالة وكذلك الإبداع الى حد ما – لما ساد في تلك المرحلة من اتجاهات فكرية وسياسية تدين المثقفين العرب، وتحمِّلهم جانباً كبيراً من مسؤولية الهزيمة وفشل المشروع القومي/التحرري/الاشتراكي او "الناصري – البعثي" … وهذا واحد من أسباب الغموض والفوضى السرديّة التي تسود في هذه الأفلام. ويعتقد البعض أن هذا نموذجيٌ جداً في شخصية شاهين؛ الذي يبدو مهموماً بأشياء كثيرة في نفس الوقت، وهو يريد التعبير عنها دائماً في المساحة الزمنية لكل فلم من أفلامه، لكي يشعر بأنه صادق تماماً مع نفسه ومع رؤياه ومع الواقع المحيط. لكن النتيجة النهائية، رغم جمالها وجاذبيتها، تظل مليئة بالمشاكل والنواقص مما يحيلنا إلى مقولة النّفري العظيم (كلما أتسعت الرؤيا ضاقت العبارة) أو… تخربطت!

بالطبع لم يكن المخرج الكبير ذاتياً دائماً، إذ استطاع أن يُخرج أو ينفَّذ أفلاماً متقنة ومتماسكة كثيرة بمعزل عن الانغماس "الذاتي" فيها؛ مثل الأرض (1970)، جميلة (1958)، صراع في الوادي (1954)، الناصر صلاح الدين (1963) وكذلك فلمي الموسيقار فريد الأطرش؛ ودعتُ حبك (1956) وأنت حبيبي (1957) الغنائيَّين الرائعين … وهي أفلام خالدة ستبقى في الذاكرة والذائقة العربية لعشرات السنين.

- 2 -

ان تغلّب الذاتي على الموضوعي في سينما شاهين يترافق تماماً مع تخلّي شاهين عن الأسلوب الأمريكي أو الهوليودي في صناعة الأفلام لصالح الانحياز لطرائق اخراجية اوروبية او فرنسية بالتحديد. وهذا الانحياز الأسلوبي أو حتى الجمالي يتأسس فكرياً وسياسياً على الانغماس العميق في مشكلات المجتمع المصري وصراعاته السياسية ضد ثالوث (الاستعمار والصهيونية والرجعية) التي تبرز بشكل سافر او "كيتشي" أحياناً في معظم أفلامه السياسية الطابع. لكن شاهين، في مشاهد الانتفاض الشعبي او الجماهيري، يُفارق الكيتش المصري التقليدي (الهلال والصليب) الذي أرساه سينمائياً في أذهاننا أحد كبار السينمائيين المصريين : ونقصد المخرج الراحل الأستاذ حسن الأمام. أنّ شاهين يستدعي مصر الأم البهية، الشابة العربية العصرية، التي تضم الهلال والصليب والتاريخ الفرعوني والطبقات الشعبية المحرومة والمثقفين والفنانين جميعاً.

ويبدو أن كل هذه التحوّلات الداخلية والخارجية في ذات شاهين وتظاهراتها السينمائية، أقلقت أفلامه وأفقدتها توازنها السردي والتنفيذي أحياناً، بحيث يمكن اعتبار باب الحديد (1958) فلمه الذاتي الأول والوحيد المصنوع بصورة (موضوعية) بتقنيات إخراجية هوليودية "مُقنعة". لاحقاً، ترك شاهين لنفسه الحرية الاخراجية (الذاتية) ليتلاعب بممثليه ومتفرجيه، وحتى بموهبته في القصّ والاقناع للوصول إلى أعلى درجات الحرية التعبيرية والفكرية، خصوصاً في أفلام الاختيار والعصفور وعودة الابن الضال ثم في سلسلة أفلامه (الذاتية) النموذجية المستوحاة من حياته الشخصية وذكرياته الاسكندرانية.

أنّ هذا الطغيان الذاتي الشاهيني، يبدو مهماً جداً واستثنائياً في تاريخ السينما العربية، من أجل ولادة أو ظهور المخرج "المخرج" أو المخرج "الفنان" … وليس المخرج الحرفي او المنفِّذ. صحيح أن هناك أسماء كبيرة في السينما العربية مثل صلاح أبو سيف وتوفيق صالح وآخرين بين التقدميين، وبركات وحسن الأمام وآخرين بين الواقعيين والتقليديين … إلاّ أنّ شاهين، وبمرور الوقت، يتحول إلى صانع أفلام مفكر أو كاتب Auteur  لأول مرة في السينما العربية، ( ربما مثل أدونيس في الشعر العربي الحديث). أنه يفعل ما يحلو أو يتراءى له مثل المخرجين الفرنسيين، وليس مثلما تريد رؤوس الأموال والشركات في هوليود أو مثلما تريد السلطات الحكومية في معظم دول العالم مثلاً.

هذا هو إذن يوسف شاهين؛ مخرج حُر يريد إرضاء نفسه أولاً وأخيراً. لكنه ليس بعيداً عن معاناة الجماهير وتطلّعاتها السياسية والاجتماعية أبداً. في ذاته يتحقّق هذا الاتحاد بين الفرد والمجتمع نظريا او سينمائيا على الأقل. في فرنسا أو أمريكا مثلاً، يحتل المخرج السينمائي المبدع قمة الهرم الثقافي/الاستعراضي في المجتمع، وهذا ما حصل فعلاً مع شاهين، الذي تحوّل إلى أيقونة للسينما العربية في الحياة الثقافية. وللحق، فانه بمرور الوقت أصبح أهم وأكبر من أفلامه. ومنذ أكثر من ربع قرن هو يجول الدول العربية والأوروبية (الجزائر، سوريا، العراق، لبنان، تونس، فرنسا وغيرها) ويورّطها في إنتاج وتوزيع وتمويل أفلامه المثيرة للجدل بمواضيعها السياسية والاجتماعية والجنسية الجريئة جداً.

في فلم (العصفور) أخذ شاهين الهزيمة على محمل شخصي، لذا كان الفلم دفاعاً حقيقياً عن مصر وشعبها ومثقفيها وفنانيها، فارتفع شعار مواصلة الحرب مترافقاً مع شعار عودة عبد الناصر إلى السلطة. ونستطيع القول أنه نجح في "تأويل" الخروج الجماهيري الكبير في أعقاب الهزيمة لصالح إزالة العدوان وإعادة الثقة والقوة للشعب، وليس لصالح الأفراد والحركات السياسية المسؤولة عن الهزيمة. ورغم أن اهتمامات شاهين السياسية تبرز بوضوح في بعض أفلامه السابقة، وخصوصاً في فلم (فجر يوم جديد) الذي امتاز بنزعة نقدية تقدمية واضحة جداً، فانّ فلم العصفور شكلّ نقطة الطلاق أو المقاطعة مع النظام السياسي الناصري القائم. هذا الطلاق الذي يصل إلى ذروته في فلم (عودة الابن الضال) الذي يتضمّن الأدانة الكاملة والنهائية للنظام الناصري وخلفائه، خصوصاً في مشهد العرس/الدموي/العائلي في نهاية الفلم.

 إن أفلامه هذه، كانت دائماً تترافق مع حملات وجولات دعائية/سياسية في العديد من الأقطار العربية. فهو لم يكتفِ بتحوله إلى أيقونة سينمائية عربية وعالمية، بل انغمس في نشاطات وتظاهرات سياسية مناوئة لأمريكا وإسرائيل والعولمة لاحقاً، رغم حالته الصحية المتردية وعلى حساب إبداعه الفني أحياناً. وبالضد من ارتماء مصر (الدولة) في الأحضان الأمريكية/الإسرائيلية بعد كامب ديفد، حاول شاهين أن يؤصِّل لعلاقة خاصة بين مصر وفرنسا من خلال فلمه الكبير وداعاً بونابرت (1985)؛ مُسبغاً جمالية خاصة على بعض رجال الحملة الفرنسية من العلماء المتنورّين الذين يكتشفون عظمة مصر وشعبها وتاريخها وثقافتها. إنّ الفلم ليس مجرد وداع (أو رَكلة) لبونابرت الباحث عن الانتصارات والأمجاد العسكرية الاستعمارية، لكنه يصبح ترحيباً بفرنسا الواقعية التي نستطيع أن نتعاون ونتعامل معها بنديّة بعيداً عن روح الهيمنة.

 وفي عقد التسعينات حقّق شاهين ثلاثة أفلام متميّزة ونقصد؛ المهاجر، المصير، الآخر. كما حصل على واحدة من أرفع الجوائز العالمية في تاريخ السينما؛ وهي خمسينية مهرجان (كان) عام 1997 عن مجمل تاريخه وإنجازه السينمائي. وبينما كان فلم المهاجر أغنية حب سينمائية لمصر تستعير من قصص الأنبياء بعضاً من الملامح والثيمات لتمجيد مصر ودورها الحضاري والروحي في التاريخ الإنساني، فإنّ فلم (المصير) الذي يستعير حياة واحد من أكبر التنويريين في العالم من العصور الوسطى؛ الفيلسوف ابن رشد… كان دفاعاً متقناً، عالي الصوت واللهجة، عن خيارات الحداثة والفكر والفن في مصر الواقعية ضد الهجمات الأصولية والردّة الفكرية التي تعصف بالعالم العربي. إن يوسف شاهين يُدين النظام السياسي العربي – القائم – المتردِّد في خطواته والمتشبِّث بمواقعه وكراسيه الأزلية، لأنه يصبح في النهاية حليفاً للقوى الرجعية والمتطرفة دينيا ضد قوى الحداثة والإبداع والثقافة.

في فلم (الآخر) بدا شاهين قلقاً جداً من العلاقة (الخاصة) بين مصر وأمريكا، إذ يربط الخطر الأمريكي/الإسرائيلي الخارجي بالخطر الأصولي/الإرهابي الداخلي، باعتبارهما تهديداً مباشراً لمصر المعاصرة ومسؤولياتها العربية والإنسانية. لقد أراد أن يقول الكثير في هذا الفلم – كالعادة – دون أن يهتم كثيراً للحبكة والسرد وتسلسل الأحداث والوقت السينمائي المتاح … مثلما وزّع الاتهامات يميناً وشمالاً، دون أن يهتم باقناع أو استرضاء المشاهدين والنقّاد المتخصِّصين ... ومع كل هذا، فقد نجح الفلم جماهيرياً إلى حد بعيد. ويُحسب لشاهين أنه جرّ أحد المفكرين الكبار في العالم للمشاركة في مشهده الافتتاحي؛ ونقصد الأكاديمي الأمريكي/الفلسطيني ادوارد سعيد، للحديث عن دور العرب التاريخي ومساهمتهم في الحضارة العالمية. هذا هو شاهين؛ الرمز الحي للسينما العربية بكل تناقضاتها وتحدياتها، بكل خيباتها وطموحاتها. ولعلّ الأجانب محقون عندما يقولون : "كلما ذُكرت السينما العربية، تذكرنا يوسف شاهين".

سينماتك في 15 أغسطس 2008

 
 

شاهين ومشهراوي في أهم المهرجانات العالمية

كتب: أحمد عاطف

استطاعت عدة أفلام عربية جديدة أن تحجز لنفسها مكانا مميزا في أهم ثلاثة مهرجانات سينمائية عالمية قادمة أولها فيلم عيد ميلاد ليلي للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي الذي يعرض في مسابقة مهرجان سباستيان بإسبانيا وكذا بمهرجان تورنتو بكندا وهما من قائمة أهم عشر مهرجانات عالمية‏,‏ والمخرج الذي بدأ حياته بفيلم حتي إشعار آخر عام‏1994‏ حقق عدة أفلام مميزة لكنها متفاوتة المستوي وعرف بغزارة انتاجه وتراوحه بين التسجيلي والروائي ومن أهم أفلامه الملجأ وأخي عرفات وفي فيلمه الجديد الذي يقوم ببطولته الممثل الفلسطيني العالمي محمد بكري فيحكي قصة أبوليلي هو قاض سابق تحول لسائق تاكسي بعد أن عجزت السلطة الفلسطينية عن دفع راتبه يصبح كل همه شراء هدية وتورتة لابنته ذات السنوات السبع بمناسبة عيد ميلادها‏,‏ ويقول رشيد مشهراوي عن فيلمه هو محاولة لترجمة البلبلة التي ترافق الشارع الفلسطيني في السنوات الأخيرة‏,‏ والنابعة من كونه قابعا تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ نصف قرن‏,‏ يقاوم للتحرر ويفاوض للسلام والنتيجة في أغلب الأحيان هي المزيد من تدهور الوضع‏,‏ والعودة للوراء وما يترتب علي ذلك من إحباطات وعدم مبالاة‏.‏ والفيلم أيضا عبارة عن محاولة إضافية لإعادة اختراع الأمل الذي احترفنا اختراعه خصوصا في تلك المرحلة من حياتنا التي يوجد فيها الشعب الفلسطيني منقسما فكريا وإيديولوجيا وجغرافيا‏.‏

أما مهرجان فينيسيا السينمائي بإيطاليا أقدم مهرجانات العالم فقد أهدي دورية بأكملها لروح مخرجنا الكبير الراحل يوسف شاهين وأصدر مدير المهرجان ماركو مولر ـ صديق شاهين القديم ـ بيانا قال فيه إن العالم فقد قيمة كبيرة ومبدعا استثنائيا‏.‏

ويكرم مهرجان لوكارنو بسويسرا شاهين أيضا بعرض فيلمه المصير في ساحة بياتزا جراندي التي تعد أكبر شاشة عرض مفتوح في العالم حيث تسع لسبعة آلاف متفرج كان نفس المهرجان قد كرم يوسف شاهين عام‏1996‏ عن مجمل أعماله بحضور شاهين ووفد مصري كبير‏.‏

ويعرض فينيسيا في مسابقته الرسمية أيضا فيلم جبلة اخراج الجزائري طارق تجيا وهو إنتاج فرنسي ـ جزائري مشترك‏,‏ أما لوكارنو فيعرض في أقسامه الهامشية فيلما قصيرا بعنوان رائحة الجنس للمخرجة اللبنانية المقيمة بفرنسا دانييل عربيد وهو فيلم تسجيلي روائي أساسه اعترافات لمجموعة من اللبنانيين عن أسرار حياتهم الجنسية‏.‏ وتستمر المخرجة في هذا الفيلم في تقديم اهتمامها بموضوعات الجنس الذي قدمته بفيلمها الرجل الضائع ويعرض بلوكارنو أيضا فيلم خمسة للمخرج الفرنسي من أصل تونسي كريم دريدي‏.‏

الأهرام اليومي في 13 أغسطس 2008

 

تكريم يوسف شاهين في المهرجانات العالمية

القاهرة - الراية - دينا محروس

تقديراً لمشواره السينمائي الطويل يعتزم منظمو عدد من المهرجانات السينمائية العالمية تكريم اسم المخرج العالمي الراحل يوسف شاهين ضمن فعاليات الدورات المقبلة لهذه التظاهرات الفنية حيث قررت إدارة مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي تخصيص احتفالية يتم خلالها عرض مجموعة من أهم الأفلام التي قدمها شاهين للسينما المصرية الي جانب إهداء فيلم افتتاح المهرجان لروح شاهين والذي يحمل عنوان الاحتراق بعد القراءة يقوم ببطولته جورج كلوني وبرادبيت.

كما يكرم مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي المخرج الراحل ويعرض فيلمه المصير في مساء الأحد 17 أغسطس في اليوم التالي للافتتاح وكان نفس الفيلم قد عرض بالمهرجان لأول مرة منذ 11 عاماً.

ومن المقرر أن يقوم معهد العالم العربي في باريس بتكريم اسم شاهين من خلال إقامة عدة أنشطة فنية باسمه وفي ذات السياق قرر عدد من المهرجانات الدولية تكريم اسم شاهين خلال دوراتها التي ستعقد خلال هذا العام ومن بينها مهرجانات في آسيا وأوروبا وفرنسا والمانيا وسيتم عرض عدد من أشهر أعمال الفنان الراحل.

من جانب آخر قررت إدارة مهرجان القاهرة السينمائي برئاسة الفنان عزت أبوعوف تكريم اسم المخرج العبقري جو في الدورة القادمة للمهرجان التي تنطلق في نوفمبر القادم بمجموعة من الأنشطة والفعاليات التي تبدأ في حفل الافتتاح حيث يعرض خلاله فيلم تسجيلي عن شاهين يضم أشهر أعماله والتكريمات التي حصل عليها يعرض الفيلم عشرة من أشهر أفلام يوسف شاهين التي أثرت في تاريخ السينما المصرية وهي باب الحديد و الناصر صلاح الدين و الأرض و الاختيار و العصفور و عودة الابن الضال و اسكندرية ليه و المصير و حدوتة مصرية و المهاجر .

ويشارك في احتفال مهرجان القاهرة السينمائي بيوسف شاهين عدد من نجوم السينما العالمية بالاضافة الي النجوم المصريين الذين عملوا مع شاهين ومنهم عمر الشريف وحسين فهمي وعزت العلايلي ولبلبة وخالد يوسف ونادية لطفي.

كما يهدي مهرجان الاسكندرية السينمائي دورته القادمة التي تنطلق في الفترة من 26 حتي 31 أغسطس الي اسم الراحل يوسف شاهين.

الراية القطرية في 14 أغسطس 2008

 
 

شاهين وأبو سيف والعقاد: ظلال التشابه وأوجه الاختلاف

فرسان السينما العربية 'الثلاثة'

القاهرة- من كمال القاضي

للسينما العربية ثلاث قامات كبرى تتمثل في يوسف شاهين ومصطفى العقاد وصلاح أبو سيف، وربما يحتم رحيل المخرجين الثلاثة المقارنة بينهم، باعتبار ان انتهاء المسيرة الفنية يتيح الفرصة لتأمل الأعمال وإبداء الرأي فيها دون تأثير أو مراعاة العلاقة الشخصية أو الخوف من إحراج أي من الأطراف، فالناقد يتحرر تماما من أي ارتباط شرطي بين ما يكتبه وردود الأفعال من جانب المعنيين بالرأي، ومن هنا تتسم الاحكام بالموضوعية الى حد كبير، ولو بدأنا بيوسف شاهين بوصفه الأحدث في الرحيل سنجد أنه بدأ حياته الفنية باعتماد المنهج الواقعي والاهتمام بالقضايا المحلية التي رأى أنها قاعدة الانطلاق الى مناقشة القضايا الدولية وعلى هذا الأساس كانت تجاربه الأولى 'بابا أمين'، 'الأرض' فالأول كان مهموما بواقع الموظف العام وحياته الاجتماعية والأسرية، والثاني اعتنى برصد حياة الفلاح المصري البسيط وتحديات التغلب على الفقر ومواجهة الإقطاع ورأس المال المستغل، كذلك كان فيلم 'باب الحديد' عزفاً على نفس الوتر فقد اتخذ من محطة قطار باب الحديد نموذجا للصراعات الاجتماعية بين الطبقة العمالية وأفرد مساحة لحق هؤلاء البسطاء في الحب والرومانسية من خلال الأبطال الرئيسيين والثانويين الذي كان يوسف شاهين يؤمن بأنهم وقود قطار الحياة الذي يدفع بالمجتمع الى الأمام، لذا كان رمز القطار قريبا جدا من المعنى الواقعي ولم يجد المشاهد صعوبة في استيعاب ما بين السطور، وكذلك قدم فيلم 'صراع في الوادي' أطروحة أخرى لمشاكل الجنوب في صعيد مصر وفتح بجرأة ملف الثأر الذي ارتبط بكثير من جرائم القتل، ولكنه أي يوسف شاهين لم يلتزم هذه العادة المزمومة ولم يوجد مبررات لها وانما حافظ على نقاء البطل عمر الشريف وجعل من القانون الرادع الشرعي والأساسي لكافة الجرائم المماثلة والمشابهة وفضل أن تكون النهاية قانونية وأن يتم القبض على الجاني 'فريد شوقي' لتأخذ العدالة مجراها، بيد أنه في الأفلام التي تخلى فيها عن الواقعية وأطلق العنان لأفكاره الخاصة بكل ما تحمله من تأثر بالاتجاهات الغربية أو غيرها حاول أن يضع أفلامه على الخريطة العالمية فلجأ الى تجريد اللغة والصورة متوهما ضمان وصول المعنى الى عقل المشاهد لظنه بأن ما قدمه من رصيد فني كبير قد خلق له قاعدة جماهيرية مدربة على استقبال الإشارات التليغرافية وفك شفرتها الفنية والسياسية، والحقيقة ان ذلك لم يكن يعكس ثقة مفرطة في قدراته الثقافية والتكنيكية وثقة موازية في جمهور لم يصمد طويلا أمام النمط الجديد من الافلام التي تجاوزت حدود المعقول في الرؤية الرمزية الفلسفية وكان من بينها فيلم 'العصفور' وفيلم 'حدوتة مصرية' كبداية لتيار امتد عبر سلسلة افلام اتهم فيها شاهين بالبعد عن الذائقة العربية وشواغل الواقع الشرقي الذي ينتمي اليه، ومن هنا بدأت رحلة الصعود الى الهاوية وواجه الفنان حملات نقدية مسعورة أشارت في مضمونها الى ارتماء المخرج العربي الكبير في احضان فرنسا سعيا الى العالمية وجريا وراء التمويل المفتوح ولم يفت البعض ان يشكك في هويته العربية وانتماءاته القومية كوسيلة للطعن في تميزه الفني وعدم إتساقه السياسي مع ما يزعمه من نزعات تحررية مناهضة للغرب، وفي هذا الحكم ثمة تجني على الرجل فليس معنى البحث عن رأس مال حر يمكنه من انتاج ما لم تستطع شركات الانتاج التجارية تحمله في حالة الخسارة أن يكون عميلا للغرب أو متواطئا ضد أوطانه فالأفلام التي انتجت انتاجا مشتركا انتقد فيها السياسات الغربية تجاه العرب وانتقد مشروع العولمة وحمل الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية ما يحدث من انتهاكات وعنصرية وحصار اقتصادي وهذا ثابت وواضح في بعض أفلامه ربما أبرزها فيلم 'الآخر' الذي ركز فيه على هذه القضية مما يؤكد براءته من التهم المنسوبة إليه ويجعل الظن بأنه اتجه الى فرنسا لتمويل أفلامه الأخيرة من باب ضمان رأس المال وتجنب الخسارة هو الأقرب الى الحقيقة وذلك بالطبع عملا مشروعا طالما انه لم يندرج تحت بند التجسس أو التخابر او بيع الهوية، وكان بإمكان يوسف شاهين أن يختار فرنسا موطنا دائما له لو لم يكن حريصا على البقاء في مصر والعيش تحت سمائها ويكفي 'جو' فخرا تصديه الشرس للتطبيع الثقافي مع إسرائيل وإن طبع مع العالم كله.

نأتي للمخرج الكبير 'صلاح أبو سيف' رائد الواقعية المصرية بعد المخرج الراحل ايضا 'كمال سليم' صاحب فيلم 'العزيمة' أول فيلم واقعي عربي فأبو سيف ربما كان يعتبر يوسف شاهين منافسا قويا له في بداياته، إبان عرض 'باب الحديد والأرض' لكنه لا شك اطمأن بعد ذلك لدخول منافسه في اتجاه آخر يصور الواقعية بشكل آخر ويربطها بالرمزية بعيدا عن منهج صلاح أبو سيف الذي تجسد في أفلام مثل 'الزوجة الثانية والقاهرة 30 وبداية ونهاية والمواطن مصري'، حيث ناقش قضايا سياسية مهمة في قالب اجتماعي بحت فقد طرح قضية الديكتاتورية والاستغلال والطبقية بشكل مبسط في الزوجة الثانية وقضية الدعارة السياسية وعلاقتها بدعارة الجسد والأفكار والمقايضة على الأخلاق والمبادىء بالمال والمناصب دونما المبالغة في استخدام الاسقاطات او اللغة المركبة كما جاء في فيلم 'القاهرة 30' كذلك رصد أبو سيف مساوىء الفقر وأضراره والمشكلات الجسيمة الناتجة عنه من خلال تجسيده لواقع أسرة من الطبقة المتوسطة تفقد عائلها وتواجه الرياح والأنواء وينحرف الأبناء أمام وطأة الحاجة وذل الحصول على لقمة العيش فتتبدد أحلام الأم وتبقى خيبة الأمل هي العنوان الرئيسي للأسرة المنهارة المعدمة في تراجيديا انسانية لفيلم 'بداية ونهاية' المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، وفي 'المواطن مصري' يعالج المخرج الواقعي العملاق قضية الإقطاع وهيمنة الأثرياء على مقدرات البسطاء والتحكم في مصائرهم بذات المرجعية الرافضة لحكم الرأسمالية والمنحازة الى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية ولم يغير صلاح أبو سيف من حرفيته السينمائية أو اسلوبه الفني الدرامي إلا في فيلم 'البداية' وهو الاستثناء الوحيد الذي استخدم فيه لغة الرمز لإصابة وإدراك المعاني المستهدفة والتي تمحورت في هذا الفيلم حول مفهوم الديمقراطية وابتعادها الكلي عن حكم الفرد واستبداد القوة وفي فيلم 'البداية' فقط اقترب صلاح أبو سيف نسبيا من اسلوب يوسف شاهين، لكنه لم يلبث أن عاد الى منهجه الخاص مرة أخرى.

قد تكون المقارنة بين شاهين والمخرج السوري الكبير مصطفى العقاد أوقع من المقارنة بينه وبين أبو سيف فالإثنان ينتميان الى التيار القومي العروبي، كما ان لهما نفس الخبرات في التعامل أو الاقتراب من السينما العالمية برغم خصوصية كل منهما واختلاف أوجه التعامل واشكاله، فالعقاد له تجربة أكثر ثراء في هذا المضمار فقد شارك في اخراج العديد من أفلام 'رعاة البقر' كمساعد ثانٍ وأول في بداية حياته الفنية بالخارج ولكنه لم يتأثر بهذا النمط الاستهلاكي من السينما التجارية، بل على العكس ظل يناهضها وتبرأ من معظم الأفلام التي شارك فيها وأرجع تجربته الخاصة جدا الى ظروف المناخ السينمائي والمرحلة التي عمل فيها مساعدا لمخرجي هوليوود والمرحلة التي عمل فيها مساعدا لمخرجي هوليوود الكبار واعترف بأن ما قدمه لم يكن سوى تدريب وتجريب وان السينما الحقيقية شيئا آخر بعكس شاهين الذي ظل يدافع عن كل أفلامه المصرية الفرنسية حتى آخر يوم في حياته لكونه بدأ مرحلة الانتاج المشترك مع فرنسا وهو مكتمل الخبرة والنضج ولم يكن يعتبرها تنازلا بأي شكل من الأشكال، أما مصطفى العقاد بتجربته العالمية الواسعة كان لديه الفرصة للتدرج المرحلي والتحول والصعود، لذا لم يعتبر أفلامه الأولى التي عمل بها مساعد مخرج منسوبة إليه ومن ثم فإن تقييمه يبدأ من أول فيلم قام بإخراجه كاملا وما تلاه من أفلام أخرى أبرزها 'عمر المختار' وهو فيلم عالمي قبل المقاييس له خصوصية التوثيق التاريخي وبراعة الأداء الفني وأكاديمية الاستخدام التقني العلمي لكافة الأدوات التاثيرية فهو يحاكي دراميا الواقع القاسي والمرير الذي عاشه المواطن الليبي تحت الاحتلال الايطالي ويجسد فروسية ونبل المناضل العظيم عمر المختار وهذا الفيلم كان نواة اتجاه سياسي توثيقي للسينما الروائية الطويلة عند العقاد فبعده جاء فيلم 'الرسالة' يحمل نفس الطابع الاستشهادي لسيدنا حمزة أول شهيد في الإسلام وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبرغم اختلاف الديانة بين شاهين والعقاد، إلا أن كلاهما دافع عن الإسلام وقدم صورة تنويرية له فالأول سجل هذه الشهادة في فيلمه 'الناصر صلاح الدين' والثاني أكدها في 'الرسالة' ليغلقوا الدائرة السينمائية على المعنى الايجابي لمفهوم الوطنية والمواطنة بعيدا عن أي اختلافات أخرى جوهرية أو عرضية، حيث انطلق المخرجان الكبيران من القاعدة الاساسية وهي وحدة الوطن وعروبة الهوية فاستحقا ان يعيشا طويلا برغم الرحيل.

القدس العربي في 15 أغسطس 2008

 
 

عبد النور خليل

يتذكر أيامه الحلوة وأيامه المرة معه

مكرم محمد أحمد ينهي أزمة القانون 103 بفتح حوار بين الرئيس مبارك وزعماء الاعتصام في نقابة السينمائيين : 0 0 0 - مندوبا وزير الثقافة ورئاسة الجمهورية يفشلان في إقناع تحية كاريوكا بإنهاء إضرابها عن الطعام : 0 0 0 - فردوس عبدالحميد ترفض وضع يدها في يد سعد وهبة ومصافحته بعد -: توقيعه لقرار إنهاء الأزمة : 0 0 0 - اجتماع في دار الهلال يوم جمعة يجمع وزيري الثقافة وشئون مجلس الشعب والشوري ورئيس مباحث أمن الدولة والمسئول عن مباحث الصحافة مع زعماء الفنانين المعتصمين لوضع أسس حل الأزمة : 0 0 0 - استدعا ء سعد الد -ي ن وهبة من الغردقة إل -ي دار الهلال لتوق -ي ع قرار بتأج -ي ل انتخابات الس -ي نمائ -يي ن إل -ي أجل غ -ي ر مسم -ي : 0 0 0 سعد وهبة -ي تصل ب -ي ل -ي قول إن مفتعل -ي أزمة القانون وقعوا ف -ي ها بعدما ظهرت خلافاتهم ف -ي حواراتهم بمسرح البالون : 0 0 0 شاه -ي ن لم -ي غضب من -ي وقال ل -ي وهو -ي قف عل -ي سلم - نقابة السينمائيين «طبختوها انت وصاحبك مكرم» ثم ضحك: :--:: :: : 0 0 0 -: : : 0 0 0 -في صيف عام 1987 كنت مدعوا كعضو في الوفد الرسمي المصري إ -لي مهرجان موسكو السينمائي الدولي، وكانت مصر ممثلة رسميا في المهرجان بفيلم «زوجة رجل مهم» للمخرج محمد خان - -وبطولة أحمد زكي وميرفت أمين، وكان يرأس وفد مصر إلي المهرجان الكاتب الكبير الراحل سعد الدين وهبة .. ويضم أيضا حسين القلا منتج الفيلم، وانضم إليه قادما من المانيا رئيس غرفة صناعة السينما منيب شافعي، وخلال فترة التجهيز للسفر إلي موسكو وبجهد شخصي، وخلال نقاش مع مدير الفرع السياحي بمفوضية الاتحاد السوفيتي - وقت ها- الذ -ي حمل ل -ي دعوة لقضاء أسبوع -ي ن ف -ي رحلة س -ي اح -ي ة إل -ي جمهور -ي ات البلط -ي ق بعد انتهاء المهرجان، استطعت اقناعه بأن -ي سمح لوفد إعلام -ي فن -ي بحضور مهرجان موسكو إل -ي جانب الوفد الرسم -ي المصر -ي الذ -ي س -ي حضر مهرجان موسكو مع مخرج الف -ي لم محمد خان وبطل -ي ه أحمد زك -ي وم -ي رف -ت أمين، وبحصولي علي هذه الموافقة، سافر إلي المهرجان وفد إعلامي وفني وبقيمة مخفضة أكثر من 8 صحفيا وفنانا بينهم إذا لم تخن الذاكرة الصديق الراحل الكاتب السينمائي الكبير عبدالحي أديب وابنه الإعلامي الكبير عماد الدين أديب والزملاء أحمد صالح وماري غضبان والفنانة الصديقة نيللي ووالدتها ووالدة الفنانة ميرفت أمين وابنتها.. وبالطبع الصديق السينمائي فاروق صبري الذي كان بينه وبين الاتحاد السوفيتي معاملات فنية سينمائية لإقامة عدد من دور العرض، وكنا بالمناسبة نسميه خلال المهرجان «عمدة موسكو». : 0 0 0 -وربما كان من قبيل الصدفة انني حضرت لقاء ب -ي ن سعد الد -ي ن وهبة نق -ي ب الس -ي نمائ -يي ن وقتها ومن -ي ب شافع -ي رئ -ي س غرفة صناعة الس -ي نما حال وصوله من المان -ي ا، وسمعت نقاشا لم أتوقف عنده وقتها عن «القانون 103» ونشره ف -ي الوقائع المصر -ي ة وسر -ي ان مواده عل -ي أ -ي ة حال.. ف -ي ال -ي وم الأخ -ي ر للمهرجان جاء مبعوثو شركة -السياحة يبحثون عني لكي أبدأ رحلتي السياحية في جمهوريات البلطيق.. أوكرانيا ولاتفيا واستونيا وبيلاروسيا، وكانت رحلة ممتعة حقا قضيت أيامها في تحصيل واستمتاع فني وثقافي رائع حقا، قد يطول بي العمر لأجمع ما كتبته عنها ذات يوم في كتاب .. وعدت إلي القاهرة بعد الوفد السينمائي الرسمي والوفد السياحي الإعلامي الفني بثلاثة أسابيع، وقد «جرت في السويداء أمور» كما يقول المثل.. كانت الأوساط السينمائية تشهد فورانا غاضبا بسبب «القانون 103» الذي كان في بعض مواده يمنع السينمائيين ممن لهم شركات إنتاج أو يملكون مؤسسات فنية من حق الترشيح لمنصب نق -ي ب الس -ي نمائ -يي ن أو عضو -ي ة مجلس النقابة.. وكان هذا المنع بالطبع -ي شمل س -ي نمائ -يي ن مثل -ي وسف شاه -ي ن ومخرج -ي ن مثل جلال الشرقاو -ي ومحمد فاضل وعل -ي بدرخان وغ -ي رهم. : 0 0 0 شاه -ي ن والدعوة للعص -ي ان والاعتصام : 0 0 0 تلقان -ي أثر عودت -ي من موسكو الصد -ي ق الزم -ي ل الكب -ي ر مكرم محمد أحم -د رئيس مجلس إدارة مؤسسة دار الهلال ورئيس تحرير المصور.. لم يلق علي ما كتبه في رسائلي «المصور» من الاتحاد السوفييتي الذي كان يشهد بدء التحول في بداية عهد جورباتشوف، - -وبادرني مكرم قائلا: أليس بينكم ن -اقد شجاع يواجه سعد الدين وهبة فيما يفعله.. عايز موقف جاد مما يجري في نقابة السينمائيين!! كنت إلي جانب مسئولياتي التحريرية في «المصور» رئيسا للقسم الفني والثقافي، وكان علي أن أتحرك بسرعة لاستيعاب ما يجري داخل نقابة السينمائيين بصرف النظر عن صلتي الوثيقة بالراحل سعد الدين وهبة كعضو للجنة العليا لمهرجان القاهرة السينمائي الدو ل -ي ، وأعلنت انح -ي از -ي إل -ي الثائر -ي ن والغاضب -ي ن ف -ي النقابة ف -ي مقال صر -ي ح ف -ي «المصور»، وذهبت استطلع ما -ي جر -ي وأنا أكاد استوعبه تماما .. كان الغاضبون ف -ي النقابة قد أعلنوا اعتصاما مفتوحا، وكانت الفنانة الكب -ي رة تح -ي ة كار -ي وكا قد افترشت أرض النقابة معلنة الص -ي ام ع -ن الطعام، ولم تفلح جهود مبعوثي وزير الثقافة د.أحمد هيكل ولا مبعوثي رياسة الجمهورية بإقناعها للعدول عن الإضراب عن الطعام، ولا رجاء فنانات مثل سعاد حسني ويسرا للحفاظ علي حياتها.:: : 0 0 0 -كان شاهين بالطبع يفرض ظله الكامل علي ما يجري .. وكان له رأيه المعلن أن نقابة السينمائيين وغرفة السينما والأجهزة الرسمية هي السبب الأول في تدهور السينما المصرية .. وطلب مني الصديق الزميل مكرم محمد أحمد أن أوجه إلي وفد من المعتصمين الدعوة للنقاش والحوار في «المصور»، وأعلن انه علي استعداد لأن يتيح لهم حوارا بناء مع أعلي مستويات السلطة لبحث اعترا ضاتهم عل -ي «القانون 103» وعل -ي الرغم من أن شاه -ي ن كان ضد هذا الاتجاه صراحة، وأن تمرده وغضبه لا -ي قبل التراجع إلا أنه سكت عل -ي مضض، وعدت إل -ي دار الهلال بوفد من المعتصم -ي ن تكون من 5 منهم جلال الشرقاو -ي ، محمد فاضل، وعل -ي بدرخان، وبش -ي ر الد -ي ك، وحس -ي ن قدر -ي .. وف -ي مكتب مكرم محمد أحمد بدأ الحوار معهم، كانت أولي شكاواهم أن قوات الأمن المركزي تحاصر مبني النقابة، تسد المنافذ المؤدية إليه وتمنع وصول مندوبي الوكالات والصحفيين من الوصول إلي المعتصمين داخل النقابة، وكان أول مطالبهم العاجلة هو أن يفك هذا الحصار الأمني حول النقابة .. وكان مكرم محمد أحمد حقا عند كلمته ووعده بأن يفتح حوارا مباشرا بين وفد نقابة السينمائيين الممثل للمعتصمين في نقابة السينمائيين وأعلي مستويات السلطة وهو الرئيس محمد حسني مبارك شخصيا، فبالنسبة لفك الحصار الأمني المضروب حول مبني النقابة والدروب المؤدية إليه، وعد الرئ -ي س مبارك أنه خلال ساعة عل -ي الأكثر ستنسحب القوات الأمن -ي ة المح -ي طة بالنقابة، أما بالنسبة للقانون 103 الذ -ي صدر بطرق تشر -ي ع -ي ة، وأصبح نافذا بعد نشره ف -ي الجر -ي دة الرسم -ي ة ولا مجال لإلغائه إلا بقانون تشر -ي ع -ي جد -ي د، أما بالنسبة لانتخابات النقابة الت -ي تح -دد موعد لإجرائها علي أساس القانون 103 فمن الممكن البحث في قانونية هذا التأجيل بتكليف د. أحمد هيكل وزير الثقافة ود. أحمد سلامة وزير شئون مجلسي الشعب والشوري ببحث الأمر مع مجموعة تمثل السينمائيين، وقد طالبهم الرئيس مبارك، عبر حديثه إلي مكرم محمد أحمد بأن يجروا حوارا فيما بينهم للوصول إلي رؤية واضحة لما يريدونه بالفعل. : 0 0 0 -وقبل أن ينهي وفد السينمائيين المعتصمين في نقابتهم لمغادرة دار الهلال تلقي جلال الشرقاوي مكالمة تليفونية من زملائه في النقابة بأن قوات الأمن المحيطة بالنقابة قد بدأت في الانسحاب من مواقعها حول النقابة با لفعل. : 0 0 0 كان -ي وسف شاه -ي ن كعادته مع كل انتفاضة وطن -ي ة أو حت -ي مظاهرة قد جاء بكام -ي راته إل -ي مبن -ي النقابة، ل -ي سجل و -ي رصد ما -ي جر -ي ف -ي مح -ي ط الاعتصام، وكان بطب -ي عته المتمردة الغاضبة غ -ي ر راض عما -ي جر -ي من حوار، مفترضا أن السلطة ف -ي النها -ي ة ستجد المخرج الذ -ي - -ي مكنها من اج -هاض الاعتصام، - -ومع هذا لم يكن ضد الحوار .. لا بين السلطة والمعتصمين ولا بين المعتصمين أنفسهم ، فالحق يجب أن يقال، لقد كان دائما يدعو للحوار مع الآخر وترك الفرصة لفهمه واحترامه .:: : 0 0 0 - لا أحد يملك تأجيل الانتخابات:: : 0 0 0 -استوعبتني دوامة الاعتصام في نقابة السينمائيين أياما عديدة فأكثر الذين اعتصموا داخل المبني أصدقاء أنا وثيق الصلة بهم، وفي نفس الوقت كنت أتابع ما يجري من محاولات للوصول إلي حل بشأن الأزمة من جانب وزير الثقافة وقتها د. أحمد هيكل ومن جانب د. أحمد سلامة وزير مجلسي الشعب والشوري ، ومحاولات مبعوثي رئاسة الجمهورية ومبعوثي وز -ي ر الثقافة ف -ي اقناع الفنانة الكب -ي رة تح -ي ة كار -ي وكا ف -ي أن تنه -ي إضرابها عن العطام خاصة وقد بدأ الأطباء -ي حذرون من الخطر الذ -ي - -ي هدد ح -ي اتها.. وإن استمر البعض -ي روج بفكرة أنها تكسر هذا الاضراب بتناول بعض التفاح الذ -ي تحضره لها سعاد حسن -ي .. الت -ي كانت رغم م -شاركتها للمعتصمين بالتواجد اليومي في النقابة إلا أنها كانت في حالة اكتئاب خاصة بعد فشل آخر أفلامها «الدرجة الثالثة» الذي كتبه ثالت أزواجها ماهر عواد وأخرجه شريف عرفة.:: : 0 0 0 - وفي النهاية اتفق الرأي علي تأجيل الانتخابات التي كان مقررا بها أن تقام لأول مرة في ظل القانون 103، وفتح الباب أمام حوار موسع بين السينمائيين المصريين للوصول إلي اتفاق ينهي هذا التنافض. : 0 0 0 -علي أن عاملاً جيداً جد علي أبحاث القانونيين والمشرعين وهو أن لا أحد غير نقيب السينمائيين سعد الدين وهبه يملك تأجيل الموعد لإجراء الانتخابات وفي سبيل ذلك اجتمع في المصو ر وكان -ي وم جمعة والمؤسسة ف -ي أجازة كل من د.أحمد ه -ي كل -: وز -ي ر الثقافة ود. أحمد سلامة وز -ي ر شئون مجلس -ي الشعب والشور -ي واللواء مصطف -ي عبد اللط -ي ف رئ -ي س مباحث أمن الدولة والعق -ي د حمد -ي عبد الكر -ي م وقتها رئ -ي س مباحث الصحافة وكان قد جر -ي البحث عن المكان الذ -ي - -ي تواجد -فيه نقيب السينمائيين سعد الدين وهبه لكي يوقع قراراً بتأجيل الانتخابات لكي يتيح الفرصة لحوار موسع شامل حول موقف كل السينمائيين من القانون 103 وجاء سعد الدين وهبه من الغردقة حيث كان يقضي إجازة صيفيفة عندما أخطر بالموعد في المصور لإنهاء الأزمة وجلس سعد الدين وهبة بمفرده في إحدي الحجرات ، في الوقت الذي احتشد -: فيه المجموعة التي جاءت إلي المصور لأول مرة وهم جلال الشرقاوي -: ومحمد فاضل -: وعلي بدرخان وبشير الديك وحسين قدري وانضمت إليهم فردوس عبدالحميد زوجة فاضل.. لم يمانع سعد الدين وهبة اطلاقا في أن يوقع قرار تأجيل -: انتخابا ت الس -ي نمائ -يي ن خروجا من الأزمة وكتب بخطه قرار التأج -ي ل إل -ي أجل غ -ي ر مسم -ي وسلمه ل -ي وللصد -ي ق حمد -ي عبد الكر -ي م ل -ي تسلمه كل من الوزيرين د. أحمد هيكل ود.أحمد سلامة ليعلنا انتهاء الأزمة .. وف -ي تلك اللحظة طلبت من الوفد الممثل -: للمعتصم -ي ن ف -ي النقابة أن -ي تجهوا إل -ي الحجرة التي يجلس فيها الكاتب الكبير الراحل سعد الدين وهبة لتحيته لكن الفنانة فردوس عبد الحميد تمسكت بحقهم في ألا يضعوا أيديهم في يديه.:: : 0 0 0 - فض الاعتصام وإطعام تحية:: : 0 0 0 -إنتهت الأزمة ووافق وفد المعتصمين علي أن يفض الاعتصام رسميا في تمام الساعة التاسعة مساء اليوم التالي ويغادر المعتصمون مقر نقابة السينمائيين وتعهدوا بهذا بحضور الوزير د. أحمد هيكل -: ود. أحمد سلامة ومكرم محمد أحمد واللواء مصطفي عبد اللطيف والصديق حمدي عبد الكريم واتفقنا -: علي أن أذهب إلي النقابة في ذلك الموعد لا تأكد من انصراف جميع من اعتصموا في النقابة ومن عدول الفنانة الكب -ي رة تحية كاريوكا عن اضرابها عن الطعام ولم أظهر حت -ي مساء ال -ي وم التال -ي فقد كان قلب -ي - -ي أكلن -ي عل -ي مص -ي ر الصد -ي قة الت -ي تم -ي زت بالشهامة دائما تح -ي ة كار -ي وكا الت -ي كانت قد أنهت إضرابها عن الطعام بعد انفراج الأزمة وقالت ل -ي ضاحكة : أنا فعلا باكل تفاح . - . بس اشتريته بفلوسي.:: : 0 0 0 - مواقف بعد فض الاعتصام:: : 0 0 0 -في مساء اليوم التالي للاتفاق الذي تم ونفذ في المصور وفي الموعد المحدد وهو التاسعة مساء كان علي أن أذهب إلي مقر نقابة السينمائيين في شارع عدلي لك أتأكد وأؤكد للصديق مكرم أن كل ما اتفق عليه في جلسة المصور قد نفذ كانت صالة مقر النقابة بالفعل قد بدت خالية من كل من كانوا يملأون جنباتهما أكثرهم جمع احتياجاته وانصرف إلا قلة مثل علي بدرخان وجلال الشرقاوي وبالطبع يوسف شاهين.. لم يكن غاضبا مني ، بل يقف علي سلم النقابة وبجواره تلميذته المطيعة -: يسرا.. واعتمد علي سور السلم وواجهني وقد بدت ف -ي ملامحه حدة لكنها تخلو من الغضب وقال ل -ي -: : طبختوها أنت وصاحبك مكرم.. لسه الأ -ي ام جا -ي ة أقول إنه لم -ي كن غاضبا بل كان ملتزما بمبدئه الدائم ف -ي احترام الآخر والحوار معه وقد تمسك بهذا تماما ف -ي الجولات الأخر -ي للحوار الت -ي عقدت ف -ي مسرح البالون، ونا -قش فيها السينمائيون جميعاً القانون 103 وانعكاساته وآثاره علي الحياة النقابية للسينمائيين وهي جلسات امتدت لأسابيع ولم يتوقف يوسف شاهين عن حضورها وتصويرها سينمائيا كما اعتاد في مثل هذه المواقف والأحداث.:: : 0 0 0 -وفي الجانب الآخر تصورت أن ما حدث قد يكون الطاقة الكبري في علاقتي بالكاتب الكبير الراحل سعد الدين وهبة، لقد نشرت في تحقيقي لما جري في المصور صورة القرار الذي كتبه بخط يده لتأجيل انتخابات السينمائيين إلي أجل غير مسمي وكنت اتصوره وقد استبد به الغضب بينما كنت في عداد الأصدقاء المقربين منه ومضي أسبوعان قبل أن أتلقي مكالم ة منه .. قال ل -ي : خلاص الأزمة وعدت ووقع ف -ي ها الذ -ي ن فجروها بخلافاتهم ف -ي حوارات البالون.. : 0 0 0 تعال -ي بق -ي شوف شغلك ف -ي مهرجان القاهرة.. أنت عضو لجنة عل -ي ا وممثل -: للمهرجان ف -ي مهرجان برل -ي ن.. نفض -ي بق -ي لشغل المهرجان.. أقول الحق أكبرت من سعد الد -ي ن وهبة هذا الموق -ف.:: : 0 0 0 - وزاد حماسي للعمل معه في أروقة مقرا لمهرجان السينمائي الدولي.:: : 0 0 0 -وأكبرت منه أيضا ترحيبه بالمظاهر ا -ت التي كان يقودها يوسف شاهين في دورة المهرجان ووقوفه في مظاهرة تضم الفنانين وبينهم عادل إمام ويسرا أمام فندق سميراميس حيث مقر إدارة المهرجان وهم يحملون لافتات علي ه -ا لا للقانون 103. : 0 0 0 - شاهين واسكندرية كمان وكمان : 0 0 0 -أعتقد أنني لست في حاجة إلي أن أذكر كل عشاق ومحبي يوسف شاهين إلي أن أزمة القانون 103 احتلت الجزء الافتتاحي -: من فيلمه -: اسكندرية.. كمان وكمان لقد بدأ أحداث الفيلم بموقفه وبنفسه مخرجا يتعرف خلال الاعتصام علي ممثلة شابة موهوبة -ي سرا -ي حاول أن -ي ضعها داخل الحدث و -ي راها موهوبة إل -ي حد الرهان عل -ي هذه الموهبة و -ي حدثها باستفاضة عن نفسه وأحلامه وأصدقائه الذ -ي ن -ي عتب عل -ي هم مواقفهم لكنه لا -ي حمل لهم ضغ -ي نة.. وقد عاد -ي وسف إل -ي تقمص الذات .. وفضل أن -ي كون هو نفسه بطلا للف -ي لم.. ب -طلا صريحا ولم يستعر بطلا يصنعه أو يختاره من بين المواهب الشابة.:: : 0 0 0 - لقد كان من الطبيعي أن يعود شاهين إلي بلدته ومسقط رأسه لكي -: يبحث عن ذاته من جديد.. يبحث عن ميلاد جديد يطهر به نفسه من آثار ما لحق به من غضب ثائر ضد القهر الذي تحاول السلطة أن تفرضه علي مثقفيها كنت مستاء من الطريقة التي تناول بها مجريات أزمة القانون 103 وما ألمح به في بدايات فيلمه من أنني لعبت علي الحبل .. لكنه كان قد قبل أن يلحق له الصديق محمد نوح أغنية غناها بطلاقة وبدون تهتهة في الفيلم وقلت له أنت بصراحة تلعب علي حبال التاريخ. : 0 0 0 -وفي حديث نشرته قال لي بجرأة : طلع ع -ي ن -ي محمد نوح .. زهقن -ي من روح -ي لكنن -ي فرح لأنه جعلن -ي أستردد شباب -ي وح -ي خل -ي الناس تقول ج -ي ن ك -ي ل -ي أ -ي ه وبتاع أ -ي ه ... نوح وموس -ي قاه ف -ي الف -ي لم -ي جعلان منه فانتاز -ي ا س -ي اسة معبرة جدا عن وجهات نظر شبابية ف -ي العصر الذ -ي نع -ي شه بل ف -ي الأحداث والشخص -ي ات - التاريخية التي نتحدث عنها كلما تناولنا مدينة مثل الإسكندرية .. إنها مدينتي -: ومن حقي أن استقرئ تاريخها واستخرج منها كل وجهات النظر فيه مثل الإسكندر الأكبر بانيها وصديقه الذي بني الفنار إحدي عجائب الدنيا السبع ، لقد كلفني التمثال الذي كان يحتل -: قمة الفنار عند بنائه الآف من الجنيهات بعد أن نحت نحتاً حقيقيا.. ماذا يمنع أن يكون الإسكندر نصف إله أو تزعمه أمه لأبيه فيليب أن ابن ي«ريوس لبير الألهة، أو أن يكون دكتاتورا يبحث عن مجد ذاتي. : 0 0 0 -لقد اقتضي تحقيق وجهتي النظر هاتين أن أذهب إلي واحة سيوة حيث توج المصريون الإسكندر وأتاب ع قصة ذلك المجنون ال -ي ونان -ي است -ي ل -ي و الذ -ي قض -ي عمره -ي بحث عن قبر الإسكندر ف -ي المد -ي نة قد -ي كون هو الكاهن الفرعون -ي أو المخبول المصر -ي . : 0 0 0 وقد تكون تلك الفتاة المصرية الت -ي تح -ي ا وتع -ي ش ف -ي المد -ي نة ه -ي كل -ي وباترا القد -ي مة بشحمها ولحمها وتتفان -ي ف -ي الشخص -ي ة كأنها قد -ي سة -وقد أراها غانية كانت تسعي للسيطرة علي قيصر أو أنطونيو.. تقول إنني أرقص علي حبال التاريخ ليكن.:: : 0 0 0 -لكنني أسجل مواقفي ووجهات نظري في أحداث م ر -ت بحياتي وحياة هذا الوطن وإلا قل لي أنت.:: : 0 0 0 - وقد شاركتنا وقفة القانون 103 في مسألة النقابات الفنية أليست وقفة ديمقراطية بارزة.:: : 0 0 0 -يوسف شاهين معه كل الحق.. لقد كان دائما وأبدا يلوذ بذاتيته ومواقفه ورؤيته لذاتية هذا الوطن وخصوصياته في النصف الأخير من اسكندرية كمان وكمان يعود شابا يقود الحبيبة يسرا في مناكب الحياة اليومية في الإسكندرية ... يستظهر أمامها مهاراته في السير علي سور كحد السيف وي هبط عل -ي زفة لك -ي - -ي مارس لعبة العصا والتحط -ي ب و -ي أب -ي ككل ابن بلد أص -ي ل أن -ي كون منهزما و -ي قودها من -ي دها إل -ي الملاه -ي ل -ي مارسا لعبة النشان و -ي نتش -ي كأنه لع -ي ب عن -ي نبوع صاف لح -ي اة شعب -ي ة لكنه لا -ي لبث أن -ي سترد همومه و -ي عود إل -ي حوار مسرح البالون مشاركا ف -ي الوقفة -ضد القانون 103 ولا ينسي أنه سينمائي حتي النخاع فيقف وراء الكاميرا ويلتقط حبات الدمع التي تظلل رموش حبيبته ويتابعها وهي تتقدم إلي الصف الأول في مواجهته وتبدأ في الغناء بلادي بلادي ويضج المسرح بالنشيد.:: : 0 0 0 - هذه هي ذاتية يوسف شاهين.. هذه القراءة الجديدة التي يجب أن نعيد تقبله بها وفهمه علي اتساعه.

جريدة القاهرة في 19 أغسطس 2008

 

عبدالنور خليل يتذكر:

«أيامه الحلوة.. وأيامه المرة معه» 

شاهين «اقتلني.. احرقني.. لكن ماذا عن فكري وتلاميذي.. إن الأفكار لها أجنحة تطير بها»أعمل دائما مع أجيال شابة.. وفي المصير ستة ممثلين جدد لم يسبق لهم الوقوف أمام الكاميرامتوسط سن العاملين في الفيلم لا يتجاوز سنة وكلهم موهوبون من أصحاب الشفافيةذكاء إعلامية كبيرة.. اختارت آمال فهمي صديق العمر د. ماهر مكي في حديث عما كان يجري في الأندلس أيام «المصير»في رأيي أن فيلم شاهين «المصير» أهم أفلامه وأعماله في السنوات العشر الأخيرة من حياته.. أهم من «المهاجر» ومن «الآخر» و «اسكندرية.. نيويورك» ففي هذا الفيلم أثار شاهين جدلا أكثر، وتعرض لهجوم أكاديمي أكثر، وإن كان فوزه بعد عرض «المصير» داخل المسابقة الرسمية بما يسمي «سعفة السعفات الذهبية» لمهرجان كان في عيده الخمسين، قد أضعف الهجوم علي الفيلم، وجمع حول «جو» رأيا عاما مصريا وعربيا ودفئا طغي علي كل شيء.. ولفت الأنظار أكثر إلي سينما يوسف شاهين، والسينما المصرية والعربية التي تحمل فكرا وموقفا من قضايا سياسية مهمة في حياتنا.كان رأي يوسف شاهين أن «المصير» إضافة إلي ما فيه من مواقف فكرية واضحة، فقد كان أيضا نافذة للمواهب الجديدة الشابة التي قدمها شاهين.سألته عن موقف عارض أثارني في الفيلم.. قلت:تلك الحركة المفاجئة من ابن رشد «نور الشريف» عندما وجد نسخة من كتاب له لم تأكلها النيران، استدار وألقي بها في وسط الحريق، ماذا قصدت بهذا؟وأجابني يومها قائلا:ما قصدته هو أن الأفكار لها أجنحة تطير بها.. وإذا كنت تريد -: قتلي أو حرقي.. حسنا فماذا عن تلاميذي، وماذا عن رفاقي وأصدقائي، ماذا عن ممثلي الفيلم ومصوريه؟!.. إنني دائما أعمل مع أجيال شابة. وفي «المصير» ستة ممثلين جدد لم يسبق لهم الوقوف أمام الكاميرا، ومدير الإنتاج عمره 7 سنة ومنسق الإنتاج أيضا.. إن متوسط سن العاملين في الفيلم سنة بما فيهم أنا.. أغلب هؤلاء الممثلين الشبانيمكن أن يطلق عليهم صفة الشفافية كان علي أن استخدم مواهبهم التلقائية التي لا تلتزم بتعاليم ستانسلافسكي، وهاني سلامة الذي قدم دور الأمير عبدالله ابن الخليفة الأصغر واحد من هؤلاء وفي اعتقادي أن الممثل الشاب إذا كان يمتلك الموهبة فعلي المخرج ن يجعلها تثمر في اللحظة المناسبة.. إنني استطيع أن أحدد ما إذا كان الممثل الشاب يستطيع التركيز أو يمتلك شيئا في داخله.. إن الممثل الموهوب يحتاج إلي شفافية معينة وبعض الخجل والكثير من الاعتدال.«المصير» مشهد مشهد وكلمة كلمةلم يكن فيلم «المصير» قد عرض في مصر، قبل عرضه في مهرجان كان بل لم يكن كثيرون يعرفون شيئا عنه، فعلي عادة يوسف شاهين، كان يبقي فيلمه في نطاق محكم من السرية، سواء أثناء كتابة السيناريو أو التصوير وكناقلة من المصر، من النقاد والصحفيين، الذين حضروا عرضه في كان معه ومع نجوم فيلمه، وقد رأيت أن من واجبي خاصة بعد فوز يوسف بجائزته أن أنقل لقرائي في المصور وقتها كل وقائع الفيلم.. كل مشاهده.. كل عبارات حواره.. وكانت الحصيلة كما يلي:البداية في «المصير» سريعة مثيرة وقوية.. في بلدة من إحدي مقاطعات وسط فرنسا، خيول مندفعة في جنون تجر رجلا مربوطا إلي ظهورها، والأرض الصخرية تلطمه في قسوة قبل أن يصل إلي محرقة «من حطب» من محارق محاكم التفتيش في القرن الثاني عشر.. تتوقف الخيول، ويرفع الجنود الرجل الذي يتفجر جسده ووجهه بالدماء إلي عمود المحرقة ويربطونه إليه في الوقت نفسه يرتدي فيه الكردينال ثيابه ويكمل هيبته ويخرج إلي الميدان الكبير الذي تحتشد فيه الجماهير أمام الكنيسة ويعطي إشارة البدء، ويقرأ أحد القساوسة الحكم: كفر الرجل لأنه خرج علي تعاليم الكنيسة وترجم كتب الكافر أفيروس «الاسم الغربي لابن رشد» المخالفة للدين واستحق الموت حرقا واستحقت كتبه الحرق معه.. ويشعل الجنود النار في الحطب.. وبدأت النيران تتصاعد لتلف الرجل الذي يلمح ابنه الشاب يوسف «فارس رحومة» يقترب مع أمه ليلقي عليه نظرة أخيرة فيصرخ فيه: يوسف خذ أمك واهرب ويمدت الصراخ في حلقه والنار تأكله.. وينفذ يوسف وصية أبيه، ويبدأ في عبور جبال البرانس إلي الأندلس العربية في ذلك الوقت.. وتموت أمه في الطرق خلال الرحلة ويصل هو إلي قرطبة عاصمة الخليفة المسلم «المنصور -: «محمد حميدة» لتنضم إلي حلقة الدرس لصديق والده قاضي قضاة المنصور الفيلسوف المفكر ابن رشد «نور الشريف» وتضم حلقة الدرس ابني الخليفة ناصر ولي العهد «خالد النبوي» وعبدالله «هاني سلامة» الابن الاصغر الذي تربي في أحضان قبيلة غجرية تجاور حي ابن رشد واعتبر مروان «محمد منير» وزوجته مانويلا «ليلي علوي» أبوين بديلين له.. تربي عبدالله علي نزعة مروان الذي يري أن بهجة الحياة في الغناء والاستمتاع بها إلي أقصي حد وشرب من نبع أمومة مانويلا التي لم تنجب بل ومال بلا خزي إلي سارة «إنجي أباظة» أختها التي تماثله سنا وأحبها في اندفاع.. ويعيش يوسف الدارس الفرنسي في بيت ابن رشد وزوجته زينب «صفية العمري» التي أصبحت منه في مكانة الأم وابنته سلمي «روجينا» وكان أبويحيي «سيف عبدالرحمن» والي قرطبة وشقيق الخليفة المنصور الصديق الصدوق لابن رشد وعضوا بارزا بين تلاميذه ومريديه.وتمضي الحياة في العاصمة الإسلامية قرطبة.. يعود الخليفة المنصور إلي المدينة بعد انتصاره في معركة «الأرك» ضد ملك الأسبان، وتحتشد جموع المدينة ويندس بينها برهان «عبدالله محمود» وبعض زملائه من المتطرفين الذين دفعهم الشيخ رياض «أحمد فؤاد سليم» لكي يتظهروا بالولاء للخليفة، بينما هم وأمير الجماعة «مجدي إدريس» يتخذون موقعا عدائيا منه ومن قاضي القضاة ابن رشد وكتبه وأفكاره وفلسفته، ويتلقي برهان امرا من أمير الجماعة بتجنيد عبدالله ابن الخليفة الأصغر، فالأبن الأكبر الناصر ولي العهد من أخلص تلاميذ ابن رشد ويميل إلي ابنته سلمي ولا يمكن التأثير عليه، بعكس أخيه الأصغر عبدالله الرافض اللاهي في حانة مروان ومانويلا.. ويبدأ برهان وجماعته في ملاحقته وسد الطريق عليه وتحويله شيئا فشيئا إلي متطرف، يرفض كل ما كان يحبه ويغرق فيه.. يرفض أمومة مانويلا وأبوة مروان، ويرفض أيضا حب سارة التي حملت منه.. سار وراء برهان وحديثه عن الدين الحق.. وأخذوه إلي الصحراء ليسير ساعات حافيا علي رمال حارقة بلا هدف لكي يقضوا علي إرادته تماما ويري كل من حوله كفرة وكل ما يفعلونه كفرا وبهتانا يخالف تعاليم الدين الحنيف.. ويدبر أمير الجماعة محاولة لاغتيال مروان، لكن الناصر ولي العهد يتدخل لانقاذه من الموت ويحمله والخنجر في عنقه إلي ابن رشد الذي يجري له عملية جراحية تنقذه وفي الوقت نفسه يبدأ الوعي إلي تخطيط الشيخ رياض الطامع في السلطة بعد أن حباه الخليفة بالثراء وأقطعه الأراضي والضياع فساند الجماعات المتطرفة وخطط لها ووضع عينيه علي الحكم حتي ولو تعاون مع الإسبان.. ولا يصدق الخليفة المنصور الحقائق التي يفتح ابن رشد عينيه عليها ويظل مشغولا بمعاركه والتفكير في فتوحاته.. ويفطن ابن رشد إلي ضياع عبدالله واحتواء الجماعة له شيئا فشيئا ويذهب مع مروان إلي جوار القلعة التي تتخذها مقرا لتدريب الاتباع وإرغامهم علي يمين الطاعة العمياء ويظل مروان يراقب القلعة ولا مانع خلال فترة الانتظار الطويل من أن تشتعل الرغبة عنده الموقف حب مع زوجته مانويلا.. ويرصد مروان عبدالله بين المتطرفين وفي فروسية ليست غريبة عليه يهبط كالصقر علي أفراد الجماعة وينقض علي أميرهم ويضغط علي عنقه بخنجرة مهددا ويتمكن من اختطاف عبدالله والعودة به مقيدا إلي داره وحانته، لكن عبدالله مازال مكابرا لا يقبل نصحا ولا يلين رغم حديث ابن رشد المقنع وقسوة أخيه الناصر ولي العهد وتقرب سارة وحب مانويلا ومروان. انهم مازالوا في نظره كفرة وحياتهم وأفعالهم كفر ويفضل أن يبقي مقيدا ملقي إلي جوار الحائط.. ويفطن ابن رشد، بعد تعرض داره للحرق، أن الهدف أكبر من التحرش به وبأفكاره، لكن الهدف هو تكفيره والإفتاء بحرق كتبه خاصة بعد أن نجح المتطرفون في اغتيال مروان.. يتجمع تلاميذ ابن رشد في بيته لنسخ كتبه في محاولة لتهريبها من قرطبة، ويقرر يوسف الفرنسي ذو العيون الخضر كما تسميه زينب زوجة ابن رشد علي سبيل المداعبة أن يحمل نسخا من كتب استاذه في محاولة للعبور بها إلي فرنسا عبر جبال البرانس، ويتطوع الناصر ولي العهد بحمل الكتب إلي الشيخ الرازي في مصر، وفي الوقت الذي يفشل فيه يوسف وتغرق الكتب في شلال حيث تتلقفها أيدي الأسبان المتربصين للهجوم علي دولة الموحدين، ينجح الناصر في الوصول بالكنز الثمين إلي مكتبة الشيخ الرازي في مصر... وكان الشيخ رياض وانصاره من الجماعات المتطرفة قد نجحوا في إصدار فتوي بتكفير ابن رشد وعقدوا عن طريق مساعد الشيخ رياض المدعو بدر «أحمد مختار» حلفا مع ملك الأسبان في فتح أسوار المدينة عندما يهاجمها جيشه.. وذهب ابن رشد لمقابلة الخليفة المنصور طالبا منه أن يعفيه من منصب قاضي القضاه ويظل به حتي يوافق علي تنحيته لكنه لا يقتنع بأن هدف الجماعة ومن تأتمر بأمره وهو الشيخ رياض هو الخليفة نفسه.وفي محاولة لاسترداد عبدالله، تلجأ مانويلا إلي أن تعيد ليالي مروان.. رغم حدادها، فترقص وتغني أغنيته المفضلة «علي صوتك بالغنا.. لسه الأغاني ممكنة.. ممكنة» وتنجح ومعها ابن رشد وتلاميذه في استرداد عبدالله من سيطرة المتطرفين وتنصب محرقة لكتب ابن رشد في الميدان الكبير بالمدينة.. ويقف الرجل بجوار عربة يحملها بسقط متاعه وتركبها زوجته وابنته قانطا تأكل نفسه مشاعر الاحباط، خاصة بعد أن أصدر الخليفة المنصور بناء علي فتوي الشيخ رياض وجماعته أمرا بحرق كتب ابن رشد ونفيه خارج الأندلس.. وينهب الأمير الناصر الأرض للعودة ويفاجأ بالشيخ بدر - يد الشيخ رياض اليمني يقابله علي أبواب المدينة لكي يغريه بأن يضمنوا له الخلافة بعد التخلص من والده الخليفة المنصور ويعاهدهم مع ملك الأسبان علي هذا وعلي الحياة مع الاسبان في سلام، ويتظاهر الناصر بالقبول ويعود مسرعا لكي يحمل إلي ابن رشد نبأ وصول الكتب إلي مصر سالمة ويبتهج الرجل كالطفل ويعطي ظهره لكتبه التي تأكلها النيران ويلتقط كتابا لم تأكله النيران ليلقي به إلي أتونها.وفي قصر الخليفة المنصور يفاجأ بابنه الأصغر عبدالله يضع خنجرا فوق عنقه وهو يقول له أنه قد تلقي أمراً بأن يقتله لكنه لن يفعل .. وتنكشف الحقيقة أمام انظار المنصور ، خاصة بعد أن يخبره الناصر ولي عهده بما دار بينه وبين بدر الساعد الأيمن للشيخ رياض عند اسوار المدينة وهو عائد من مصر..ينادي الخلفة بالجهاد والخروج لملاقاة الأسبان، ويجيء بالشيخ رياض ليأمره بالخروج هو وجماعته للقتال وأن يتقدموا صفوة المقاتلين .. ويحاول الشيخ رياض التهرب وعدم الوقوع في الفخ، لكنه لا يجد مفرا من القبول والاستسلام لمطلب الخليفة الذي يخبر ولديه أنه يدبر لمواجهة الأسبان، لكن في مكان آخر غير الذي حدده للشيخ رياض واتباعه.كثير من الجدل بعد عرض المصيربعض ما داخلني من أسئلة بعد العودة من كان وبعد عرض الفيلم لجمهور عريض في مصر والبلاد العربية سألت يوسف شاهين:لماذا ذهبت إلي سوريا ولبنان لتصور الأندلس العربية؟- وقال لي: ذهبت إلي جنوب اسبانيا وكانت المواقع والمناظر مذهلة ومدهشة لكن يزحمها بليون سائح، والمدن قد تغيرت تماما حتي لا يمكن تمييزها.لقد اختلفت صورتها تماما عما كانت عليه في زمن العرب والمكان الوحيد الذي يبدو مثل الأندلس القديمة هو سوريا ولبنان وقد حباني أهلهما المسئولون فيهما بفضل ورعاية لا مزيد عليهما مما جعل العمل هناك كأنه حلم.رفيق العمر .. د. الطاهر مكيأعنف ما وجه إلي «المصير» من نقد ذكره صديق العمر الدكتور الطاهر أمد مكي .. وصداقتي لطاهر مكي بدأت ونحن في العشرين من العمر .. كنت أعمل -: سكرتيرا مساعداً لجريدة «الكتلة» لسان حال الكتلة الوفدية وزعيمها مكرم عبيد، وكان طاهر مكي طالبا في كلية دار العلوم، وزاملني مصححا في الجريدة.ولم يكن مجرد شاب صعيدي جاء من بلدته كيمان المطاعنة ليلتحق بالأزهر ، بل تميز بأنه قارئ ممتاز يصب من الثقافة الغربية علي اتساع .. كنا في تلك الحقبة نبحث عن هوية .. كنت مفتونا بكتاب الدكتور عبدالرحمن بدوي «الزمان الوجودي» وكنت أقرأ لجان بول سارتر والبير كامي وكان طاهر مكي مفتونا بشعراء المقاومة الفرنسية وعلي رأسهم بول إيلوار وكان يحفظ عن ظهر قلب قصيدته «عيون الشرا» وكنا نحفظ الكثير من عيون الشعر العربي خاصة قصائد امرئ القيس الذي كان الأستاذ محمد فريد أبوحديد قد أصدر عنه بحثا أدبياً اسماه «الملك الضليل» فكانت قصيدة شاعرنا ومثقفنا الكبير الراحل عبدالرحمن الشرقاوي «من أب مصري إلي الرئيس ترومان» تأخذ الكثير من وقتنا نقاشا واهتماما وجدلا في شكلها الشعري ومضمونا السياسي.. وتوقفت «الكتلة»، عن الصدور لكن الصداقة بيني وبين طاهر مكي استمرت.. كنا أيام «الكتلة» قد سكنا معا في شقة صغيرة في حارة أزبك ببركة الفيل لكي نكون علي مقربة من المبني الذي كانت تشغله جريدة الكتلة في شارع منصور.. وكان طاهر محاطا بتدليل من بعض بلدياته .. وحدث مرة أن وقع خلاف بيننا وبين صاحب البيت الذي نقطنه علي بعض الأمور الصغيرة ، وفوجئت بحارة أزبك وقد تحولت إلي طابور مقاتل من الصعايدة، كل منهم يمسك نبوتا ويجلسون علي الأرض في انتظار الأستاذ طاهر، حتي يؤدبوا أمامه صاحب البيت الذي تطاول عليه .. جمعهم واليهم بائع فاكهة بلديات طاهر كان يزودنا بما نحتاج من فاكهة.. ولم تنفض «المعركة» إلا بعد أن قبل صاحب البيت رأس طاهر أمام حملة النبابيت، وافترقنا لفترة وتخرج طاهر مكي في كلية دار لعلوم، واختار أن يكون من أصحاب السلك الجامعي، وإن لم يبتعد عن الكتابة والصحافة أبدا، عمل في رسالة ماجستير عنوانها «ارهاصات في الجزيرة العربية قبيل البعثة المحمدية» وكانت نتيجة رسالته أن الجزيرة العربية كانت في طريقها لأن تصبح جمهورية قبيل الإسلام، ثم تقدم بعدها برسالة الدكتوراه في الأدب المقارن واختار الأدب الأندلسي كموضوع رئيسي.. وارتحل لسبع سنوات أستاذا بالمعهد العربي الإسلامي في مدريد، وتبحر في دراسة اللغة الإسبانية والآداب الأندلسية، وله كتاب حققه بعنوان «طوق الحمامة»، ولم يكن طوال السنوات السبع التي عمل فيها في معهد مدريد، يعود في اجازته السنوية إلي القاهرة، بل كان يتجه إلي باريس ليقضي اجازته بأقل التكاليف في بيت من بيوت الشباب .. والصديق الدكتور الطاهر أحمد مكي هو أول من فتح عيون وعقول المثقفين المصريين علي شعراء أمريكا اللاتينية العظام مثل بابلونيرودا .. وكان حُجة في الأدب الأندلسي، وبعد الاغتراب في إسبانيا عاد لينتظم في سلك أساتذة كلية دار العلوم وأصبح وكيلا لها بعد أن ضمت إلي جامعة القاهرة.د. مكي مع آمال فهمي علي الناصيةواحدة من مفاجآت الصديق الدكتور الطاهر مكي لقاؤه بالمذيعة الذكية البارعة الإعلامية آمال فهمي في صدفة افتراضية من خلال برنامجها «علي الناصية».. وكان فيلم «المصير» ليوسف شاهين هو محور الحديث .. قال طاهر مكي إن حرق كتب ابن رشد في الأندلس وردت في إشارة بسيطة ليست ثابتة، وأن ما حدث له كان بسبب ما نسميه «الصراع علي القمة» بعض الغلاة الذين لا يقبلون أي اجتهاد يبتعد عن النص، كانوا لا يقبلون منه مبدأ: الدين لا يتناقض مع العقل وأن العقل السليم لا يتعارض إذا فكر مع الدين، لذلك دسوا لابن رشد عند الخليفة فعزله كقاض للقضاة.. ساعد علي هذا أن الخليفة قد انتصر في معركة ضد الأسبان لم يكن منتظرا أن ينتصر فيها، وفي مثل هذه المواقف يميل الناس إلي تغليب الغيبيات ويميلون إلي رد الانتصار إلي عوامل دينية، ودسوا لابن رشد عند الخليفة لأنه فيلسوف ترجم كتب أرسطو وشرحها وربما يكون الذي حرق هو هذه الكتب الفلسفية، أما كتب ابن رشد فقد بقيت ووصلت إلينا ومازلنا ندرسها حتي الآن.. واختتم د. الطاهر مكي أنه يرحب بالفيلم إذا كان مخرجه يوسف شاهين يقف به فعلا في صف «التنوير»، أما إذا اعتبر أنه يقدم فيلما تاريخيا فعليه أن يلتزم بالتاريخ لأن الخليفة لم يكن يعيش في الأندلس بل في المغرب، وكان امراء دولة الموحدين يذهبون إليه، وكان ابن رشد مقيما في بلاطه بالمغرب بل ورضي عليه في النهاية ونصبه مستشارا حتي مات.كان من الطبيعي جدا وأنا أعرف جيدا مكانة صديقي الدكتور طاهر مكي من ثقافة الأندلس العربية وأعرف موقفه من كتاب وشعراء أمريكا اللاتينية مثل ماركيز وبابلو نيرودا، وأعرفه منحازا إلي شعراء المقاومة الفرنسية أيام سقوط باريس في الحرب العالمية الثانية.. كان من الطبيعي أن أذهب مستفسرا عن رد يوسف شاهين علي ما أثاره في حديثه مع آمال فهمي الإعلامية الذكية في برنامجها «علي الناصية»، قال لي يوسف شاهين يومها: أنا لم أتوقف عند هذا النقد الأكاديمي من أستاذ جامعي يساري النزعة مثلي وربما استطاع خالد يوسف مساعدي وشريكي في كتابة السيناريو، والذي أهمته هذه المسألة جدا أن يناقشك فيها.وانتحيت في ركن من مكتب يوسف شاهين بخالد يوسف وسمعناً معاً تسجيلا لحلقة علي الناصية التي حملت أراء د. الطاهر أحمد مكي ولم أقل له انه صديق عمري وأعرفه حادا دائما في آرائه ونقده ولا يقبل المساومة في رأي يكتبه أو يبديه.. وقال لي خالد يوسف : إن د. طاهر مكي لم يتجاوز في نقده أي حدود.. لقد أثارنا بعض الصحفيين ضده عندما قالوا إنه كال للفيلم الكثير من التهم والرد بسيط - مع اعتذاري له - هو أن الخليفة المنصور كان بالفعل في الأندلس في الوقت الذي جرت فيه أحداث الفيلم وكان عائدا منتصرا من معركة «الأرك» عندما دس المتطرفون عنده لابن رشد وانقاد لهم الخليفة ثم أدرك خطأه بعد أن أصدروا فتوي بحرق كتب ابن رشد ونحن منذ اللحظة الأولي لم نزعم أننا نقدم فيلما تاريخيا عن حياة الفيلسوف ابن رشد، بل نقدم حقبة قصيرة عما يجري في الأندلس، وقد قرأت أكثر من 50 كتابا ومرجعا، وهدفنا الأساسي هو اتخاذ موقف مناصر للتنوير وتأثير الفكر العربي في حضارة الغرب، وفي تصوري أن د. مكي سوف يسحب معارضته ونقده عندما يري الفيلم.فرحة شاهين كانت غامرةبقيت عندي ملاحظة أخيرة عن يوسف شاهين بعد الجائزة في «كان» قلت له: «هل ارتحت نفسيا بعد كل هذا التكريم في مصر بعد تكريمك عالميا في كان ؟! عهدي بك غاضب دائما وأبدا؟!وأضاء وجه يوسف شاهين بفرحة طفل في مرة من المرات القليلة التي رأيته فيها علي هذا النحو.. واجابني: لا تتصور الراحة والاحساس العميق بالقيمة التي تداخلني الآن، الجائزة كان لها فعل السحر في نفوس المصريين من أهلي وناسي والجماهير من العرب والغربيين الذين صفقوا لي أكثر من أي فائز عند صعودي إلي المنصة، ولمعت عيون إيزابيل أدجاني في انتصار وهي تشاهد رد فعل الجمهور زد علي هذا التكريم من رئيس الوزراء - كان وقتها د. كمال الجنزوري - وأمين الجامعة العربية د. عصمت عبدالمجيد، وهذه المشاعر الفياضة عبر تليفون «صباح الخير يا مصر» في الحلقة التي خصصها لي من الناس العاديين ومن مواطنين يعملون خارج مصر، هذا كله وضع داخلي فرحة غامرة وازاح أي غضب، ويؤكد لك أنت بالذات أنني لم أكن خائفا عندما قدمت «المصير»، وأنت تري النتيجة الآن كما قلت لي في المؤتمر الصحفي في «كان».

جريدة القاهرة في 12 أغسطس 2008

 
 

هوامش نقدية

إسكنـدرية‏..‏ ليـه

‏بقلم: نــــادر عــــدلي

يوسف شاهين‏..‏ ولد وعاش في الاسكندرية‏,‏ وحمل اسمها ثلاثة من أفلام سيرته الذاتية‏:‏ اسكندرية ليه‏,‏ واسكندرية كمان وكمان‏,‏ واسكندرية نيويورك‏,‏ وكان الفيلم المكمل لرباعيته الشهيرة يحمل اسم مصر حدوتة مصرية‏..‏ المكان اذن كان عنوانا مهما في رحلة ابداع يوسف شاهين‏,‏ وليس أي مكان‏,‏ فالاسكندرية ليست مجرد مدينة‏,‏ أنها احدي البقع الساحرة علي المتوسط‏,‏ وواحدة من المدن العبقرية في كل أنحاء الأرض‏..‏ وشاءت الاقدار أن يكون أول احتفاء وتكريم لأسم يوسف شاهين في الاسكندرية ومن خلال مهرجانها‏.‏

إن كل مهرجانات العالم الكبري وضعت تكريم يوسف شاهين علي رأس جداول أعمالها‏,‏ والبداية كانت في الاسكندرية‏,‏ وبعد أيام في مهرجان فينسيا‏,‏ وسوف تتوالي المهرجانات التي تحتفي به حتي نصل الي مهرجان كان في مايو المقبل‏,‏ والذي حصل منه علي جائزة فريدة ولن تتكرر السعفة الذهبية لليوبيل الذهبي‏.‏

الأربعاء المقبل‏..‏ يشهد مهرجان الاسكندرية تظاهرة كبري يشارك فيها كل الفنانين والسينمائيين في مصر‏,‏ وقد أهديت هذه الدورة‏(‏ رقم‏24)‏ لاسمه‏..‏ وفي اكتوبر يحتفي به مهرجان الإسماعيلية بعرض كل أفلامه القصيرة في الافتتاح‏..‏ ويستعد مهرجان القاهرة ليحتفي به عالميا‏..‏ وقد دفن يوسف شاهين في الاسكندرية‏,‏ ولكن تلقي العزاء فيه كان في القاهرة‏,‏ وفي حادثة فريدة كان سرادق العزاء في ستوديو نحاس‏,‏ الاستوديو الذي كان يفضله لتصوير أفلامه‏,‏ وكان صاحب الفكرة ممدوح الليثي نقيب السينمائيين‏..‏ أننا في عام يوسف شاهين‏.‏

الأهرام اليومي في 20 أغسطس 2008

 
 

قبل الدخول من "باب الحديد" وبعد الوصول إلى "المصير":

وداعاً يوسف شاهين

عبدالله حبيب 

1.  "حَنْحَارِبْ.. حَنْحَارِبْ"

-- الشِّعار العفوي الذي هتف به ملايين المصريين على إثر إذاعة خطاب استقالة جمال عبدالناصر من رئاسة الجمهورية وإعلانه تحمله الكامل لمسؤولية هزيمة 1967 –

2.  "حَنْحَارِبْ.. حَنْحَارِبْ"

-- بهيَّة (رَمْزُ مصر) في فيلم يوسف شاهين "العصفور" (1972) -- 

بوفاة يوسف شاهين المؤسفة – إذ ان موت الفنَّان، بل الإنسان وما أكثر في الناس من فنَّانين لم ينتجوا "نصوصاً" بل كانت حياتهم ابداعاً صرفاً، حَدَثٌ فاجع حتى ولو ادَّعى الهلاك ببرودته ولامبالاته المعهودتين انه جاء في الوقت المناسب تماماً من باب الشفقة والرحمة على الأقل -- فقدت السينما البديلة والجادة وقضية الدفاع عن الحق، والعدل، والخير، والحرية، والجمال النبيلة واحداً من رموزها الصادقة الشَّرسة، جريئة الصوت وعاليته في العالم أجمع، وليس في "أمِّ الدنيا" العزيزة والوطن العربي المُمزَّق وحدهما فحسب ("دَهْ واحد إبن كلب!" كما وصفه أحمد فؤاد نجم من باب المدح بطريقة الذم على النحو الشعبي المصري الذي تعني فيه بعض المفردات والتعبيرات عكسها تماماً.  وفي الواقع فإن الشيخ إمام كان قد صَدَحَ بـ "يا بهيَّة" من تأليف أحمد فؤاد نجم في فيلم يوسف شاهين الشهير "العصفور" [1972])؛ فطوال عمره الذي امتد لاثنين وثمانين سنة غير مترهلة (1926—2008) أنجز خلالها أكثر من أربعين فيلماً ظلَّ المشاغب الكبير الراحل ذو الألفاظ "الوسخة" مُتَّسِقاً مع نفسه (لم يُسْتَضَف تلفزيونيَّاً على الهواء مباشرة إلا مرة واحدة فقط قال فيها ما جعل جميع الفضائيات العربية تقرر في صمت أشبه ما يكون بالـ gentlemen agreement عدم بث أي حوار معه مباشرة خشية أن يحدث ما لا تحمد عقباه).. ظل يوسف شاهين، إذاً، متناغماً مع رؤاه، منسجماً مع مواقفه وتصريحاته الحادة، الغاضبة، المثيرة للجدل وسخط المؤسسة الرسمية في أغلب الأحيان، وفيَّاً لمبادئه، وقناعاته الفكرية والسياسية، وزملائه، وتلاميذه الذين أغدق عليهم المحبة والقسوة معاً بطريقة لم ينافسه عليها سوى المخرج السينمائي الألماني الراحل راينر ماريا فاسبندر، وذلك في زمن صعب للغاية هو زمن التساقطات، والإضمحلالات، والتراجعات (و"المراجعات")، والإنبطاحات، والخيانات، والصفقات الاستفزازيَّة الرعناء والخائفة والخافية وتلك التي لا يمكن إخفاؤها، متحولاً، ومتقدماً، ومجرِّباً، وقلقاً، ونزقاً، وعصبيَّاً في أساليبه ومعالجاته الفنيَّة كما هو الحال في حياته الشخصيَّة (وصفه الناقد السينمائي الفرنسي المعروف جورج سادول بأنه "أفضل مخرج سينمائي مصري من أبناء جيل ثورة 1952، و"هو واقعيٌّ ساحر ومثير" كما أشار عبقري السينما الفرنسية جين رينوار إلى إحدى مراحله الثلاث حسب التوصيف النقدي العام الذي قد يتفق معه المرء وقد يختلف:  المرحلة الأولى [الاجتماعيَّة والسياسيَّة] من 1950 إلى 1976؛ المرحلة الثانية ["الذاتيَّة" – البعض يقول لصالح الأسباب والتبريرات وطالحها:  "النرجسيَّة"] من 1979 إلى 1997؛ المرحلة الثالثة ["التجريبيَّة"، وفي تصوري "بانورماميَّة النوع" generically panoramic أيضاً] من 2000 إلى 2007)، إنْ في الحقبة الملكيَّة الفاروقيَّة الفاسدة غُبَّ شرخ شبابه حيث سيكون، مثلاً، فيلمه الملحمي البديع "الأرض" (1969) المقتبس عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي، والذي أنجزه بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، هجوماً كاسحاً على ما يمكن تسميته بـ "الإقطاع الشَّرقي في المرحلة الرأسماليَّة العالميَّة" (حيث انه من الصعوبة بمكان تسمية نمط الإنتاج الاقتصادي في الريف المصري أثناء الحكم الملكي بـ"الرأسمالي" لأسباب عديدة – ولا عزاء هنا لـ "الرفاق"!)، والاستغلال، ومَوْقَعَةً لجذور الثورة في معاناة الفلاحين واضطهادهم، أو الحقبة الناصريَّة الصاعدة التي تضامن معها لكنه لم يجبن عن نقدها كما فيلمه "باب الحديد" (1958) الذي هو بصراحة فيلمي الأثير من أفلام الراحل على الرغم من انه من بواكير سجلّه السينمائي الغني؛ ذلك انه فيلم "عُصابيٌّ" أو"ذُهانيٌّ" بامتياز (وبأكثر المعاني إيجابيَّة لهذين المصطلحين الفرويديين السلبيين عادةً)، والذي وصفه النقد السينمائي الغربي بأنه "النسخة العربية الممتازة من فيلم "لص الدرَّاجات الهوائية""، التحفة الخالدة لسينما "الواقعية الجديدة" الإيطالية من إخراج فيتوريا دي سيكا، مثلاً، ولم يتردد – أي شاهين -- في وَصْلِ المرحلة الناصريَّة بـ"زمان الوَصْلِ في الأندلس" على اعتبار ان المرحلة الناصريَّة تلك على الرغم من كل شابها من اعوجاجات، واخفاقات، وارتجالات، واجتهادات متسرِّعة، إنما كانت "أَلِغْوْرْيَا وطنيَّة" (national allegory)  لصفحة مضيئة من التاريخ الإسلامي كما في فيلمه "الناصر صلاح الدين" (1963)، مثلاً (أو أن الفيلم ذاك كان "أَلِغْوْرْيَا وطنيَّة" لتينك المرحلتين، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مقولة المفكِّر الماركسي ما بعد الحداثي الأمريكي الفَذِّ فريدريك جيميسون ان "كُلّ" النتاج الفنِّي في العالم الثالث هو "أَلِغْوْرْيا وطنيَّة" ورفض الشاعر بلغة الأوردو والمفكر الماركسي الباكستاني المخضرم بالإنجليزية إعجاز أحمد لهذه المقولة في السجال الشهير الذي دار بين الرجلين على صفحات "مجلَّة اليسار الجديد" البريطانيَّة)، والذي – أي فيلم "الناصر صلاح الدين" الملحمي -- قام سبعمائة وعشرين ممثلاً بأدوار "الكومبارس" فيه، كما "أقرَّ" يوسف شاهين بنكسة يونيو 1967 المريرة لكنه لم "يعترف" بها وإن كان مقتنعاً بآثارها الكاسحة الرهيبة كما في فيلمه "الإختيار" (1970)، مثلاً، بل راهن على خروج العنقاء من الرماد، وتنبأ بنصر حرب أكتوبر 1973، وإن كان عاجزاً لاعتبارات وجيهة للغاية عن التنبوء بسرقة ذلك الانتصار التاريخي والإنجاز العسكري الاستثنائي في رابعة النهار كما فيلمه "العصفور" (1972) الذي يطلق عليه بعض النقاد السينمائيين العرب لقب "فيلم النكسة بامتياز"، والذي لم تسمح الرقابة المصريَّة بعرضه إلا بعد نصر أكتوبر (هه!)، مثلاً، أو الحقبة الساداتيَّة المرتكسة والطَّلاقيَّة، أو الحقبة المباركيَّة المُكرَّسة الموصولة بها والمعروف موقفه منهما جيداً.  وقد تحمل يوسف شاهين الكثير بسبب ذلك العناد البطولي الثابت والمثابر في تلك الحقب المتباينة جميعها.  أن يكون المرء متسقاً مع نفسه خير من ان يكون التاريخ متغيراً باتساقاته – هذا إن أراد المرء أن يكون مخلصاً لنفسه، ووفيَّاً لتجربته، وليأتِ الجحيم بعد ذلك إن شاءت النيران.

وعلى الرغم من مصريَّته القُحَّة التي أوصلته إلى العالميَّة -- بل سيقول المرء "اسكندرانيَّته" بقليل جداً من التردد (في الحقيقة لم يصوِّر يوسف شاهين خارج مصر على الرغم من ضخامة سجلِّه السينمائي إلا في لبنان والمغرب واسبانيا – فتدبَّروا، وتفكَّروا، وتأملوا يا أولي الألباب من المبدعين العرب الأغرار المُغَرَّر بهم الباحثين عن "العالميَّة") -- كان يوسف شاهين متواصلاً ومعبِّراً عما يدور من مواقف وأحداث، على ساحات النضال، والتحرر، والتقدم، والإبداع، والحريَّة، في بقية الوطن العربي الذي كان ولا يزال زاخراً بالأحداث والرموز كما في فيلميه "جميلة الجزائريَّة" (1958) حول حرب التحرير الوطني الجزائرية ورمزها النسائي الأكثر شهرة جميله بو حريد التي قطع الغزاة القادمون من "عاصمة النور" ثدييها (والتي لا تقل أهمية عن المناضلة الألمانيَّة روزا لكسمبورغ التي خصَّتها "السينما الألمانية الجديدة" بفيلم قوي من إخراج مارغريت فون تروتا لو كان قومي يعلمون -- وكانت في بلادنا، بالمناسبة، مدرسة ثانوية للبنات باسم "ثانويَّة جميلة بو حريد"، ولدى وفاة المناضلة البحرينيَّة الأسطوريَّة ليلى فخرو [يعرفها معظمهم باسمها الحَرَكي الخالد:  هدى بنت سالم] قال لي  أحد الأصدقاء:  "لو كانت هذه المرأة أوروبيَّة وشَعرها أشقر وعيناها زرقاوان فإنني أؤكد لك انك كنت قد شاهدت عشرة أفلام روائية سينمائية عنها على الأقل بحلول هذا الوقت"، وأنا أؤكد له ذلك أيضاً)، و"عودة الإبن الضال" (1976) حول جحيم الحرب الأهلية اللبنانية، مثلا.

ولا شك أنها مفارقة فاقعة، ومريرة بالمقاييس كافة، و"لائقة" تماماً "في وصف حالتنا" (إن كنت أستطيع استعارة عبارة محمود درويش الذي ما جفَّ ثراه بعد في فقدٍ موجع آخر) أن من أوائل من نعوا يوسف شاهين ووجهوا له التحية، والثناء، والتقدير قبل أن يُوارى الثرى كان الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء فرانسوا فيون، والرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك المعروف باهتماماته الثقافية المتعددة، وليس رئيس أية دولة – بل حتى ليس "مدير دائرة المُخَيِّلَة، والمِخْيال، والذكاء، والفطنة، والموهبة، والابتكار، والثقافة، والإبداع، والفكر، والجمال، والتَّفرُّد، والطبيعة، والطبائع، إلخ" في أي من المؤسسات "الثقافية" العتيدة -- في الوطن العربي الذي انتمى إليه الراحل وانشغل بقضاياه وهمومه بطريقة متقدمة "استعاديَّة" (فلنقل مثلاً من فيلم "باب الحديد" حيث تتجلى القسوة الوجودية للحياة والتعقيدات الإنسانية العنيفة والغامضة في مصر خمسينيات القرن الماضي حتى في ظل المشروع الاشتراكي الطموح، إلى فيلم "المصير" [1997] حيث العصر الأندلسي الزاهي والفيلسوف المسلم ابن رشد الذي شرح أطروحات أرسطو للحضارة الغربية وبداية الصدع الرهيب بإحراق كتبه في مشهد سيظل عالقا في الذاكرة دوماً [نحن لم نعد نعرف الكثير الكثير عن ابن رشد في الوطن العربي، ولكن في الفلسفة الفرنسية هناك تيار كامل اسمه "الرُّشْدِيُّون الجُدُد"]– وليس "باب الحديد" أول أفلام الراحل، كما لم يكن "المصير" آخرها)؛ بل إني شاهدت حلقة تلفزيونيَّة مصريَّة تم التوسل فيها على الهواء مباشرة أن يتم توفير طائرة طبية مجهزَّة لنقل يوسف شاهين من القاهرة إلى باريس للعلاج بعد إصابته بنزيف في المخ في أيام حياته الأخيرة حيث لا توجد إمكانات طبيَّة لعلاج حالته المستعصية في مصر. 

وإذا كانت تلك الطائرة تم توفيرها في خطوة "رمزية" من باب رفع العتب (حيث "ما دام الرجل العجوز المشاغب يحتضر وسيموت قريباً لا محالة فلنفعل شيئاً لأجله لعلنا بذلك نستطيع احتواء اسمه وتجييره لصالحنا أخيراً") الذي – رفع العتب، عنيتُ -- لا يعادل هنا سوى دفع البلاء بنواةِ تَمرة في عز الصيف.  وإذا كان التابوت الذي رقد فيه شاهين رقدته الأخيرة قد لُفَّ بالعلم المصري في خطوة أخرى من أجل "احتواء اسمه وتجييره لصالحنا أخيراً"، وذلك بحضور أكثر من ألف من زملائه وتلاميذه وأهل بلده، فإن هذا، في الحقيقة، هو القَدَرُ النموذجي للمبدع العربي الحقيقي:  لا يلتُفت إليه إلا وهو يحتضر أو قبيل أن تأكله الديدان (هذا إن حدث ذلك في نادر الأحيان) أو بعد ذلك بزمن طويل جداً في الغالب؛ أما في أثناء حياته فليس هناك سوى القمع، والتنكيل، والمنع، والحصار، والاضطهاد، والمطاردة، والتجويع، ومقص الرقيب الذي يجلبه مباشرة من عِند شَعر عانته أو إسته، بل وساطوره المجلوب من أقرب مسلخ ثقافي في الحارة، والمُسلَّط على النص الإبداعي وعلى رقبة وقلب صاحبه.

وتشجعني مناسبة رحيل يوسف شاهين بكل ما تحمِلُّ، وتَتَحمَّل، وتُحَمِّل من حزن ودلالات تذهب إلى ما هو أبعد من الشخص أن أجرؤ على القول هنا بأقصى ما يمكن من الوقاحة العقلانيَّة إنني -- في الوجه الآخر من العملة، وهو أيديولوجي -- أرى في تجربة يوسف شاهين نموذجاً للقدرات والطاقات الخلاقة الكامنة في البورجوازية الصغيرة العربية التي تعامل معها اليسار العربي (الذي قام فكريَّاً على ترجمات خاطئة أصلاً حسب أحد أصدقائي المزَّاحين الظرفاء!) في ذروة صعوده الهائج الأهوج (ألم يَدْعُ ذلك اليسار في يومٍ ما إلى "التصنيع الثقيل" تماماً كما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق والصين، وليس أقل من ذلك أبداً، وذلك في منطقة جبليَّة لم تصل إليها الرَّحى اليدويَّة لطحن الحبوب – ذلك الانجاز الانثروبيولوجي الرهيب! -- بعد، ولا تتوافر فيها المواد الأوليَّة الكافية لتصنيع أقلام الرصاص؟!) بنظرة ضيِّقة وعدوانيَّة نظريَّة حنبليَّة متطرفة لصالح الحلم الطوباوي الجامح المناط تحقيقه المؤكَّد الأكيد بالبروليتاريا العربية ("لكن عليك الآن أن تصارحني أيها الرفيق العزيز:  أتوجد لديكم طبقة بروليتاريَّة حقاً في اليمن والخليج وشبه الجزيرة العربية؟!، قُلْ لي الآن لأن الأمر مهم للغاية!"، كما سأل ليونيد بريجينيف الراحل عبدالفتاح اسماعيل ذات اجتماع)، حبيبة القلب وتاج الرأس وبلسم الجراح ومعقد الآمال الكبار، والتي – أي البورجوازية الصغيرة ذات الانجازات الكبيرة في التاريخ العربي الاسلامي منذ السيدة خديجة بنت خويلد، الزوجة الأولى لرسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وحتى الآن – تتلقى الآن الصفعة القاسية الثانية على خدها الآخر حيث يتم سحقها بطريقة مُمَنْهَجَة ومنهجيَّة من قِبَل الأنظمة الحاكمة (لن يضير أبداً أن أقول "المحكومة") وحاشيتها الإقتصا-سياسيَّة مقيتة الصيت بوحشيَّة غابيَّة في مختلف أقطار الوطن العربي لصالح البورجوازية التاريخية (سأفترض ببعض التردد وجودها لدينا)، والبورجوازية الطفيليَّة (أه!، هذه لا داعي للتردد أمامها أبداً كي لا أخسر متعة الاحتساء المتلمظ لزجاجة مياه معدنيَة صغيرة باردة وأنا أتمشى صيفاً على كورنيش مطرح!) ، والبورجوازية الوافدة، والبورجوازية المستوطِنة، والبورجوازية العابرة للقارَّات، وبورجوازية مقيت الذكر "النظام العالمي الجديد". 

لقد حدث ذلك التهميش الأحمق، والأخرق، والقاسي للبورجوازية الصغيرة العربية بعد وقت طويل من اعتراف الفكر اليساري الغربي وتثمينه للخطوات المهمة التي أنجزتها البورجوازيَّة الوطنيَّة هناك، هذا ناهيكم عن البورجوازية الصغيرة (وقد أخفق الوطن العربي تاريخيَّاً في تقديم بورجوازيَّة وطنيَّة؛ هذا ناهيك عن المتقدم والتالي في "نمط الانتاج الآسيوي").  وبهذا فإنه لعل تجربة يوسف شاهين السياسية (آخر أنشطته النضاليَّة المشاركة في حركة "كفايه") والإبداعية (آخر أفلامه "هي فوضى" [2007]) تقنع من لا يزالون في قيد الحياة من ذوي الرؤوس اليابسة والقادمين الجدد إلى معترك العمل السياسي (الذي تغيرت خارطته) والممارسة الثقافية (التي لا تزال تعمل على رسم خارطتها) أن القفز البهلواني على الضرورة الليبراليَّة التاريخيَّة ليس إلا من تُرَّهات وحماقات الفكر السياسي والثقافي العربي وإخفاقاته المريعة، حيث لن يسمح لنا التاريخ أبداً بـ"العودة" إلى "هناك" على النحو الذي نريد "اليوم".

وفي مسيرته السينمائية جمع يوسف شاهين بصورة استثنائية بين الذاتي والموضوعي كما في خالدته "الرباعيَّة" (إسكندريه ليه [1978]، و"حدُّوته مصريَّه" [1982]، و"إسكندريه كمان وكمان [1990]، و"إسكندريه.. نيويورك" [2004]) حيث يصبح المكان الشخصي العالم كله، أو المكان الذي يتحرك فيه العالم باعتباره هوية مُشَخْصَنَة، ويصير التاريخ المعاصر لمدينة الإسكندرية في أحد الوجوه بأطيافها المختلفة والواسعة تاريخه الشخصي، ويغدو تاريخه الشخصي المعقَّد تاريخاً للإسكندرية المعاصرة (حقاً لم ينافس بيروت على شخصيتها "الكوزموبيلاتينيَّة" أي من المدن العربية سوى الاسكندرية التي أنجبت شاهين). 

وقد اعتبر يوسف شاهين نفسه دوماً عربياً (بالنظر إلى هويته القوميَّة السياسية)، وإغريقياً (بالنظر إلى أصول أمِّه اليونانيَّة)، ومسيحيَّاً (بالنظر إلى ديانة عائلته)، ومسلماً (بالنظر إلى هويته الثقافية/ الحضارية)، ودرزيَّاً (بالنظر إلى الأصول اللبنانيَّة لعائلته).  وقد اسهمت هذه الخلفية الاستثنائية الخصبة في تكوين شخصيته الثقافيَّة والمدنيَّة العلمانيَّة المنفتحة وتعدد الموضوعات التي عالجها في أعماله. 

ويظهر يوسف شاهين بصفته ممثلاً في العديد من أفلامه، حيث من الصعب، مثلاً، نسيان أدائه التمثيلي الاستثنائي في فيلمه "باب الحديد" (قلت لنفسي بعد مشاهدة ذلك الفيلم الذي فاز بأكثر من جائزة عالمية انه ربما كان من الأجدر بيوسف شاهين أن يكون ممثِّلا لا مخرجاً) الذي يقوم فيه بدور بائع الصحف قناوي الواقع سراً في غرام بائعة المشروبات الغازيَّة هنومة، والذي ظهرت نسخته الإنجليزية ذائعة الصيت بعنوان "محطة القاهرة" (Cairo Station).  غير ان حضوره بوصفه ممثلاً في تلك الأفلام يتجاوز كثيراً كونه حضور "الكاميو" (cameo) بمعنى انه لا يتعدى كونه "توقيعاً إخراجيَّاً" (directorial signature) كما في أفلام ألفرِد هيتشكوك مثلاً، ليصبح ما أسميه "الحضور الجسدي- في- الخطاب" (corporeal presence- in- discourse)؛ أي حين يكون جسد المخرج أمام آلة التصوير وليس وراءها باعتبار ذلك الجسد الراوي أداة بنيويَّة في السرد الفيلمي؛ قول الجسد للتاريخ، سجال الجسد أمام التاريخ، التاريخ باعتباره ليس أكثر أهمية من أي شخص مِنَّا، والتحام السارد بالسرد والمسرود: جَسَدُ المخرج السينمائي – اختصاراً -- باعتباره شاهداً على التاريخ.

 وفي أية حال فإن مفردة "الجسد" باعتبارها مفهوماً حسيَّاً وموضوعاً وجوديَّاً ضخماً ليست غريبة أبداً على تجربة يوسف شاهين الحياتية والسينمائية الاستثنائية، إذ أن الراحل الكبير كان واحداً من قلة من السينمائيين العرب، إن لم يكن الوحيد، الذي كسروا في أفلامهم "تابو" الإعلان عن ميولهم وتفضيلاتهم الجنسية غير القياسية، كما في حالة الثنائيِّة الجنسيِّة ضاربة الجذور في الثقافة الجنسيَّة العربية، بصورة أوتوبيوغرافية صريحة (السواد الأعظم من  المبدعين العرب فُحولٌ، "دون جوانيّون"، شبقون، مغتلِمون، ناعظون في النصوص، أما حين يغلق باب غرفة النوم في آخر الليل فقد يختلف الأمر بالنسبة لبعضهم رأساً على عقب وفوقاً على تحت فوق السرير).  ولا شك ان فعل ذلك في المجتمع العربي الذكوري العربي الذي يحدث فيه ما يحدث في بقية المجموعات البشرية لكن بشرط أن لا تجاهر بحريتك وخياراتك (الجنسيَّة خاصة) إنما يتطلب جرأة وشجاعة غير عاديتين، وهذا مما يحسب لصالح الراحل الكبير بكل تأكيد.

أستميحكم المعذرة الآن في الإتيان على ذكرى شخصيَّة؛ فقبل بضع سنوات استضافتني مشكورةً جامعة أوتاجو في نيوزيلنده لتدريس أول مساق تقدمه عن "السينما الثالثة في العالم الثالث".  وسيكون من نافل القول ان يوسف شاهين كان واحداً من أربعة مخرجين سينمائيين اخترتهم لتمثيل السينما العربية في حوارها مع مفهوم "السينما الثالثة" في المساق ذي المجال الجغرافي والتاريخي والثقافي والفنِّي الواسع (بالطبع، سينمانا "الثالثة" في الوطن العربي لا تستطيع ان تنافس نظيرتيها المتقدمتين في إفرقييا وأمريكا اللاتينيَّة).  غير ان حيرتي كانت شديدة حول أي فيلم ليوسف شاهين ينبغي أن أختار، خاصة وانني كنت محكوماً بضرورة توفر نسخة مترجَمة الحوار الى الإنجليزية من الفيلم الذي يستقر عليه رأيي.

 وفي الحقيقة فإني لا أعتقد على الإطلاق أن فيلم "المصير" أفضل أفلام مخرجنا الراحل، بيد ان قناعتي استقرت على اختياره لأسباب موضوعية تتعلق بضرورة التصدي حينذاك للإلصاق المجاني والنمطي والجائر لتهم الإرهاب والعنف بالعرب والمسلمين بعد أحداث سبتمبر 2001، كما اعتقدت انه من الضروري ان يرى الطلبة النيوزيلنديون لمحات من الماضي الإسلامي المشرق على الرغم من انني شخصياً لا أُحسِنُ الإقامة في الماضي، غير انني – وأنا هنا أستطرد بعد إذنكم -- ومنذ عام 1979 كنت ولا زلت مسكوناً بجملة أرددها دوماً يقولها الأمير فيصل (الذي قام بدوره أَلِكْ جينيس) للورانس العرب (الذي قام بدوره بيتر أوتول) في فيلم "لورانس العرب" من إخراج ديفيد لين:  "لكن أتدري أيها السيد لورانس انه كانت هناك في مدينة قرطبة العربيَّة سبعة أميال من الإنارة العامة عندما كانت لندن قرية؟!".

 وقد أسعدتني إلى أبعد الحدود الحوارات الحيوية وروح اللهفة لمعرفة الآخر المُشَيْطَن في النقاشات التي دارت مع الطلبة حول الفيلم ودهشتهم لماضي التسامح، والتعدُّديَّة، والعقلانيَّة، وتَقَدُّم  الماضي الإسلامي في الأندلس.  كانت تلك تجربة سعيدة بكافة المقاييس.

 وبالمناسبة، عليَّ أن أقول هنا – استطراداً إيضاً -- أن نيوزيلنده بلاد على العرب أن لا يتأخروا في الانتباه لها أكثر مما فعلوا من طول غفلة في المجال السياسي وإقامة العلاقات الدولية الاستراتيجية الراسخة.  في الحقيقة ربما كانت نيوزيلنده آخر بقعة على الأرض سترحب بالعرب المتأخرين؛ فهذه البلاد الصغيرة التي يقوم اقتصادها على الاعتماد الذاتي بطريقة في غاية الإحكام، والرغبة في إقامة مشاريع اقتصادية طموحة مع الخارج (اقتصاد نيوزيلنده وخدماتها الاجتماعية لمواطنيها شبه اشتراكي وهي التي ألهمت السويد تجربتها الاستثنائية المعروفة – "نحن بلاد يقوم اقتصادها على الخراف والنعاج والشياه – والأبقار احتياطاً، حيث سيكون من الخطأ الجسيم أن تعتقد اننا لا نملك مخزوناً احتياطيَّاً على الرغم من اننا لا نملك قطرة نفط واحدة– وجلودها!"، كما قال لي صديق نيوزيلندي هو بروفيسور في الاقتصاد السياسي) إنما تكنُّ – أي نيوزيلنده -- بروداً معروفاً للولايات المتحدة (سنتذكر هنا ما حدث للسفير الأمريكي لدى لقائه بطلبة جامعة أوكلاند لتبرير الحرب على افغانستان) والدولة العبرية (سنتذكر هنا الموقف الحازم للحكومة النيوزيلندية على اثر اكتشاف شبكة تجسس صغيرة للدولة اللقيطة على أراضيها، واصرارها على تقديم اعتذار رسمي علني، ورفضها العلني للعرض الصهيوني السِّري بإجراء "محادثات تحت الطاولة" من أجل التغلب على آثار ما حدث)، كما ان مواطني نيوزيلنده اليهود يتمتعون على قدم المساواة بكافة الخدمات التي تقدمها الدولة الليبرالية شبه الاشتراكية لمواطنيها، لكنهم لا ينعمون بنفوذ سياسي ("لوبي")، وهذا نادر فعلاً في البلدان الغربيَّة – "ننتظركم من زمان أيها العرب، لكنكم اتخذتم عادةََ أن لا تأتون أبداً، ولا ادري ان كانت هذه واحدة من فضائلكم ]استخدم محدثي كلمة virtues ذات الصدى السُّقراطي] التاريخيَّة!"، كما قال لي نائب رئيس إحدى الجامعات النيوزيلنديَّة العريقة مازحاً بجديَّة كبيرة!.  ولا شك انها خطوة إيجابية ومحمودة لمؤسسات التعليم العالي في دول الخليج ان انفتحت على الأكاديميا النيوزيلندية في السنوات الأخيرة، والمطلوب المزيد من التعاون والانفتاح.

لكن بعيداً عن هذا الاستطراد، وقريباً من مساق "السينما الثالثة في العالم الثالث" فإنني أعتقد أن فيلم "المصير" ليوسف شاهين يعاني من إشكالات تتعلق بالنوع (genre) و"إمكانية تَحَقُّق المُحتَمل في الواقع" (verisimilitude)، وإشكالات ثيماتيَّة وفكريَّة (كما في تبسيطيَّة الصراع بين الخير والشر، الديدن المُدان للسينما الأمريكية)، إضافة إلى معاناته من كلاشيهات فنيَّة (كما في لقطة "الهبوط" المتقَن الذي تقوم به إحدى الشخصيات من أعلى جدار مباشرة على صهوة جواد منتظِر، وهي لقطة منسوخة حرفيَّاً من أفلام "الويستيرن" الأمريكية).  وفي أية حال فإن يوسف شاهين لم يُخْفِ إعجابه بالسينما الأمريكية وخاصة "الأفلام الاستعراضيَّة" (musicals) – بالمناسبة:  مُحَدِّثُكُم يقع في المنطقة الرماديَّة حول تعريب الـ “musical” بـ"الفيلم الاستعراضي" في ثقافتنا السينمائية العربية-- لدرجة انه قدَّم، أي شاهين، "لمسة تقدير" (homage) لتلك الأفلام التي يقوم هو نفسه في أحدها بالرقص استعراضيَّاً على خلفية موسيقى أمريكية .

وإن أنتم سمحتم لي مشكورين باستطراد آخر فسأقول انني كنت ذات مرة أتبادل  الحديث إلى أستاذي العزيز المنظِّر السينمائي البريطاني بيتر وولِن (الذي يقضي الآن ما تبقى من خريف عمره في منشأة طبية بريطانية مصاباً بمرض "الزهايمر" للأسف الشديد) الذي قد لا يعرف بعضنا أنه أخرج في بواكير حياته فيلماً سينمائيَّاً روائيَّاً مهماً جداً عن القضيَّة الفلسطينيَّة بعنوان "مَوْتُ صداقة" الذي أشاد به كتابةً صديقه الراحل إدوارد سعيد (تُرجم هذا المقال إلى العربية في العدد الخاص بـ"السينمائية العربية الجديدة" من "ألِف"، المطبوعة نصف السنويَّة الممتازة ثلاثيَّة اللغة – عربية، انجليزية، فرنسية -- التي تصدرها الجامعة الأمريكية في القاهرة)، والذي --أي بيتر وولن--  كان قد عمل مساعداً للمناضل المغربي الشهيد المهدي بن بركه في شيء من مشاريع مرحلته اللندنيَّة.  لقد وجدت نفسي أسأل بيتر وولن فجأة:  "ما هو أقوى ما تتذكره من بن بركه؟".  كنت، في الحقيقة، أتوقع إجابة "سياسيَّة" مباشِرة – تصريح، أو موقف، أو شعار، أو تعليق، أو تفصيل عادة أو إجراء تنظيميٍّ للمناضل الأسطوري الذي بعد أن طُعِنَ بالسكاكين حتى الموت وهو موثوق اليدين والرجلين تم تذويب جثته في حوض من الأسيد الحارق كي لا يبقى منه شيء، وإن كان قد بقى منه كل شيء، ولم يبقَ شيء من قاتليه لأن لا وجه ولا وجاهة لهم ولا أحد يعرفهم، أو ما شابه.  غير ان إجابة بيتر وولِن المبتسمة، والرزينة، والواثقة من نفسها فاجأتني بأكثر المعاني إيجابيَّةً للكلمة:  "أقوى ما أتذكره منه هو رَقْصُهُ!.  نعم!.  لقد كان أعظم راقص في العالم!".  ولا أدري أبداً وعلى الإطلاق لماذا كلما رأيت رقص يوسف شاهين في ذلك الفيلم إذا بالمهدي بن بركه يرقص أمامي مباشرة، ويبتسم.  ليست لدي أدنى رغبة أو قدرة لتبرير هذا، أو شرحه، أو عَقْلَنَتِهِ، ولكن ذلك هو ما حدث، ويحدث، لأسباب أجهلها تماماً، وسوف يسيء إليَّ بالكامل أن أطمح لمعرفتها.

 ولا بأس هنا أن نتذكر – في استطراد أَعِدُ انه سيكون الأخير في هذه المادة -- ان الطُّعم الذي اختارته الأجهزة المخابراتية الرُّباعيَّة لاختطاف المهدي بن بركه في 29 أكتوبر 1965 لم يكن سوى المنتج السينمائي الفرنسي جورج فيشون الذي أَوْهَمَ الشهيد الكبير انه بصدد انتاج فيلم وثائقي عن حركات التحرر الوطني في العالم الثالث والذي اختير بن بركه (حسب الطُّعْم) كي يكون مستشاراً سياسياً وتاريخياً لإنتاجه (وقد عُثِرَ على جورج فيشون مقتولاً أو منتحراً – لا أحد يعلم على وجه الدقة منذ 1965 وحتى الآن -- بعد أسبوع من الاختفاء والاغتيال).  والحقيقة ان بن بركه حين اختُطِفَ واختفى كان في طريقه للقاء مزعوم بالروائية الفرنسية الشهيرة مارغريت دوراس والمخرج السينمائي الفرنسي جورج فرانجو.  ياللتاريخ!.  ياللسينما! – أتمنى أن يكون الاستطراد جائز هنا.

وقد يكون الأمر غريباً لدى البعض أن أحد "المؤلِّفين" السينمائيين العرب القلائل – يوسف شاهين، عنيتُ -- (نسبة إلى نظرية "المؤلِّف" الفرنسيَّة auteur theory) يكنُّ هكذا إعجاب وتقدير لسينما "التَّفسُّخ الرأسمالي".  غير ان علينا هنا ان نتذكر ان المنظِّر السينمائي الفرنسي اندريه بازان – وقبل كتابة فرانسو تروفو مقاله التشريعي الشهير "نزعة معيَّنة في السينما الفرنسية" الذي قدَّم رسميَّاً نظرية المؤلف – كان قد أدرج في تخطيطاته الأولى رموزاً سينمائية من مخرجي الأستوديوهات الهوليووديَّة الأمريكية مثل هاوارد هوكس، وجون فورد، ونيكولاس راي، وهيتشكوك (مسألة أن هيتشكوك بريطاني أو أمريكي تقع وراء غرض هذه المادة – سأكتفي فحسب باقتباس أحد النقَّاد السينمائيين الأمريكان:  "إن هيتشكوك يُعَقِّدُ مسألة أمريكيَّة السينما الأمريكيَّة!")؛ بل ان بعض رموز مدرسة "الموجة الجديدة" في السينما الفرنسيَّة تأثروا في بداياتهم وحتى فيما بعد ذلك بالسينما الأمريكية، بحيث يمكن اعتبار أفلام مثل "لاهث" من إخراج جان-لوك جودار و"الساموراي" من إخراج جان- بيير ميلفل باعتبارهما في كثير منهما "لمستي تقدير" (homages) لسينما العصابات الأمريكية.             

وليس أمامي الآن من خيار سوى الاضطرار لأن أصغي لطرفة بن العبد في قوله  بكل خيبة أمل وألم:  "وظلم ذوي القربى أشدُّ مَضَاضَةً/ على النفس من وقع الحسام المهنَّد"؛ ذلك انه في أحد أفلام الراحل الكبير يوسف شاهين يظهر "الخليجي" بصورة نمطيَّة متطرِّفة لا ينافسه عليها سوى الصورة النمطيَّة لـ"العربي" في السينما الأمريكية:  غنيَّاً، وغبيَّاً، وجاهلاً، ومتخلِّفاً، وبغيضاً، ومقيتاً (للأسف الشديد لا تتوافر لدي حاليَّاً مكتبتي السينمائية للرجوع إليها من أجل إيراد عنوان الفيلم، كما ان ذاكرتي ليست أفضل من ذاكرة الضباب؛ غير ان من كانت أفلام يوسف شاهين مألوفة لديه سيعرف حتماً عن أي حلف، وعن أي فيلم، أتحدث).  بصراحة شديدة:  لقد سئمتُ حتى النخاع من ظلم "ذوي القربى" هذا، ومن غضِّ النظر، والتجاهل، والتظاهر بعدم الفهم من أجل أن تمر الريح العاتية المعتوهة التي سأظل أحسب دوماً انها مؤقتة، وعابرة؛ وللأمانة الشديدة:  لقد أصبحت حسَّاسَّاً جداً وبصورة فيزيقيَّة حقَّاً (جسدي صار يؤلمني فعلاً وحرفيَّاً حين أقرأ أو أشاهد مثل تلك المَغَبَّات الشنيعة، والتحقيرات، والإهانات المُمَنهجَة  الصادرة ليس من عموم أشقائنا العرب الأعزاء فحسب -- إن كان لهؤلاء عذر في الأساس -- بل من "المثقفين" أيضاً؛ وهل يُعذَرُ "المثقفون" الذين في كل تراجعِ وهزيمة يهيمون، والذين يقولون ما لا يفعلون؟!)، حيث إلينا ينظرون باعتبارنا كائنات دونيَّة، بدائيَّة، صفيقة، وغير مكتملة النمو العقلي والإنساني وغير جديرة بهما أو مؤهَّلة لهما في الأساس، تعيش كيفما اتفق وبالخطأ المؤكَّد في صحراء حامضة، مالحة، فاسدة، لامتناهية، تتفجر كالبراكين تحت أوتاد كل خيمة متشققة منها، وفي فناء كل "فيلا" فاخرة فاجرة، وتحت حوافر كل بعير أو بَعْرِهِ آبار النفط (و/أو الغاز أحياناً ومؤخَّراً). 

حسن جداً، إنني لا أدعي هنا أبداً اننا في هذه البقعة السقيمة من الوطن العربي الذي يبدو انه مُعافى فيما عدانا ومن هذا الكوكب المريض قوم أطياب، أخيار، أطهار، أفاضل، مختارون، منَّزهون؛ بل انني أول من يقول بأعلى صوت ممكن ان حبالنا وأحابيل غيرنا صارت تنوء بغسيلنا ومغسولهم؛ فنحن لا نشكل "الجانب الطَّيب" من الرؤية الهوليووديَّة الاختزاليَّة السخيفة للعالم وللإنسان، ولا يريد معظم الناس هنا ذلك أصلاً.  ولكنني أود أن أؤكد على إننا بشر مثل سائر الكائنات تعيسة الحظ التي ساقتها أقدارها البائسة، وصُدَفِها المَنَويَّة الاعتباطيَّة، أن تكون بشراً من قديم، وحديد، وجديد، وضيِّق، وشاسع، وجوهر، ومظهر، ولحم، ودم، ودمع، ومخَّاط، وبول، وغائط، وليس ملائكة، وما أدراك ما البشر وما الملائكة يا سيدي ويا سيدتي؟!. 

غير انه في المقابل، ومن أجل الإنصاف والعدالة، حريٌّ بي أن أشير إلى ما يمكن أن يكون آخر مقابلة تلفزيونية أجريت مع الراحل الكبير يوسف شاهين، حيث يقول في سياق اعتراضه على مقولة تفوق السينما الأمريكية على كل سينمات العالم بما معناه انه يمكن اليوم في إحدى الدول الخليجيَّة التي عرَّفها بالإسم عمل نفس الفيلم الذي يُعمل في نيويورك، وان واحداً من مشاريعه غير المتحققة هو انجاز فيلم سينمائي عن حاكم "خليجي" راحل – هو الذي كان يفصل دوماً بين الحكَّام والشعوب-- لفرط إعجابه به وبإنجازاته (لم يتحقق أيضاً مشروعه لإنجاز فيلم عن حسن نصرالله، زعيم حزب الله).

قبل سنوات بعيدة كلَّفتني الأقدار بمهمة صعبة للغاية حيث كان عليَّ أن أنقل إلى امرأة عزيزة غالية خبر وفاة مخرجها السينمائي الأثير ستانلي كوبريك، فما كان منها إلا أن رفعت رأسها من أوراقها حيث كانت تكتب في تلك اللحظة، ونظرت إليَّ ببراءة وإثم  عينيها المغرورقتين بالدمع، وقالت بجديَّة كاملة في ما هو قاب قوسين أو أدنى من مشهد سينمائي شاعري ومؤثر:  "هل تعني حقَّاً إننا لن نشاهد أفلاماً جديدة من إخراجه؟َ!". 

بلى، هكذا يكون النص أهم من الشخص حين يبلغ الإبداع ذراه الأكثر علواً وتوهجاً وأصالة، وحين يحدث "موت المؤلِّف" بطريقة حَرفيَّة هذه المرة، ونافلة الأهمية في المقام الأول والأخير.  إذاً يا يوسف شاهين:  كم أنا حزين جداً اننا لن نشاهد أفلاماً جديدة من إخراجك، لكن العزاء الحقيقي هو أن لا شيء أبداً ولا أحد أبداً يستطيع محو البصمة النوعيَّة الخالدة التي تركتها على مسيرة السينما باعتبارها فنَّاً راقياً من جهة، ومهمة "قول الحقيقة للسُّلطة" التي هي واجب المثقف كما رأى زميلك أثناء الدراسة في كلية فيكتوريا الراحل الكبير إدوارد سعيد من جهة أخرى.

عمان العمانية في 20 أغسطس 2008

 
 

يوسف شاهين:

جرأته وإنجازاته لا ينكرها أحد

شيلا وايتكر      ترجمة: نجاح الجبيلي

لاحظ "جان رينوار" مرة إن "الحقيقة دائماً تكون ساحرة" في أفلام زميله المصري يوسف شاهين. لقد صنع شاهين ، الذي توفي وعمره 82 سنة بسبب نزيف المخ، أكثر من 40 فيلماً إذ تتحرى أعماله باطراد الوطنية الصادقة التي تعني أن تكون مصرياً، والحاجة إلى التسامح والمجتمع العادل.
وعلى الرغم من تقدير المخرجين الأوربيين له وتفضيله في المهرجانات العالمية إلا أن التوزيع التجاري لأفلامه في الغرب- عدا فرنسا- بقي محدوداً ، وكانت أعماله المتأخرة أحياناً تعرضت إلى التهديدات من قبل الأصوليين في العالم الإسلامي. في أواخر السبعينيات والثمانينيات أخرج ثلاثية سير ذاتية جلبت له شهرة عالميةً واسعةً (أسكندرية ليه – 1978 ، حدوتة مصرية – 1982 ، أسكندرية كمان وكمان – 1989 ) وتدور أحداثها في الإسكندرية عام 1942 حيث كانت الوطنية المصرية نفسها تواجه الاحتلال البريطاني مما استدعى إرسال المزيد من القوات هناك للقتال ضد الألمان، ويربط فيلم "أسكندرية ليه" مقاطع من أفلام هوليودية موسيقية وأفلام خبرية من متحف الحرب الإمبراطوري.

وكان ذلك في زمن اتفاقية كامب ديفيد ودعوة الثلاثية للتسامح فسرّت كونها مساندة للرئيس أنور السادات في زيارته للقدس عام 1977 وما لحقها من اتفاقيات مع إسرائيل عام 1979 والتطورات غير المألوفة جداً في العالم العربي. وعلى الرغم من أن المنظمات الفلسطينية قبلت الفيلم إلا أنه منع في عدد من الدول العربية. ومع ذلك فقد فاز بجائزة الحكام في مهرجان برلين السينمائي.

ولد شاهين في الإسكندرية المحتلة من قبل البريطانيين في عائلة تتكلم أربع لغات. كان والده محامياً لبنانياً مسيحياً ومناصراً لحزب الوفد الوطني وكانت أمه إغريقية. درس في مدرسة اللاهوت المسيحي في كلية فكتوريا التي كانت تعطي دروسها بالإنكليزية.ومشاهدته لمسرحيات خيال الظل في طفولته ثم أفلام حجم 9.5 ملم حفزت لديه الرغبة في الحصول على مهنة في المسرح.

وحين بلغ السابعة عشرة أقدم على إخراج مسرحية غنائية في سينما الحمراء بعد مشاهدة فيلم وثائقي عن مخرج الاستعراضات الأمريكي فلورنز زيغفلد. ولسوء الحظ فإن المالك أتاح فقط ساعتين كوقت للبروفة وكان العائد كارثياً لهذا فإن محاولة شاهين لإقناع أبيه لدراسة التمثيل فشلت. وبدلاً من ذلك ذهب إلى جامعة الإسكندرية ليدرس الهندسة – وهو اختيار أبيه- حيث أخرج أكثر من مسرحية غنائية ناجحة وأخيراً أقنع أبويه بإرساله إلى معهد باسادينا في كاليفورنيا حيث أنهى فصلاً دراسيا في التمثيل من ثلاث سنوات خلال سنتين.

وعند عودته قرر ان يخرج الأفلام، فأخرج فيلما كوميديا بعنوان " بابا أمين"- 1950 حين كان عمره 24 سنة. وكان فيلم "ابن النيل" هو الفيلم الرئيسي الأول الذي يستعمل فيه المواقع الخارجية وبدأ نشاطه بعد الزفاف إلى زوجته الفرنسية المولودة في الأسكندرية "كوكو". وكان قد خطا خطوة واسعة في فيلم " باب الحديد" ، الذي يحكي قصة العمال المطرودين وصوره بالأبيض والأسود المدهشين. وكان أيضاً الظهور الأول لشاهين أمام الكاميرا – حيث أدى دور بائع الصحف المعوق "قناوي" إذ تظهر رغبته الجنسية المقموعة إلى السطح حين تصبح "هنومة" ، بائعة المشروب الغازي، هدف رغبته.

أما فيلم "الناصر صلاح الدين" فهو ملحمته التاريخية التي أنتزعها من عز الدين ذو الفقار وأصبحت له. والفيلم بالألوان إذ وضع الرئيس جمال عبد الناصر تحت تصرفه 800 جندي و120 من سلاح الفرسان والفيلم يعتمد بشكل حر على سيرة البطل المسلم صلاح الدين الذي هزم الصليبيين. وبينما قدّم الفيلم صورة مثالية إلى حد ما للرجل، فإن نسجه القصة حول المبادئ الإسلامية – وبضمنها التسامح الديني الكريم مع بقية الأديان التوحيدية – وجدله دفاعاً عن حق الأمم العربية في حكم القدس جعلته وثيق الصلة بالصراع الفلسطيني بصورة أكبر على مدى الزمن. يستمر. وعلى الرغم من دعم ناصر الأساسي إلى أن مواجهة شاهين اللاحقة مع نائب وزير الثقافة حول فيلم آخر جعل الفيلم مهملاً في الجوائز الوطنية.

ذهب شاهين إلى لبنان لإخراج كوميديا موسيقية (بياع الخواتم-1965) مع المطربة المعروفة فيروز لكنه رجع إلى مصر حين سمع بأن ناصر أشار إلى أن "الرجل المجنون" يمكن أن يرجع. وأول فيلم سياسي له كان " جميلة الجزائرية" – 1958 وهي قصة مؤثرة ضد الاحتلال الفرنسي أنتجت قبل الانسحاب الفرنسي لكن بعد حرب الأيام الستة عام 1967 أصبح سياسياً بصورة متزايدة.

في عام 1972 أسس شركته الخاصة (مصر للأفلام) مع ابنه وابن أخيه ماريانا وغابريبل خوري لكنه عانى من نوبة قلبية خلال تصوير فيلم "العصفور"- 1973، وهو تأمل مباشر في هزيمة 1967، وخضع إلى عملية جراحية مفتوحة للقلب.

استمر شاهين بصناعة الأفلام في التسعينيات لكنه بدأت متاعبه مع الأصوليين. ففي فيلم المهاجر – 1994 الذي عرض بنجاح حصلت المشكلة لأن القرآن يمنع تمثيل الأنبياء: وفي نظر الأصوليين كان الفيلم إعادة لقصة يوسف. وكان الفيلم محظوراً إلى أن كسب شاهين الدعوى القضائية لكن لا أحد جرأ على عرض الفيلم فيما بعد.

وفي عام 1997 حصلت له أيضاً مشكلة مع الاصوليين حول فيلم "المصير" الذي يعتمد على حياة الفيلسوف الأندلسي العربي من القرن الثاني عشر أبو الوليد بن أحمد أبن رشد (المعروف في الغرب باسم "أفيروس") الذي يقدره المسيحيون واليهود عالياً لكن يشك به زملاؤه العرب بسبب آرائه الأرسطية العقلية. وكان الفيلم دعوة إلى التسامح قد نظر إليه كونه هجوماً على الإسلام إضافة إلى تمثيله الوقح لابن رشد.

وتلقى شاهين مرة أخرى تهديدات لكنه تمسك بموقفه و صرح، مستبقا الجدال اللاحق، بأنه " لا يوجد شيء يضاهي الإرهاب الإسلامي ، إنه مجرد إرهاب مباشر". ونزعة التعصب تلك لم تكن حكراً على العرب. وأصبح الفيلم أول له يوزع تجارياً في الولايات المتحدة وأقيم معرض استعادي في عام 1998 لخمسة عشر فيلماً من أفلامه في مركز لنكولن في نيويورك ثم قام بجولة في بقية المدن الأمريكية.

بعد عرض فيلم "المصير" في مهرجان القاهرة السينمائي في تلك السنة، أثار ضجة على المسرح أمام وزراء الثقافة والإعلام بالتصريح بأن التلفزيون المصري تافه وواقع تحت التأثير السياسي، وهي إحدى ثيماته الثابتة العامة. في عام 2002 ساهم بفلم قصير من 11 دقيقة لفيلم مركب يدور عن هجمات 11 أيلول ، وبسببه اتهمته ، من بين الآخرين، مجلة أنترتينمنت الأمريكية بـ" المعاداة الشديدة لأمريكا". وفيلمه هو مواجهة خيالية بين مخرج غير مسمى و جندي مارينز قتل في بيروت وقاتله الأصولي ،إذ يعتبر الملايين من الضحايا في العالم هم بسبب السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

كتب شاهين بصورة مطردة سيناريوهاته الخاصة بدءاً من (المهرج الكبير) – 1952 واحياناً كان يظهر في أفلامه. وقد قدم العون لعدد من الممثلين بضمنهم عمر الشريف الذي من أجله قدم فيلمه الأول (صراع في الوادي) – 1953 وعمل معه في مناسبتين. كذلك مثلت معه المطربة المصرية داليدا في "اليوم السادس"- 1986 قبل انتحارها المأساوي. كذلك مثل في أفلامه ممثلان فرنسيان ميشيل بيكولي وباتريك شيرو، وهو نفسه مخرج أوبرالي ومسرحي وسينمائي، في فيلم "وداعاً بونابرت" – 1985 كذلك ظهر بيكولي في فيلم " المهاجر" بينما قدم في فيلم "سكوت ح نصوّر" – 2001 المطربة التونسية لطيفة. كذلك أخرج أفلاماً وثائقية قصيرة مثيرة للجدل.

في عام 1997 تسلم شاهين جائزة مهرجان كان للإنجاز مدى العمر، بعد 46 سنة وخمسة أفلام من ظهوره لأول مرة هناك، وفي عام 2004 كان فيلم " أسكندرية .. نيويورك" خاتمة أفلامه الليلية.
في عام 2007 صنع فيلماً قصيراً آخر كجزء من الفيلم المركب "كل له سينماه" الذي موله "جيل جيكوب" للاحتفال بالذكرى الستين لمهرجان كان، وقد بدأ العمل بفيلم "هي فوضى" وهو تعليق حاد على مصر المعاصرة- وبالأخص على قسوتها السياسية. لكن المرض منعه من إكماله وتولى مهمة إكماله خالد يوسف الذي عمل مع شاهين كممثل وكاتب سيناريو مشارك ومخرج مساعد. وعرض في مهرجان فينيسيا للفيلم عام 2007 وفي كانون الأول من تلك السنة تسلم جائزة مهرجان دبي العالمي للفيلم للإنجاز مدى الحياة لمخرج عربي على الرغم من أن صحته منعته من الحضور.

حينما التقيته في القاهرة عام 2002 كان قد احتل عناوين الصحف بعد أن فرقت الشرطة بالغاز المسيل للدموع جموع المتظاهرين ضد إسرائيل: شاهين الذي كان يعاني من مشاكل القلب قد حمل من مشهد التظاهرة من قبل الطلاب. في هذا الوقت كان يتأمل بما يشتمل عليه فيلمه، ولكن كان واضحاً بأن الأحداث أجبرته على مراجعة حبه لأمريكا، وهذا التفكر بلا شك يشي بتعليق في الفيلم بأن "أمريكا يجب أن تنشر قيمها بدلاً من أن تهدم المدنيات". وبعد هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2001 استشهد بالقول بأن الأمريكان يجب أن يشاهدوا فيلميه " المصير" و "الآخر" والأخير هو تعليق على العولمة.

إن شاهين المعروف بنظارتيه الكبيرتين السميكتين والوجه الشيطاني والقوام الساحر كان رجلاً دافئاً ظريفاً. والفنانون الذين تأثر بهم جولين دوفيفيه مخرج فيلم " الفالس العظيم" وبسبي بيركلي وجان كيلي ( الذي أهدى له فيلم اليوم السادس – 1986) إضافة إلى أن خلفيته الأسكندرانية التي تنتمي إلى شرق المتوسط أكثر من انتمائها للإسلام وأفلامه غير الخطية من المحتمل أنها جعلت به شيئاً من الغرابة في العالم العربي بينما التزامه بالشؤون المصرية والعربية والاجتماعية والسياسية ربما كانت عقبة في تقبلها الواسع في الغرب.

لكن إنجازاته الأساسية وشجاعته لا يمكن إنكارها وعلى الرغم من أن أفلامه المتأخرة كانت ربما أقل براعة وإبداعاً من أفلامه المبكرة ، وبالأخص في استعماله للأغنية والرقص، إلا أن مكانته راسخة في بانثيون الخالدين.

ترك يوسف شاهين وراءه زوجته "كوكو" إذ ولد المخرج وكاتب السيناريو والممثل في 25 كانون الثاني 1926 ورحل في 27 تموز 2008 .

المدى العراقية في 25 أغسطس 2008

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)