كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

الذاتية المتصاعدة والوعي المتنامي في مسيرة يوسف شاهين بين 1950 و1990

سينما اقتفاء الأثر ورصد التحولات

ومراجعة الماضي والحاضر

ريما المسمار

عن رحيل

يوسف شاهين

   
 
 
 
 
 

خلال مسيرة سينمائية امتدت لسبعةٍ وخمسين عاماً، أنجز السينمائي الراحل يوسف شاهين ستة وثلاثين فيلماً روائياً وخمسة أفلام وثائقية وقصيرة. اي ان مجموع أفلامه الاحدى والأربعين تكاد تلامس السنون التي قضاها في العمل السينمائي بما يتيح لنا القول انه كان ربما من أغزر السينمائيين العرب انتاجاً اذا ما قارنّا بين عدد افلامه وسنوات عمله. والملاحظ لدى استعادة فيلموغرافيا شاهين الكاملة انه حقق خلال عقدي الخمسينات والستينات عشرين فيلماً اي بمعدل فيلم كل عام (وفي بعض السنوات حقق فيلمين في العام الواحد) لتتباعد أعماله ابتداءً من مطلع السبعينات وخلال الثمانينات التي كانت بالنسبة اليه سنوات القلق بامتياز مشحوناً بحدثين بارزين: هزيمة حزيران 1967 وقرار مكاشفة الذات ومحاكمتها. وغالباً ما يصطفي النقاد والباحثون أفلام شاهين خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ليس فقط كأفضل ما أنتج بل أقربها اليه مستخدمين أحياناً وصف "شاهينية بامتياز". في مطلق الأحوال، ليس ذلك الميل الى تفضيل افلام السبعينات والثمانينات مفاجئاً. فهي، اي الافلام، اولاً وعلى صعيد منطقي تشكل قمة النضج لدى صاحبها بوقوعها في مرحلة زمنية وسطية بين البدايات والخواتم. فمن الطبيعي ان يكون يوسف شاهين صاحب العقود الاربعين والخمسين يقدم رؤى أنضج من تلك التي وسمت أفلام شاهين العشريني والثلاثيني. ثم ان افلام السبعينات والثمانينات امتلكت مميزات أبعد اذ ترافقت مع وعي سياسي جاء في أعقاب الهزيمة وساعد شاهين في بلورته كتاب ومفكرون من أمثال نجيب محفوظ ولطفي الخولي ومحسن زايد ويوسف ادريس وصلاح جاهين. كذلك افتتح تلك المرحلة المكونة من عشرين عاماً فيلم "الأرض" سنة 1970 الذي كان بمثابة العودة لشاهين ليس فقط الى مصر بعيد هجرة بعض السنوات الى لبنان وانما ايضاً عودة الى السينما بعد مجموعة أفلام راوحت بين المتواضعة ودون ذلك. واختُتمت، اي المرحلة، بفيلم "اسكندرية كمان وكمان" عام 1990 آخر فلتات شاهين الجنونية اللماعة. وبينهما كانت ثلاثية النكسة والثلاثية الذاتية والأسئلة الكثيرة والقلق والتوتر وأحياناً راديكالية التعبير والشكل. ولعلّ ما عزز تألق تلك السنوات العشرين في مسيرة يوسف شاهين وأسهم في ابرازها بشكل أفضل، المرحلة التالية الممتدة منذ بداية التسعينات وحتى فيلمه الأخير "هيّ فوضى" عام 2007. فإذا كان الضد يظهره الضد فإن تحول شاهين في المرحلة الأخيرة الى الخطاب المباشر بشيء من التلقين والأستذة وجنوحه الى التعبير البصري والسرد الكلاسيكيين أفقدا سينماه الكثير من خصوصيتها وسحرها بصرف النظر عن الاختلاف في وجهات النظر بين محبيها ونابذيها. فحتى عندما كانت أفلام مثل "اسكندرية ليه؟" تثير النقاش حول مضمونها السياسي، فإن أحداً لم يستطع انكار حضورها الفني. وحتى عندما كان فيلم مثل "العصفور" يستدعي الشتم بسبب من عدم القدرة على ولوجه وفهمه فإنه لم يتوقف عن أن يكون مثيراً للاهتمام. لعل ما حافظ عليه شاهين في مرحلته الأخيرة بدايةً من "المهاجر" (1994) او ربما "المصير" (1997) هو إثارة موضوعات اشكالية بما هو شكل من اشكال النقد لأمور آنية ومعاصرة. ولكن طريقه الى ذلك لم يعد حدياً ولا ضبابياً انما أصبح تبسيطياً وتلقينياً. ولعل السؤال الذي يمكن طرحه هنا من دون ان يكون هذا المقال مجال البحث عن اجابات له هو المتعلق بتحولين اساسيين في مسيرة شاهين منذ منتصف الثمانينات ومدى علاقتهما بتبدل اساليبه وربما تدجين جنونه. فالتحول الاول هو ذاك الذي وقع بعيد "حدوتة مصرية" (1982) وتمثّل باحتكار شاهين لسيناريوات أفلامه بمشاركة مساعديه (يسري نصر الله بداية ولاحقاً خالد يوسف). اما التحول الثاني فيتفرع من الاول ويرتبط بعامل السن والمرض. ذلك ان بداية التعاون بين شاهين ومساعده الاخير والأكثر تأثيراً في أفلامه خالد يوسف، تزامن ايضاً مع تقدمه في السن وتواتر وعكاته الصحية بما يبدو أحياناً انه عمل ضد شاهين الذي استسلم للاساليب السينمائية الكلاسيكية بهدف الاستمرار في صنع الافلام. بصرف النظر عن صحة ذلك التصور، فإنه يثبت على الأقل جانباً اساسياً في مسيرة شاهين وشخصيته وهو شغفه غير المحدود بالسينما والذي كان عليه ان يستمر وإن تراجعت او تبدلت ادوات التعبير عنه. كان شاهين يقتات على السينما وقد ردد ذلك مراراً ليس في خطاب ممجوج إذ ان مسيرته تثبت عمق شغفه ذلك الشغف غير المتناهي الذي لا يمكن أن يتوقف إلا اذا أُجبر على ذلك بتأثير عامل قاهر كالموت الذي وضع نهاية لشغف شاهين قبل أيام. والشغف ميزة ليست عادية في حياة المشاهير والفنانين كما انه ليس سهل الاشباع، فالشغف قد يتحول او يُفسر في عيون الآخرين على انه مذلة او سوء تقدير او عدم قدرة صاحبه على الحكم (تماماً كما هي الحال مع المطربة صباح اليوم التي يرى كثيرون في شغفها ذاك مهانة لتاريخها الطويل). بالطبع لم يصل يوسف شاهين الى تلك الحالة ربما لأن لفنه ادوات مختلفة لا تعتمد عليه بشكل فردي. ولكن النقد الذي واجه بعض افلامه الاخيرة ليس بعيداً من التحسّر على مسيرته الماضية. وتلك حالة من الصعب الحكم فيها او عليها لأنها انسانية بامتياز لا علاقة لها بالمنطق. والحكم الانساني يقول انه إذا كانت أفلام شاهين الاخيرة بكل مشكلاتها وعلاتها هي الطريق الوحيد لاستمرار شغفه فلتكن من دون ان يعني ذلك وقوفها خارج دائرة النقد والنقاش.
بالعودة الى السنوات العشرين تلك التي كانت الأكثر اثارة للجدل والتي كرست صورة شاهين السينمائي البعيد من متناول الجمهور وحتى النقاد أحياناً وما يترافق معها من اعتبار افلامها الاقرب الى شاهين لا سيما ثلاثية السيرة الذاتية، فإن دراسة تلك الفترة لن تكون كاملة من دون تبيان ارتباطها بما سبقها على الاقل لا سيما من خلال ملمحين اساسيين: اولاً الذاتية التصاعدية التي وسمت افلام شاهين منذ البدايات وصولاً الى الثلاثية الذاتية؛ وثانياً اشتغال الوعي قدماً منذ بداياته في شكل يجعل كل فيلم ظل لسواه او مقدمة لعمل آخر. في معنى آخر، يمكن اعتبار أفلام العشريتين الأولى والثانية (أي الخمسينات والستينات) في مسيرته أفلام الظل او اشباح ستعود الى التبلور بشكل أعمق في مرحلتي السبعينات والثمانينات. لذلك تبدو مسيرة شاهين على الاقل حتى التسعينات وثيقة الارتباط من الصعب انتزاع فيلم منها (باستثناء افلام قليلة جداً مثل رمال من ذهب) من دون ان تتخلخل، ذلك انه حتى الافلام المتواضعة كانت احياناً ضرورية للتمهيد لفيلم آخر مهم.

العائلة، البورجوازية والصراع

من هنا ربما كتب كثرٌ عن ان افلام شاهين تشكل مجتمعة سيرته الذاتية وليس فقط ثلاثية السيرة الذاتية المؤلفة من "اسكندريه ليه؟" و"حدوتة مصرية" و"اسكندرية كمان وكمان". فكل الموضوعات التي تناولها في الثلاثية سبق لها الظهور في شكل او في آخر في أفلامه السابقة التي عبرت دائماً عما عاشه او شُغف به. بشكل مبسط، يمكن ان نجمع أفلاماً من مراحل مسيرته كافة تحت عنوان عريض هو شغفه بالموسيقى: "بابا أمين" (1950) و"سيدة القطار" (1952) و"انت حبيبي" (1957) و"بياع الخواتم" (1965) و"عودة الابن الضال" (1976) و"المصير" (1997) و"سكوت حنصور" (2001). هناك افلام أخرى ايضاً حضرت فيها الموسيقى بشكل فاعل ولكنه في الافلام المذكورة عبر عن عشقه للموسيقى من خلال اسناد ادوار بطولية لمطربين من امثال فريد الاطرش وليلى مراد وفيروز وماجدة الرومي ومحمد منير ولطيفة. على صعيد آخر، حملت أفلام البدايات ملامح متفرقة من موضوعاته الاثيرة ومن المحيط الذي عاش فيه قبل سفره الى الولايات المتحدة الاميركية وايضاً من عائلته. ففيلمه الاول "بابا أمين" يروي حكاية عائلة بورجوازية صغيرة لا يعي ربها أهمية المال ولا يحسن ادارته بما يؤثر على عائلته. وذلك الاب هو ابوه بشكل من الاشكال وحكاية المال هي حكاية طفولته ومراهقته والبورجوازية هي بورجوازية الاسكندرية التي ترعرع على هامشها وتخبط في سبيل الاختلاط بها وعانى من أحلام عائلته بها قبل ان يعثر على ضالته في اثبات الذات والتميز من خلال الفن. هكذا وفي اول وقفة له خلف الكاميرا، يقرر الشاب في مطلع العشرينات ان يرمي بكل ذلك امام الكاميرا ويحمل فاتن حمامة بطلة فيلمه على أداء أغنية "أشكي لمين أهلي". وسنرى لاحقاً ان موضوعة العائلة البورجوازية لن تفارق هاجس شاهين وسوف تتصاعد لهجته تجاهها من "بابا أمين" حيث تنهار العائلة بسبب سذاجة الاب الى "سيدة القطار" حيث ستتفتت بسبب تهور الاب وصولاً الى "عودة الابن الضال" حيث ستنفجر العائلة في بحر من الدم. ولن تتوقف مأساتها هنا اذ سنراها في "الآخر" تنزع الى امتلاك ابنائها.

في تجربته الثانية، "ابن النيل"، سيتناول شاهين موضوعة السفر والهجرة التي كانت تجربة شخصية بامتياز ولكنه سيختار الهجرة من الريف الى المدينة مصوراً خيرات الاول وشرور الثانية. غالب الظن ان شاهين أراد من خلال تلك المعادلة قول شيئين: الاول هو ان الريف أفضل بما انه كان بالنسبة اليه نقيض المدينة والبورجوازية التي يمقتها. اما الأمر الثاني فقد يكون مقارنة المدينة وشرورها بالولايات المتحدة الاميركية التي سافر اليها. وهذا تحليل لم يكن ممكناً التوصل اليه الا في ضوء افلام شاهين اللاحقة لا سيما "اسكندرية ليه" الذي ينتهي بمشهد وصول "يحيى" /شاهين الى مرفأ نيويورك وغمزة تمثال الحرية اللئيمة التي تلمح الى علاقة جدلية بذلك البلد سيعود الى تفصيلها في "اسكندرية نيويورك" على اثر هجمات 11 ايلول واجتياح اميركا للعراق.

في افلام الخمسينات التالية، سيعود شاهين الى موضوعي البورجوازية والمال وهما بطبيعة الحال مرتبطان تماماً. المال الذي كان حائلاً دون تمازج شاهين المراهق مع محيطه ورفاق البرجوازية الكبيرة وحفلاتها. والمال الذي كان على عائلته جمعه من بيع اثاث المنزل ليسافر الى اميركا. هذا المال كذبة كبيرة في "المهرج الكبير" ومأساة في "سيدة القطار" وأصل الصراع بين الفلاحين والاقطاعي في "صراع في الوادي" وأصل الداء في "انت حبيبي" انما بشكل طريف. الى موضوعي المال والعائلة البورجوازية، ظهر بعد ثورة 1952 موضوع الصراع الاجتماعي والطبقي من خلال "صراع في الوادي" و"صراع في الميناء" و"شيطان الصحراء". في الاخير، تحدث في شكل مباشر عن سلطة ملك فاسد ومحاولة الانقلاب عليه. لم يكن ذلك نوعاً من تملق الثورة ذلك ان شاهين كان من مؤيديها بشكل فطري هو الثائر على البورجوازية والطبقية. ويتشكل الصراع بين الفلاحين والاقطاعي والعمّال وأرباب العمل في فيلمي الصراع مع عمر الشريف مؤذنين بتبلور الموقف الاجتماعي عند شاهين وانحيازه للعمال والفلاحين في وجه الاقطاع والبورجوازية والظلم.

ليس مبالغاً القول ان تلك المرحلة كانت بمثابة التحضير وأحياناً النيجاتيف السالب لفيلمين قادمين هما "باب الحديد" (1958) و"الارض" (1970) في "سيدة القطار" (1952)، وجه شاهين كاميراه للمرة الى الاولى الى العمّال داخل مصنع. وتماماً كما كانت نظرته طوباوية الى الريف في "ابن النيل"، كذلك لم تكن نظرته الى العمّال واقعية تماماً لأنه ببساطة لم يكن يعرفهم بل كان يعرف جيداً المحيط البورجوازي الآتي منه. اذاً، ستتحول تلك اللقطة العابرة للعمال الى لقطة كبيرة في "باب الحديد" لكأن المخرج كان يحاول في الاول ان يفهم ليحكي بعد ذلك. بالطبع، لم يكن شاهين وحده عندما دخل تلك المنطقة الشائكة بل كان معه كاتب السيناريو عبدالحي أديب، ولكن الدوافع خلف هذا الفيلم كانت شخصية ايضاً الى جانب كونها اجتماعية. لقد بدا شاهين في هذا الفيلم وكأنه يرتقي درجة بوعيه وحرفته وقدراته ويضع حجر الاساس في لعبة الخاص والعام التي ستتجلّى بأشكال أعمق لاحقاً. فشاهين الذي لم يقترب بكاميراه من الشارع في "بابا أمين" مثلاً على الرغم من ان محيط الاسرة كان حياً متواضعاً. التزم بما عاشه واختبره ثم راح في كل فيلم يضيف بعداً جديداً. في "باب الحديد"، يرمي بنفسه وبفيلمه وسط زحمة الشارع المتمثل هنا بمحطة السكة الحديد مبقياً على موضوع الصراع بين العمال ورب العمل واستغلال الاخير لهم واتحادهم من أجل انشاء نقابة، ولكن في مقدمة كل ذلك، يفتح الستار على الحكاية الانسانية القصوى المتمثلة بـ"قناوي" بائع الصحف المريض النفسي والمكبوت اجتماعياً والمحروم جنسياً والفقير المعدم. تتشابك العوامل الانسانية والنفسية والاجتماعية والسياسية في هذا الفيلم لتشكل اول افلام شاهيين حينها تركيباً وعمقاً وايضاً سوداوية. لن يكون التمرد على أهميته منقذاً لقناوي الذي يحيا تحت خط الحياة والفقر. ولن تكون النهاية سعيدة ولن تكون هنالك بارقة أمل كما في الافلام السابقة. التراجيديا في حدها الأقصى هنا. لقد لعب شاهين دور قناوي في شكل مقنع. لم يجسده بل عاشه في أعماقه وليس اكتشافاً القول ان الكبت والحرمان وحتى مظاهر عدم الثقة بالنفس التي يجسدها "قناوي" كانت بمثابة حالة تعبيرية قصوى عن بعض ما عاناه شاهين مبكراً في حياته. كما ليس اكتشافاً القول ان في شخصية "هنومة" المغوية والقوية والنهمة ما يستقي بعض أوجهه من شخصية والدته اليونانية.

كان "باب الحديد" بداية مرحلة ونهايتها في آن معاً. فبسبب فشله الجماهيري القاسي، ابتعد شاهين من المشاريع الطموحة لبعض الوقت متوقفاً عند صراعات اجتماعية وحكايات حب وزواج وفشل عادية في الافلام التي تلت. بين افلام تلك المرحلة، حقق شاهين فيلمين لا ينتميان تماماً الى هواجسه الذاتية وإن عبرا عن هواجس وطنية وقومية زرعتها ثورة يوليو وهما "جميلة الجزائرية" و"الناصر صلاح الدين". كانا اقرب الى فيلمي طلب ولكن على الرغم من ذلك، حمل الثاني طرحاً قريباً من هموم شاهين وهو العلاقة بالغرب التي سيعود اليها بشكل أعمق في "الوداع يا بونابرت" (1985).

النكسة: بداية وعي ومرحلة

على الرغم من تحقيقه لفيلمين تاريخيين سياسيين ("جميلة" و"صلاح الدين")، الا ان شاهين لم يعبر عن موقف سياسي ملتزم الا بعد نكسة 67 التي ترافقت مع وعيه النقدي ايضاً للثورة والمرحلة الناصرية. ومع بداية هذه المرحلة، يمكن القول ان شاهين بدأ يرتكز في موضوعات أفلامه على وعيه الجديد المكوّن، ممزوجاً بما عاشه واختبره بالطبع انما بأقل اتكاءً على تجربته الذاتية من دون ان يعني ذلك انه ابتعد مما يجول في نفسه ولكنه، كما أسلفنا، كان يرافق وعيه بسينماه فيلمّح اولاً ثم يغوص في العمق. بعد النكسة التي أعقبت اقامته القصيرة في لبنان بسبب من مشكلاته مع القطاع العام الذي احتكر السينما في حينه، كان شاهين مطلوباً من قبل عبدالناصر نفسه لانجاز فيلم عن السد العالي وذلك بعد أن عبر عن انبهاره بأفكار عبدالناصر ونهجه في "الناصر صلاح الدين" ومن ثم في "فجر يوم جديد" (1964). ولكن شاهين بعد النكسة هو غيره قبلها هذا على الاقل ما برهنه فيلم "الناس والنيل" وان كانت بداية التحول في رؤي شاهين السياسية تُعزى الى "الاختيار" (1971). والسبب في ذلك يعود الى ان "الناس والنيل" مُنع من العرض حتى العام 1972 بسبب من "خروجه على الموضوع". ذلك ان شاهين لم يصور السد بقدر ما صور الناس ولم يتغنَّ بمحاسنه بقدر ما سلط الضوء على معاناة العمال المصريين المهمشين واضطرار اهل النوبة الى الانتقال بسبب بناء السد وفشل الاشتراكية في حل الفروق الطبقية... لم يكن ذلك ما أراده أصحاب القرار من الفيلم فمُنع الى ان أُعيد توليفه من دون موافقة شاهين ليعرض بعدها بأربع سنوات. غير ان نسخة أصلية استطاعت ان تجد طريقها الى السينماتيك الفرنسية حيث عرضها التلفزيون الفرنسي العام 1999.

كان فاتحة المرحلة الجديدة ما بعد النكسة فيلم "الأرض" الذي شاهدنا ظله في "ابن النيل". ولكن الريف لم يعد تلك الجنة والملاذ من شرور المدينة بل هو المسرح الذي ستدور على خشبته أحداث هي ثمرة الوعي الجديد لشاهين. فبعد العائلة والبورجوازية والصراع الاجتماعي والطبقي والانحياز الى الثورة ومفاهيمها والانبهار بقائدها، يصل الى محاكمة النظام والهزيمة. وللتذكير فقط، لا تخرج ثلاثية الهزيمة "الاختيار" (1971) "العصفور" (1974) و"عودة الابن الضال" (1976) عن الاطار الذاتي والشخصي ما دام منطلق هذه المقالة هو البحث عن الملامح الذاتية المتصاعدة في مسيرة شاهين السينمائية وارتباطه بتنامي وعيه. بل لعل شاهين هو من السينمائيين القلائل الذين لازمت مسيرتهم وعيهم اي ان أفلامه سارت في شكل متوازٍ مع تحولات الفكرية وعبرت عنها بفارق زمني شبه معدوم. وعلينا ان نذكر ايضاً هنا انه بدايةً من "الارض"، أصبح وعي شاهين السياسي والاجتماعي عنصراً خارجياً على أفلامه أو بمعنى أصح صار البؤرة التي يتناول الاحداث من خلالها. وذلك بخلاف أفلامه الاولى التي عبرت عن وعي تمثله الشخصيات الى حد بعيد او عن وعي شاهين نفسه في مراحل الذي صباه الاولى. فبينما نشاهد مثلاً أحداث "ابن النيل" من وجهة نظر البطل (شكري سرحان) الذي يمتلك الكثير من ملامح شاهين المراهق، فإننا سنشاهد أحداث "اسكندريه ليه" على سبيل المثال من خلال رؤية شاهين لها في زمن صنع الفيلم اي شاهين الخمسيني وليس شاهين المراهق الذي يجسده "يحيى" (محسن محيي الدين). اذاً، حمل "الأرض" بذور الوعي والصحوة كمن استفاق من حلم مشروع تغييري ضل الطريق الى غايته. بدأت المساءلة انما في شكل غير مباشر إذ أسقط أحداث فيلمه الذي يدور في الثلاثينات ايام الاحتلال الانكليزي وأسئلته على مرحلة ما بعد النكسة. عاد الى الصراع بين الاقطاع والفلاح وفكرة التمسك بالارض وجشع السلطة ولجوئها الى القمع. وليس أدل من مونولوغ "أبو سويلم" (محمود المليجي) على موقف شاهين من الهزيمة: "...دلوقت بقينا فين.. كل واحد شق طريقو ونسي الباقيين.. لازم نصحى من جديد.. كانت ايام زمان اللي ما تتعوضش.. كنا رمز البلد وشرفها وزينتها.. ودلوقت قاعدين نتكلم ونشتكي ونولول زي النسوان.. اللي يقول بكره تتعدل.. واللي يقول الصبر طيب.. واللي يقول اي كلام.. واللي ما يعرفش يقول إيه.. نايمين في كلام.. قايمين في كلام.. عايشين في كلام.. حياتنا بقت كلام في كلام". تلك كانت ردة فعل شاهين الاولى على الهزيمة التي وقعت في النفوس قبل ان تقع على الجبهة والكلام المعني في المونولوغ يقصد به الشعارات التي قامت عليها الثورة من دون ان تتمكن من تحويلها الى فعل وحلول للمشكلات الطبقية والعمالية. بالطبع لا تخلو نظرة شاهين بأبعادها كافة من الطوباوية التي يتسم بها جيل الثورة وتالياً النكسة. بهذا المعنى لم يكن شاهين استشفافياً اي انه لم يسبق الهزيمة في نقد الثورة ولكنه لم يهرب من المواجهة حين انهار حلمه وحلم ملايين غيره. هكذا كان "الأرض" التفافاً غير مباشر على النكسة وتمهيداً للمرحلة التالية التي سيكون عنوانها الهزيمة وبشكل مباشر. فإذا كان "الأرض" تحدث عن المشكلات الاقتصادية والسياسية فإن "الاختيار" (1970) يدين نظاماً اجتماعياً وانسانياً بكامله يرتبط بعلاقة جدلية بالنظامين الاقتصادي والسياسي. والسؤال هنا مزدوج: أيهما يُفرز الآخر؟ والادانة هنا مباشرة للمثقف الذي يمثله "سيد" (عزت العلايلي) الكاتب المنافق والوصولي الملحق بأذناب السلطة والذي له أخ توأم "محمود" على نقيضه. لقد أراد شاهين مع نجيب محفوظ ان تكون فكرة الازدواجية او لعبة الاقنعة مباشرة هنا، لذلك جعل محمود الاخ التوأم لتمرير فكرة "الأنا" المزدوجة. ولكن من المسؤول؟ "سيد" ام النظام الاجتماعي الذي دفعه الى ذلك النفاق وإلغاء الأنا والذات تحت أقنعة الطموح السياسي والارتقاء الاجتماعي؟. في "الاختيار" عودة الى بعض موضوعات "باب الحديد" على نطاق اوسع وأخطر. فالمنبوذ هنا ليس صاحب العاهة او المرض النفسي او الفقير بل هو كل انسان لا يلتزم المنظومة الاجتماعية للطبقة الحاكمة. في شكل تبسيطي، قال شاهين ان بذور النكسة تكمن في النظام الاجتماعي المهترئ قبل اي شيء آخر.

أكمل البحث عن اسباب النكسة في "العصفور" (1973) ووصل الى النظام السياسي. اي ان الخلاصة ان الداء يكمن في كل قطاعات المجتمع والدولة المرتبطة بدائرة مفرغة. لقد عاد في هذا الفيلم الثاني في ثلاثية الهزيمة الى ما طرحه في "الأرض" الذي يمكن القول انه ظل "العصفور" او العمل التمهيدي له من دون ان يقل عنه اهمية بالضرورة. ولكن الصدمات تحتاج دائماً الى مرور الزمن لنتمكن من مراجعتها. اذاً النظام السياسي الفاسد القمعي الانتهازي الذي يسيره مسؤولون لصوص والذي يلهي الشعب بالشعارات والخطابات هو المسؤول عن الهزيمة بحسب شاهين في هذا الفيلم. من دون لف ولا دوران، برأ الشعب من الهزيمة وأعلن رفضه له وأدان النظام والسلطة والقيادة وأخرج الشعب في تظاهرة تقودها "بهية" (محسنة توفيق) وتنادي "لا حانحارب حانحارب" على اثر خطاب التنحي لعبدالناصر. لقد بدا العصفور أكثر أفلامه التزاماً بالقضية السياسية وتحريضياً بالمعنى المباشر على الثورة والرفض من دون ان يخلو من الرموز لا سيما الشخصيات التي تحمل ملامح اكبر منها مثل بهية/مصر والشيخ/الشعب والعصفور/الحرية...

كان يمكن للحديث على الهزيمة ان يتوقف عند "العصفور" ولكن شاهين كان قد دخل وتيرة رصد الواقع وتحولاته منذ "الاختيار" فأكمل فيها لا سيما ان موضوع الهزيمة لم يكن مسألة مسببات فقط وإنما ايضاً مفاعيل مقبلة. ويمكن القول انه في خاتمة ثلاثية الهزيمة "الابن الضال" (1967) عاد الى خلية العائلة ليجسد الصراعات الاجتماعية والسياسية من خلالها. كما انه عاد الى تجسيد نفسه ليس بشكل كامل وانما جزئي. فعلي في الفيلم يشبه شاهين كثيراً ويشبه أبناء جيل الثورة الذين خابت آمالهم وانهار مشروعهم التغييري. ولكن شاهين هنا لا يتماهى تماماً مع شخصية "علي" او الاحرى ان تجربته وموقعه الآن لا يختصرهما "علي". ذلك ان شاهين منذ "الأرض" فصل نفسه ودوره عن افلامه. لم يعد ابن الثورة المفتون بها والمتماهي تماماً مع مشروعها بل غدا المثقف والسينمائي والناقد الذي تتقاطع تجربته مع تجارب شخصياته ولكنه يبقي نفسه على مسافة منها. وتلك حالة مركّبة تنسحب على الفيلم برمته الذي يربط من خلال شخصياته كل الموضوعات والشخصيات التي ظهرت في أفلامه الاولى ومن ثم في "الأرض" و"الاختيار" و"العصفور" مقدماً ثلاثة أجيال: الجد ابن البورجوازية القديمة والابن ابن الثورة والحفيد ابن عصر الانفتاح والابن الآخر (طلبة) الوجه الآخر لجيل الثورة الذي يمكن ان نلمح ظله في شخصية "سيد" في "الاختيار". وهناك ايضاً عائلة العامل حسونة. الرأسمالية هنا هي الشكل الجديد الذي ينتقده شاهين بعد الاقطاع والبورجوازية والعامل هو رديف الفلاح الذي ما زال يفتن شاهين ويربطه بكل المواصفات الانسانية المناقضة العُقد البورجوازية. وشاهين هنا يدين المثقف كما الوصولي كما البوجوازي ولكنه يفتح نافذة أمل على مستقبل جديد من خلال تمرد ابن "طلبة" (هشام سليم) وانشقاقه عن والده وارتباطه بابنة العامل، وتلك النهاية من مستلزمات السينما الملتزمة التي حمل شاهين رايتها بدايةً بفيلم "الأرض" بل ربما منذ "الناصر صلاح الدين".

تسمية الأشياء بأسمائها

على الرغم من ان "عودة الابن الضال" ينتمي الى ثلاثية الهزيمة ولكن يمكن القول انه ايضاً حلقة الوصل بين ما سبقه وما سيليه. ذلك ان العودة الى موضوع العائلة كان المدخل الى عودته الى اسرته من جديد ولكن هذه المرة ليسمي الاشياء بأسمائها. لم يكفه ان يكون قد وضع من نفسه ومن افراد عائلته في الشخصيات التي مرت على "بابا أمين" و"المهرج الكبير" و"سيدة القطار" وغيرها من افلام البدايات، بل أراد التحول الى البحث عن الذات بالمعنى الحرفي للكلمة ربما بعد ما بدا له من انه نهاية الحديث في العموميات والتلميح الى الخصوصيات وبداية محاكمة الذات. مما لا شك فيه ان حالة المكاشفة ومحاكمة الذات التي وصل اليها شاهين في ثلاثية السيرة الذاتية "اسكندرية ليه؟" (1979) و"حدوتة مصرية" (1982) و"اسكندرية كمان وكمان" (1990) احتاجت الى كل التراكم الذي سبقها لتتبلور. ولكن لم يكن امراً حتمياً أن يقود ذلك التراكم الى تلك الدرجة العالية من المصارحة والكشف الذاتيين. صحيح ان موضوعنا هنا يتناول الذاتية التصاعدية في مسيرة شاهين وارتباط تحولاته مباشرة بسينماه، الا انه لا ضير من ذكر ان ثلاثية شاهين تلك كانت ولا تزال حالة نادرة في السينما العربية. لا يعني هذا ان عدم حضورها لدى سينمائيين آخرين يقلل من أهميتهم او جرأتهم ولكن شاهين كان فريداً باختياره الولوج الى ادق تفاصيل حياته وذاته في تجربة لم تتكرر بعده بذلك العمق والطول والتفصيل. كذلك كانت الثلاثية ايذاناً بعودة شاهين الى جوهر افلامه من دون ان يتخلى عن دور الناقد وعن المسافة مما يحكيه ذلك الموقع الذي اتخذه لنفسه منذ الأرض. من هنا تنبع أهمية الثلاثية الذاتية من جرأة النقد. فهي ليست سرداً لاحداث الطفولة وتدويناً لمسيرة كما فعل طه حسين مثلاً في كتابه "الأيام" بل هي مرآة تكسرت عندها الأقنعة وتشوهت الوجوه قبل ان تتحقق المصالحة. في "اسكندرية ليه؟" عاد شاهين الى المكان في اول تركيز على الاسكندرية التي نشأ فيها. والمكان هنا شخصية رئيسية اسهمت في التكوين الانساني والفكري للمخرج من حيث انها مدينة مفتوحة على البحر تزرع في ابنائها الحاجة الى التنقل والسفر والانفتاح، وذلك ما تجسد في افلام شاهين حيث رغبة السفر غالباً ما تداعب احدى شخصياته ومحطات السفر ووسائله من محطات قطار ومطارات وموانئ تحضر بكثرة في افلامه. ثانياً هي اسكندرية الكوزموبوليتية التي تعايشت فيها الاديان المختلفة والاقليات. لماذا الاسكندرية؟ لأنها كل ذلك في نظر شاهين لا سيما اسكندرية الاربعينات التي وعاها مراهقاً. في الخطين الرئيسيين للفيلم، ينشطر شاهين بين "يحيى" الذي يجسد مراهقته والمنتمي الى عائلة بورجوازية صغيرة والحالم بالفن والسفر وشاهين الذي يسقط وجهة نظره على الاحداث السياسية التي تعج الاسكندرية بها ايام الانتداب البريطاني. بمعنى آخر، الوعي السياسي والاجتماعي الذي يفتقر يحيى/شاهين المراهق اليه يأتي به شاهين من خارج الفيلم من خلال نظرة المخرج. وبوعي ابن الخمسين نفسه يقدم افراد عائلته ويخترع قصة الحب بين المسلم واليهودية ليحكي عن التسامح. ولكن الفيلم جاء في اثر ذهاب السادات الى اسرائيل وتوقيع معاهدة السلام مع اسرائيل مما عرض فيلم شاهين لنقد لاذع بوصفه ترويجاً للسلام والتطبيع.

بسبب ذلك تريث شاهين في انجاز الجزء الثاني في الثلاثية او لعله لم يفكر به اصلاً. غير ان تعرضه لأزمة قلبية حادة واجرائه لعملية القلب المفتوح اعادته الى المكاشفة كمن يعود من الموت. في هذا الفيلم يختصر شاهين ثلاثة عقود من حياته ومن واقع بلاده والعالم العربي بدءاً بثورة 1952 وحتى ما بعد هزيمة 1967. يصل التركيب هنا حده الاقصى لأن ما يرويه شاهين خاضع لوعي الشاب السياسي في تلك المرحلة وخيبته كما لرؤيته السياسية ابان صنع الفيلم وبعد مرور سنوات طويلة. ويدخل في سياق السرد الذاتي سينماه التي كانت جزءاً من تلك المرحلة فيستعيد بعض افلامه داخل هذا الفيلم حيث يلعب نور الشريف دوره ويكشف عن الكثير من مشاكله وعقده وعلاقته بأمه وزوجته. طغى الطابع المسرحي على الفيلم لا سيما في مشهد المحاكمة بين شاهين الطفل وشاهين الحاضر والتي تنتهي بمصالحة الاثنين وكأن شاهين كان يخاف ان يكون ذلك فيلمه الاخير.

ان التماس الذي حققه شاهين مع الواقع منذ "الاختيار" ظل مواكباً حتى فيلمي السيرة الاولين من خلال اضفاء وجهة نظره وقت صنع الفيلم على احداث الماضي والحاضر معاً. منطقياً اذاً وإذا اراد ان يكمل في مواكبة واقعه من خلال سينماه، كان على فيلمه المقبل ان يتعقب السنوات الاخيرة من مسيرته كأن سينماه كانت تمشي في أعقابه دائماً. وهكذا كان. إن أحد الاوجه الاساسية لفيلمه "اسكندرية كمان وكمان" هو انفصال ممثله محسن محيي الدين عنه بعد تجارب اربعة في فيلمي السيرة الاولين و"الوداع يا بونابرت" و"اليوم السادس". وهذا ما نراه في الفيلم من خلال توظيف الحكاية نفسها في السرد انما بطبيعة الحال مع ممثل آخر هو عمرو عبدالجليل. ولكن لانفصال محيي الدين عنه ابعاداً أخرى ذلك ان الممثل الشاب جسد اناه الاخرى في الافلام التي سبقت وتالياً فإن هجره له هو بمثابة هجر اناه له. كذلك فإن تجاوز شاهين لذلك التخلي ومحاولته العثور على ممثل آخر (ممثلة في الواقع هي يسرا) هو بمثابة تحطيم تلك الانا التي صنعها في افلامه بما هي خطوة ابعد في نقد الذات. من خلال تلك الحكاية، يجسد شاهين التداخل بين الحياة والفن ولكن ايضاً مع التاريخ والمكان. ولعله يدرك في نهاية الفيلم ان المرحلة وصلت الى نهايتها حين تتخلى يسرا/اناه الجديدة عنه ايضاً. بمعنى آخر، ما عاد شاهين قادراً على جلد نفسه ومحاكمتها كما فعل في السابق لأن الأنا المتبقية هي أناه في الزمن الحاضر بعدما انتهى من انا الطفولة والمراهقة والشباب.

بتلك التوليفة المجنونة والمركبة والمؤسلبة اختتم شاهين العقدين الابرز في مسيرته اي السبعينات والثمانينات واختتم معهما الكثير من الاسئلة والقلق، لأن ما سيليهما من افلام وإن لم يخلُ تماماً من اسئلته وهواجسه وملامح حياته، الا انه ينم عن تماهٍ وانسجام بين الوجه والقناع، بين الأنا والأنا الاخرى او ربما عن توحد الأنا في مواجهة الصراعات والشرور الخارجية (الارهاب والعولمة والغرب...) في مرحلة ستتسم بتحول لهجة شاهين الى الخطابية التعليمية.

المستقبل اللبنانية في 1 أغسطس 2008

 
 

يـوســف شـــاهــيــن فــي عــيـــون عـــارفــيـــه وأحــبـــائــه:

الأب الروحي الذي يراقص الأفـكار والآمال

هوفيك حبشيان

رحل المناضل صاحب الأعين الثلاث. هذه الأعين التي احداها تزيّن جبينه كحبة الألماس وترافقه ككاميرا مراقبة أينما حلّ. ذات يوم أحد عادي ومملّ أخذ يوسف شاهين (82 عاماً) إجازته النهائية، بعد نحو شهر من الغيبوبة. غيبوبة هي أيضاً حليفة الحال العربية التي كان لها دائماً في المرصاد، ماضياً وحاضراً. "استقال" شاهين في مرحلة لم تعد السينما المصرية في حاجة الى رواد وجبابرة يصدمون ويستفزون ويحرضون، انما الى مهرّجين يزرعون البهجة كيفما اتفق. هذا هو زمن ما بعد المعلّم الاسكندراني! على رغم التعب الذي كان بادياً على وجهه في الفترة الأخيرة، ظل شاهين هذا النرسيس الجميل المتعاظم. على مدار نصف قرن ونيف، كان الرجل كتاباً مفتوحاً، بل قاموساً متنقلاً حافلاً بالمواقف السياسية والفكرية والانسانية الحازمة. سواء في الشاشة أو خارجها. وكانت حياته ثرية، حافلة بالمحطات واللقاءات، بالنزق والترحال. والمجون كذلك. حياة تعبّر عن نصف قرن من تاريخ العرب. ليس العرب فحسب. بل تاريخ العالم برمته، مع أحلامه ومعاناته، الذي كان لشاهين القدرة على اختصاره في لقطة، في لحظة، في وجه، في لون... في كل شيء عبرت فيه كاميراه.

كان هذا الشيخ البهي رمزاً لـ"مدينة منوّرة بأهلها": الاسكندرية. شأنه شأن ثنائيات أخرى من مثل فيلليني - روما أو سكورسيزي - نيويورك، أو فاسبندر-المانيا. هذه المدينة أكثر ما ومن سيشتاق اليه. الى غضبه وعطفه وحنانه. كان شاهين بالاضافة الى هذا كله، سينمائياً سياسياً. كان لعدسته القدرة على استيعاب مكان وشعب من دون اللجوء الى منطق التعميم. أدرك منذ مقتبل تجربته الابداعية أن أمضى السلاح في وجه تسلط العالمية هو أن تكون محلياً. وأن الفنّ الذي له قضية فنية وانسانية، لا بد أن يجد طريقاً سالكة للمرور من شاطىء الاسكندرية - المدينة الكوزموبوليتية التي شرب من مياهها - الى ضفاف كانّ، حيث نال اعتراف الجميع باعتباره أكبر مخرج عربي على الاطلاق.

في كل جديد له، أفصح شاهين عما يجول في فكره. وتجرأ على الحكي في عالم (عربي) اعتدناه غوغائياً صامتاً. لم يلجأ مثل آخرين الى المواربة او الحياد. وعلى رغم الثرثرة والخطابية المباشرة والتطرف في استعداء قادة أميركا، الاّ انه ظل معلماً في تقنية ادارة الممثل واشاعة أجواء ميلودرامية في أعماله. كان شاهين طريفاً ولا يضبّ لسانه، اذ كان في استطاعته أن يشتم جورج دبليو بوش غداة 11 أيلول من دون أن يبدو ثقيلاً، رجعياً، مناضلاً بلا قضية. اعترف مراراً بتمسكه بمبدأ أن القوانين وجدت لتتحطم، وبأن مقابل كل سلطة لدولة وحكومة، هناك سلطة الشعب. وسلطة الفكر. وسلطة الارادة. كذلك، عرف كيف يخاطب النقاد، وكان له بينهم أصدقاء، ولا سيما في مجلة "دفاتر السينما" الفرنسية. خاطبهم على قدم المساواة. متحرراً من عقد ذاك الآتي من شرق محطم. تفهّموه، أحبّوه، وظلّوا الى جانبه حتى في أحلك الظروف. وغنّجوه بـ"جو"! اليوم، جو، هو جل ما يتذكرونه من سينما عربية، انكساراتها أكثر من أمجادها.

كان شاهين روبيسبيير (المتوفى في مثل يوم وفاته) السينمائي، على طريقته المجنونة الفريدة. هذا الذي طالب في وصيته السينمائية، "هي فوضى؟"، بالديموقراطية حلاً وحيداً لمصر وشعبه، سعى الى أن يؤكد مراراً أحقية المصري في العيش بعيداً من الذل الذي يسكنه. على رغم انه لم يكن يؤمن لا بالاصلاح ولا بالعدالة (كان يقول: "مَن مِن قضاتنا العرب سيخضع للاصلاح؟"). من أجل هذا كله، لا نستطيع أن نفصل مساره عن مجمل المعركة التي خيضت ولا تزال تخاض ضد الفساد والرقابة والتوريث السياسي، في العالم العربي، منذ سالف الأيام. خلافاً لكثيرين، لم يمارس شاهين على أعماله رقابة ذاتية ("كل إنتاج فني فيه افكار جريئة مصيره المنع")، فلسينماه مخالب وتدافع عن نفسها بنفسها. فهذه السينما، التي ولدت نتيجة نمو الوعي القومي والآمال المعقودة عليه، لم تقوَ كل أشكال القمع التي تحاصر العقل العربي، على تدجينها واعادتها الى "النظام". في الآتي بعض الرسائل التي وصلتنا من بعض اصدقاء صفحة "أدب فكر فن" عن شاهين.

هـ. ح.  

فيه رغبة لم ألامسها لدى غيره

أعرف جو منذ 20 عاماً، وأظنني أحببته منذ لقائنا الأول، مع أني لم أكن أحب أفلامه كلها. كانت في داخله طاقة حيوية ورغبة في جمع الأفكار والآمال والاندفاعات الفردية والجماعية وجعلها ترقص وتقبّل بعضها بعضاً. هي رغبة لم الامسها لدى غيره. ويبدو لي أن سينماه ثابتة، على مرّ الحقبات والأساليب والأنواع والضغوط المالية والرقابية، وكذلك طاقته التي تتخطى الخير والشر، وهي طاقة أكّدتها شخصية الأحدب في "باب الحديد". جو، صديقنا جو، كان مريضاً منذ وقت طويل. أما السينمائي الكبير يوسف شاهين، فهو حيّ، كما نتمنى أن ينجح جميع البشر في أن يكونوا أحياء.

جان ميشال فرودون

(ناقد سينمائي، مدير مجلة "دفاتر السينما" - باريس)   

يملك فن "عدم الخضوع"

يوسف شاهين، هو ببساطة، هرم من أهرامات مصر الثقافية. انه أشهر مخرج مصري وعربي في العالم بأسره وأهمّهم. أفلامه هي كنز من كنوز مصر الثقافي السينمائي العريق. انه "بوابة" ثقافية عملاقة إلى تاريخ هذا البلد مصر، الذي أنجبنا، وحضارته. أفلامه في مجملها، تنضح عذوبة وحلاوة بحب هذا الوطن، الذي ينتمي اليه باعتزاز، وعشق أهله في بر مصر العامرة بالخلق. أعماله لا تقدّم أعظم "بانوراما"، أو مسحا دقيقا شاملا، لتاريخ مصر الثقافي والاجتماعي والسياسي، كذلك للتطورات والتغييرات التي طرأت عليه فحسب، بل ان أفلاما عملاقة من توقيعه، مثل "الأرض" و"حدوتة مصرية" و"العصفور" و"باب الحديد" و"اسكندرية... ليه؟" و"الناصر صلاح الدين" وغيرها، دخلت تاريخ السينما باقتدار من بابه الاوسع، وتعدّ الآن من كلاسيكيات السينما الكبيرة.

إن جو هو الأب الروحي للسينما العربية الحديثة، بأسلوبه السينمائي الذي استحدثه. وهو المؤسس لهذه "السينما الحديثة" منذ بداية الستينات من القرن الفائت، في أفلام مثل "الاختيار" و"عودة الابن الضال" التي تتجاوز حدود الوطن، وتستشرف - بعد هضم وتمثل - انجازات السينما الحديثة على مستوى المضمون، في أعمال فيلليني وانطونيوني من ايطاليا، وجان - لوك غودار من فرنسا، ورواد "الموجة الجديدة الفرنسية" في أواخر الخمسينات. سينما تستشرف آفاق المستقبل وتتجاوز الحكاية التقليدية المكررة المعادة، لكي تبحر في "سينما الحداثة"، وتدلف الى داخل المياه من دون خوف او وجل.

شاهين المتمرد على كل أشكال القهر والرقابة وظلم السلطة - هذه السلطة التي لم تنجح قط في تدجينه لكي يشتغل لحسابها، هو أيضاً مؤسس تيار "المكاشفة وسؤال الذات"؛ سينما الأنا في "اسكندرية... ليه؟" و"اسكندرية كمان وكمان" ثم في "اسكندرية - نيويورك"، التي تطرح مشاكلها الذاتية والفردية، وتتواصل من خلال هذه المكاشفة تواصلاً جريئاً مع الآخر، وتعانق- حين تنطلق من أسرها - الوجود كله.

سينما المتناقضات هذه، التي يمثلها شاهين، هي سينما سياسية في الدرجة الأولى، لأنها تكشف من خلال أزمة الذات والوطن، بحثا متواصلا عن "هوية"، وهي تستكشف تناقضات المجتمع المصري، في مناخات القمع السياسي والفكري، والديموقراطية المجهضة وغياب المشروع القومي. لذلك، نستطيع القول إن شاهين هو رفاعة الطهطاوي السينما، ليس في مصر وحدها بل في كل أنحاء العالم العربي. ففي حين يعتبر الطهطاوي (1801 - 1873) رائد نهضة مصر الحديثة، يجيء حفيده شاهين من بعده، ليؤسس لـ"رفاعة مصري سينمائي جديد". فبعدما سافر شاهين الى الولايات المتحدة، وعاد منها حاملاً حلم التغيير والنهضة، مثل جده الطهطاوي العظيم، وفرش بساط السينما الحديثة في مصر، وساهم بأفلامه - كما حقق الطهطاوي بنضاله وكتبه وأفكاره وتشييده "صرح" مدرسة الالسن - في دخول السينما المصرية الى عالم جديد، وعصر جديد، وجعلها تتواصل مع العالم.

جرّب شاهين الأنواع السينمائية كلها، وحقق أفلاماً ممتازة ضمن كل نوع، كما كانت الحال مع فيلمه "جميلة" (النوع السياسي المناهض للاستعمار) وفي "بياع الخواتم" و"سكوت... ح نصور" (الكوميديا الموسيقية)، والفيلم الذي انتجته الفنانة آسيا "الناصر صلاح الدين"، وأيضاً "وداعاً بونابرت" و"المهاجر" (النوع التاريخي)، وكلها أفلام شامخة في صنفها. علماً أن سينماه صارت في ما بعد، هاربة من حدود النوع، وأكثر انفتاحاً على كل التصورات والاحتمالات والرؤى، وتالياً أكثر اثارة للمناقشة والجدال.

لم يهدأ شاهين البتة. كانت ماكينته السينمائية مثل الساقية تدور على طول، وكأنها الرئة التي يتنفس منها، وحرمانه منها كان يعني الحكم عليه بالموت. لذلك كان شاهين مشغولا ومهموما دوماً بصنع الافلام، ولم يتوانَ عن النفخ من روحه في نفس تلك الأجيال الجديدة التي نهلت من دروسه وتجاربه وخبراته، من أمثال يسري نصر الله ("مرسيدس")، ورضوان الكاشف ("عرق البلح") وعاطف حتاتة ("الأبواب المغلقة"). هذا الجيل وعى درسه الحداثي وتعلم منه ومن ذكائه. وكانت أفلام شاهين، حتى من دون ان تلتقيه، "كائنات حية" أو "كيانات حية"، مشحونة بالتأمل والفكر، ومعجونة أو بالاحرى مخبوزة في فرن شاهين، هذا الاسكندراني المشبع بالأسى والهم والفن والضجر والتهكم والتمرد. سينماه حملت "هوية" مصر الجديدة، الآن في اللحظة، أساها وهمها، ضياعها وحزنها، كذلك تمردها على اليأس والظلم والقهر. ثم راحت تطوف العالم، فأصبحت سفيرة لنا في أنحاء الدنيا، ومنحت دور الريادة في الفن السينمائي لمصر، وهي تشمخ بـ"الفن" الشاهيني، ومن دون ان يستطيع احد ان ينتزع من مصر هذا الشرف، لأن قدر مصر كان هكذا وسيبقى هكذا.

قدر مصر أن تكون في مقدمة المسيرة، من خلال فنانيها السينمائيين والكتاب والمبدعين. وأن تكون في طليعة النهضة والثورة والتمرد على الظلم، أي في طليعة العطاء والكرم المصريين الاصيلين. وقد كانت مصر منذ أقدم العصور، ومن دون شوفينية مغرضة "ضمير العالم"، كما يذكر بريستيد. مصر تلك الساهرة على إنسانيتنا، وكانت أول من فتح حضنه للمشردين والمنفيين والمعذبين والغرباء في اوطانهم، وحتى داخل جلودهم، وهي تقول لهم أهلاً ومرحباً، وكان ولا يزال هذا دورها وقدرها: أم الدنيا...

تحتاج أفلام شاهين (بالذات) الى أكثر من مشاهدة، ذلك لأنها أفلام تحرض. بعد استمتاعنا بقيمتها الفنية وجمالياتها الخاصة (انظر مثلاً الى تكوين الكادر في أفلامه الذي يحتاج وحده الى رؤية معمقة وتحليل ودراسة مستقلة لا يتسع المجال لها هنا). سينماه تحرض على التفكير، وتحضّنا على التعبير بجرأة مذهلة، بل ولا تستنكف عن الوقاحة في بعض الاحيان، وأيضاً العنف. لكن أليس العنف الواقع علينا، من طرف السلطات والحكومات أكثر قسوة وعنفاً وتوحشاً ودموية من عنف السينما ووقاحتها؟ سينماه علّمتنا منظومة من القيم، لعل أهمها التسامح. أفلام شاهين كانت وستبقى "مدرسة"، مدرسة تشرّع أبوابها لأجيال السينما العربية الجديدة، لكي يتعلموا فيها أبجدية الفن السينمائي، ورهافة الصنعة. يتعلموا فيها ليس فن السينما فحسب، انما "فن عدم الخضوع" أيضاً.

وداعاً شاهين، وداعاً لقطعة شامخة وعملاقة من هذه البلاد التي نعشق، ومؤسسة فنية وسينمائية راسخة، ومتوهجة و"منورة بأهلها"، ومتجددة دوماً بالنماء والعطاء والمعارف الجديدة.

صلاح هاشم

( مخرج وناقد سينمائي - باريس)

المخرج تجاوز شخصه أهمية

هناك شاهين السينمائي وشاهين الرجل. انه شخصية "صوفية" أو "اسطورية" في السينما العربية. أهميته تجاوزت شخصه. كان نجماً بكل ما في الكلمة من معنى. من المصادفة الغريبة أني عندما سمعت بخبر نقله من القاهرة الى باريس اثر الوعكة الصحية التي تعرض لها، كنت قد عدت للتوّ من العاصمة المصرية. خلال وجودي هناك، حاولت أن التقيه. كان ذلك عشية نكسته الصحية. كان ذلك يوم جمعة، وجاء خبر مرضه يوم السبت. كنت برفقة كاتب سيناريو سوري، وقلت له "هيا بنا نذهب نحيي جو". وكان دهمنا الوقت في انشغالاتنا ولم نذهب. الآن أشعر بالندم...

صداقتنا تعود الى بداية الثمانينات. منذ لقائنا الاول تعاطفت معه. اصطحبني الى منزله وكان جد لطيفاً. احببت فيه الرجل الحنون والدافىء والانساني. لطالما دافعت عن سينماه واعتبرته سينمائياً كبيراً. لا شك في أن شريطه الأهم هو "باب الحديد". أنجز الكثير من بعده. وبصراحة لم أتعاطف مع أفلامه الأخيرة. تقنياً، كان بارعاً، ولا سيما في ما يتعلق بإدارة ممثليه. لكن خياراته في مجال القصص لم تلق اهتمامي البتة. على رغم ذلك، يوسف شاهين شأنه شأن نجيب محفوظ لا يمس. قلت سابقاً ان أهمية المخرج شاهين تجاوزت أهميته انساناً. والآن، أقول ان أهميته مناضلاً تجاوزت اهميته مخرجاً. وكان الوحيد بين المخرجين العرب تحول نجماً!

فيليب جالادو

 ( مدير مهرجان "القارات الثلاث" - نانت)   

  

3 أسئلة الى...

تعلّم تييري جوس كيف ينجز افلاماً من خلال مشاهدة عشرات المئات منها، حين كان رئيساً للتحرير في مجلة "دفاتر السينما" في تسعينات القرن الماضي. وحين رغب في ترك تجربته النقدية خلفه واجتياز المسافة الى ما وراء الكاميرا، لينجز شريطاً يعكس هواجسه الفنية وطموحاته الابداعية، حمل المولود اسم "اللامرئيات" وجاء من رغبة جوس في وضع عنصر الصوت في مجابهة الصورة. اليوم، لا يعتبر جوس أن الناقد سينمائي مكبوت، اذ يرى أن هذه المهنة حوار مفتوح بين طرفين، صاحب العمل من جهة ومَن يرمي عليه نظرته من جانب آخر.

* هل النقد أفضل مدرسة لتعلّم إنجاز الأفلام؟

- لا أعرف إن كان النقد مدرسة. انه وسيلة بين اخريات. ولكنها ليست الأسوأ. انا من الذين كانوا يرغبون في العمل في السينما قبل الانطلاق في الصحافة المتخصصة. النقد والسينما متكاملان. فليس من سينما من دون نقد وليس من نقد من دون سينما. من المؤكد أن على السينمائي ان يطلع قليلاً على تاريخ هذا الفن. منذ الستينات، دخلنا مرحلة كان السينمائيون فيها سينيفيليين ايضاً. اليوم في فرنسا، ألاحظ ان العديد من السينمائيين ليسوا نقاداً ولكنهم يعرفون جيداً تاريخ السينما. أحب عبارة كان يرددها أريك رومير: "دور المتاحف هو في تجنّب تكرار ما سبق". ولعل ذلك من المفيد ايضاً في السينما لكي لا تكرر الاعمال التي انجزت من قبل. تعتمد السينما على التكرار. وأظن ان الاستلهام من مخرج آخر جزء من تاريخ السينما والفن عموماً.

* انطلقت في النقد من خلال "دفاتر السينما". كيف تقوّم مستوى هذه المجلة العريقة الآن؟

- بدأت عملي عام 1988 على نحو محترف. واصبحت بعد مرور 3 سنوات رئيسا لتحرير المجلة. عندما انتسبت الى هذه المجلة العريقة، كانت مرحلة تغيير اجيال، وكانوا في حاجة الى محررين جدد. لم أكن اصغرهم سناً، ولم اكن متقدّما في السن كذلك. كانت المجلة مكاناً للتعلّم اذ لا ينضم اليها محترفون فحسب. من حسن حظي انني وقعت في مرحلة بدأ فيها الجيل القديم يرحل. في "الدفاتر" جرى تغيير حديثاً. تبدلت الأوضاع بعض الشيء بعدما تولى جان ميشال فرودون ادارتها. لم يعجبني ما حصل في ذلك الوقت، ولا الطريقة التي عولجت بها المسألة. ثم اتى فريق جديد. وكان هناك مرحلة انتقال مؤلمة. ولكن ذلك اصبح من الماضي. فقد مرّت سنوات على ذلك، وقد استقرّت الامور. اليوم، اجد من الصعب اطلاق مجلة للسينما، وقد قلّ عدد القراء المهتمين. لست متيقناً من ان المجلة ستبقى كما كانت، علماً اني لا ارغب في اعطاء الدروس الى نقادها الآن.

* هل في امكانك ترتيب لائحة بأفلامك العشرة المفضلة؟

- من الصعب الاجابة عن هذا السؤال. أظن ان لائحة أفلامي العشرة المفضلة تتغيّر كل 10 دقائق. لكني سأعدد لك بعضها: North By Northwest لهيتشكوك و"قانون اللعبة" لرونوار، و"بيارو المجنون" لغودار. أحب كوبريك ولكنه ليس من السينمائيين المفضلين عندي. ايستوود اميل اليه كثيراً، ولو طلبت مني ان اعطي فيلماً من السنوات الـ20 او الـ30 الماضية، لكنت سأذكر فيلماً لايستوود، فضلاً عن Eyes Wide Shut لكوبريك وفيلم لديفيد لينش وفيلم لفيليب غاريل وغودار. أحب بازوليني ايضاً ولكني لم اكن لأعطي اسمه اولاً. تأثرت في مرحلة ما بأنطونيوني، مع انني تخطيته قليلاً الآن. من اعماله احب "المغامرة" الذي اجده فيلماً مهماً. أحب "بلو أوت" لدو بالما واعتبره واحداً من أجمل اعماله لأنه يعمل فيه على مسألة الحزن وعلى أمور عميقة تتخطى الموهبة. أعشق العديد من افلام دو بالما ولكنه ليس في الضرورة مخرجي المفضل. هناك أفلام قاتمة أحبها كتلك التي انجزها جاك تورنور. يصعب احياناً الربط بين تاريخ السينما والحاضر، على رغم أنه قد يكون هناك علاقة بينهما. هناك مخرجون كبار لا أتأثر بهم مثل تاركوفسكي، ولكني أحب بعض أفلامه ولا أستطيع أن أقول انه ليس مخرجاً كبيراً. لا أحب ايضاً جان - بيار جينيه. لست متعاطفاً مع اسلوبه ويضجرني قليلاً، واشعر انه جامد. وهو مختلف عما احبّه في السينما. أما بيلي وايلدر فليس مخرجي المفضل ولكني أحب فيلمه "حياة تشرلوك هولمز الخاصة" الذي أجده رائعاً وينطلق من مظهر كوميدي ويتجه نحو الحزن. وافضّل الافلام التي صوّرها وايلدر بعد الستينات. اما "فيدورا" فهو فيلم غريب، لم اره سوى مرة، لدى صدوره. ولم احب كثيراً الافلام التي انجزها قبل الستينات لأنها كانت ترتكز كثيراً على الحوارات، ما لم يكن يستهويني في السينما.

تييري جوس  

خارج الكادر

ملك المغرب سينيفيلياً

ومطار اسطنبول سجناً

في كل مرّة تقلع الطائرة من مطار محمد الخامس، أشعر بنكسة. وبحرج شديد. أكاد أغصّ. انه حرج يقيم في داخلي. حرج ينم عن عدم القدرة على البوح. البوح بما رأيته وعشته وكنت شاهداً حياً عليه. بوح بعدم القدرة على ايجاد الكلمات المناسبة لأقول غضبي ودهشتي ومشاعري المتناقضة (وإن وجدتها، يبقى هناك الخوف من أن لا يصدقني أحد). لأقول، أيضاً وخصوصاً، حبي، الذي ما ان ينتهي حتى يبدأ من جديد، أقوى مما كان عليه من قبل. حبّ لأماكن ووجوه وأنامل وروائح. بدءاً من رائحة المنشفة في غرفتي، وصولاً الى رائحة الخس المغروس في أرض افريقيا الخصبة. أرض تجرحني عزلتها ونفيها الى ايقاع آخر.

ليس المغرب بالنسبة اليّ مراكش أو "كازا" أو الرباط. انما طنجة وطنجة فقط. وليس كل طنجة. بل الواجهة البحرية المطلة على مضيق جبل طارق، حيث يخيل الينا أننا على حافة العالم. وأيضاً بعض الملاذات الآمنة التي أذهب اليها ولن أكشف عن عناوينها لئلا يسبقني اليها أحد. وفي طنجة مهرجانان سينمائيان، وهو عدد المهرجانات التي تعقد في بيروت، أو أقل لأن "أيام بيروت السينمائية" لا يعقد الاّ مرّة كل سنتين. أحد هذين المهرجانين تيمته الفيلم المتوسطي القصير، والثاني يعنى فقط بالفيلم الوطني. مهرجانان في مكان فيه درجة عالية من الفقر والأمية. لكن، كل مكان فيه هذا الاهتمام بالسينما لا يمكن أن يكون فقيراً وأمياً الى هذا الحد. لا أعرف أين قرأت أن ملك المغرب محمد السادس اختير واحداً من أهم الشخصيات السينمائية لعام 2007. في البداية، ضحكت ولا أزال أضحك، ذلك لأني لا أؤمن بزواج المصلحة بين السلطة والحرية. فآخرها الطلاق أو الهجرة. لكن، في حال المغرب، وفي ظل الجهود التي يبذلها المركز السينمائي المغربي، فهذا استنتاج متسرع. لأن هذا البلد لديه اليوم حاكم سينيفيلي. ونحسده على ذلك.  

***

كان ينبغي لهذه الزاوية ان تروي اعادة اكتشافنا للسينما التركية. تكملة لرحلة البحث عن مذاقات سينمائية مختلفة، عبر قارات ثلاث: أوروبا (تشيكيا، الاسبوع الماضي)، أفريقيا وآسيا. ثلاثة أمكنة جاءتنا منها اشارات الى احتمالات سينمائية. لكن رحلتنا توقفت عند الحدود التركية، ذلك ان خطأ سخيفا يتعلق بالتأشيرة حال دون دخولنا الى اسطنبول ومن هناك الى أضنة، حيث المهرجان الذي كنت قد دعيت اليه. لم ترد الشرطة ان تفهم أني في هذا البلد، من أجل ان أحكي عن ثقافته وأنسى الباقي. ولم يشفع بي لا كتاب أورهان باموق ("أحمر") الذي كنت أحمله في حقيبتي ولا كتالوغ المهرجان وعليه صور لأهم عشرة أفلام تركية كان المهرجان سيستعيد عرضها. لا أستطيع أن أقول إني عوملت كما عومل المهرّب الأميركي في فيلم آلن باركر الشهير، "قطار منتصف الليل". لسبب بسيط: بدلاً من المخدرات، كنت أحمل معي صوراً لأفلام، معتقداً أن الاطلاع الجيد عليها يعفيني من الواجب الرسمي والاداري. لكن كان يمكن هؤلاء أن يكونوا أكثر انتباهاً الى ما كنت أريد قوله، لأنه كان مهماً على ما أعتقد. في النهاية، لم أندم على هذا الخطأ. ورب ضارة نافعة. فخلال الساعات العشر التي أمضيتها في سجن المطار، تعرفت الى مهاجرين من نيجيريا، حط رحالهم هنا، لسبب أيضاً تافه ليس بعيداً عن السبب الذي تم توقيفي من أجله. فكان مصيرهم مثل مصيري، انتظار الرحلة المقبلة لتحويلنا الى المكان الذي جئنا منه. تعرفت أيضاً الى برتغالي زجّته الشرطة التركية في زنزانة لأن تأشيرته قد انتهى تاريخ صلاحيتها، على رغم أن الرجل كان خارجاً من البلاد. ما أدهشني أنه يعمل ميكانيكيا في سلاح الجوي التركي. وجعلني أرى الصور التي تثبت ما يقوله على حاسوبه الآلي المحمول.

انتظرت أكثر من شهر قبل أن أقرر أن أكتب عن هذه الحادثة. أنتظرت كي يهدأ غضبي. ولكن، لا أعرف كيف كنت عوملت لو أن الحادثة نفسها جرت في فرنسا أو في بلد أوروبي آخر. طبعاً، كنت أعرف حقوقي، ولم أتوان عن الاستنكار والاحتجاج، وأحياناً بصوت عال. وأعلم أن الرد كان سيكون عنيفاً، لو لم أتراجع وأعد حتى المئة لا بل حتى الألف، في ذلك اليوم، في مطار اسطنبول. في المحصلة، وضع اسمي على اللائحة السوداء ولن استطيع زيارة تركيا أبداً. الا اذا دخلت يوماً الاتحاد الاوروبي، وهذا ما يأمله الاتراك بشدة. وهي ربما لن تدخله أبداً، علماً أن سينماها دخلت في أحايين كثيرة، لغة وأفكاراً وتجديداً للتيمات واسلوباً في المعالجة. أحياناً يكفي اسم أو اسمين كي تخرج سينما احد البلدان من البيئة التي هي فيها الى بيئة أكثر تقدماً وأكثر اهتماماً بالحداثة وما بعدها. ويكفي مشاهدة فيلمين، أحدهما "ثلاثة قرود" والآخر "حافة الجنة" لتدارك ذلك. أما الفيلم الذي عشته أنا في تركيا، فكان تركياً قلباً وقالباً.

هوفيك حبشيان

(hauvick.habechian@annahar.com.lb)

النهار اللبنانية في 1 أغسطس 2008

 
 

وليد عوني يكتب عن شاهين:

«علّي صوتك بالحب والحرية»

بقلم  سمير فريد

أرسل الفنان وليد عوني الرسالة التالية إلي «صوت وصورة»:

كلما نفقد معلماً أو حبيباً نقترب من الموت أكثر، وكلما نريد أن نهرب من شلال الزمن نتعلق بالحياة أكثر.

وهذا ما فكرت به هذه الأشهر الأخيرة التي فقدت بها معلمين، معلمي الأول هو «موريس بيجار»، وأستاذي الثاني هو «يوسف شاهين»، قد لا يحق لي القول أستاذي لأنه أستاذ الجميع. تلقينا نبأ الوفاة، ثم ذهبنا إلي الكنيسة، ثم إلي العزاء.. وهذا هو شلال الزمن ينحدر بسرعة، وخلال ثلاثة أيام نري الأمور أوضح حينما يموت الحبيب، فنتعلم قيمة الحياة، صعقنا، فصلينا، فودعنا، ثم تنفسنا.

وفي اليوم الثالث بدأت ترتسم ابتسامات علي وجوه الأصدقاء، وهذه هي الحياة التي أرادها يوسف شاهين، أن نحبها، وأن القدر هو خطة مقدسة، فكلما تقدمت بنا الأيام سنتكلم عن يوسف بفرح وليس بأسي، سنتذكر يوسف بالضحك والحنين والأمل، كما صوره في أفلامه وليس بالفراغ والوحشة.

سألوني: هل يوسف شاهين سيترك فراغ في السينما المصرية؟ قلت لهم: طبعاً لا، لأنه أولاً قد ملأ كل ثغرة وجدت.. إنما السينما المصرية ستستمر مليئة بالقيم طالما ترك تلاميذه علي طريقه الطويل، وحتي القليل من الأفلام القيمة حالياً تحمل عباءة يوسف شاهين، أو الشيء من رائحته.

قيمة الأفكار تشكل عقل الإنسان، وأفكار شاهين علمتنا أن نحب الحياة، وأن ننتبه إلي القيم الإنسانية من خلال حسه اللامتناهي، علمنا كيف ندافع عن حرية الرأي، والحرية الشخصية بأبسط طبقاتها.

عملي مع يوسف شاهين اقتصر لفترة صغيرة علي فيلمين «المهاجر».. و«المصير» كانت كافية بأن أتعلم أكثر عن الرقص.. نعم الرقص! تعلمت منه ما هي قيمة الجملة الموسيقية من منظور ثان.. يوسف أحب الرقص منذ صغره، ويوماً قال لي: «لو لم أكن مخرجاً لرقصت طول عمري»، وقلت في قلبي: «لو لم أكن راقصاً لتمنيت أن أكون يوسف شاهين». علمني كم هي رائعة لذة الأذن الموسيقية، لم أصدق عيني وأذني عندما حضرت يوماً تسجيل أغنية «علّي صوتك بالغنا» مع محمد منير، وطريقة شرحه لإخراج الشعور والروح والنفس.

اعتقدت أن موريس بيجار هو مثلي.. إنما جاء من أدهشني بابتسامة وتفكير، لم يتدخل في عملي وتصميمي إنما رأيت كيف عدسته غيرت كل شيء، فاندهشت وتعلمت خطوة جديدة في المسرح الراقص.

سألوني الأمس: ماذا أضاف لك يوسف شاهين؟ قلت: الدقة، التأني، التفكير، الصبر، الإعادة، ثم الإعادة للوصول إلي الكمال.. كنت أراقبه أكثر مما أعمل معه، كنت أحبه أكثر عندما لا يتكلم، لأنه قال كل شيء! وأكرهه عندما يتكلم باللغة الفرنسية! سألت يوماً نجيب محفوظ في آخر زيارة لي إلي بيته قبل رحيله بأسابيع: ما هو الرقص بالنسبة لك في عصرنا هذا؟ بما قاله جلال الدين الرومي: «أرقص الكون يرقص»، فأجابني: «دا زمن ودا زمن». فأردت أن أسأل هذا السؤال إلي شاهين، ولم تأت الفرصة، باعتقادي أن العباقرة لا يموتون يوماً.

إنما اليوم قد أتي كما أتي علي موريس بيجار ونجيب محفوظ، ويوسف شاهين، هؤلاء الثلاثة فكروا وعملوا لآخر لحظات حياتهم لإسعادنا، وكأنهم أيضاً يريدون أن يأخذوا عالمهم معهم ويتركونا لنتعلم وحدنا عما هي الإنسانية، وخصوصاً ما هو التسامح وما هي المعرفة.. وليس فقط أن «نعلّي صوتنا بالغنا لسه الأغاني ممكنة».

إنما «علّي صوتك» بالحب.. بالحرية.. بالتسامح.. «علّي صوتك» بالأمل بالفرح وحب الحياة.

samirmfarid@hotmail.com

المصري اليوم في 2 أغسطس 2008

 
 

شاهيـن‏..‏ الشخصية النارية

كتب ـ أحمد سعد الدين

خلال مائة عام كاملة هي عمر السينما المصرية لم يحظ مخرج أو ممثل أو حتي مؤلف بحب وشعبية يوسف شاهين الذي تخطت شهرته حدود الوطن بل أصبح أحد العناوين المهمة لمصر في المحافل الدولية وعلي مدار ثمانية وخمسين عاما منذ بدايته وحتي وفاته هذا الأسبوع‏00‏ تعرض لانكسارات وانتصارات عديدة لم يستسلم لها بل قاوم وانتصر وأخرج جيلا جديدا من المخرجين الذين تتلمذوا علي يديه‏,‏ وبات شاهين صاحب مدرسة متميزة إخراجيا وإنتاجيا‏.‏

في البدايه قالت النجمة نادية لطفي شاهين هو جزء من تكوين المجتمع المصري الذي يتصرف بفكره ووجدانه لدرجة أن أي شخص يقابله يشعر بأن هناك قرابة نفسية تربطه بيوسف شاهين فهو يواكب المجتمع في مراحل تطوره وتغير أحداثه دائما قلبه ينبض بالحب برغم أنه صاحب شخصية نارية متفجرة يثور من أجل ما بداخله فإن لم يستطع أن يثور علي أحد يمكن يثور علي نفسه‏,‏ وهذه أهم صفات الفنان الذي يريد أن تكون له رؤية خاصة به ويستمد قوته مما يدور حوله‏,‏ علي المستوي الشخصي قابلته وأنا في بداية مشواري الفني وتعرفت به عن طريق زوج أخته جون خوري وكانت البدايه في فيلم‏'‏ حب إلي الأبد‏'‏ مع أحمد رمزي والمليجي ثم بعدها اختارني في دور‏'‏ لويزا‏'‏ في فيلم الناصر صلاح الدين الذي اعتبره علامة مضيئة في تاريخ السينما المصرية‏,‏ ثم تقابلنا في فيلم آخر بعنوان‏'‏ غدا تبدأ الحياة‏'‏ لموسي صبري ويحكي عن قصة إنشاء السد العالي‏,‏ لكن للأسف بعد شهرين من التصوير سافر شاهين للخارج ولم يكتمل الفيلم‏,‏ لكن لا أنكر أنه صاحب فضل كبير لأنه يمتلك موهبة الإخراج واكتشاف المواهب بجانب أنه أستاذ ومعلم يستطيع أن يشرح للممثل الذي يقف أمامه ما يريد أن يفعله بسهولة ويخرج منه الشخصية والانفعال اللازمين للمشهد بدون تكبر أو استعراض للعضلات‏,‏ حتي إنه يحبب الفنان في المناخ العام للمادة التي يحكيها ويعمل علي تثقيفه قبل أن يدخل الفيلم‏,‏ حتي تكون هناك لغة حوار مشتركة وقد تعلمت منه الوقوف علي مفاتيح الشخصية التي أجسدها‏,‏ أما بعيدا عن الفن فهو إنسان طيب بدرجة غريبة يحب أن تكون جلساته بها روح الدعابة‏,‏ يطلق النكات ويتكلم مثل أولاد البلد لذلك أعتبر وفاته خسارة كبيرة لنا وللعالم العربي الذي فقد واحدا من أهم أبنائه برغم أنه سيظل حيا بأعماله‏.‏

سابق لعصره

أما الفنانة هند رستم فقالت‏:‏ تعاملت مع‏'‏ جو‏'‏ في أكثر من فيلم وفي كل مرة أجد لديه أفكارا أكثر تطورا عن ذي قبل فهو دائما يسبق عصره بمراحل ويحمل هموم أبناء وطنه‏,‏ خصوصا الطبقة المتوسطة والفقراء‏,‏ وله لغة سينمائية خاصة به‏,‏ فعندما صورنا فيلم باب الحديد كان كل مشهد منه يحكي عن شيء موجود في المجتمع المصري ويعتبر أول فيلم يناقش قضية أطفال الشوارع المنتشرة الآن ومشاكل العمال البسطاء المهمشين لدرجة أنه بعد عرض الفيلم أصدرت الحكومة قرارا بتشكيل نقابة للعمال‏,‏ وقد شعرت بقيمة شاهين في الخارج عندما سافرت معه إلي سويسرا لحضور مهرجان لوكارنوا وعرض الفيلم في أحد الميادين العامة علي شاشة عرضها‏35‏ مترا بحضور‏7000‏ متفرج ظلوا يرددون اسمه بعد انتهاء الفيلم‏,‏ وبرحيله فقدت مصر واحدا من أهم علامات السينما منذ أن بدأت وحتي الآن‏.‏

فيلليني العرب

وقال المخرج اللبناني أسد فولد كار‏:‏ لا أعتبر يوسف شاهين مخرجا مصريا‏,‏ إنما مصري لبناني عربي فهو حالة خاصة في كل شيء‏,‏ حيث كنت أتخذه مثلا أعلي وهو من حببني في السينما وجعلني أتخذ الإخراج مجالي الأساسي عن طريق أفلامه التي كنت أحرص علي قراءة النقد الموجه لها قبل أن أشاهدها في محاولة لفهم محتواها وما ترمي له والرسالة التي تحملها‏,‏ لذلك أنا واحد من عشاقه حتي قبل أن التقي به وهو مخرج كبير له أسلوب خاص ومدرسة شاهينية في الإخراج لدرجة أن شعبية شاهين في أوروبا تفوق شعبيته الكبيرة في العالم العربي‏,‏ وأذكر أنني عندما كنت في أمريكا أدرس الإخراج وفاز شاهين بجائزة مهرجان كان قررت عمل فيلم تسجيلي عنه وما إن شاهدت اللجنة أعمال شاهين الكاملة حتي وجدتهم يصرخون أن هذا المخرج هو فيلليني العرب كيف لم تعرض أعماله في أمريكا حتي يستمتع بها الجمهور‏,‏ وقتها أحسست بالفخر أن المخرجين الأمريكين يعترفون بأن لدينا مخرجا عربيا يستحق الاحترام‏.‏ وأعتقد أن العالم العربي فقد واحدا من أعز أبنائه المخلصين ومن أهم المفارقات في حياته أنه المخرج الوحيد الذي أصبحت نجوميته أعلي من ممثلي أفلامه‏.‏

وأكدت يسرا التي بدأت علاقتها مع شاهين في فيلم‏''‏ حدوتة مصرية‏',‏ أنه حين أرسل إليها السيناريو وقرأته‏11‏ مرة لم تفهم منه شيئا فاعتذرت‏,‏ ففاجأها شاهين مقتحما غرفتها عند خالتها ليسألها عن سبب اعتذارها‏,‏ وعندما أخبرته أنها لم تفهم السيناريو‏,‏ أسند إليها دورا آخر في الفيلم‏,‏ ونصحها بألا تعتذر عن أي عمل يطلبها فيه‏.‏

قالت يسرا إنها لم تصدق أنه سقط مغشيا عليه إلا عندما توجهت إلي المستشفي‏,‏ وعندما رأته تأثرت وبكت بشدة‏,‏ لأنه علي حد قولها أسطورة لن تتكرر في السينما العربية والعالمية‏,‏ ولن توفيه حقه في هذا المجال‏.‏

ويسرا عملت مع شاهين في خمسة أفلام‏,‏ أولها‏'‏ حدوتة مصرية‏'‏ عام‏1982‏ مرورا بـ‏'‏المهاجر‏',‏ وانتهاء بـ‏'‏إسكندرية نيويورك‏'‏وأشادت بطريقته الأبوية مع العاملين معه من فنانين ومساعدين‏,‏ والتي تدل علي حرصه الدائم علي بث العلاقات العائلية بين العاملين معه وخلق أجواء الأسرة الواحدة داخل العمل‏.‏

أما حنان ترك فتقول سميت ابني الكبير يوسف اعتزازا بالرجل الذي وقف بجانبي علي المستوي الفني والإنساني وتعبيرا عن حبي الكبير له‏,‏ فهو أول من قدمني في فيلم‏'‏ المهاجر‏'.‏

وأضافت حنان صداقتي به تعمقت منذ وفاة والدي‏,‏ ولن أنسي أبدا وقوفه بجواري في هذه الفترة‏.‏ ولن أنسي عندما ذهبت إليه في مكتبه بعد علمي بأني حامل للمرة الأولي لأعتذر عن دوري في فيلم‏'‏ المصير‏',‏ أبدي وقتها اهتماما شديدا بصحتي وقال لي‏:'‏ فيلم مع يوسف شاهين ممكن يتعوض بعد سنة ولا اثنين‏,‏ أما الابن فلا يمكن تعويضه‏',‏ وجاء فعلا التعويض عام‏1999‏ في فيلم‏'‏ الآخر‏'‏ وقدمت فيه دورا من أكثر الأدوار المحببة لدي‏,‏ والأقرب إلي قلبي مع شاهين‏.‏

ويقول المخرج داود عبد السيد‏,‏ شاهين سيظل‏'‏ حدوتة مصرية‏'‏ ولغزا من ألغاز السينما العالمية‏,‏ وأحد أهم المخرجين‏,‏ موضحا أن السينما فقدت أستاذها الذي نختلف معه في أمور كثيرة ولكنه دائما يبقي الأستاذ‏.‏ ويشير داود إلي أن شاهين كان أستاذا في الإخراج والإنتاج أيضا‏,‏ حيث إنه المخرج الوحيد الذي استطاع أن يحافظ علي علاقته بشركات الإنتاج في أوروبا‏.‏

المقرب لقلب شاهين وتلميذه النجيب خالد يوسف قال معترفا بالجميل‏'‏ لم تكن لدي أية أحلام أو طموحات أن أصبح سينمائيا إلي أن قابلت الأستاذ أثناء دراستي بكلية الهندسة‏,‏ حيث استمرت العلاقة بيننا‏,‏ علاقة مخرج كبير بطالب مهتم بالسينما‏,‏ والجميع يعرفون أنه صاحب الفضل الأول والأخير علي‏,‏ وعلي الكثير من المخرجين‏,‏ وشاهين بالنسبة لي‏,‏ شخصية مقاتلة لا يكل ولا يمل‏,‏ ولا يستسلم ولا يرفع الراية البيضاء أبدا‏,‏ رغم تعرضه لصدمات قوية في بداية حياته‏,‏ ويكفي أن أفلامه التي باتت من كلاسيكيات السينما المصرية حاليا‏,‏ تعرضت للقصف بالحجارة عندما قدمها في البداية‏,‏ ورغم ذلك لم يتوقف أبدا عن العمل‏.‏

محمد خان أكد أيضا أن شاهين كنز لا يعوض ورحيله أفقد السينما المصرية أحد أعمدتها‏,‏ وقال عزاؤنا أنه باق بأعماله التي نشأ وتربي عليها أجيال كاملة وعن نفسي أشعر بفداحة الخسارة‏,‏ لأن شاهين حالة نادرة بين مخرجي السينما العربية ويكفي أنه لآخر لحظة في حياته لم يفكر سوي في فنه‏.‏

أما المخرج علي بدر خان فقال‏'‏ شاهين عاش أستاذا طوال عمره الفني‏,‏ وعلمنا الكثير وجعلنا نتذوق طعم الفن الحقيقي الأصيل‏'.‏

ويحكي سيف عبد الرحمن عن علاقته بجو فيقول قابلت شاهين من‏44‏ عاما عندما كان يحضر لفيلم‏'‏ فجر يوم جديد‏',‏ وكان يجري اختبارات للوجوه الجديدة ولم يكن راضيا عنهم‏,‏ وكنت أحد الراقصين في إحدي الفرق الشعبية‏,‏ ودعاني بعد العرض للعشاء وعرض علي الدور الذي كان رائعا واستمرت علاقتي به‏,‏ وحدثت بيننا كيميا خاصة جعلتني أرتبط به بشدة حتي الآن‏.‏

لا أصدق أنه مات

بصوت أشبه للنحيب ووحروف ثقيلة علي لسانه تحدث المخرج الشاب أمير رمسيس وقال حتي الآن لا أصدق أن شاهين مات برغم علمي الكامل بتفاصيل مرضه فإنني لم أفقد الأمل في أنه سوف يتغلب علي المرض‏,‏ وكنت أتحدث مع يسري نصرالله وقلت له أكيد الأستاذ يوسف سوف يعود من باريس ماشيا علي قدميه ويدخل فيلمه الجديد حتي يعوض الفترة الماضية لأننا تعلمنا منه كيفية التمسك بالحياة لآخر نفس‏,‏ كان يقول أفضل لي أن أموت وأنا أعمل خيرا ألف مرة من أن أموت وأنا جالس في البيت مثل‏'‏ الخرشوفة‏'‏ هذا الرجل الذي قابلته لأول مره في حياتي وأنا في الصف الأول الثانوي عندما جمعت أموالا من زملائي لأشتري له بوكيه ورد بمناسبة كسبه لقضية فيلم المهاجر بعدها اتصل بي عماد البهات وقال هل تريد أن تعمل مساعدا لشاهين؟ لم يكمل حديثه حتي كنت واقفا أمامه في الشركة‏,‏ يومها قال هذا هو أمير الذي تتحدثون عنه لماذا أنت نحيف هكذا‏,‏ واحتضنني كأب يتعامل برفق مع أولاده لم يبخل يوما بالنصيحة بل كان يدفعنا للأمام ويعتبر نجاحنا هو نجاح له وهذه هي عظمة الأستاذ الذي يحب تلاميذه‏.‏

وتعود نبيلة عبيد بالذاكرة إلي الوراء قليلا حيث اللحظات الجميلة التي سبقت حصولها علي دور‏'‏ مارجريت‏'‏ في فيلم‏'‏ الآخر‏'‏ والتي كانت تلتقي فيها شاهين في أي مناسبة فيدور بينها وبينه الحوار الهامس الصاخب الذي ينتهي دائما إلي النهاية‏.‏

وتقول بصوت ملئ بالحزن تصور أنني من فرط حبي له وعشقي لأعماله هددته بالقتل إذا لم أعمل معه‏,‏ وفي أحد الأيام وصلتني مكالمة من مكتب يوسف شاهين يطلب حضوري بشكل عاجل‏,‏ حينها قفز قلبي من الفرحة فهذه المكالمة تحمل لي خيرا انتظرته طويلا‏,‏ وذهبت إلي المكتب يسبقني الفضول وبعض الخوف وقليل من التردد‏,‏ التقيت‏'‏ جو‏'‏ الذي قدم لي من دون مقدمات سيناريو فيلم‏'‏ الآخر‏'‏ وقال لي ادخلي مكتبي وأمامك ساعتان تقرئين فيهما السيناريو وبعد ذلك أسمع رأيك‏,‏ وأنا أقرأ كان بداخلي‏'‏ بوصلة‏'‏ تؤكد أنني أمام عمل عبقري‏,‏ وكان أكثر ما جذبني في سيناريو‏'‏ الآخر‏'‏ الشخصية التي سأجسدها‏,‏ والتي رشحني لها شاهين‏,‏ إنها شخصية جديدة علي تماما مختلفة عن كل أدواري بعيدة عن كل الأنماط التي سبق وقدمتها‏,‏ شخصية لها أكثر من وجه وأكثر من انفعال‏,‏ وأكثر من تركيبة نفسية تغري أي فنانة بالوقوع في غرامها من أول سطر‏.‏

وتسترسل نبيلة قائلة‏:‏ لابد لأي نجم كان يعمل مع‏'‏ جو‏'‏ من أن يخضع لأسلوبه وأن يدخل في نسيج مؤسسته‏,‏ وأن يترك نفسه تماما لهذه المؤسسة لتعيد تشكيل ملامحه الفنية‏,‏ ثم إنه لا يدع كبيرة أو صغيرة إلا ويناقشها ويفسرها ويحللها حتي تكتمل رؤية العمل لديه‏,‏ فهو يوفر للنجم كل ما يريده ويحتاج إليه وكل ما يبحث عنه‏,‏ وبالتالي فالنجم معه يشعر بأنه بين أيد أمينة تقدمه بأرقي أسلوب وأجمل صورة وأحلي حالة تمثيلية‏,‏ لهذا كنت أقف أمامه كالتلميذة المطيعة وسعيدة بهذه الطاعة‏,‏ لأنه لا يعطيك فرصة لمناقشته في أي تفصيلات حيث يجهزك تماما للشخصية التي ستجسدها‏,‏ أذكر أن أول شئ فعله عندما بدأنا التصوير أنه قال لنا‏'‏ ما يهمنيش الفيلم الخام وليس هناك أي مانع من أن يعيد الممثل أكثر من مرة المشهد الذي يؤديه ولكن لابد من أن يحفظ كل واحد منكم الفيلم كله عن ظهر قلب‏.‏

أما الفنان الكبير كمال الشناوي الذي تعاون مع الراحل في أول أفلامه فيقول‏:‏ أهم ما يميز الراحل كمخرج اختراقه للعالم بلغة سينمائية بديعة ومتفردة لها خصوصيتها ورموزها وعالمها الساحر الذي يحمل في كل كادر من كادراته توفيقا وبصمة‏,‏ وأهم ما يميزه كإنسان خفة ظله غير العادية‏'‏ وقفشاته اللاذعة‏',‏ وبرحيله خسرت السينما أهم مخرج جاء في تاريخها السينمائي‏.‏

‏..‏ كنت أعشقه وتمنيت أن أكون بطلة كل أفلامه‏,‏ وكرهت الفنانة العالمية داليدا عندما قامت ببطولة فيلمه‏'‏ اليوم السادس‏',‏ هكذا اعترفت لي الفنانة محسنة توفيق التي قامت ببطولة أكثر من فيلم للمخرج الراحل لعل أهمها فيلم‏'‏ العصفور‏'‏ التي جسدت فيه شخصية‏'‏ بهية‏'‏ التي ترمز لمصر‏,‏ وتابعت الفنانة الكبيرة‏:‏ حلمت كثيرا بالعمل مع‏'‏ جو‏'‏ الذي كان يقول لي دائما‏'‏ أنت من المجانين القليلين في الفن في العالم‏',‏ وتمنيت أن أكون بطلة أفلامه خصوصا الاجتماعية والواقعية‏,‏ وندمت كثيرا عندما ضاع مني فيلم‏'‏ اليوم السادس‏'‏ الذي عرضه علي وحدث نوع من سوء الفهم جعل شاهين يعتقد أنني لا أريد تقديمه ويفكر في ممثلة أخري‏,‏ لكنني تمنيت أن أجسد هذه الشخصية لأنها أكثر شخصية سينمائية قربا من شخصيتي الحقيقية‏,‏ لها نفس الملامح النفسية والوجدانية‏,‏ أهم ما كان يميزه أنه يحب أن يكون الممثل الذي يقف أمام كاميرته حقيقيا يعيش اللحظة بحقيقة وصدق وحساسية وعمق‏,‏ وهذا أكثر ما أحببته في العمل معه‏*‏

الأهرام العربي في 2 أغسطس 2008

 
 

سينما يوسف شاهين‏..‏ لن تموت

رحيل المشاكس

علا الشافعي

رحل يوسف شاهين أو الأستاذ تاركا رصيدا سينمائيا شديد الثراء والتنوع ما بين أفلام كوميدية ـ غنائية‏,‏ واجتماعية وسياسية‏,‏ رحل الأستاذ‏82‏ عاما بعد أكثر من‏50‏ عاما قضاها يحلم بالمشروعات السينمائية ويعكف علي تنفيذها‏,‏ قضي عمره بين الاستوديوهات وغرف المونتاج والمهرجانات‏,‏ ولم لا وهو عبقري السينما العربية كما وصفه الكثير من النقاد‏,‏ شاهين الذي أثار الجدل بأفلامه ولم تتوقف معاركه مع السياسيين والنقاد العرب وبرغم ذلك كان هناك إجماع علي عشقه وحبه‏,‏ وحتي قبل رحيله ظلت علاقته بأغلب النقاد العرب علاقة مركبة فيها الكثير من الإشكالات فبعضهم استمر في التصفيق له‏,‏ انطلاقا من الإعجاب به أو تقديسه لمخرج نجح في اقتحام المهرجانات والأسواق الأوروبية حسبما قال الناقد السوري قصي صالح درويش‏,‏ والبعض الآخر وجد صعوبة في الدخول إلي عالمه ولم يهتم سوي بأفلامه الواقعية مثل باب الحديد والأرض والعصفور وبرغم الخلافات فإن الجميع اتفق علي تميز شاهين وخصوصيته كمخرج صاغ تاريخ أمة سينمائيا‏.‏

رحل الفنان المناضل الذي سجل تاريخ مصر في أعماله السينمائية وارتقي إلي مصاف العالمية‏,‏ وحظي بلقب عميد السينما العربية‏.‏

شاهين امتلك الجرأة لكسر الكثير من التابوهات‏,‏ ويكفي أن روحه وطباعه تجلت بوضوح في أعماله‏,‏ فهو من المخرجين القلائل أصحاب البصمة السينمائية المميزة وتستطيع أن تعرفه من لقطة سينمائية‏,‏ لذلك فإنه يعد بحق مدرسة سينمائية لها خصويتها‏,‏ وسيظل مخرجا مصريا عشق تراب هذا الوطن وليس مجرد صائد للجوائز في المهرجانات والمحافل الدولية‏,‏ وإنما حدوتة مصرية‏,‏ عشق الشارع وامتلك نبضه‏,‏ حتي إنه كان يفكر في آخر مشروع له يحمل اسم الشارع لمين‏.‏

شاهين كان أيضا مخرجا بدرجة مناضل‏,‏ حيث شارك في كثير من التظاهرات الاحتجاجية حتي في عز أزماته الصحية‏,‏ لذلك فهو مخرج مناضل ومشاكس منذ فيلمه الأول بابا أمين وحتي فيلمه الأخير هي فوضي لو ألقينا نظرة سريعة علي إنتاجه سنجد أنفسنا أمام رصيد لتاريخ مصر بأحداثه وأزماته وثوراته‏,‏ وعلي سبيل المثال حمل فيلمه بابا أمين عام‏1950‏ جرأة درامية ورؤية تأملية فلسفية في الحياة والموت‏,‏ أما فيلمه صراع في الوادي الذي أنتج وعرض عام‏1954‏ فقد حلل مجتمع الإقطاع والطبقة المسيطرة قبل ثورة يوليو‏1952,‏ ولأول مرة يتم إعدام شخص بريء في السينما العربية‏,‏ ووقتها رصد النقاد أن ما كان مقصودا بعيدا عن مستوي السرد السينمائي لأحداث القصة هو براءة فلسطين من مؤامرت الاستعمار العربي‏,‏ والتأكيد علي أن التحالف الإقطاعي الرأسمالي لن يحل القضية‏,‏ ولن يحسم الصراع العربي ـ الصهيوني‏,‏ وإنما الفلاحون والعمال وصغار المنتجين هم أصحاب المصلحة في تحرير الوطن‏.‏

وأوضح الناقد السينمائي عصام زكريا أنه حتي أفلام يوسف شاهين التي حملت سيرته الذاتية إسكندرية ليه عام‏1979,‏ وحدوتة مصرية عام‏1982,‏ وإسكندرية كمان وكمان‏1990‏ وإسكندرية ـ نيويورك عام‏2004,‏ كلها تناولت حياة يوسف شاهين ولكن من خلال رصد تاريخ مصر أيضا‏,‏ ولم يتوقف شاهين عن النبش في كل القضايا المصيرية في حياتنا حتي آخر أفلامه هي فوضي والذي انتقد فيه السلطة المطلقة لأنها مفسدة‏,‏ مؤكدا أن الأزمة لا تنجم عن فساد حاكم فرد‏,‏ بل عن فساد أصغر في كل المستويات والطبقات والمراحل‏.‏

شاهين المناضل

وقد يكون وعي شاهين المبكر بالقضايا الوطنية‏,‏ وانتماؤه لمدينة مثل الإسكندرية متعددة الثقافات والجنسيات هو ما حمل بذور‏,‏ اختلافه‏,‏ إضافة إلي ملامحه الشخصية المتمردة ورغبته ودأبه في أن يعرف الكثير ويفسر ويحلل كل ما يدور من حوله‏,‏ وإذا كان في بداية عمله السينمائي لم يكن يعنيه الوعي الاجتماعي أو السياسي كثيرا‏,‏ إلا أن تضامنه مع الفلاح المصري وضح في فيلم ابن النيل عام‏1952,‏ حيث سافر بنفسه إلي إحدي قري الصعيد‏,‏ وهناك صور الفيضان وهو يجتاح قري بأكملها‏,‏ وخلط التسجيلي بالدرامي ليؤرخ لتاريخ مصر‏,‏ وإذا كان عمر شاهين الفني يزيد علي‏50‏ عاما فهو دائما ما يؤكد وعيه الاجتماعي وانحيازه لطبقة الفلاحين ومباديء ثورة يوليو التي كانت متعلقة بالعدالة الاجتماعية‏,‏ ويكفي أن شاهين سافر متطوعا إلي احتفال جمع الرئيس جمال عبد الناصر والزعيم السوفيتي الراحل خورتشوف وهما يضغطان علي زر تفجير الجبل الجرانيتي في أسوان إيذانا بتحويل مجري النيل عام‏1964,‏ حيث سمح له الزعيم عبد الناصر بالتصوير الحي‏,‏ وحين جاء موعد الضغط علي الزر‏,‏ فوجيء حرس الرئيس بشاهين يقتحمهم ليصل إلي أذن الرئيس ويهمس لو سمحت لا تضغط علي الزر إلا بعد أن أقول لك أوكي‏,‏ فابتسم عبد الناصر موافقا‏,‏ وكان شاهين من أوائل الذين شاركوا في المظاهرات بعد نكسة يونيو مطالبا عبد الناصر بعدم التنحي‏,‏ وحتي اللحظات الأخيرة في حياته كان شاهين يؤكد عشقه لعبد الناصر ومباديء الثورة وحلم العروبة إلا أنه كان في الوقت نفسه ضد الديكتاتورية‏,‏ ولم يتردد في المشاركة في اعتصام نقابة السينمائيين عام‏1988‏ للوقوف ضد قوانين مقيدة للسينما والسينمائيين‏,‏ وهذا الاعتصام رصده بالكامل وبشخوصه الحقيقيين في فيلمه إسكندرية كمان وكمان وتضامن شاهين مع الشعب العراقي بعد الغزو الأمريكي‏,‏ وسافر ضمن الوفود الشعبية‏,‏ وذهب إلي لبنان والجزائر وأيضا وقف مع أهالي جزيرة الذهب‏,‏ وأخيرا في تظاهرات حركة كفاية‏,‏ لذلك فهو حقا مخرج بدرجة مناضل‏*‏

الأهرام العربي في 2 أغسطس 2008

 

 ماريان خوري‏:‏

فيلمي عن يوسف شاهين ملئ بالأسرار

كتب ـ أحمد السماحي 

أفلام كثيرة قدمها المخرج يوسف شاهين لكن أفلاما قليلة تكاد تعد علي أصابع اليد الواحدة هي التي قدمت عن الفنان والإنسان يوسف شاهين‏,‏ من هذه الأفلام الفيلم التسجيلي الذي انتهت من تصويره منذ فترة قليلة ماريان خوري ابنة أخت المخرج الراحل والذي سيعرض قريبا‏,‏ عن ظروف إخراجها لهذا الفيلم تقول ماريان‏:‏ علاقتي بخالي المخرج يوسف شاهين علاقة خاصة جدا‏,‏ ورغم أن والدي المنتج جان خوري نصحني بالابتعاد عنه إلا أن القدر قربني منه جدا عندما سكنت في نفس العمارة التي كان يسكن فيها‏,‏ وتوطدت علاقتي معه‏,‏ فهو بالنسبة لي ليس مجرد خال هو أب وأستاذ وصديق‏,‏ لهذا كانت لدي رغبة قوية في أن أقدم فيلما تسجيليا عنه لأن ما كنت أشعر به تجاهه يختلف عن إحساس أي شخص آخر‏,‏ وبالفعل قمت بالتسجيل معه وصورته في أكثر من عشر ساعات‏,‏ وأهداني الخطابات التي كان يرسلها له والده أثناء دراسته في أمريكا المليئة بالأسرار‏,‏ فضلا عن أنني أخذت حقيبة صور جدتي المليئة بالصور العائلية‏.‏

وعن وجود أكثر من فيلم تسجيلي عن المخرج الراحل قالت‏:‏ رحلة يوسف شاهين ثرية جدا وطويلة جدا‏,‏ فعلي مدي أكثر من خمسين عاما استطاع أن يحفر اسمه بالنور في سجل السينما المصرية والعربية وقدم كل أنواع الأفلام‏,‏ لهذا يمكن أن يقدم عنه مائة فيلم وستجد كل فيلم مختلفا تماما عن الآخر‏,‏ لأن لكل مخرج رؤيته الخاصة وثقافته‏.‏

الأهرام العربي في 2 أغسطس 2008

 
 

ولع فرنسي بالعبقري

كتبت ـ ريم عزمي

لم يبالغ الكاتب الفرنسي الذي ينحدر من أصل مصري‏-‏سوري‏,‏ روبير سوليه عندما كتب بحثه الشهير تحت عنوان‏'‏مصر ولع فرنسي‏',‏فكل ما هو له علاقة بمصر يتمتع بسحر خاص يؤثر في العالم بشكل عام وفي الفرنسيين بشكل خاص‏,‏ ويكفي أن يرتبط اسم مصر بأي شخص حتي يمنحه ثقلا كبيرا وأهمية بالغة‏.‏فقدر مصر هو ارتباطها بالعظمة‏,‏ وحتي عندما تتعرض لكبوات فلديها القدرة دوما علي تخطي أزماتها كما أنها تستلهم من ماضيها روائع ثقافية تثري به تاريخ البشرية‏,‏ وتجربتها المتراكمة عبر العصور تجعل منها رمزا للحضارة الإنسانية بكل قيمها الغالية ومبادئها السامية‏.‏لذا فعندما يرحل يوسف شاهين‏,‏ يعني ذلك أن هناك مبدعا مصريا قد ترك فراغا في القلوب المتلعقة بمصر‏,‏ وذلك ليدخل ضمن تأثيرات مصر علي محبيها‏.‏

قبل أسبوعين كتبت صحيفة ليبراسيون الفرنسية المهتمة بأخبار مصر‏,‏تنعي الروائي المصري ألبير قصيري‏,‏ في مقال كتبته الصحفية ماريون فان رتنرجيم‏,‏ وكان أقرب للغزل منه للرثاء‏,‏ فهذا الكاتب قدم سبع روايات فقط من الحجم الصغير طوال حياته ورحل في باريس عن عمر يناهز‏94‏ عاما‏,‏ ونعرف رائعة أعماله‏'‏ نبلاء وشحاذون‏'‏الذي قدمته المخرجة أسماء البكري عام‏1991,‏ وتحدثت الصحفية عن فلسفته في الحياة‏,‏ فقد عرف عنه ميله للكسل‏,‏ وحسب التعبير الفرنسي‏'‏ فقد ابتكر بسعادة أسلوبا للعيش الكريم بأقل مجهود‏'.‏ولاشك أن عبقرية قصيري ضمنت له النجاح دون أن يبذل كل طاقته‏.‏

وفور رحيل المخرج المصري العالمي يوسف شاهين عن عمر يناهز‏82‏ عاما‏,‏ نشرت أيضا ليبراسيون علي موقعها علي شبكة الإنترنت‏.‏السيرة الذاتية له‏,‏ وردود الأفعال في فرنسا‏,‏ ورثاء الرئيس الفرنسي نيكولا ساكوزي له‏,‏ واصفا إياه بأنه‏:'‏واحد من أشهر الذين خدموا الفن السابع‏.‏وقد ارتبط بشدة ببلده مصر وانفتح في نفس الوقت علي العالم‏,‏ وهو مخرج ملتزم‏,‏ ومدافع متحمس عن حرية التعبير‏,‏ وبشكل أكبر عن حرية الفرد والجماعة‏,‏ وقضي شاهين حياته من خلال صورته‏,‏ في التصدي للرقابة والتطرف والتعصب‏'!!‏كذلك رثاه جيل جاكوب رئيس مهرجان كان‏,‏ ووزيرة الثقافة الفرنسية كريسيتن ألبانيل وعمدة باريس برتران ديلانويه‏.‏وتناقلت وسائل الإعلام العالمية وعلي رأسها الفرنسية خبر وفاته بشكل موسع‏,‏مثل قناة‏'‏ فرنسا‏24'‏ الفضائية و‏'‏موقع‏'‏ ياهوو‏'‏ الفرنسي علي شبكة الإنترنت‏.‏

التشجيع الفرنسي

وليس غريبا أن يتعلق الفرنسيون بشاهين‏,‏ فقد أظهر ميلا للثقافة الفرنسية رغم أن أساس تعليمه إنجليزي‏,‏ فأعجب بالسينما الفرنسية أثناء نشأته في الإسكندرية‏,‏ ثم تزوج من الفرنسية كوليت‏.‏التي شاركته مشوار حياته لكنهما لم ينجبا‏.‏

واستضافه مهرجان‏'‏ كان‏'‏ السينمائي الدولي ليشارك لأول مرة بفيلمه‏'‏ابن النيل‏'‏إنتاج‏1951,‏ الذي رشح للجائزة الكبري‏,‏ ورشح أيضا لنفس الجائزة فيما بعد عن أفلامه‏'‏صراع في الوادي‏'‏عام‏1954,‏ و‏'‏الأرض‏'‏عام‏1969,‏ و‏'‏الوداع يا بونابرت‏'‏عام‏1985,‏ و‏'‏المصير‏'‏عام‏1997,‏ و بعد هذا المشوار الفني الطويل‏,‏ كرمه المهرجان في نفس العام بمناسبة عيده الخمسين عن مجمل أعماله‏,‏ والطريف أنه عندما حاول نفس المهرجان تكريم النجم و المخرج الأمريكي الكبير كلينت إيستوود عن مجمل أعماله مناصفة مع النجمة الفرنسية كاترين دينيف في دورته الحادية والستين في عامنا هذا‏,‏رفض وانسحب من المهرجان‏,‏ معتبرها إهانة له‏,‏ خصوصا أن فيلمه‏'‏تحدي‏'‏المرشح للجائزة الكبري لم يفز‏!!‏و في عام‏1999‏ فاز شاهين بجائزة فرانسوا شاليه في مهرجان كان وهي آخر مشاركة له فيه‏.‏وفاز في مهرجان أميان السينمائي الدولي بجائزة‏'‏ أوه‏.‏سيه‏.‏إيه‏.‏سيه‏'‏عام‏1997‏ عن فيلم المصير أيضا‏.‏

كما قدم شاهين فيلمين يتعلقان بالتاريخ الفرنسي‏,‏الأول‏'‏جميلة‏'‏الذي يتناول السيرة الذاتية للمناضلة الجزائرية جميلة بو حريد ضد الاحتلال الفرنسي بطولة النجمة الكبيرة ماجدة إنتاج‏'1958',‏ثم‏'‏الوداع يا بونابرت‏'‏عن الحملة الفرنسية علي مصر إنتاج‏1985‏ بطولة النجوم المصري محسن محيي الدين والفرنسيين ميشيل بيكولي و باتريس شيرو‏.‏

واستمرارا للإعجاب الفرنسي بشاهين‏,‏ نجد من خلال منتدي‏'‏ ديه‏.‏ديه‏.‏شامبو‏'‏الذي أنشأته مجموعة من الفرنسيين والبلجيكيين والسويسريين في حب مصر‏,‏ والذين يعتبرون أنفسهم مصريين دون أن يحملوا الجنسية المصرية‏.‏

بعد إعلان خبر وفاته مباشرة حيث توالت المناقشات حول الحزن علي فقدانه وأشهر أعماله‏,‏مع التركيز علي فيلم‏'‏الوداع يا بونابرت‏'‏ الذي مازال عالقا في الذاكرة الفرانكوفونية‏.‏

الإبهار الأمريكي

نال شاهين الفرصة لتذوق السينما الأمريكية صاحبة النصيب الأكبر من هذه العالم‏,‏ من خلال دراسته في جامعة باسادينا للسينما وهو في الحادية والعشرين من عمره‏,‏ و تعاونه في فيلم روائي عن أحداث‏11‏ سبتمبر الأليمة‏.‏ يحمل عنوان‏'11'09''01(11‏ سبتمبر‏)‏ من إنتاج‏2001‏ الذي شارك في إخراجه‏11‏ مخرجا عالميا هم عاموس جيتاي من إسرائيل‏,‏ وكلود ليلوش من فرنسا‏,‏وشوهاي إيمامورا من اليابان‏,‏و أليخاندر وجونزايليس إيناريتو من المكسيك‏,‏وشون بن من الولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ وكين لوتش من إنجلترا‏,‏وسميرة مخملباف من إيران‏,‏ وميرا ناير من الهند‏,‏و إدريسا أودراوجو من بوركينا فاسو‏,‏ وودانيس تانوفيتش من البوسنة و الهرسك‏.‏و هي مجموعة مرتبطة بمهرجان كان‏.‏وتذكرنا تجربة شاهين الهولوودية أو نفاذه لهذا العالم السحري بتجربة المخرج السوري الراحل الكبير مصطفي العقاد كمبدع عربي نجح في غزو هوليوود و ترك بصمة مميزة من خلال أعماله سواء الترفيهية مثل سلسلة الرعب‏'‏هلووين‏'‏أو رائعتي أعماله‏'‏الرسالة‏'‏و‏'‏عمر المختار‏:‏أسد الصحراء‏'.‏و رشح فيلم‏11'09''01-‏ لنيل جائزة سي زار الفرنسية في عام‏2003*‏ 

فيلموجرافيا

الاسم‏:‏ يوسف جبريل شاهين تاريخ الميلاد‏25‏ يناير‏1926‏ نشأ في مدينة الإسكندرية لأسرة من الطبقة المتوسطة لأب محام لبناني الأصل وأم يونانية‏.‏

حصل علي الشهادة الثانوية من مدرسة فيكتوريا كوليدج سافر بعدها إلي الولايات المتحدة التي أمضي بها سنتين في دار باسادينا المسرحي‏'‏ باسادينا بلاي هاوس‏'‏ لدراسة صناعة الأفلام والفنون الدرامية‏.‏بعد عودته لمصر ساعده المصور السينمائي الإيطالي ألفيز أورفانيللي علي دخول عالم السينما‏,‏ ليقدم أول افلامه بعنوان‏'‏ بابا أمين‏'‏ عام‏.1950‏

جوائز وتكريمات

شارك لأول مرة بفيلمه‏'‏ ابن النيل‏'1951‏ في مهرجان‏'‏ كانوفي‏1970‏ حصل علي الجائزة الذهبية من مهرجان قرطاج عن فيلم‏'‏ الأرض‏'‏

حصل علي جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين عن فيلمه‏'‏ إسكندرية ليه؟‏1978,‏ كماحصل علي جائزة اليوبيل الذهبي من مهرجان كان في عيده الـ‏50‏ عن فيلمه المصير‏'1997'‏ ومجمل أعماله
حصل علي الدكتوراه الفخريه من جامعة‏
vllparis‏ ‏1999,‏ واختير فيلمه الآخر لافتتاح قسم‏'‏ نظرة ما‏'‏ بمهرجان كان عام‏.1999‏ وفي عام‏2002‏ حصل علي الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة‏,‏ وحصل أيضا علي الدكتوراه الفخرية من جامعة مارسيليا‏.‏ ومنح مرتبة ضابط في لجنة الشرف من قبل فرنسا في‏2006,‏ كماشارك فيلمه الأخير هي فوضي بالمسابقة الرسمية لمهرجان فينسيا عام‏2007‏

الأهرام العربي في 2 أغسطس 2008

 
 

رغم معارضته لاتفاقية كامب ديفيد

الإسرائيليون يرثون جو ويعتبرونه أعظم مخرجي العالم

كتب ـ معتز أحمد

اهتمت وسائل الإعلام الإسرائيلية بمختلف توجهاتها أو أشكالها سواء المسموعة أم المقروءة أو حتي المرئية بوفاة‏'‏جو‏'‏ وهو الاسم الذي يطلقه الإسرائيليون علي المخرج المصري العالمي يوسف شاهين‏,‏ وهو الاهتمام الذي بات يخرج من نطاق التغطية الإخبارية التقليدية إلي ما يشبه حالة الرثاء والحزن اللذين سيطرا علي المحللين الإخباريين والفنيين في تل أبيب‏.‏

ومن أبرز هذه التحليلات ما كتبه المحلل والخبير الفني في صحيفة معاريف مائير شنيتسر الذي قال إن السينما العربية بل والعالمية خسرت واحدا من أعظم المخرجين‏,‏ مشيرا إلي أهمية جو الفنية والتي تعدت كونه مخرجا إلي مؤرخ سينمائي يرصد بعدسته الإخراجية الحالة المصرية والأوضاع في القاهرة سواء علي الصعيد السياسي أم الاجتماعي أم الفكري‏.‏

وأشار شنيتسر إلي أن أفلام جو تعكس الواقع المصري بل وتقدم تفصيلا ورصدا لما يحدث في مصر‏,‏ سواء من خلال فترة ما بعد الثورة التي شهدت تألق جو وحتي الآن‏.‏

ويرصد المحلل قصة ما أسماه بـ‏'‏الصراع‏'‏ بين جو والرئيس عبد الناصر شخصيا حيث رفضت السلطات في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عرض أفلام جو بسبب تضمنها العديد من المشاهد والأحدث التي تنتقد نظام الحكم في مصر‏,‏ ومع هذا فإن شنيتسر يري أن هذا الحظر علي عرض أفلام جو في مصر انتهي مع وفاة الرئيس الراحل وسماح الرئيس الراحل أنور السادات بعرض أفلامه بصورة عادية بلا رقابة أو تهديد‏.‏

ومن أعظم الأفلام التي رصدها شنيتسر في تقريره والتي رأي أنها من أهم الأفلام لـ‏'‏جو‏'‏ والتي تعكس الحالة المصرية فيلم باب الحديد الذي أخرجه عام‏1958,‏ والذي ألقي الضوء علي ما يحدث من صراعات في واحد من أهم المواقع المصرية التي يستخدمها المواطنون للسفر وهي محطة مصر‏,‏ وكذلك الناصر صلاح الدين عام‏1963‏ الذي يدعم الهوية العربية للقدس‏,‏ والأرض عام‏1969‏ الذي يصور تمسك الفلاح المصري بأرضه‏.‏

وعلي الرغم من اعتراف شنيتسر بأن جو كان من أشد المعارضين لاتفاقية السلام مع إسرائيل‏,‏ بالإضافة إلي مطالبته الدائمة برد الحقوق المغتصبة من الفلسطينيين فإنه يعترف بدوره بأن هذا لا يقلل من الاحترام لجو الذي كان ومازال من أعظم المخرجين في العالم وستبقي أعماله الفنية بارزة للعيان وتعكس التطورات التاريخية في واحدة من أهم الدول في المنطقة وهي مصر‏.‏

بدورها أشارت إذاعة صوت إسرائيل إلي عظمة جو وهي العظمة التي تجلت أيضا في العديد من المواقف السياسية التي اتخذها علي الساحة المصرية والتي كان من أهمها دعمه للمصريين البسطاء ممن كادت أراضيهم أن تسلب منهم في مواجهات مع الجهات المسئولة بالإضافة إلي بروز رؤيته السياسية والفكرية مع انتقاده الصريح للحكومة المصرية في العديد من المواقف أو السياسات التي تنتهجها أو تتخذها‏,‏ حيث لم يخش من شيء وبات يقول هذا علانية غير خائف من أن يعرضه هذا لمشكلة أو أزمة مع أي جهة مسئولة أو سيادية في القاهرة‏.‏

البارز أن هذه النقطة اهتم بها بعض من الصحف الإسرائيلية باللغة العربية مثل صحيفة الصنارة التي أشارت وعبر موقعها علي الانترنت إلي أن جو عبر عن هذا الانتقاد ولو بصورة غير مباشرة في آخر الأعمال الفنية المصرية الجادة التي انتقدت الحكومة والتي كان أبرزها فيلم‏'‏هي فوضي‏'‏ الذي أخرجه وتلميذه خالد يوسف وهو ما مثل أهمية كبيرة في عرض المشاكل التي يتعرض لها المجتمع المصري بسبب سلطة الأمن‏.‏

اللافت للنظر أن الإعجاب بجو لم يتوقف عند المخرجين أو المحللين الفنيين الإسرائيليين بل تعداه إلي المخرجين الآخرين في الساحة الإسرائيلية مثل سيجاليت بناي التي تدأب علي الحضور إلي القاهرة بصورة دورية من أجل متابعة العروض الفنية بها والتي تقول إن لـ‏'‏جو‏'‏ سحرا خاصا‏,‏ حيث دأبت علي التفوق علي نفسه في عرض الحدوتة المصرية تماما كما هي‏,‏ كما تعكس أعماله الواقع الذي تعيشه مصر علي العديد من الأصعدة سواء السياسية أم الاجتماعية أم الفكرية المختلفة‏.‏
اللافت للنظر أن العديد من الطلبة والمخرجين في المعاهد السينمائية الإسرائيلية المختلفة باتوا يعتمدون علي‏'‏جو‏'‏في الرسائل العلمية التي يعدونها والخاصة بهم‏,‏ حيث إن هناك عددا كبيرا من هؤلاء الطلبة أعد أطروحته لنيل الدكتوراه أو الماجستير عن طريق أعمال جو ورصد ما بها من تطور‏,‏ حتي إن عددا من هؤلاء الطلبة والدارسين يحرصون علي الحضور للقاهرة من جهة أو أي دولة أخري في العالم تقوم بعرض الأعمال الفنية الخاصة ب‏'‏جو‏'‏في أوروبا أيضا‏.‏

ومن هنا أجبر جو الإسرائيليين حتي عند موته علي احترامه‏,‏ وعلي الرغم من انتقاداته الحادة لهم ورفضه الصريح لاتفاقية السلام بين القاهرة وتل أبيب بسبب استمرار اغتصاب الإسرائيليين للحقوق الفلسطينية إلا أن هذا الرفض والانتقاد لم يمنع أشد‏,‏ الإسرائيليين تطرفا وعنصرية من الاشادة به‏*‏

الأهرام العربي في 2 أغسطس 2008

 
 

يوسف شاهين‏..‏ وعائلة أعظمهم باشا‏!‏

صلاح عيسي

كالعاشق الذي يعود‏-‏ عند رحيل حبيبه‏-‏ إلي ذكريات الماضي‏,‏ تدافعت إلي ذهني‏,‏ وأنا أتابع نعش يوسف شاهين‏,‏ وهو يغادر دنيانا إلي غير عودة‏,‏ مشاهد من أفلامه مختلطة بانفعالاتي حين رأيتها أول مرة‏,‏ فضحكت وبكيت وغضبت‏,‏ وفي كل الأحوال كنت أفكر‏.‏

وبطريقة الفوتو مونتاج تتالت بسرعة خاطفة‏,‏ مشاهد لم تغادر الذاكرة من أفلامه‏,‏ التي رأيت معظمها عشرات المرات‏,‏ صبيا وشابا وشيخا‏,‏ علي مقعد خشبي في إحدي دور سينما الدرجة الثالثة‏,‏ أو في حالة عرض مكيفة الهواء‏,‏ أو في عرض خاص يزدحم بنجوم السينما والصحافة والسياسة‏,‏ فاجتذبتني عن كل ما حولي‏:‏

مشهد النهاية من فيلم الأرض حين يرفض محمد أبوسويلم الاستجابة لأمر مأمور مركز الشرطة‏,‏ بأن يغادر أرضه‏,‏ فيضربه من فوق حصانه بكعب البندقية‏,‏ ويأمر بربطه من أقدامه بحبل ليسحله الحصان علي أرضه التي أبي أن يغادرها‏,‏ ليموت فوقها‏,‏ وتختلط دماؤه بترابها‏,‏ بينما يتصاعد صوت الكورس وهو ينشد أرضا العطشانة‏..‏ نرويها بدمانا‏.‏

مشهد النهاية من فيلم باب الحديد‏,‏ حيث يستجيب قناوي‏,‏ الشاب الأعرج الوحيد الذي لا يعرف له أحد أصلا أو فصلا المحروم بسبب عاهته من كل متعة‏-‏ لإغراء صاحب كشك توزيع الصحف الذي حن عليه وتبناه وألحقه بالعمل معه‏-‏ بأن يرفع عنق الفتاة التي عشقها ورفضت حبه‏,‏ مع وعد منه بأن يزوجها له‏,‏ وفي ذروة الحلم يجد نفسه مقيدا إلي قميص المجانين‏,‏ فيزوم كالحيوان الجريح‏,‏ احتجاجا علي قسوة الدنيا وبلادة البشر‏.‏

الدويتو الغنائي الساخر في فيلم انت حبيبي الذي تتبادل فيه شادية وفريد الأطرش ابنا العم اللذان أكرههما أبواهما علي الزواج تنفيذا لوصية الجد وإلا حرما من الميراث‏,‏ مع أن كلا منهما يحب آخر عبارة وحياة حبي وحبك‏..‏ مابنامش الليل من حبك‏,‏ ليوهما أفراد الأسرة الذين كانوا يتلصصون عليهما من وراء ستار‏,‏ بأنهما في حالة وجد عاطفي شديدة‏,‏ فينفجر التناقض بين كلمات الأغنية وبين ملامح الحبيبين التي تفح بالكراهية‏,‏ الضحكات من قلبي‏.‏

وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلتني أفتتن بسينما يوسف شاهين‏,‏ الذي كان يملك تلك الموهبة الفذة‏,‏ وذلك الحرص البالغ علي الاتقان‏,‏ الذي مكنه دائما من أن يقدم أفلاما تنتمي إلي نفس الأنواع التي كانت ولاتزال شائعة في السينما التجارية‏,‏ بشكل يبدو مختلفا وراقيا‏,‏ وسواء كان الفيلم تراجيديا أم ميلودراميا أم كوميديا أم استعراضيا‏,‏ أم أحد أفلام الحركة‏,‏ أم مزيجا من هذا كله‏,‏ فسوف تشعر بأن يوسف شاهين قادر علي أن يضيف لمسته الخاصة‏,‏ حتي لو كانت القصة والسيناريو والحوار‏,‏ من تأليف أبوالسعود الإبياري‏,‏ كما هي الحال في قصة فيلم أنت حبيبي أو كانت كقصة هذا الفيلم ذاته من النوع الذي قدمته السينما المصرية في عشرات الأفلام‏!‏

ومن بين الأفلام التي أخرجها يوسف شاهين‏,‏ فيلمان علي الأقل‏,‏ لم يتنبه النقاد الذين أرخوا لمسيرته الفنية إلي أهميتهما‏,‏ مع أنهما في تقديري من أهم ما قدمه‏,‏ والمشترك الأولي بين الفيلمين هو أنهما عرضا في عام واحد‏,‏ هو عام‏1960,‏ إذ عرض أولهما وهو بين إيديك في يناير من ذلك العام‏,‏ بينما عرض الثاني وهو نداء العشاق الذي قامت ببطولته برلنتي عبدالحميد وشكري سرحان في أكتوبر من العام نفسه‏,‏ والمشترك الثاني بينهما‏,‏ هو السيناريست وجيه نجيب‏,‏ الذي انفرد بكتابة قصة وسيناريو وحوار الفيلم الأول‏,‏ واشترك مع عبدالحي أديب وعبدالرحمن الشرقاوي في كتابة نداء العشاق‏.‏

وكما ضاع هذان الفيلمان من ذاكرة مؤرخي ونقاد يوسف شاهين‏,‏ فقد ضاع كذلك اسم كاتبهما وجيه نجيب‏,‏ الذي لا أعرف أين اختفي‏,‏ ولم أجد له مسيرة ذاتية في أية موسوعة من موسوعات السينما‏,‏ مع أنه سيناريست متميز ومجدد‏,‏ كتب خلال الفترة بين الأعوام‏1958‏ و‏1984‏ أحد عشر فيلما‏,‏ بينها خمسة أخرجها يوسف شاهين‏,‏ شملت‏-‏ غير هذين الفيلمين‏-‏ كتابة أو الاشتراك في كتابة سيناريو وحوار جميلة‏1958,‏ وحب إلي الأبد‏1959,‏ ورجل في حياتي‏1961,‏ ومن الأفلام المتميزة التي كتبها لغيره‏,‏ أفلام اللهب الذي قامت ببطلوته سميرة أحمد أمام شكري سرحان عام‏1964‏ وأخرجه عبدالرحمن شريف‏,‏ والعمر لحظة الذي أخرجه محمد راضي عام‏1978,‏ والبرنس وقد قام ببطولته محمد صبحي‏,‏ وأخرجه فاضل صالح عام‏.1984‏

بين إيديك كوميديا سينمائية متميزة‏,‏ وتكاد تكون نسيجا وحدها في تاريخ الكوميديا السينمائية‏,‏ فهي لا تعتمد علي النكت اللفظية‏,‏ ولا علي الحركة المبالغ فيها‏,‏ ولا حتي علي كوميديا الموقف‏,‏ وقد لا يقهته المشاهد‏-‏ علي امتداد زمن عرض الفيلم‏-‏ علي جملة حوار أو حتي يضحك بصوت خافت‏,‏ لكن سيظل طوال العرض يبتسم ساخرا مما يراه‏.‏

وأحداث الفيلم تدور في فيلا المرحوم سافو أعظمهم باشا التي تقطنها أسرته‏,‏ وتضم أرملته برلنتي هانم‏,‏ علوية جميل‏,‏ وابنتيها العانسين وابنها العاطل‏,‏ وحفيدين‏:‏ فتاة عانس كعماتها‏..‏ وشاب عاطل كعمه‏.‏ والأسرة كلها تعيش عالة علي نفقة المعلم مدبولي أبوعضمة‏,‏ عبدالفتاح القصري‏,‏ الذي خصص لها مائة جنيه شهريا مقابل أن ترعي ابنة شقيقه المتوفي آمال أبوعضمة‏,‏ التي تزوج والدها من إحدي بنات أعظمهم باشا‏,‏ فقاطعتها الأسرة‏,‏ لزواجها من رجل ينتمي إلي أسرة من الجزارين‏,‏ ثم ما لبثت بعد أن رحل الباشا الكبير‏,‏ واستغرقت الديون تركته‏,‏ أن اضطرت للجوء إلي الجزائر المليونير‏,‏ الذي أنفت من مصاهرته‏,‏ لكي ينفق علي ابنة شقيقه‏,‏ فيخصص لها نفقة تكفي الجميع‏,‏ إكراما لها‏.‏

ومع أن برلنتي هانم تشكل مجلسا لإدارة الأسرة‏,‏ يجتمع بناء علي طلبها‏,‏ ويدون محاضر لجلساته‏,‏ إلا أنه يدار بطريقة ديكتاتورية محضة‏,‏ فليس من حق أحد أن يناقش أرملة أعظمهم باشا في مشروع أي قرار تريد استصداره من المجلس بهدف الحفاظ علي كرامة‏-‏ أو بمعني أدق عنجهية أسرة أعظمهم باشا‏-‏ التي تفاجأ مفاجأة مذهلة‏,‏ حين ينذرها المعلم مدبولي أبوعضمة بأن يقطع النفقة عنها إذا لم تجد زوجا لابنة أخيه آمال ماجدة خلال‏48‏ ساعة قبل سفره في مهمة عمل‏.‏

ويرسب جميع الشبان المنتمين إلي بقايا الأسرة الأرستقراطية ذات الصلة التاريخية بعائلة أعظمهم باشا‏,‏ في كشف الهيئة الذي يعقده لهم المعلم أبوعضمة‏,‏ فهم‏-‏ كما يقول‏-‏ عاطلون بالوراثة‏,‏ يحتقرون العمل‏,‏ ويأنفون منه‏,‏ ويعيشون علي عرق الآخرين‏,‏ ويتفاخرون بماض لم يحققوا شيئا من أمجاده‏,‏ إلي أن تتنبه آمال إلي أن صاحب ورشة النجارة التي تطل عليها غرفة نومها معجب بها‏,‏ فتقوده إلي عمها‏,‏ الذي يعجب به‏,‏ لعصاميته واحترامه للعمل اليدوي‏,‏ فيوافق علي زواجه منها‏,‏ وتوافق أسرة أعظمهم باشا مضطرة علي أن يتزوج الأسطي رجب المتجوز‏-‏ وهذا هو اسمه‏-‏ من آمال أبوعضمة‏,‏ التي استردت اسم عائلتها‏,‏ وسارت علي درب أمها‏,‏ فتزوجت نجارا‏,‏ كما تزوجت أمها جزارا‏.‏

وتدور أحداث الفيلم بعد ذلك حول الصراع بين أسرة أعظمهم باشا التي لا تكف عن التحايل لتحويل زواج آمال إلي زواج صوري مع إيقاف التنفيذ‏,‏ وبين المعلم مدبولي الذي يعود من سفره فيكتشف أن رجب المتجوز شكري سرحان لايزال أعزب‏,‏ وأن آل أعظمهم ضحكوا عليه‏,‏ وأدخلوه مدرسة داخلية ليتعلم الإتيكيت‏,‏ بينما برلنتي هانم تخطط لتزويج آمال‏-‏ التي كانت عواطفها تتجه إلي رجب‏-‏ من شاب أرستقراطي‏,‏ تكتشف الهانم في النهاية أنه يحترف النصب علي الأسر الأرستقراطية المفلسة‏,‏ فتضطر للرضوخ‏,‏ وتقبل بالزواج‏,‏ ويلتحق كل أفراد الأسرة للعمل في أحد محلات الجزارة التي يمتلكها المعلم مدبولي‏.‏

والفيلم يصور بشكل ساخر وكاريكاتوري وأقرب إلي الفانتازيا الصراع بين الأرستقراطية الإقطاعية التي قضت عليها ثورة يوليو‏,‏ وبين الرأسمالية الصاعدة التي أزالت الثورة سدود الهرم الطبقي التي كانت تحول بينها وبين ارتقائه إلي القمة وينحاز إلي العمل اليدوي كقيمة تؤهل صاحبها للصعود بين طبقاته ولاكتساب المكانة الاجتماعية‏.‏

وهي رؤية ثاقبة‏,‏ للرجل الذي أسهم في تخليق السينما كما ينبغي أن تكون‏:‏ متعة للحواس وتحريكا للعقل‏.‏

الأهرام العربي في 2 أغسطس 2008

 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)