كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

فقدت قطعة حية من الإسكندرية

برحيل يوسف شاهين

عادل درويش

عن رحيل

يوسف شاهين

   
 
 
 
 
 

كان المعلمون الانجليز في كلية فيكتوريا بالاسكندرية، يلهبون ظهور مخيلتنا في مطلع الخمسينات، بسياط صنعت من اسماء عالمية سبقونا بالجلوس على مقاعد الدراسة نفسها، ليوجهوا طموحنا لقدوتهم، كالملك حسين بن طلال، ونجم جديد اسمه عمر الشريف صورته في الصحف مع فاتن حمامة، اكتشفه سكندري فيكتوري آخر هو يوسف شاهين.

الصور "لصراع في الوادي" 1954 سادس اعمال شاهين، احداثه في معبد الكرنك حيث تآمرت الظلال وأشعة الشمس والكاميرا لتنحت وجه الشريف بجانب وجوه من اخترعوا التاريخ.

كان شاهين طليعة مخرجي الواقعية الاجتماعية في السينما المصرية، رابع اكبر صناعة سينما في العالم وقتها، وأداة ريادة الثقافة المصرية في الشرق منذ عصر نهضة مصر الاخير في العشرينات باقتصاد طلعت حرب باشا وتنوير استاذ الجيل احمد لطفي السيد باشا، ودستور سعد زغلول باشا.

خلال مشوار من 50 فيلما قدم شاهين المواهب الشابة من الجنسين قبل نجوم الشباك وفرخ العشرات من تلاميذه مخرجين ومصورين وممثلين على مدى 55 عاما مر فيها بثلاث مراحل.

مرحلة الواقعية الاجتماعية تناولت صراع الفرد كبطل تراجيدي من اجل العدالة ضد قوى القهر والتسلط، وعاد لابرازها بقوة في ملحمته "الارض" 1969.

وكمايسترو وزع انغام اوركسترا "الارض" من عمالقة الثقافة المصرية. قصة عبد الرحمن الشرقاوي، تحولت بريشة الفنان حسن فؤاد الى سيناريو، بينما اصطحب شاهين نجوى ابراهيم قارئة نشرة اخبار الشاشة الصغيرة الى طاقة انوثة تتفجر على الشاشة الفضية، بجانب عمالقة كعبد الرحمن الخميسي، ويحيى شاهين وتوفيق الدقن ومحمود المليجي الفلاح المقاوم للظلم.

يموت المليجي متشبثا بجذور ارض روتها دمائه ومياه النيل، مربوطا بحصان قائد عسكر هجانة غير مصريين جاءوا لاخضاع القرية، فيسقطه من فوق جواده لحظة خروج روحه، في تعبير بصري عن انتصار روح المصري، بالمفهوم الفرعوني للخلود، على فرسان الغزاة.

كان شاهين لايزال في الثامنة من عمره السينمائي عندما شارك عملاق آخر هو المرحوم السيناريست عبد الحي اديب في "باب الحديد" 1958 ليخرجه شاهين ويلعب بطولته امام هند رستم، وعرفت بمارلين مونرو مصر، لقدرتها التمثيلية على التعبير عن ادق مشاعر الانوثة، بجاذبية وجمال دون ابتذال.

كان الفيلم اوج مرحلة شاهين الأولى عن صراع الفرد ضد قوى الظلم والفساد، مع الحبكات الفرعية عن المشاعر الانسانية والحب الذي يتجاوز حدود الثقافات والاعراق.

كره الشموليون المتاجرون باسم الدين اعماله لجرأتها في مزج اعراق وثقافات تكون منها "موزايك" مصر، واستخدامه التاريخ لكشف الفساد والظلم.

تحايلوا على القضاء لمنع فيلمه "المهاجر" عام 1994 بحجة انه مقتبس عن قصة يوسف من القرآن.

رد شاهين بعد ثلاث سنوات بفيلم "المصير" عن الدور التنويري للفليسوف الاندلسي ابن رشد الذي منع مظلمي العقل كتبه، وجاء حوار الفيلم باللغة المصرية العامية لينبه الى محاولة الاظلاميين المعصرين مصادرة الثقافة.

فيلمه الاخير "هي فوضى"، الذي منعه المرض من اتمامه فاكمله تلميذه خالد يوسف، كان صرخة احتجاجه الاخيرة ضد الظلم والتسلط، في شخصية رجل بوليس فاسد اتلف الفن والثقافة واغتصب الجمال.

شهدت مرحلته الثانية، فترة علاقة الحب ـ الكراهية بين فناني مصر ودولة الكولونيل عبد الناصر البوليسية بعد تأميم الاستديوهات وشركات الانتاج والتوزيع ودور العرض. وظف شاهين احداث التاريخ لاستكشاف الواقع المعاصر في غفلة من الرقيب الذي زرعه النظام الستاليني في الثقافة والفنون ليفرخ جيلا مبرمجا برقابة ذاتية اسمها الالتزام بقضايا الوطن. المفارقة ان الفردية للفنان مثل الشعر في راس شمشون، فايمان شاهين بفرديته التي بلغت حد النرجسية، كانت ضرورية لموهبته التي اضافت لتراث مصر.

هروب شاهين من الالتزام الاشتراكي الى بيروت لاحظه عبد الناصر فسأل لماذا يعمل "الفنان المجنون ده خارج مصر؟ قولوا له يرجع".

تضمن فيلمه "الناصر صلاح الدين" 1963 الذي وفر له الجيش كتيبتي مشاه وفرسان لتصويره مغالطات تاريخية، واجبروه على اضافة "الناصر" لاسم القائد الكردي صلاح الدين الايوبي.

لكن شاهين اضاف لمساته بابراز تمرد الفرد على المتوقع منه، فقدم مسيحي يحارب تحت راية المسلم صلاح الدين وقصة عاشقين من دينين مختلفين.

عبور الفرد ثقافة اجتماعية الى اخرى والحب المختلط الاعراق والعقائد كان لونا مفضلا في لوحاته السينمائية وبدى اكثر وضوحا في مرحلته الثالثة ـ الذاتية جدا، بابراز الاحتكاكات الانسانية بين الافراد وتبادل الثقافات في احداث الصراعات والحروب كما في "وداعا بونابرت" 1985.

فشاهين ولد في الاسكندرية عام 1926 عندما كان الزواج المختلط الاديان والثقافات القاعدة وليس الاستثناء؛ ابوه من اسرة لبنانية مارونية وامه يونانية كاثوليكية.

لا يمكن فهم شخصية شاهين المعقدة في عبقريتها دون دراسة ثلاثية سيرته الذاتية "اسكندرية ليه" 1978 اثناء الحرب الثانية بشخصيات كالملازم انور السادات وكفاحه السري، وشاب مصري يختطف جنود الانجليز حتى منعه الحب والتعاطف الانساني عن قتل احدهم وهو في قبضته.

و"حدوته مصرية" 1982 عن تمزق الفنان بين الابداع المطلق والتنازلات العملية. و"اسكندرية كمان وكمان" 1990 حيث ترقص الكاميرا بين الماضي والحاضر وبين الفانتازيا والواقع وسخرية المصري من الطغاة والغزاة.

كلما التقيت يوسف عبر السنين ضحكنا من القلب وتبادلنا ذكريات زمن جميل مضى، عن اسكندرية الصبا. كاد يقنعني اكثر من مرة بهجرة بريطانيا للامساك بخيط تركته في الاسكندرية مراهقا؛ بقوله ان ذكريات الاسكندرية بئر ينهل منها اكسير فنه؛ اسكندريتنا لها قدرة فائقة لمقاومة ثقافة التجهيل الغازية بتمييزها الديني وكراهيتها للآخر.

الذكريات تتحول الى طعنات في القلب عند كل زيارة، فوجه اسكندرية الجميل المبتسم في حزن وداع 1959 حفر فيه الزمن الرديء تجاعيد القبح.

اسكندرية يوسف شاهين.. اسكندرية بيرم التونسي والشيخ سيد درويش، اسكندريتي اصبحت كقارة اطلانطس المفقودة في قاع البحر.

في كل جنازة لصديق سكندري، تدفن قطعة من اسكندريتنا معه.

اودعك صديقي يوسف شاهين وصورتك في مخيلتي تلميذ في مظاهرة مثلما قدمتها في شخصية المراهق يحيى في "اسكندرية ليه".

اودعك وتراتيل جنازتك في قلبي كلمات بيرم والحان الشيخ سيد بعثت حية في اغنية "يا اسكندرية بحرك عجايب" لاحمد فؤاد نجم والحان فنان الشعب المرحوم الشيخ امام عيسى.

تراتيل هي الوصية الاخيرة قبل خروج روح ابن يموت لتحلق فوق زرقة البحر لتلحق بروح الدته المرحومة اسكندريتنا.

"ياريتني كلمة في عقل بيرم...."

"ياريتني غنوة في قلب سيد....."

"ياريتني جوه المظاهرة طالب، هتف باسمك وبات معيّد..."

وتصبح على خير يا أمير السينما المصرية الجميل.

الشرق الأوسط في 2 أغسطس 2008

 
 

يوسف شاهين العملاق الذي لم يغادر

محمدعزالدين امام

لم يحظ فنان مصري بجدل، مثلما حظي به المبدع يوسف شاهين، كان لا ينتمي فقط الي جيل العباقرة، ولكنه ايضا ابن من ابناء الشعب، لم ينفصل يوما عنه، ولم يعش في برج عاجي، كعادة الطفرات البشرية..

في رايي ان في داخل المخرج جو، ممثل متمرد، ولكنه اصر علي حبسه، كنوع من انواع التجرد وحب الناس اكثر من حبه لنفسه، ففضل ان يصنع المجد للآخرين، علي ان يصنعه لنفسه ..

كان هو صانع نجوم، فعمر الشريف لم يكن لينطلق الي العالمية ولا ليتبوأ تلك المكانة في السينما العربية، لولا تبني جو له، فلنتوقف عند مشهد ثورة عمر علي ابنة عمه فاتن في درة من درر السينما المصرية "صراع في الميناء" وحشرجة صوته ورفعه ليده ليضربها قبل ان تهرب منه اليه لترتمي في احضانه، هذا المشهد الذي يسمي بلغة السينما "ماستر سين" يحصل علي الاوسكار بلا منازع، لولا تدخل السياسة لحرمان مصر عبدالناصر من اي جائزة دولية .. وهو ما يتم الان مع السينما الايرانية ايضا رغم تميزها ..

جمعه لعمالقة مثل رشدي اباظه ومارلين مونرو والفاتنة هند رستم، وبالطبع ابنه السينمائي - حينئذ - عمر الشريف، في فيلم صراع في النيل، وتلك الرحلة الممتعة التي لا نمل من رؤيتها عشرات المرات لنستمتع بتلك الروح المصرية الاصيلة وهي تحكي لنا عن اروع واجمل ما كان فيكي يا مصر ..

لا يهمل يوسف اي تفصيل، وكل فرد مهما صغر حجم دوره هو بطل في موقعه، حتي الحمار الصغير، كان يتحرك كما يريد جو.. اما الاغنية فكانت من الاغاني التي لا تنسي ابدا مع رقص هند مع ركاكته ( لم تكن تحسن الرقص ابدا ) ..

قبل ان يموت الحلم العربي مع موت الزعيم ناصر، كان فيلم الارض، لينقل لنا رؤية مستقبلية عن عودة الاقطاع والاستعمار، وقد ابدع فيه الجميع، حتي ارضنا العطشانة من يومها والي اليوم، عطشي لرجل مثل جمال في زمن عز فيه الرجال ..

يليه اول فيلم ينفصل فيه يوسف عن الطرح التقليدي، ليحلق في سماء كنسر مصري يراقب ويرصد ثم ينقض علي مواقع الخلل في المجتمــــع المصري فكان "الاختيار" كان واخر تعــامل بينه وبين النجــــــــم عزت العلايلي، ورغم ان العلايلي قدم اروع ادواره علي الاطـلاق، الا انه اختار التمرد علي جـــــو، لاسباب بررها بانها دينـــية، بمعني انه يشير إلي ان جو ملحد وان تدين عزت يمنعـــــه من الترويج لافكار يوســـف شاهين، ولكن الفيلم الفضيحة الذي مثله عزت مع ناهد شريف في الكويت بعنوان "ذئاب لا تاكل اللحم" ينفي ذلك السبب تماما، وفي ظني ان عزت لم يترك شاهين، بل شاهين هو الذي لم يقتـــنع به، فعــــــزت رغم تمكنه من الاداء، الا انه تقليدي، واعتقــد ان هذا هو حال سعاد ايضا، انها اختارت الاستمرار في التقليدية، علي الخضوع لشرنقة يوسف شاهين.

فشاهين يلف ممثليه في شرنقة من خيط الحرير، ليخرجوا منها كفراشات تحلق ..

لم يضعف شاهين ابدا ولم يتنازل امام التغير الذي كان يصيب المحروسة، فلا جري وراء موضة سينمائية ولا هادن سلطة، كان لاذع في نقده لكل شيء، محتميا فقط في جمهوره ..

شاهين هو المخرج العربي الوحيد الذي يدخل له الناس افلامه بسبب اسمه هو لا اسماء ابطال الفيلم، وهو هنا مثل اوليفر ستون، فديريكو فلليني.

كان جو المخرج الوحيد الذي يهمش الادوار النســـائية، فدور الرجل هو المحوري دائما، ولم يعتمد علي ابهار الجسد الانثوي ابدا، رغم وجود ايقونات انثوية خالدة من هدي سلطان الي هند رستم مرورا بسعاد حسني وانتهاء بمنّة شلبي في افلامه.

لا نقول وداعا يا جو

فانت تعيش معنا بما قدمته من افلام خالدة للفن السابع.

* باحث في العلوم الانسانية

القدس العربي في 2 أغسطس 2008

 
 

نور الشريف: هددت شاهين بالقتل فعلاً عام 82 !

حسام عبدالهادى

حدوتة مصرية.. إذا كان هو الوصف المعتمد لشاهين فى السينما المصرية فإن نور الشريف هو الحدوتة الأهم فى سينما يوسف شاهين، ليس فقط لأنه أهم أبطاله على الإطلاق بل لأن نور قبل وبعد شاهين هو نور كما أنه ليس من «دراويشه»، وفى الوقت نفسه تحصن من اللعنة الشائعة والجميلة التى غالبا ما تصيب أبطاله.

فى كواليس فيلم «حدوتة مصرية» حواديت من نوع تانى مدهشة ننفرد بنشرها فى حوارنا مع النجم الكبير نور الشريف.. فوقت أن رشح شاهين نور الشريف لبطولة «حدوتة مصرية» كان مرتبطا بتصوير المسلسل الشهير «أديب»، ولشاهين قاعدة لا تقبل استثناء وهى تفرغ أبطاله لفيلمه ولا أحد غيره، يكشف نور تفاصيل أكثر بقوله:

- عندما هدد شاهين باستبعادى وترشيح بديل لى لبطولة الفيلم عدت للمنزل، لم أكن أتصور أحدا غيرى وأن يكون هناك بديلا لحلم عمرى الذى سيتحقق فى فيلم «حدوتة مصرية» فأمسكت بسماعة الهاتف واتصلت بشاهين وقلت له: أنا عندى رخصة سلاح وامتلك ثلاثة مسدسات، ولن أتردد لحظة واحدة بقتلك بأى مسدس منها لو سحبت منى الدور، ثم أغلقت الهاتف، شاهين وقتها أصيب بالرعب والفزع، خاصة أن نبرة صوتى كانت حادة وجادة، لكن فى صباح اليوم التالى اصطحب معه سيف عبدالرحمن وتوجها إلى استوديو مصر حيث كنت أصور المسلسل، لاحظ ملامح الغضب والغيظ وفى نفس الوقت مشاعر الرغبة فى الحفاظ على هذا المكسب الرائع بالتعامل معه لأول مرة والحرص على عدم الحرمان من هذه الفرصة، ابتسم لى وعلى طريقة حسين رياض - أو المايسترو جاديللو وعبد الحليم حافظ «عبدالمنعم دى صبرى» فى فيلم «شارع الحب» إنت اللى هاتغنى يامنعم - قال شاهين لى بالحرف الواحد: إنت اللى هاتعمل الدور يانور، ووعدنى بعدها بمحاولة تضبيط الأوضاع والوقت بين العملين، لكن شاهين لم يبدأ تصوير «حدوتة مصرية» إلا بعد ستة أشهر بسبب حدوث خلافات بينه وبين شريكه فى السيناريو يوسف إدريس.

ويسترجع نور الشريف قصة اللقاء الأول بينهما على الشاشة بقوله: عندما رشحنى شاهين لفيلم «حدوتة مصرية» وعرفت أن د.يوسف إدريس سيشاركه كتابة السيناريو وجدت أنه من حسن حظى كفنان أن أعيش وسط اثنين مجانين و عباقرة بجد لمدة ستة أشهر هى مدة تحضير السيناريو الذى كنا نلتقى أسبوعيا فى بيت شاهين لتنفيذ الفكرة العبقرية التى ابتكرها، وهى فتح الكاسيت والتحدث عن حياته بكل جرأة وحرية عن أدق التفاصيل، وكذلك إدريس وكانت الجلسة تمتد من 4-5 ساعات فى كل مرة، ثم يأخذ مساعده فى ذلك الوقت علاء كريم - رحمة الله عليه - شريط الكاسيت ويفرغه ليبدأ شاهين صياغة هذا الكلام فى صورة سيناريو وتحويله إلى مشاهد، وكنت أساهم أنا أيضا فى الاعترافات الخاصة بما يتاح لى من تفاصيل شخصية وإن كانت قليلة بالنسبة لما قاله شاهين وإدريس.

وعقب انتهاء شاهين من كتابة السيناريو سلم نسخة منه إلى إدريس لقراءته لكنه فزع عندما ذكر على لسانه من اعترافات شخصية جدا واكتشف أنه تورط فطلب من شاهين حذف كل المشاهد المتعلقة به، وإلا سيقوم بإقامة دعوى قضائية ضده، وتسلل الخلاف وقتها إلى صفحات الجرائد، كان شاهين يفضل أن يقرن اسمه باسم إدريس فى سيناريو واحد، لولا خوف إدريس وانسحابه وكاد الموقف يتأزم بينهما لولا تدخل بعض الأصدقاء الذين أقنعوا شاهين بحذف كل ما كان يراه إدريس شخصيا ولا يجوز كشفه، وفعل شاهين ذلك.

·         معظم الذين عملوا مع شاهين سعوا إليه؟ إلا نور الشريف فيوسف هو الذى سعى إليك؟

 ـ السعى كان مشتركا، هو سعى إلىَّ فعلا وأنا سعيت إليه بالحلم والرغبة والتمنى، فكنت دائما أتمنى العمل معه منذ أن بدأت حياتى حتى جاءتنى الفرصة والتى تمسكت بها وحاربت من أجلها، خاصة أن أى فنان فى حياته عدد محدود من الأدوار المميزة التى لا تعوض، وكنت أشعر وهو ما تأكد لى بالفعل أن «حدوتة مصرية» واحدة من هذه الفرص.

·         فيلمان فقط من إخراج يوسف شاهين فى تاريخ نور الشريف الذى وصل إلى 178 فيلما!! ماذا يمثلان فى مشوارك الفنى؟

ـ أنا عملت مع شاهين ثلاثة أفلام، اثنان روائيان وآخر تسجيليا بعنوان «أحداث 11 سبتمبر» وهذا الفيلم أنتجته فرنسا من خلال عشرة من أهم مخرجى العالم لمعرفة وجهة نظرهم السينمائية فى أحداث 11 سبتمبر عام 2001، وكانت مدة الفيلم 11 دقيقة و9 ثوان باعتبار أن الحدث وقع فى 11/9 فأرادوا أن يطابقوا بين التاريخ ومدة الفيلم، المهم أن وجهة نظر شاهين فى الفيلم خيبت آمال الأمريكان والأوروبيين الذين كانوا يريدون أن يلصقوا التهمة فى الإسلام والمسلمين، إلا أن شاهين صدمهم عندما أوضح فى الفيلم أنهم إذا اعتبروا بن لادن هو الذى نفذ الحادث وفجر البرجين فهو من صنعهم، المهم بسبب وجهة النظر هذه تعرض لهجوم أمريكى وغربى شرس، لأنه كشف حقيقتهم التى أرادوا من خلالها تضليل العالم، وهذا الفيلم أعتبره نقطة فنية مهمة فى مشوارى لا يقل عن «حدوتة مصرية» و«المصير» والذى أراهما أهم فيلمين فى حياتى لأن العمل مع شاهين متعة حقيقية تشعر معه أنك تلتحق بمدرسة أو أكاديمية لمدة سنة هى مدة عمل الفيلم ما بين التحضير والتصوير والمونتاچ والعرض، إلى جانب أن شاهين من بين المخرجين الذين عملت معهم يعرف كيف يضبط أوتارى فيعزف عليها صح، ومعه أشعر أننى مختلف عن أفلامى الأخرى، شاهين أثناء العمل إذا حدثت ألفة بينه وبين الممثل يبقى بيحبه بجد، وهذا حصل مع اثنين فقط - كما جاء على لسانه فى أحد أحاديثه للتليفزيون الفرنسى - أنا ومحمود المليجى، لأنه بيشعر بمتعة وهو يقودنا ونحن نستجيب لما يطلبه منا ونستفيد ونضيف من داخلنا ما يريده دون أن يطلب، أى نفهم بعض بالإحساس.

·         وهل ابتعادك عنه بعد «حدوتة مصرية» ترك تأثيرا بداخلك؟

- يوسف شاهين الوحيد الذى كنت أحب التعامل معه دون قيد أو شرط، وكنت أوقع له على بياض دون شروط فى الأجر، رغم أنه كان يعطينى نصف أجرى أو يزيد قليلا، ولم أناقشه فى ذلك، لأن حب العمل مع شاهين للاستفادة من خبرته وعبقريته كمخرج ولحرصه على التعامل مع أدق التفاصيل وفى العمل، لدرجة أنه أحيانا كان يوقظنى من نومى ويطلب منى الحضور فورا إلى منزله، وكنت أتوقع أنه يريدنى فى أمر مهم وعاجل، إلا أننى أفاجأ به يريد أن يأخذ رأيى فى مقطوعة موسيقية تصلح لمشهد معين لى فى الفيلم، هذا هو «شاهين» الذى يجد أى فنان يعمل معه نفسه متعايشا مع الشخصية بكل تفاصيلها قبل أن يقف أمام الكاميرا، كذلك «شاهين» كان يحب من يتعامل معه ألا يتركه وأن يستأثر به حتى لو كان الدور غير مناسب.

كان يرفض أن يقول له أحد لا، سواء لدور ما أو عمل ما، وقد تعرضت شخصيا لهذا عندما رفضت فيلم «الآخر»، وهذا ما أغضبه منى جدا، ومارس على ضغوطا شديدة للقيام بالبطولة، إلا أننى أصررت على رفضى لأننى لم أجد شيئا فى الدور يناسبنى، هذا الرفض تسبب فى حزن «شاهين» لابتعادى عنه بعد «حدوتة مصرية».

·         لماذا اختارك «شاهين» لتجسد شخصيته الحقيقية؟

- علاقتى بشاهين علاقة صداقة كنا نتقابل كثيرا، ونتحاور ونتناقش، وكانت تعجبه أفكارى وعقليتى، كما كان إعجابه بى كممثل يفوق الوصف - وهو ما كان يصارحنى به دائما - ولكن السبب الحقيقى وراء اختياره لى لتجسيد شخصيته، أنه وجدنى الأقرب من أبناء جيلى شبها له، وقد يكون هذا الدور هو الأصعب فى حياتى لعدة أسباب منها: أن «شاهين» - صاحب الشخصية - هو كاتب السيناريو وهو المخرج، ولذلك كان لدى رعب شديد من كونه سيمارس ضغوطه علىَّ لتقليده، وأنا ضد التقليد، لأنه إحساس مزيف، وليس حقيقيا، ونجحت فى الإفلات من هذا المأزق، لدرجة أنك تجد «شاهين» - فى الحقيقة - كان «يتهته» فى الجملة الواحدة 6 مرات، لكنى «تهتهت» فى الفيلم كله 6 مرات فقط، ورغم ذلك تشعر وكأنى «أتهته» طوال الفيلم.

الجميل فى الأمر أننى بعد عرض الفيلم فوجئت بزوجة «شاهين» تقول لى: «نور».. «أنا اتلخبطت بينك وبين «شاهين».. قلت لها: «دى أحسن جايزة فى حياتى» السبب أننى تخلصت من ملامح «شاهين» واحتفظت بروحه فى الشخصية، وهذا ما كان يشغلنى بصورة كبيرة كيفية الوصول إلى روحه وساعدنى فى ذلك هو شخصيا سواء خلال فترة التحضير أو داخل البلاتوه، فكان داخل البلاتوه يهمس لمدير التصوير «محسن نصر» ليدير الكاميرا فى صمت حتى لا تخرج من الإحساس بالشخصية، خاصة فى المشاهد التى تتطلب إحساساً خاصا، وتعاملا فنيا خاصا مثل المشهد الذى استمع فيه لأم كلثوم، هذا المشهد طلب منه «شاهين» خروج الجميع من الاستوديو، وطلب منى الجلوس للاستماع إلى أم كلثوم، وظل يراقبنى حتى لمح فى عينى الإحساس الذى يريده، فهمس لـ«محسن نصر» ليدير الكاميرا ليفوز بمشهد عالى الإحساس، وهذا المشهد من أهم المشاهد التى مثلتها فى حياتى، وكان «شاهين» يرسم مشاهده على الورق قبل تصويرها لتخرج كما يقولون «ما تخرش الميه»، كما أنه كان دقيقا فى وضع ميزانية أفلامه - بالمليم - فكان يملك عقلا اقتصاديا جبارا، ويستحيل أن يحيد عن هذه الميزانية مهما حدث، لدرجة أنه فى فيلم «المصير» فاجأنى من خلال السيناريو أن أول مشهد فى الفيلم أظهر أنا والخليفة فى حمام القصر، فقلت له: المشهد ده مش مريحنى، فقال لى: ليه، قلت له: الخليفة فين ؟! قال لى: فى بيت أخوه فى إسبانيا بعد انتصاره فى الحرب. فقلت له: أنا ضد أن يكون أول ظهور للخليفة فى بيت أخوه مباشرة، الناس هاتفتكر أن ده بيته مش بيت أخوه. قال لى: قصدك إيه، قلت له: قصدى إن إحنا نصور الخليفة، وهو راجع منتصر وأخوه بيرحب بيه وبيأخده ويدخل بيه بيته!! فانزعج «شاهين» لأن مشهدا إضافيا كهذا سيتكلف أكثر من 100 ألف جنيه، وهو بند غير مدرج فى الميزانية، فأبدى استياءه وبوادر رفضه وعدم قبوله للفكرة، وكنا فى سوريا لبدء التصوير، وفوجئت به فى صباح اليوم التالى يطرق باب حجرتى ليقول لى «دقدق».. أنا اقتنعت بفكرتك وهأنفذها، بس خد السيناريو احذف مشهدين مناسبين تكلفتهم توازى تكلفة مشهد موكب الخليفة منتصرا إللى انت اقترحته، وإللى هايتكلف حوالى 100 ألف جنيه، وكان مشهد البداية المقترح هو مفتاح شخصية الخليفة. «شاهين» كان يحيد عن الميزانية للضرورة القصوى.

·     لماذا لم تستمر فى تجسيد شخصية «شاهين» فى الجزئين الثالث والرابع من سيرته الذاتية «إسكندرية كمان وكان» و«إسكندرية - نيويورك»؟!

- شاهين لم يكن يتصور أبدا أنه سيعيش ليقدم حتى الجزء الثانى، ولذلك تجده فى نهاية الجزء الأول «إسكندرية ليه» بعد مشهد النهاية، يظهر تمثال الحرية على هيئة امرأة لعوب «تمضغ» اللبانة وتغمز بعينها، وفيه اختزل «شاهين» كل ما بداخله عن أمريكا، وعندما سألته عن ذلك، أجاب أنه كان يقصد ذلك ليقول كل ما يريده عن أمريكا أنها مجرد امرأة عاهرة وفارغة، وقال أنه كان يخشى ألا تتاح له فرصة تقديم كل أجزاء سيرته، وكان بداخله هاجس أنه سيموت قبل تقديم بقية الأجزاء فاختزلها فى هذه اللقطة، ولما قدمت أنا الجزء الثانى وراح يجهز للجزء الثالث فأبلغنى برغبته فى تمثيل الجزء الثالث، فقلت له: ليه تحرمنى من إكمال مسيرتك، كفاية عليك إنت تخرج وأنا أمثل، ولأنه يحب التمثيل بجنون، فقد أصر على تمثيل الجزئين الثالث والرابع، إن حبه الشديد للتمثيل وجنونه الشديد أيضا كانا سيدفعانه للعب شخصية « ابن رشد» فى «المصير»، وذلك عندما رشحنى لدور «الخليفة» على أن يقوم هو بـ«ابن رشد» فرفضت بشدة وقلت له: يا ابن رشد يا مش شغال!! ولأنه يكتب السيناريو الواحد، ثم يقوم بتغييره أكثر من 11 مرة فى أغلب الأحيان، فكان فى كل مرة يرسل لى على دور الخلفية وكنت أرفض، وفى يوم قلت له: يا چو.. ملامحك وهيئتك لاتتناسبان مع «ابن رشد» وأخذته إلى المرآة وألبسته عباءة فوجدته يضحك بشدة على منظره وقلت له: أيضا من الصعب عليك نطق اللغة العربية والآيات القرآنية والأحاديث، وبعد أن حاول المكابرة نظر لى وقال: خلاص اقتنعت بكلامك و«إنت اللى هاتعمل ابن رشد».

·         لماذا كانوا يطلقون على «شاهين» مخرج «الكادر»؟

- النفس البشرية هى هى.. سواء فى مصر أو العالم، فبعض الحاقدين عندما يفشلون فى محاربة فنان موهوب ليس به أى عيب فيطلقون شائعات تبدو أنها مدح وهى فى حقيقة الأمر ذم، فقالوا إن «يوسف شاهين» أحسن واحد يعمل كادر سينمائى، وهم يقصدون بذلك أنه لايجيد سوى تكوين الصورة السينمائية فقط، وهم يعلمون جيدا مدى موهبته وكفاءته كمخرج سينمائى عبقرى، بدليل أن مخرجا عظيما مثل «عزالدين ذو الفقار» عندما مرض لم يرشح أحدا سوى «شاهين» ليحل محله فى إخراج الفيلمين اللذين تعاقد عليهما وهما: «الناصر صلاح الدين» و«جميلة بوحريد»، ولكن كان شرط «ذو الفقار» الوحيد ألا يتدخل «شاهين» فى الورق الذى استقر عليه «عزالدين»، أى السيناريو، كما أن دراسة «شاهين» للإخراج المسرحى فى أمريكا جعلت كادراته السينمائية بحثية، حيث تبحث كاميراته عن شخوص فى الأحداث، وتذهب هى إليهم بخلاف كثيرين دارسين سينما يجعلون الشخوص هى التى تأتى إلى كاميراتهم على الطريقة المسرحية، فشاهين كان يصنع أحداثه من خلال الصورة أكثر من الحوار وليس على طريقة شرشر المملة التفاصيل، فالصورة عنده أهم من الحوار.

·         ما تعليقك على ما تردد أن البسطاء يبتعدون عن أفلامه؟

- من الممكن أن نقسم سينما «شاهين» إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل «العصفور» و«الأرض» ومرحلة ما بعد «العصفور» و«الأرض»، فما قبل «العصفور» و«الأرض» كانت سينما «شاهين» تتجه إلى الواقعية مثل أفلام «بابا أمين» و«ابن النيل» و«صراع فى الوادى» و«نداء العشاق» و«أنت حبيبى» و«الأرض» و«الناصر صلاح الدين» و«العصفور»، وهذه السينما الواقعية، أى المرتبطة بالواقع حتى لو كانت تاريخية أو سياسية هى الأقرب للمشاهد سواء كان بسيطا أو مثقفا، وهى الفترة التى كان يفكر فيها «شاهين» كأى مخرج، أما مرحلة ما بعد «العصفور» و«الأرض» فهى سينما فلسفية، استخدم فيها «شاهين» لغة مختلفة عن السائد وتحول إلى «الشيطان الثورى» أو «الثورى الشيطانى» - كما أطلق على «يحيى» فى «حدوتة مصرية» وهى المرحلة التى عمل فيها مع «عبدالرحمن الشرقاوى» فى «الأرض» و«لطفى الخولى» و«حسن فؤاد» فى «العصفور» حيث تعلم منهم كيف يكون سياسيا ومن هنا أصبحت أعماله خاضعة لقناعاته الشخصية.

·         وهل ترى أن لجوء «شاهين» للإنتاج كان لعزوف المنتجين عنه لغرابة لغته السينمائية؟

- كان من الممكن أن يختفى شاهين من الساحة السينمائية لو لم يلجأ إلى الإنتاج لنفسه، لبقائه لفترة طويلة بلا عمل لعزوف المنتجين عن أفكاره المجنونة والغريبة والتى من الصعب أن يستوعبها أى منتج، وبالتالى لايستوعبها المشاهد، حدث العزوف مع اثنين من كبار مخرجينا وماتا قهرا وهما «حسين كمال» و«كمال الشيخ».

·         ولكن لم ينتج بأمواله الخاصة؟

- «لشاهين» الفضل فى أنه فتح نافذة للسينما المصرية فى أوروبا، صحيح أن البعض انتقده، ولكن من الظلم اتهام «شاهين» أن فرنسا كانت تموله من أجل الإساءة لمصر، وأنا أتحدى أن يكون هناك فيلم واحد لـ «شاهين» فيه إساءة لمصر، كما أن شاهين يعتبر من المخرجين القلائل الذين لم تفلح معهم أية ضغوط لإثنائه عن أفكاره أو التخديم على أفكاره مغايرة لمبدئه، مثلما حدث مع كثير من مخرجى شمال أفريقيا. فيلم وحيد فقط هو «إسكندرية ليه» الذى ظهرت فيه فتاة يهودية مصرية أحبت شابا مصريا عدا ذلك لم تجد ما يشوب أفلام «شاهين».

·         بحكم صداقتك القوية به ما الحلم الذى مات مع «شاهين»؟

- أن يقدم فيلما استعراضيا ضخما، فكان محبا للاستعراض منذ بدايته، عندما قدم واحدا من أهم أفلام فريد الأطرش «إنت حبيبى» والذى جمع ما بين الاستعراض والكوميديا، خاصة فى دويتو «يا سلام على حبى وحبك» كذلك تجد الاستعراض شريكا أساسيا فى معظم أفلام «شاهين» فتجده فى «حدوتة مصرية» و«المصير» و«الآخر»، و«سكوت ها نصور».

روز اليوسف المصرية في 2 أغسطس 2008

 

يوسف شاهين يوقع بين إدارة موقع إخوان أون لاين وحبيب!

محمد مشعال  

الموقف من المخرج يوسف شاهين كان أحدث المواجهات الداخلية فى الصفوف الإخوانية والتى كشفت عن اختلافات بين القيادات فى هذا السياق.. حيث نفى نائب المرشد العام د.محمد حبيب الاتهامات التى وجهها موقع الجماعة الإلكترونى التى وضعت «جو» فى القفص بتهمة إثارة الفتنة الطائفية والجنون والعمل ضد الإسلام.. ولم يشفع ليوسف شاهين وفاته عندهم حتى يرحموه حيث تعرض شاهين لنقد حاد واتهامات غير مبررة وإن كان المبرر الوحيد لها خلق حالة من البلبلة بين الناس خصوصا إن كانت تتعلق بالعقائد.

وأفادت الاتهامات الإلكترونية التى كان حبيب آخر من يعلم بها أن أفلام شاهين وآراءه قد آثارت الكثير من المشاكل، خاصة عندما كان يهاجم الحجاب وينتقد صوت الأذان الذى كان يود أن يواجهه بصوت الموسيقى، وأرجع كثيرون السبب فى ذلك إلى بلوغ الرجل مرحلة أرذل العمر، مما جعله يخرج عن وعيه كثيرا وفق إدعاء الموقع الإخوانى.

ثم تابعت المحظورة بزعم أن أفلام المخرج العالمى أثارت كثيرا من الجدل والرفض، مثل «المصير» و«المهاجر» اللذين رأى فيهما النقاد خروجا عن المألوف وعن ثوابت التاريخ والثقافة.. كما كان تناوله الفنى للأنماط الإنسانية يتسم بروح غربية مرفوضة فى المجتمعات العربية والإسلامية أدت إلى النظر بتحفظ إلى معظم الأفلام التى قام بإخراجها على مدى تاريخه الطويل - من وجهة نظر الجماعة المحظورة.. التى اعترض عليها إخوان آخرون .

وتابع الإخوان فى نقدهم واتهاماتهم الغريبة لشاهين بأنه يربط بين أعماله الفنية ورؤيته الخاصة للحياة، الأمر الذى دفع كثيرين إلى اتهامه بأنه أراد الانتقام من رافضى فيلمه «المهاجر» بعمل فيلم «المصير» ليتهم رافضى فيلمه الأول بالعنف والتطرف، مما أدى إلى هجوم واسع من كل النقاد لفيلم المصير، وانكشفت حقيقة المخرج العصبى الذى يحارب خصومه الفكريين باتهامهم وسبابهم من خلال أعماله الفنية وفق وصف الموقع الإخوانى!

روز اليوسف المصرية في 2 أغسطس 2008

 
 

هذه ليست الإسكندرية التي كانت.. من غيّرها هكذا؟

وصايا يوسف شاهين الأخيرة!

القاهرة ـ حمدي رزق

رحيل بالجسد فقط.. هذه خلاصة فاجعة فقد شيخ المخرجين يوسف شاهين صبيحة الأحد الماضي بمستشفى المعادي للقوات المسلحة على نيل القاهرة. فشاهين هو المخرج المصري والعربي الوحيد ـ كما أجمع النقاد والمشتغلون بالسينما ـ الذي ترك أثراً فنياً لا يمحوه الموت العادي للبشر. هذا الأثر الفني يمتد كذلك إلى ما هو ثقافي وسياسي واجتماعي، ناشراً حزمة من القيم والأسس التي أخذ شاهين على عاتقه الاضطلاع بها طوال 58 عاماً من اشتغاله بالسينما في مصر!

وبرغم أن شاهين قضى نحو 70 يوماً يحتضر بين المستشفى الاميركي بباريس وبين مستشفى المعادي ـ الامر الذي كان يفترض أن يكون بمثابة تأهيل نفساني لمحبيه كي لا يصدموا بموته (عن 82 عاماً) ، الا ان الصدمة وقعت وكأن شاهين ابن 30 عاماً غدرت الأيام بعمره.. هذا أن شاهين غالب الموت عدة مرات وانتصر عليه بإرادة حياة فريدة في نوعها. وبرغم خطورة حاله الصحية في جولة السبعين يوماً، الا ان الأغلبية كانت تنتظر أن يفيق شاهين من غيبوبته ويهزم نزفه الدماغي ويصنع شريطا سينمائياً جديداً يمجد فيه الحياة (بعد شريطه سكوت ح نصور 2001 كان تعرض لعملية قلب مفتوح وأوشك أن يفارق الحياة ووقتها صرح بأنه يريد صنع شريط بعنوان "عشق الحياة" عن التغلب على الموت لكنه ظل يؤجل مشروعه ولم ينفذه قط.. وان كان بقي مسكونا بهذا العشق..)، لكن العشاق والمريدين صدموا برحيل شيخهم قطب السينما وراهبها المتصوف في معناها ومبناها ايضاً..

غير أن حالة غريبة من التماسك بدت على القائمين على شركة شاهين (أفلام مصر العالمية والتي تأسست قبل اكثر من 30 عاماً والتي انتج منها عدداً من اشرطته واشرطة الاخرين السينمائية والمرتبطة بعلاقات وثيقة مع شركات وفضائيات فرنسية كثيرة وتقع بشارع شامبليون في وسط البلد قبالة نقابة الصحافيين المصرية) وبدت الشركة التي يقوم عليها ابنا اخته (السيد غابي خوري والسيدة ماريان خوري) شديدة التماسك في يوم وفاته والعمل فيها يدور كأن شيئاً لم يكن، والاتفاقات الانتاجية تسري من دون عوائق وكأن الأستاذ (كما كان الجميع يلقبون شاهين) على قيد الحياة.. وان كانت العيون دامعة والقلوب كسيرة، وهذه بعينها أهم القيم التي زرعها شاهين في تلاميذه وفي كل المشتغلين بالسينما في مصر: قيمة العمل في أسوأ الظروف وتحت أية عوامل وعدم الرضوخ حتى للموت!! وهكذا تغلب قيم شاهين الموت وتتحول إلى مايشبه وصايا للمحبين المضروبين بغرام السينما ، قيم نجحت في الانتصار الذي لم يستطع جسده المنهك النحيل المريض أن يناله على سريره بالعناية الفائقة بمستشفى المعادي!

الوصية الاولى : الإسكندرية رمز التسامح والتسامح رمز مصر

الشيء الوحيد الذي أوصى به شاهين ـ مثلما يوصي الناس قبل وفاتهم ـ هو أن يدفن بمقابر العائلة في الاسكندرية مسقط رأسه..حيث ولد (1926) . وقد ألح شاهين في وصيته على أن يبنى له قبر في البقعة التي كان يحلو له أن يجلس فيها حينما يزور هذه المقابر، وهي بقعة تبعد عن مقابر عائلته خمسين متراً فقط، ولم يمهله القدر لكي يبني هذه المقبرة فدفن مؤقتاً في المقبرة التي ووري فيها ظهر الإثنين الماضي إلى ان ينقل لمقبرته الجديدة في البقعة التي يحبها، والتي يجري العمل على اتمامها سريعا في الوقت الحالي!

اختار شاهين الاسكندرية للدفن ومقابر الروم الكاثوليك تحديدااً (الطائفة التي ينتمي اليها) في منطقة الشاطبي (وسط الاسكندرية). ومع الجثمان سافر الفنانون مسلمين ومسيحيين وكأن شاهين اختار أن يخرج مشهد وفاته بنفسه وبأفكاره ورؤيته. كان مشهداً من التسامح مع الآخر ينقله العالم كله على شاشاته! وكذلك كان قداس يوسف شاهين بكنيسة الروم الكاثوليك بحي الظاهر شرقي القاهرة يمثل درساً في التسامح. فشاهين أدرك بذكائه أنه مهم في وطنه (نعاه الرئيس مبارك ببيان رسمي مليء بالحرارة والشعور بفقد مصر له) وأن القداس ربما يذاع على الهواء، وكان له ما أراد. فكان أول قداس لمتوفى يبثه التلفزيون المصري في تاريخه البالغ 48 عاماً (يذاع على التلفزيون المصري فقط قداسا عيد الميلاد وعيد القيامة المجيدين) ، وكان معظم الموجودين بالقداس من الفنانين والوزراء والمسؤولين.. من المسلمين! .. هذا هو شاهين حتى بعد موته يخرج المشاهد الاستثنائية في وطن يمر بمرحلة من الحوار المحتدم، فينقل الناس بعيدا عن كل (الفوارق) إلى مصريتهم المتسامحة!

هذه المصرية المتسامحة رآها شاهين ماثلة مكثفة المثول في الاسكندرية..فحين ولد بها كانت معقلا للجاليات الاجنبية المتعايشة المتآلفة، يونانيين وايطاليين واتراك وارمن ويهود مع المصريين أولاد البلد من المسلمين والمسيحيين على اختلاف الملل والطوائف والأعراق.. مدينة كوزموبوليتانية حقيقة، رسم ملامحها بدقة في شريطيه الذاتيين (اسكندرية ليه 1979، وحدوتة مصرية 1982). وهي المدينة التي رآها رمزا للتسامح وكانت في رأيه عاصمة مصر الروحية والثقافية الحقيقية لأن القيمة الرئيسية لمصر عند شاهين كانت التسامح سواء الديني أو الطائفي أو الثقافي والحضاري ، وهو رأي صرح به شاهين عدة مرات في حواراته الصحافية ، تلك الحوارات التي عاد في آخر حياته ليصرح من خلالها بأنه (صار يخشى الاسكندرية ولم يعد يعرفها بل انها ليست يقيناً المدينة التي كانت..من فعل بها هذا؟) قالها بعد أن وقعت أحداث طائفية بالمدينة ـ الحلم في السنتين الاخيرتين أصابت شاهين بحسرة لا حدود لها!

وشاهين، بنشأته، كائن كوزموبوليتاني فريد التكوين، فوالده من الروم الكاثوليك ويعود أصله إلى زحلة بلبنان ، ووالدته من الروم الأرثوذكس يونانية المولد ، وزوجته فرنسية كاثوليكية، وثمة في عائلة شاهين من هم مسلمون سنة ومن هم من الشيعة وشاهين نفسه كان يعتبر نفسه مجمعا لكل الأديان التي تحب الله وتعبده!

من هنا فإن شاهين رسخ بوصيته هذه قيمة الاسكندرية ـ التسامح عموماً، ورسخها من قبل في اشرطته السينمائية التي لا يمكن أن يمحو منها تعصب قطاعات في المجتمع قيمة التسامح!التي امتدت من "اسكندرية ليه" وصولاً إلى شريطه "الآخر" 1999 مرورا بسبعة أشرطة سينمائية أخرى..وهذه القيمة تشبع بها تلاميذ شاهين كأنها وصية واجبة النفاذ فعلا..فأشرطة يسرى نصر الله وأسماء البكري وعلي بدرخان وخالد يوسف وغيرهم من تلاميذ شاهين جميعها مشبعة بقيمة التسامح ­ على اختلاف وجوهه ـ ومبشرة بها ومحاولة لنشرها في المجتمع! ولكن هل تعود الاسكندرية إلى تسامحها كما يرغب شاهين في وصيته؟ هذا سؤال جوابه في علم الغيب الذي لا يحمل بالضرورة أجوبة سارة..او ربما يحملها بعد كثير من الانتظار والمعاناة!

الوصية الثانية: عشق مصر وجنون الحرية

وعلى نهج شاهين ووصاياه سار جيل أو جيلان من المخرجين في شأن هذا العنوان ، فشاهين هو عاشق الحرية الأكبر في تاريخ السينما المصرية وهو الذي قال (اعشق مصر بجنون واحب الحرية بوله لكني أنفر من الحزبية..) وهذه قيمة شاهين الأبقى في أشرطته..فهو اعترف عدة مرات بأنه حين عاد من الولايات المتحدة احيث كان يدرس التمثيل والاخراج (من العام 1946 إلى العام 1949 بمعهد باسادينا للفنون) لم يكن يعرف شيئا عن السياسة ولا عن الهموم الرئيسية للساسة في مصر، ولكنه حين قام جمال عبدالناصر ورفاقه من الضباط الأحرار بثورة تموز ـ يوليو 1952 ، أحب عبد الناصر وقال عن ذلك "أحببته لأنه يحب السينما والفقراء.."، ومعظم أشرطة شاهين في الفترة الناصرية كانت خلوا من وعيه السياسي حتى الاشرطة السياسية منها مثل جميلة الجزائرية "1957" والناصر صلاح الدين "1963" وهما من الاشرطة التي أخرجها بتكليف من الزعيم الراحل عبدالناصر، كان شاهين يخرجها بفطرته النقية وإحساسه المجرد بالخير .. ولم ينم وعيه السياسي الا بهزيمة يونيو ـ حزيران 1967، الأمر الذي دفعه إلى تغيير دفة أشرطته مع شريط "الأرض" 1969، والذي بشر فيه بتمسك المصريين بارضهم حتى ولو تعرضوا للسحل.. صحيح أن الشريط يدور حول الصراع بين الفلاح والاقطاعي في زمن ماقبل الثورة ولكن الارض معنى واحد لا يتجزأ.. الارض التي يحتلها الاقطاعي والارض التي يحتلها الاسرائيلي في سيناء!

وأشرطته التي بعد ذلك "الاختيار" (1971) و"العصفور" (1973) و"عودة الابن الضال" (1975) جميعها تأملات في الهزيمة وإدانة للسلطة والمثقف على السواء في كونهما ـ معاً ـ اشتركا في صنع الهزيمة في رأيه، وبشر شاهين ولاسيما في عودة الابن الضال بجيل جديد معقود عليه الامل، في الخروج بمصر من هذا النفق!

كان شاهين بدءاً من هذه الفترة مصنفاً على اليسار وهو بالفعل كان أقرب بميوله وأفكاره وآرائه، وحتى صداقاته، إلى اليسار. فكان أقرب أصدقائه اليه في تلك الفترة عبد الرحمن الشرقاوي ولطفي الخولي وصلاح جاهين، وتلقى شاهين دعوات شتى من أحزاب وتنظيمات يسارية في مصر والعالم العربي للانضمام اليها غير أنه رفض ذلك رفضا مطلقا وقال لهم "..أنا ضد الحزبية انا احب مصر والبسطاء فقط ولا يمكنني ان ابيع لكم حريتي باسم التزام حزبي". وبرغم ذلك ..ظل كل الحزبيين يحبون شاهين ولا يغضبون من ارائه السياسية حتى حين كان ينتقدهم، بالاسم، في حواراته وتصريحاته، لانهم كانوا يعلمون علم اليقين أنه لايقصد بحبه سوى مصر ولا ينتظر من أحد منهم مقابل لمواقفه ولا يناور بها، ولعلها واحدة من أهم وصاياه أن يكون الفنان والمثقف مستقلا تماما الا عن حب مصر!

الوصية الثالثة : المثقف يجب أن يذهب إلى آخر الشوط دفاعاً عن رأيه

حين صنع شاهين شريطه السينمائي "المهاجر" 1994 بطولة محمود حميدة ويسرا وخالد النبوي وحنان ترك، وجد فوق رأسه عريضة دعوى (حسبة) من التي سادت مصر في التسعينيات ، تطلب منع عرض شريطه كونه يعرض لسيرة النبي يوسف عليه السلام..وانتقل الشريط من دور العرض إلى المحاكم وبالفعل منع عرضه في دور السينما المصرية إلى اليوم وان كانت الفضائيات المصرية تعرضه من دون مشاكل في السنوات الاخيرة!

وحينما صنع شاهين شريطه التالي "المصير" 1996واجه انتقادات حادة من المؤرخ المصري الراحل عاطف العراقي يتهمه بأنه يشوه تاريخ الفيلسوف العظيم ابن رشد وان ما في الشريط ليس تاريخ ابن رشد! وفي الحالين لم يفهم أحد ما قصد اليه شاهين!

فشاهين لم يقصد لعرض سيرة النبي يوسف ولا قصد لعرض سيرة الفيلسوف ابن رشد، ولكنه كان يفتش عن معان بعينها في هاتين القصتين.. ففي المهاجر كان يريد ان يقول للعالم كله ـ هذا العالم الذي كان يخاطبه عبر اشرطته التي تعرض في مهرجانات وفضائيات أجنبية شتى ـ ان مصر هي التي علمت الانسان الزراعة وان الزراعة هي الحياة وان مصر ليست موطن الارهاب المسلح وهو بنفسه الذي قال هذه العبارة لقناة فضائية فرنسية عرضت الشريط في منتصف التسعينيات!

وفي "المصير" كان يهمه فقط مأساة حرق كتب ابن رشد. اندهش شاهين من ان الارهاب الفكري واحد في كل الأزمنة وان المثقف هو الوحيد القادر على دحر الارهاب بأفكاره. من هنا استهل شريطه بكتابة عبارة على الشاشة تقول "للافكار أجنحة فلا أحد يستطيع أن يقتلها". وكان يرد بهذ الشريط على عدد من مصادرات الكتب والأعمال الأدبية في التسعينيات بدعاوى الحسبة!

من هنا أيضا وضع شاهين نفسه فى خانة لا يحب أحد ان يضع نفسه فيها من المثقفين أو من الفنانين ، فهو ليس من أصدقاء النظام وهو من أشد أعداء المتطرفين دينياً وفي الوقت نفسه يرفض الاحزاب، وبالتالي ذهب شاهين إلى اخر المدى كمثقف مستقل وهو اختيار صعب جداً لاي مثقف عربي!

وبرغم ذلك فإن شاهين تماسك ولم ينله أذى، كونه يستند إلى مكانة سامقة كسينمائي وكشخصية بدت من الثمانينات فصاعدا ذات ثقل دولي وأوروبي على وجه التحديد، الأمر الذي شكل له درعا واقية من جميع خصومه! ولذلك فانه حصل على هامش حرية واسع جدا في اشرطته لم يحظ به سواه من المخرجين، وحسبنا منه ما ظهر في شريطه الأخير "هي فوضى" الذي عرض العام الماضي لمنة شلبي وخالد صالح والذي تعرض للشرطة تعرضاً عنيفاً بالنقد ولكن وزارة الداخلية المصرية تركته من دون أن تتدخل لدى الرقابة على المصنفات الفنية بحذف مشهد واحد منه!

قبل ذلك وفي النصف الثاني من الستينيات، حين شعر شاهين بالتضييق الرقابي على اشرطته فرّ إلى لبنان وظل فيه نحو اربع سنوات ، وافتقده الرئيس عبد الناصر فأرسل له من يستقدمه إلى مصر أوائل العام 1969 وأوصى به من حوله وقال لهم "دعوه وشأنه..هو دماغه كده"، وعاد شاهين ليصنع شريط "الارض"!

هكذا هي وصية شاهين الثالثة لمريديه..فلا مقايضة على حرية المبدأ ولا على رأي المثقف حتى لو اضطر هذا المثقف أن يذهب إلى ابعد مدى في الدفاع عن رأيه أو إبداعه!

الوصية الرابعة: الفنان معلم في المقام الاول وله تلاميذه ومريدوه..!

كان شاهين المخرج العربي الوحيد الذي حرص على تأسيس مدرسة بمعنى الكلمة لفنه، وتحول مساعدوه إلى مخرجين كبار من خلال ما تلقوه من الفن على يديه في مواقع التصوير وفي مكتبه بالشركة والذي كان أقرب إلى فصل دراسي كبير.

وأسماء تلاميذ شاهين كافية لبيان هذه المدرسة ونوعية من تخرجوا فيها.. ومنهم مثلا" علي بدرخان، سمير سيف، زكي فطين عبد الوهاب، يسري نصرالله، محمد شبل ، خالد الحجر، أسماء البكري، خالد يوسف. جميعهم استقلوا بأنفسهم وصنعوا أشرطة تشكل أغلبية الكلاسيكيات السينمائية المصرية الملونة الآن.. وكان شاهين، كما يقول خالد يوسف، حريصاً على تعليمهم بمعنى الكلمة، وهو أكثر من كان يقول "صح وغلط"، لمن حوله ـ حسب يوسف ـ وكان يلفت نظر الممثل أو الممثلة إلى عيوبه ويعلمه كيف يتغلب عليها وكيف يثقف نفسه فنياً!

ربما ساعد شاهين على ذلك كونه لم ينجب ولداً ولا بنتاً من صلبه ، فكان يتعاطى مع تلاميذه من المخرجين والممثلين والممثلات بروح أب ومعلم لا بروح مخرج محترف فقط، وكان يتداخل واياهم في أدق امورهم الشخصية ايمانا منه بأن العملية الفنية لا تتجزأ ، حتى قالت يسرا ذات مرة ـ وكانت من أقرب الصديقات اليه ـ ان شاهين كان يعرف عنها في بداية طريقها الفنية أكثر مما تعرفه أمها!

هذه الروح نفسها تلقفها عن شاهين تلاميذه وعملوا بها ومن خلالها في ادارة أشرطتهم. لذا فان التعامل بين أي مخرج من تلاميذ شاهين وبين الممثلين يختلف تماما عن تعامل هؤلاء الممثلين أنفسهم ومخرجين ذوي مشارب أخرى..وهذا معروف ويعد من المتعارف عليه في الوسط الفني المصري!

شاهين الذي رحل بجسده الأحد الماضي ، ترك قيما صارت وصايا في أعناق الفنانين المصريين والعرب، وهي ذاتها الوصايا التي ستخلد فن هذا العبقري والشخص الاستثنائي الذي فقده الفن المصري والعربي !

المستقبل اللبنانية في 3 أغسطس 2008

 
 

يوسف شاهين .. سيرة وطن بأفراحه وأتراحه

دبي ـ أسامة عسل

كان يسعى طوال حياته السينمائية إلى أن يقترب مني ومنك، يغوص في أعماقنا، يزيح الصدأ الذي تراكم بفعل تلوث العصر المادي، عصر السندوتش السريع وصفقات الموبايل وذبذبات مؤشرات البورصة، كان يميل إلى مؤشرات المستقبل ويقدم أفلاما تخاطب العقل والمشاعر.

أفلام إذا تأملنا اليوم تفاصيلها ومعانيها، شعرنا بسعادة بالغة، لأنها من دون أن ندري ستنفض عن كاهلنا غبار المتاعب اليومية والمعاناة الدائمة، لتعلن أن تحت الجلد مشاعر لا تزال حية نابضة، وأننا رغم كل الضغوطات والأزمات نؤمن أن الفن مادة الإنسان، وأن عليه العودة للفن حبا وأملا في حياة أكثر نبلا وإنسانية. كانت أفلام يوسف شاهين السينمائية، تغربل مشاعرنا، وتطرد من أعماقنا القلق والكراهية والعنف، لتستقر بنا على شاطئ نظيف، مغسولا متطهرا، لتساهم في نماء الحب والخير والسلام بداخلنا. وهذا معناه أن نهر السينما لم ينضب، لا يزال متدفقا بقوة، جيل العظماء يسلم وثائق الوداع والخبرة والحكمة، وجيل الشباب يحاول ويبدع ويقاوم ليحمي النهر من التلوث والجفاف.

لم تفقد أفلامه روح المرح والسخرية التي كانت من أهم سمات شخصية (جو) كما كان يحب أن يناديه الجميع، لم يقدم في أعماله خطبا رسمية متشنجة، بل أراد أن يطرح وجهة نظر فنان يشعر بآلام الآخرين، ويفهم ألاعيب الكبار، ويضعنا دائما في موضع الدهشة والتساؤل والتحدي أيضا، تحدي العثور على وسيلة الإنقاذ من هذا المستنقع. وبالطبع هذا الوضع لم يعجب خفافيش الظلام، فكثيرا ما حاربوه وحاصروه وأطلقوا عليه الشائعات، وضيقوا مصادر تمويل أفلامه، ولكنه كان ينجو من ألاعيبهم بأعمال تجعله عاليا كالنخلة المثمرة، كلما قذفوها بحجر أسقطت ثمارا ناضجة، ما يزيد إعجابنا وتقديرنا لهذا المخرج الجريء والممتع.

فهو لا يريد أن يتعطل، كان هدفه أن تفيض أفلامه بالحنين للوطن، وتعكس مشاعر الحب الأصيلة، والتي تنبع منها القدرة على الاستمرار والعطاء. فبعد كل هذه السنوات التي تعدت الخمسين عاما فنا وإبداعا، بقي دائما في حالة لهاث مستمر، من أجل النجاح، فالنجاح عمل إيجابي جميل حققه خارج حدود بلده، لكنه كان يبحث دوما عن النجاح الأجمل داخلها وبين ناسه وأهله. ولم يعد مستغربا توهجه الفني وحيويته التي تواصل بها مع السينما، وحركته السريعة لكي يتقدم الصفوف، ويقف على قمة خريطة السينما العالمية المعاصرة.

اكتسبت السينما العربية من خلال أعماله جوائز مهمة، وكانت بالفعل مجمل أفلامه حدوته مصرية شديدة الثراء ومثيرة للجدل، قاسى عذابات كثيرة وأهمها آلام مرضه، لكنه لم يستسلم، ودون إسفاف أو تهريج أو أية حركة غير محسوبة، احتلت عشرة من أعمالة تصنيف الأهم ضمن 100 فيلم تشكل تاريخ السينما المصرية.

تنوعت أفلام شاهين في مواضيعها فمن أفلام الصراع الطبقي مثل: فيلم صراع في الوادي ـ الأرض ـ عودة الابن الضال ـ إلى أفلام الصراع الوطني والاجتماعي مثل: ـ جميلة بوحريد ـ وداعاً بونابرت ـ إلى سينما التحليل النفسي المرتبط ببعد اجتماعي مثل: ـ باب الحديد ـ الاختيار ـ فجر يوم جديد ـ والتي شكلت تجربة شاهين الفنية والثرية فناً وإبداعاً لينافس بالتالي أشهر المخرجين وليتصدر وبجدارة لائحة الإبداع الإخراجي.

وبعد هذه الرحلة الناجحة يتحول شاهين إلى منحيً سينمائي جديد هو.. سينما الذات.. أو سينما السيرة الذاتية وقدم لها الأفلام التالية: إسكندرية ليه إنتاج1978، ـ وحدوتة مصرية إنتاج عام1982 ـ إسكندرية كمان وكمان إنتاج عام 1990 ـ إسكندرية نيويورك إنتاج عام 2004.

ولا يختلف اثنان من محبي ومتابعي السينما على عبقرية شاهين الإخراجية وتفرده بنمط خاص في الأسلوب الإخراجي، فمعظم النقاد يتفقون على أن أفلاماً مثل ـ باب الحديد ـ الأرض ـ المصير، هي أهم ما أنتجت السينما العربية عموماً والمصرية خصوصاً، وقد اختلف النقاد حول خصوصية صنعة شاهين السينمائية بين معجب ومتذمر. وإذا ما فكر دارس أو مهتم أن يتناول تاريخ السينما المصرية وكشف محطاتها، ومفاصلها الأساسية، وإظهار أعمالها الإبداعية بكل المقاييس العلمية والتقنية، فإن يوسف شاهين ـ المخرج المجنون ـ كما يصف هو نفسه سيحتل الأولوية في عملية بحث التاريخ هذه.. بأعماله وأطروحاته وأفكاره ولمساته الإبداعية في السينما وفي المواقف والرؤى على حد سواء.

يوسف شاهين المبدع الذي قضى من عمره في السينما زهاء ستة عقود من السنين، كان هو الأقدر خلالها، ومنذ فيلمه الأول الذي حمل اسم (بابا أمين) عام 1950، وكان إذ ذاك لم يبلغ الأربعة والعشرين عاماً، على أن يكون مخرجاً متميزاً له سماته وبصماته على فن كان حتى ذلك الحين يعتبر جديداً وطارئاً على الإبداع العربي في مجال المعرفة والتقنيات السينمائية، وعلى الرؤية والثقافة البصرية لغالبية العرب الذين أراد شاهين أن يكون واحداً من المؤثرين عليهم في تغيير النمطية السائدة في التعامل مع كل أولئك الذين وجدوا في الفن السابع (فن السينما) تقليداً للغرب في محاكاة قصص تخلق عالماً أسطورياً أو خرافياً في ذهن المتفرج وحتى عند محبي السينما.

الاسم: جبريل يوسف شاهين

مواليد: 25 يناير 1926

خريج: كلية فيكتوريا في الإسكندرية

أول أعماله: بابا أمين 1950

آخر أفلامه: هي فوضي 2007

أهم الجوائز: جائزة اليوبيل الذهبي لمهرجان كان 1997 عن مجمل إنجازاته

وفاته: الأحد 27 يوليو2008

«صراع في الوادي»

رغم اهتمام شاهين بتصوير أوضاع الفلاح المصري وإشكاليات الصراع الطبقي في القرية إلا أن العمل لم يرسم بدقة الملامح الإخراجية لمخرجه، ولم يأت على مستوى طموحاته.

سنة الإنتاج: 1954

بطولة: عمر الشريف وفاتن حمامة

أهميته: أول فيلم مصري في «كان»

(إسكندرية ليه)

هذا الفيلم خلق تغييراً جذرياً في سينما يوسف شاهين فقدم من خلاله محاولة رائعة للمزج بين العام والخاص، المزج بين التأريخ الفردي وتأريخ وقضايا الوطن وقد تضاربت آراء النقاد حوله.

سنة الإنتاج: 1978

بطولة: أحمد زكي ونجلاء فتحي

تصنيفه: اجتماعي سياسي

«حدوتة مصرية»

تزاوج غريب بين أجواء غرائبية وواقعية شديدة النبرة، حدوتة شاهين مع ثلاث نساء: أمه وأخته وزوجته.. يمزج فيها صبي صغير هو يوسف الذي يخرج من أعماقه ليسأله عن أفعاله في استعادة رؤى مساره السينمائي والحياتي.

سنة الإنتاج: 1982

بطولة: نور الشريف ويسرا

الفكرة: وضعها الكاتب يوسف إدريس

البيان الإماراتية في 3 أغسطس 2008

 

غضب «هي فوضى» صرخة ضد الفساد 

الأخطاء تتزايد من حولنا، أخطاء في السياسة والمجتمع، في الحب والزواج، في كل العلاقات الإنسانية، قد نكون نحن مسؤولين عن بعض هذه الأخطاء، ولكن بالتأكيد لسنا مسؤولين عنها جميعا، فقد أصبحت الأخطاء مفروضة علينا كأمر واقع، أفرزتها سرعة تلاحق الأحداث وسرعة حركة التطور.

ويقع الفرد منا في مأزق، هل يتخلى عما يراه ويعتقد أنه الصواب، ويترك نفسه لتيار الأخطاء، يشارك فيها ويباركها، أم يقف ضد التيار محافظا على كل ما هو صادق وأصيل؟ هذا المأزق أو السؤال هو ما حاول أن يجيب عنه فيلم «هي فوضي». يعود الفيلم إلى أسلوب سينما شاهين في السبعينات حين حملت أفلامه حسا سياسيا يجسد هموم المواطن ويبحث في قضاياه المصيرية لتذكر نهايته بشكل مباشر بأجواء فيلم (العصفور) الذي تناول فيه مخرج (حدوتة مصرية) هزيمة مصر عام 67 وما أعقبها.

وإذا كان الشعب تتقدمه النساء خرج في (العصفور) في تظاهرة رافضة للاستسلام لتصرخ بطلته (هنحارب) ويرددها الجميع وراءها فان النساء أيضا في «هي فوضي» خرجن في تظاهرة جديدة في حي شبرا القاهري لخوض حرب من نوع آخر، الحرب على الفساد المستشري في دوائر السلطة في مصر. وفي (هي فوضي) تتقدم هالة صدقي وهالة فاخر التظاهرة الرافضة للظلم والطغيان وانتشار الفوضى (النساء أقل قدرة على تحمل الظلم وأكثر قدرة على الثورة عليه).

تؤدي كل من هالة فاخر وهالة صدقي في الفيلم دور الأم الشجاعة التي تربي وتعلم وتدفع بأبنائها إلى الأمام بينما يتمثل الفساد في شخص ضابط الشرطة حاتم الذي يغطي مرؤوسوه الفاسدون مثله على تصرفاته وجرائمه إلى أن يستبيح نور صبية الحي الجميلة العاشقة. وتؤدي النجمة المصرية الشابة منة شلبي دور نور المدرسة الصادقة المتزنة المتطلعة إلى مستقبل أفضل بينما يؤدي خالد صالح ببراعة دور حاتم الطامع في كل شيء إلى درجة الاغتصاب والقتل.

وكان هذا الممثل المصري أدى الكثير من الأدوار الثانوية خلال مسيرته الفنية لكنه قفز إلى الصف الأول في السنوات الثلاث الأخيرة لتتكلل هذه المسيرة ببطولة «هي فوضى» حيث حمل عبء الفيلم على كتفيه. يصور الفيلم كيفية انسحاق الطبقة العاملة المجتهدة المكونة من كادرات صغيرة في المجتمع المصري وخضوع هذه الفئة التي لا تزال تحافظ على عزة نفسها وكرامتها وتؤمن بمستقبل أفضل، هذه الفئة هي التي تدفع ثمن ذلك الفساد من مالها وفكرها وروحها وجسدها مثل نور (منة شلبي) التي يغتصبها حاتم في الفيلم والتي تجسد نموذجا لهذا الانحراف الذي وصلت إليه السلطة وما تمارسه بحق الشعب الذي يسجن ويعذب ويقهر ويغتصب.

إنها سينما الاحتجاج والغضب التي ظهرت في أفلام سابقة لشاهين وهو في آخر أعماله يعود إليها لالتقاط نبض الشارع ويتحدث عن واقع مصر بعد مرحلة اهتم فيها المخرج بقصص ذاتية وضع السيناريو لها بمفرده. ولا يخلو فيلم «هي فوضى» من تلك المفردات التي شكلت أساسا ثابتا لسينما شاهين والتي تتمثل في الأغنية والرقصة وأيضا التظاهرة التي تمنح فيها الكلمة عادة للشعب والمرأة التي تثور، غير أن العمل ينطوي على قدر من المبالغة في المعالجة لأحداث صدمه مطلوبة، وفي تصوير هذا الجانب الأسود الطاغي على كل شيء، في محاولة لخلق حالة من الرفض والتغيير للفساد والواقع الأسود، الذي ينقله الفيلم من دون أي رتوش.

ويعتبر (هي فوضي) أهم وأفضل أفلام مخرجه الكبير شاهين منذ سنوات، فهو هنا يعود إلى موضوع سياسي ساخن يرتبط بالتغيرات التي حدثت في الواقع خلال العقد الأخير، وأدت إلى تفسخ واضح في البنية الاجتماعية والسياسية على كل المستويات.

اسم الفيلم: هي فوضى

تاريخ العرض: 2007

بطولة: خالد صالح ومنة شلبي

إخراج: يوسف شاهين - خالد يوسف

إنتاج: شركة أفلام مصر العالمية

قصة: ناصر عبد الرحمن

مدير التصوير: د. رمسيس مرزوق

توزيع: شركة أفلام مصر العالمية

الانتقال البارع خالد صالح

يحمل الفيلم على كتفيه، ويطوع الشخصية التي يؤديها لثقافته وحسه الخاص، يتحول إلى وحش كاسر في ثانية، ثم في اللحظة التالية يتحول إلى قط وديع يكاد يقنعك بلطفه ورقته.

الدور: حاتم «أمين الشرطة»

رمز : الشر

درجة الأداء: ممتازة

بطلة الفيلم منة شلبي

بلغت ذروة جديدة في الأداء السلس البسيط الآسر، بقدرتها الهائلة على التعبير بالوجه والعينين، والتحكم في حركة اليدين والجسد، وقدرتها الفائقة على استخدام صوتها، والتلون من التعبير عن الحب إلى الكراهية.

الدور: نور «المدرسة الضحية»

رمز: الخير

درجة الأداء: جيد جدا

خالد يوسف

هذه هي المرة الأولى في تاريخ يوسف شاهين التي يقوم فيها بتجربة إخراج مشترك خلال مشواره السينمائي مع أحد تلامذته، وعلى الأرجح أن ذلك كان لأسباب صحية وليست فنية، لكن من المهم التأكيد على نجاح التجربة.

اللقب: أفضل تلاميذ (جو)

أشهر أعماله: حين ميسرة

آخر أفلامه: الريس عمر حرب

البيان الإماراتية في 3 أغسطس 2008

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)