كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

مقعد بين شاشتين

شاهين.. الإنسان والإبداع

بقلم : ماجدة موريس

عن رحيل

يوسف شاهين

   
 
 
 
 
 

مات يوسف شاهين.. لكن.. من الذي يقول إن المبدعين يموتون؟ لقد مات المشاغب دائما. والصادم دائما. الذي أخذ علي نفسه عهدا أن يسير وفق دماغه.. وفقط.. رغم كل الأدمغة الأخري وهو يصنع معزوفاته السينمائية.. وكانت هذه الدماغ. مليئة بالحكايات والصور بعضها واقعي. وبعضها يقفز فوق الواقع ويتعداه ليستشرف ما هو قادم.. وبعضها عبثي. دماغ يوسف شاهين كلفته الكثير من الجهد والعرق والمثابرة والصراع من أجل إخراج ما بها علي شرائط سينمائية تحمل توقيعه.

أما دماغنا نحن. الجمهور. فقد استجابت له بدرجات. وفقا لقدراتنا علي التذوق. وصبرنا أحيانا. وعلاقتنا بالسينما وحبنا لها.. صنع شاهين بينه وبين المواطن المصري جسرا من الثقة بناه طوبة طوبة. فمن لم يفهمه ترسب لديه يقين أنه "راجل كويس.. وبيعمل أفلام مهمة".. رغم أنها "مش مفهومة قوي" ومن فهمه أحبه سواء اتفق معه أو عارضه. ستون عاما من الكفاح أمضاها في مهنته منذ عاد من دراسة السينما بأمريكا. وحصل علي فرصة إخراج أول أفلامه "بابا أمين" عام 1950. وحتي رحل وترك لنا تركته لكي ترافقنا طوال حياتنا الباقية وأولادنا من بعدنا. 43 فيلماً منها أربعة قصيرة ينتقل فيها من رصد طقوس مقدسة في الكنيسة الأرثوذكسية في فيلم "عيد الميرون" إلي وصف الناس وما تغير فيهم عام 1990 في "القاهرة منورة بأهلها".. تماما كما انتقل من تمجيد نضال الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي في "جميلة بوحريد" عام 1958 إلي فتح ملف الاستعمار نفسه في مصر بنظرة أخري عام 1985 في "وداعا بونابرت".. عندما نراجع سجله الحافل نكتشف أننا لا يمكننا تصنيفه بأنه مخرج هذا النوع من السينما أو ذاك فهو المخرج الذي لم يكف عن مفاجأتنا طوال حياته. ومفاجآت من كل نوع. سواء المفاجآت الفنية التي بدأها بأول أعماله ثم ثانيه "ابن النيل" الذي وثق حكاية مصر مع الفيضان السنوي العاتي الذي فرمله إنشاء السد العالي وحفظ المياه المهدرة. ثم رؤيته المبكرة لأشكال الإقطاع والاحتكار المختلفة في "صراع في الوادي" و"صراع في المينا" ورؤيته لصورة القائد المنتصر المتسامح في "الناصر صلاح الدين" وتحيته للصداقة المصرية - السوفيتية في "الناس والنيل" وإدراكه لمعني التمسك بالأرض ورفض التفريط فيها في "الأرض" وغضبه من الهزيمة عام 1967 "العصفور" الذي انتهي بالناس تخرج لتطالب بالمقاومة والحرب. وتفسيره للعجز عن النهوض الداخلي بعد الانتصار "عودة الابن الضال" ثم سلسلة مراجعاته لما يحدث في المجتمع المصري والعربي من ترد عكس ما كان متوقعا وعلاقتنا بالحضارات والثقافات الأخري في "المهاجر" و"المصير" و"بونابرت" و"الآخر" و"اسكندرية نيويورك" آخر هذه الأعمال التي انتقل بعدها إلي الهجوم المباشر علي تجاوزات الحاضر في فيلمه الأخير "هي فوضي" في العام الماضي.. كان شاهين يلهث دائما ليقول ما يريده. ومع أنه قال الكثير جدا عبر هذه الأعمال بكل شموخها الفني والفكري. إلا أنه لم يكتف بصنع الأفلام وإنما انضم مرارا إلي مظاهرات ومجموعات من المصريين الناشطين في حركة المجتمع المدني. فكان أحد قيادات الاحتجاج علي قانون النقابات الفنية سييء السمعة في بداية التسعينات واعتصم مع الجميع في النقابة. وفي سنوات حصار العراق وموت أطفاله ذهب هناك ليعلن غضبه من الحصار الجائر. ثم شارك طلاب الجامعات مظاهراتهم ضد غزو العراق عام 2003 وفي 2007 ذهب ليتضامن مع أهالي "جزيرة الذهب" وسط النيل الرافضين لتحويل بيوتهم إلي منتجع سياحي للأغنياء. ولو كان في صحته التي تدهورت منذ بداية هذا العام لذهب يتضامن مع أهالي دمياط ضد تلويث حياتهم بمخلفات مصنع أجريوم.. هكذا كان هذا الفنان الكبير الذي امتلك فضول العالم كله وقلبا محبا للحياة والناس بلا حدود. وعرف كيف يصنع انسجاما وتزاوجا بين سيطرته التامة علي اللغة السينمائية وبين حساسيته كرجل ينتمي للعالم الثالث بكل الأوصاف.

أب من أصل لبناني وأم من أصل يوناني. مصري عاشق للإسكندرية مسقط رأسه. والعالم العربي بحيرته من لبنان التي أقام فيها فترة وقدم فيلمه "بياع الخواتم" بطولة فيروز إلي الجزائر التي أسهم في بزوغ السينما بها وأنتجت له فيلمين. والبحر المتوسط الذي يمثل له حدوده الجغرافية ومزاجيته الإنسانية.. كل هذه "المساحات" اعتبرها شاهين أرضه الأثيرة ولذلك أحبته شعوبها وتأثرت به أجيال السينمائيين فيها من تونس والجزائر والمغرب إلي لبنان وسوريا.. تأثر برجل أحيا بمشروعه الفني الكثير من المشروعات الأخري. سواء سينما المؤلف. أو سينما السياسة أو السيرة الذاتية التي قدم من خلالها معزوفة من أربعة أفلام اختلط فيها الذاتي بالعام. والوثائقي بالدرامي بداية من اسكندرية ليه" عام 1979. ثم "حدوتة مصرية" بعد ثلاثة أعوام. وانتظر ثمانية أعوام أخري ليقدم الجزء الثالث "اسكندرية كمان وكمان" عام 1990. وبعد عقد ونصف تقريبا. عاد ليقدم ختام مسيرته مع الحياة في "اسكندرية نيويورك" الذي يكاد يكون الجزء الثاني - وفق الترتيب الكلاسيكي - لفيلمه الأول عن حياته وأحلامه "اسكندرية ليه".. هل كان شاهين يدرك أن أيامه معدودة وهو يخرج "اسكندرية ليه" عام 2004 ليقدم فيها وجها آخر لأمريكا يؤكد وجهها الأول حين استقبلته وهو شاب في بداية حياته. لقد اعترف شاهين بأمريكا الفن. والسينما التي عشقها. لكنه كرهها سياسيا وأعلن غضبه مرارا منها في الأفلام. وفي الحياة. وفضل عليها أوروبا. وفرنسا تحديدا التي أحبته كما أحبها وعاملته بما يليق بكبار المبدعين من كل العالم.. ان شاهين تركيبة استثنائية لفنان شديد الانتماء لوطنه وفنه ونفسه.. حاول طوال حياته أن يوفق بين هذه الانتماءات الثلاثة. فمال أحيانا في أعماله تجاه قضايا وأحداث المرحلة السياسية. ومال كثيرا تجاه الفن ولغته. ومال غالبا تجاه نفسه القلقة التي تطرح الأسئلة دائما وتبحث بنفسها عن إجابات. ومال دائما تجاه الوطن بانحيازه المطلق لكل جميل فيه.. وأوله الناس.

magdamourice1@yahoo.com

الجمهورية المصرية في 31 يوليو 2008

 
 

فسحة للتأمل

يوسف شاهين

د. حسن مدن

في مطالع السبعينات الماضية كانت سنوات قليلة فقط قد انقضت على هزيمة الخامس من حزيران / يونيو ٧٦٩١ التي هزت النفوس والعقول، وكادت أن تصيب في مقتل أحلام الكثيرين. يومها بدأت سلسلة من المراجعات النقدية، السياسية والفكرية، لتمحيص الأسباب التي قادت إلى الهزيمة. كتب صادق جلال العظم » النقد الذاتي بعد الهزيمة«، ومن ثم»نقد الفكر الديني«، وسعت الحركات القومية لتخطي شرنقتها الشوفينية، والانفتاح على الفكر الديمقراطي التقدمي،  لكنها سرعان ما وقفت في منتصف الطريق، وعادت اليوم تجاهد لطي صفحة المراجعة هذه من تاريخها، لا بل وتعتبرها نقيصة يتعين التبرؤ منها. كنا وقتها تلاميذ في المدارس، ولكن أذهاننا ابتدأت تتفتح على ذلك الوعي النقدي الذي طبع المرحلة، وفي تلك الأثناء شاهدت الفيلم الشهير ليوسف شاهين:»العصفور«، وما زلت أذكر الأداء المدهش للفنانة محسنة توفيق فيه، وهي تنطلق غاضبة إلى الشارع، حين أعلن الزعيم جمال عبد الناصر تنحيه من منصبه، وما زلت أذكر أيضاً الصوت الرخيم للراحل الشيخ إمام وهو يؤدي أغنية:»مصر يمه يا بهية« على خلفية بعض مشاهد الفيلم. كان ذلك الفيلم شهادة على الهزيمة وإعلان رفض قاطعٍ لها، في سياق المراجعة النقدية التي أرادت أن تتخطى الهزيمة وتؤسس للمستقبل، ثقة في مقدرة الناس على أن يصنعوا ما يبدو مستحيلاً، وأن يبقوا من التاريخ منفتحاً على أفقٍ جديد. في العام ٥٧٩١أصبحت طالباً في جامعة القاهرة، وكان أن حضرت أسبوعاً لأفلام يوسف شاهين، رافقته ندوات تطبيقية، فاكتشف عالم هذا المخرج، الذي توالت تجاربه في العقود التالية وازدادت نضجاً فنياً، وهو يتتبع متغيرات العالم وتحولاته بعينٍ فاحصة.  من الإسكندرية التي عاد إليها جثمانه أخيراً ليرتاح في تربتها الطيبة انطلق يوسف شاهين إلى مصر كلها، ومنها إلى العالم. وظلت الإسكندرية، هذه المدينة الرائعة، التي كانت ملتقى للثقافات والحضارات والجنسيات المختلفة حاضرة في روجه وقلبه، حياها بأكثر من فيلم، وهو يروي تاريخ مصر المعاصر من خلال سيرته الذاتية، كأنه يريد القول انه، بمقدار من المقادير، نتاج روح التسامح والتعايش التي طبعت هذه المدينة التي نشأ فيها. تجربة يوسف شاهين تؤكد القاعدة التي لا يريد الكثير من المهووسين بالعالمية أن يصغوا إليها، وهي أن عالمية الفنان تتحقق بمدى انغراسه في تربة وطنه وقضايا شعبه. كان يوسف شاهين مخرجاً عالمياً، للدرجة التي جعلت قصر الاليزيه الفرنسي ينعاه بعد رحيله، وقبل ذلك كان العالم كله قد اعترف به مخرجاً كبيراً داعياً لحوار الثقافات وتفاعلها، ونبذ الانغلاق والتزمت، ولكن من موقع الانتماء لمصر وللثقافة والتاريخ العربيين. إن أفلامه التي تكاد تبلغ الأربعين فيلما أنجزها خلال ستة عقود من عمره الذي تجاوز الثمانين هي سيرة مصر المعاصرة، في تحولاتها وانعطافاتها، في هزيمتها وفي نصرها، في انكساراتها وفي وعودها.

الأيام البحرينية في 31 يوليو 2008

 
 

وفاة المخرج المصري يوسف شاهين

من الإسكندرية... إلى العالمية... إلى المثوى الأخير

الوسط - محرر فضاءات

غيب الموت المخرج المصري الكبير يوسف شاهين عن عمر ناهز 82 عاماً بعد نحو خمسة أسابيع من دخوله في غيبوبة نتيجة نزيف في المخ.

وقالت وكالة «أنباء الشرق الأوسط» ان شاهين وافته المنية يوم الأحد 27 يونيو/ حزيران الجاري في مستشفى المعادي للقوات المسلحة بالقاهرة التي نقل إليها قبل نحو عشرة أيام بعد إجراء جراحة مؤخرا في فرنسا لإصابته بنزيف دموي بالمخ.

وأقيم قداس على روح شاهين ظهر الاثنين التالي لوفاته في كاتدرائية القيامة في بطريركية الروم الكاثوليك في الظاهر بالقاهرة، ووري جثمانه الثرى بمقابر العائلة بالإسكندرية يوم الثلثاء.

وكان شاهين وهو أشهر مخرجي مصر والعالم العربي قد تعرض لإصابة في الرأس يوم 14 يونيو/ حزيران الماضي، أدت لحدوث نزيف في المخ «تحت الأم الجافية» دخل بعدها في غيبوبة.

ولد شاهين في مدينة الإسكندرية الساحلية في 25 يناير/ كانون الثاني عام 1926 لأسرة مسيحية من أصول لبنانية. ودرس الفقيد في مدرسة فكتوريا الشهيرة بالمدينة قبل أن يحصل على ماجستير في الدراما والفنون المسرحية من معهد «باسا دينا» بولاية كاليفورنيا الأميركية.

واشتهر شاهين بإخراج طيف واسع من صنوف الدراما السينمائية كالأفلام التاريخية والواقعية والرومانسية والذاتية، بالإضافة إلى أفلام ذات طابع فانتازي.

وتناول شاهين الذي يطلق عليه «فلليني العرب» مواضيع عدة في أفلامه كمسألة الصراع الطبقي والقمع السياسي والكبت الجنسي قبل أن يركز في أفلامه الأخيرة وخاصة «المهاجر» و «المصير» و«الآخر» على نقد الأصولية الإسلامية.

بدأ شاهين مشواره مع الشاشة الفضية في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1950 عندما عرض أول أفلامه «بابا أمين» المقتبس عن رواية أميركية، ثم أخرج عدة أفلام منها «ابن النيل» و «المهرج الكبير» و«سيدة القطار» و «نساء بلا رجال».

إلا أن أسلوب شاهين الواقعي المتميز لم يتضح إلا بعد فيلم «باب الحديد» الذي أنتج العام 1958 ويصور فيه شاهين الصراع بين المهمشين في كبرى محطات القطارات بالقاهرة بطريقة لم تكن مألوفة في السينما المصرية. إلا أن الفيلم الذي قام شاهين بأداء احد ادوار البطولة فيه فشل تجاريا بشكل ذريع.

ولم تبدأ شهرة شاهين الحقيقية إلا بعد استعانته ببعض النجوم الكبار كعمر الشريف وفاتن حمامة اللذين اخرج معهما فيلميه «صراع في الوادي» و «صراع في الميناء».

وبدا شاهين رحلته مع الأفلام التاريخية بإخراج فيلم «جميلة» عن المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد في عام 1958، وفيلم «الناصر صلاح الدين» في عام 1963 والذي صور حياة صلاح الدين الأيوبي وقتاله الصليبيين، إلا أن نقادا كثرا رأوا في الفيلم إسقاطا على الزعيم المصري حينها جمال عبدالناصر.

إلا أن شاهين بدأ يطور خطا فنيا ناقدا لمسيرة ثورة يوليو/ تموز عام 1952 المصرية التي قادها عبدالناصر وخاصة مقولات حماية الفقراء ونشر العدالة الاجتماعية والحرية السياسية وذلك في أفلام الأرض (1969)، والاختيار (1970)، والعصفور (1972)، وعودة الابن الضال (1976).

كما صور شاهين حياته الشخصية في ثلاثيته إسكندرية ليه (1979)، وحدوتة مصرية (1982)، وإسكندرية كمان وكمان (1991).

وكان آخر فيلم لشاهين هو فيلم «هي فوضى» الذي صوره العام الماضي بالتعاون مع تلميذه خالد يوسف وحقق نجاحا جماهيرياً كبيراً، ويتناول فيه ظاهرة التعذيب في مصر واستغلال عناصر الشرطة لمناصبهم لتحقيق مصالحهم الخاصة.

وحصل شاهين على عدة جوائز دولية منها جائزة مهرجان قرطاج عام 1970 عن فيلم «الاختيار»، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان برلين عن فيلم إسكندرية ليه في عام 1979. كما حصل على جائزة مهرجان كان في عام 1997 عن مجمل أعماله الفنية.

وشاهين متزوج من الفرنسية «كوليت» وليس له أي أبناء.

آراء في شاهين

على رغم اختلاف وجهات نظر النقاد والمخرجين حول السينما التي قدمها شاهين في سنواته الأخيرة، فان الجميع يتفق على أن شاهين هو الذي أوصل السينما المصرية للعالمية واحتفاء مهرجان كان به ومنحه جائزته في الذكرى الخمسين لتأسيسه دليل على ذلك.

يقول الفنان نور الشريف الذي عمل معه في «حدوته مصرية» و «المصير» و «11 سبتمبر» إن «أفضل ما يمكن قوله لوصف تجربة شاهين قبل أفلامه (العصفور) و(الأرض) بأنه ثوري شيطاني كما عبرت عنه أفلامه الأولى دون أية أبعاد تنظيرية(...) لديه إحساس مبكر بتلمس هموم الوطن والمواطنين».

وأضاف الشريف «كان وعيه المبكر بهذه الهموم مدهشا فمثلا فيلم (نداء العشاق) كان يحمل دعوة مبكرة للحفاظ على عمال المصانع وتوفير التأمين الصناعي الذي لم يكن مطروحا في تلك الفترة في الواقع المصري».

وكان شاهين كذلك مهتما «بالصراع العربي الصهيوني من خلال الاسترجاع التاريخي للحروب الصليبية في فيلم (الناصر صلاح الدين) والصراع ضد الاستعمار كما في (جميلة بوحيرد) إلا أن وعيه حقق قفزه جديدة بعد (الأرض) و (العصفور) إثر احتكاكه وتعامله مع قادة الفكر الاشتراكي في مصر مثل عبدالرحمن الشرقاوي ولطفي الخولي».

وشاهين لا يمكن أن تراه بأي شكل من الأشكال مواليا للنظام السياسي الحاكم أو للرأسمالية أو الإقطاع أو ظلم الإنسان للإنسان وهو ما عبرت عنه أفلامه الـ 33 بدءاً من عام 1949 مع فيلم «بابا أمين».

فهو «حارب الإقطاع في (صراع في الوادي) والرأسمالية في (صراع في الميناء) وكان التزامه نابعاً من موقف أخلاقي إنساني أكثر منه بعدا أيديولوجيا»، كما يؤكد المخرج داود عبد السيد الذي عمل معه مساعداً في فيلم «الأرض» احد علامات السينما المصرية المميزة وأحد 12 فيلما ليوسف شاهين اختيرت من بين أهم مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية.

ويرى داود عبد السيد أن «شاهين لم يدخل في صراع مباشر مع الدولة لكنه كان يتطرق إلى ملامح إنسانية مفقودة بسبب الظلم الواقع على الإنسان وهذا نابع من تجربته كرجل جاء أهله من لبنان وولد وعاش في مدينة كوزموبوليتية شهدت بدايات وعيه وسط جاليات أوروبية ودرس في مدرسة مختلطة وأتقن الفرنسية والانجليزية».

ويضيف «على رغم سقف الحرية المنخفض وأجواء الرقابة المتشددة استطاع شاهين اختيار اللحظة التي توافق فيها الدولة على تصوير أفلام متميزة مثل (الأرض) لأنها كانت تستجيب في تلك الفترة لرغبة الدولة التي بدأت مشروع الإصلاح الزراعي ومواجهة الإقطاع».

ويعتبر داود السيد أن ذلك «ينطبق أيضا على فيلمه الرائع (النيل والناس) الذي يصور انتصار الإنسان على النهر بتشييد السد العالي والعلاقات الروسية المصرية وهو توجه كانت توافق عليه الدولة».

والى جانب الموقف السياسي والاجتماعي والاقتصادي حارب شاهين بشجاعة التطرف الديني ورفضه في أكثر من فيلم. وتشير الناقدة علا الشافعي إلى أن «شاهين اخذ على عاتقه بصورة مبكرة مواجهة التطرف الديني وكشف الدور العالمي في تشجيع هذه الظاهرة في عدد من أفلامه مثل (المصير) و(الآخر)».

هذه الاهتمامات الإنسانية والاجتماعية والسياسية مزجها شاهين في أفلام سيرته الذاتية الأربعة خصوصا فيلم «إسكندرية ليه» الذي صور أوضاع مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952، فقام بتصوير الحراك الاجتماعي فيها ودور الحركة الشيوعية في المجتمع وتأثيرها إلى جانب تأثير الحرب العالمية الثانية ودور النازية وتأثير ذلك على اليهود المصريين وهجرة أعداد كبيرة منهم تخوفا من وصول النازيين إلى مصر.

واستكمل ذلك في فيلم «إسكندرية كمان وكمان» الذي صور مقاومة الاحتلال البريطاني مروراً بفيلم «حدوته مصرية» وصولا إلى إدانته للسياسة الأميركية وقطيعته معها في آخر هذه الأفلام «إسكندرية نيويورك».

وجاء آخر أفلامه الذي أخرجه وتلميذه خالد يوسف «هي فوضى» ليعبر عن رفضه لما يجري في الواقع المصري من خلال تصويره للفساد والقمع البوليسي وتحيزه لصالح الجمهور وسيادة القانون الذي يراعي الإنسان وحقوقه.

وهو الفيلم الذي قال شاهين في لقاء مع فرانس برس انه «يسعى من خلاله للتأكيد على حق الإنسان بالعيش بكرامة في بلاده ورفض انتشار رجال الأمن في كل مكان رغبة من النظام ببث حالة من الرعب والخوف حيث يقوم مئات من الأمن المركزي بمحاصرة بضع عشرات من المتظاهرين الواقفين على باب نقابة الصحافيين».

واستطاع صاحب أهم مدرسة سينمائية عربية خرجت العديد من المخرجين اللامعين مثل داود عبد السيد ويسري نصر الله وعلي خان ومجدي احمد علي وخالد يوسف، ومن الممثلين مثل عمر الشريف وخالد نبوي ومحسن محي الدين وهاني سلامة وروبي وآخرين أن يعلم جيلا قدم أفضل ما أنتجته السينما المصرية.

وهو كما تصفه يسرا التي عملت معه في خمسة أفلام أولها «حدوته مصرية» في عام 1982 ثم «المهاجر» وصولا إلى «إسكندرية نيويورك»، «أسطورة غير متكررة في السينما العربية والعالمية».

وقالت يسرا إن «تأثيراته لا يستطيع احد أن ينكرها محليا وعالميا»، مشيرة إلى «القيمة الإنسانية التي يمثلها شاهين الذي يؤسس لعلاقات عائلية بين العاملين معه ويخلق أجواء تدفع الجميع للتعامل كأسرة واحدة يحبون بعضهم ويحملون همومهم المشتركة».

وتؤكد الفنانة ليلى علوي ذلك بقولها «استفدت منه ليس على الصعيد العملي فقط في فيلم المصير بل من الناحية الإنسانية فهو من القلائل الذين يفهمون العمق الداخلي للإنسان والفنان وقدم لي إجابات على أسئلة كثيرة تجول في داخلي كنت بحاجة للتأكيد عليها».

الوسط البحرينية في 31 يوليو 2008

 
 

... والمبدع نفسه كيف ينظر الى أفلامه وعلاقتها بحياته ومجتمعه؟

يوسف شاهين: سيرة ذاتية في أعمال اكتشف الآخرون أهميتها متأخرين

ابراهيم العريس

لم يكن المخرج الكبير الراحل يوسف شاهين من المبدعين الذين يستنكفون عن الإدلاء بأحاديث صحافية... بل كان هذا من هواياته، غير أن اللافت هو أن صاحب «الأرض» و«العصفور» الذي ودعه كبار مصر والعالم العربي والفنانون الذين عرفوه عن قرب وأحبوه وأحبوا سينماه، كان قليلاً ما يتحدث في الحوارات عن أفلامه، مفضلاً في أغلب الأحيان أن يخوض في أمور تدور من حول تلك الأفلام، ولا سيما حين تدنو سينماه من القضايا السياسية والاجتماعية. ومع هذا، إذ تحرى المرء نصف قرن من الحوارات مع شاهين، سيعثر على حوارات أساسية، حرص فيها هذا الفنان على التكلم عن أفلامه. وهذه الحوارات يمكن أن تشكل في مجموعها متناً يكاد يكوّن نظرة شاهينية الى سينما شاهين، متناً متكاملاً مترابطاً، تدهش قراءته مجتمعاً، كيف ان «جو» كان دائماً أقدر من كثر من الذين كتبوا عن أفلامه، تأييداً أو استهجاناً أو بين بين، على الغوص في تلك الأفلام، وليس دائماً من موقع المؤيد لها دون قيد أو شرط، فهو الذي كان، بحسب تعبيره «لا يتوقف عن انتقاد كل ما لا يراه مصيباً وحسناً في الحياة المصرية - والعربية  - «لم يكن في وسعه أن يمر من دون انتقاد على أعماله نفسها. وهنا في هذه الفقرات التي جمعناه من سلسلة طويلة من حوارات مع شاهين، أو من تصريحات له، نقرأ هذا الفنان يحدثنا عن بعض أفلامه ومراحله الأكثر دلالة، بوضوح وألفة. وأحياناً عبر مسافة تجعله يبدو وكأنه يتحدث عن أفلام حققها آخرون. وهذه الفقرات هي جزء من متن طويل، يشكل أحد فصول كتاب لكاتب هذه السطور عن سينما يوسف شاهين عنوانه «نظرة الطفل وقبضة المتمرد» سيصدر عن «دار الشروق» في مصر، خلال الأسابيع المقبلة.

* «بابا أمين» (1950)

حين عدت الى مصر (من الولايات المتحدة)، كان في مصر سينمائي ايطالي يدعى جياني فرنوتشي، يحاول أن يحقق فيلماً فيه شيء من «الواقعية الجديدة». في ذلك الحين لم أكن أعرف عن هذه الواقعية شيئاً لذلك اكتفيت بمراقبته خلال عمله. وفي يوم من الأيام تشاجر هذا السينمائي مع المنتج الذي طلب مني أن أكمل العمل مكانه، لكنني اقترحت على المنتج أن أعمل معه ما ان ينتهي من ذلك الفيلم. كنت يومها في الحادية والعشرين. ومن الواضح أنني كنت سخيفاً تماماً. كان لي أنف طوله ستة أمتار وأذنان مثل شراع المركب. وقال لي أحد المنتجين انهم لا يستطيعون أخذي مأخذ الجدية، ونصحني بأن أزيد من وزني بعض الشيء وأن أعتني بمظهري. فلو فعلت ربما يتنبه إليّ أحد. إذ حتى كمخرج كان لا بد للناس من أن يهتموا بمظهري. وكانت المرحلة شديدة الثراء في مصر في ذلك الحين، إذ كانت مصر تنتج ما لا يقل عن 120 فيلماً في السنة. وحدث ذات يوم أن نظر اليّ أحدهم بكل جدية وسألني عما أنوي فعله، فقلت: فيلم «ابن النيل». وكان الموضوع عن الفلاحين. وكان لدي السيناريو جاهزاً بل ومقطعاً. وكذلك كان لدي تقطيع سيناريو «بابا أمين» الذي سرعان ما صار هو فيلمي الأول. والحقيقة أن هذا الفيلم الذي يمكن أن نصفه بأنه «كوميديا موسيقية»، لم يكن كوميدياً ولا درامياً. بل كان أشبه برصد واقعي لحياة عائلة تنتمي الى البورجوازية الصغيرة. وكان رب هذه العائلة يشبه والدي نفسه. والمهم أنني أنا في حياتي الشخصية لم أكن أبداً منجذباً الى هذا النوع من الناس الجيدين. ولكن بما أن زمن السينما المصرية في ذلك الحين كان العصر الذهبي للميلودراما وللكوميديا، اخترت الكوميديا الخفيفة مع قسط وافر من الانفعال العاطفي.

* «صراع في الوادي» (1953)

لقد رسخ «صراع في الوادي» قدميّ في صناعة كان معظم أساتذتها في ضعف سني. وكانت تجربة إطلاق وجه جديد (عمر الشريف) مثيرة للغاية. كذلك كان التصوير وسط المعابد البديعة واستعمال هندستها عنصراً درامياً في البناء الشكلي لمشاهدة المطاردة الأخيرة. ولا بد من ان أذكر هنا أنني خلال الفترة السابقة على تحقيقي هذا الفيلم، كنت قد بدأت أشعر بشيء من القلق والتوتر الغامضين. وحتى الآن لست أدري سر ذلك. فأنا لم أكن منتمياً الى أي حزب، لكنني كنت أحدس بحدوث أمر ما. والحال أنني كنت كتبت «صراع في الوادي» مع علي الزرقاني في وقت كان الملك فاروق لا يزال في الحكم. والفيلم جاء يحكي نضال مهندس شاب (عمر الشريف في دوره السينمائي الأول)، هو ابن فلاح، ضد الباشا الإقطاعي وزبانيته. كان فيلماً موجهاً ضد طبقة الإقطاعيين. وعندما كتبت السيناريو كانت أيدينا على قلوبنا خوفاً من الرقابة. ولكن فجأة قامت الثورة وصار في وسعنا أن نعبّر عن أنفسنا في شكل أوضح بعض الشيء.

* «باب الحديد» (1958)

كان جيداً بالنسبة إلي أن أحقق هذا الفيلم بعد تجربتيّ مع فريد الأطرش والكوميديا الغنائية على طريقته. ذلك أننا في هذا الفيلم لم نعد أمام الشاب الطيب الساحر ذي القلب الجريء، بل نجدنا أمام شخص يعاني، وفي الوقت نفسه لأسباب اجتماعية وسيكولوجية. وأعتقد اليوم أنني في «باب الحديد» تمكنت، وفي شكل جيد، من أن أحدد الشخصيات وبيئتها الاجتماعية. هذا الفيلم يعني لي الكثير. وأرى أنني عبرت في هذا الفيلم عن قناعتي بأن العلاقات بين الفرد والمجتمع غالباً ما تزيف بفعل الدور الذي يجبر المجتمع الفرد على لعبه. ومع هذا لا بد من أن أقول انني مع «باب الحديد» واجهت أزمة كبيرة. ارتكبت خطأ في طريقة الدعاية للفيلم، إذ ركزت على بطلي الفيلم فريد شوقي وهند رستم، وكان لكل منهما أسلوبه الذاتي، في حين انهما ظهرا في الفيلم بأسلوب مغاير تماماً. فلم يتقبلهما الجمهور. وفي مطلق الأحوال كان «باب الحديد» جديداً في أسلوبه. أو لنقل كان مختلفاً. أما رد فعل الجمهور فكان عنيفاً. وتضايقت جداً ووصل بي الأمر الى حد الإعياء. «باب الحديد» كان، في هذا المعنى، صدمة شديدة. شتموني عند عرض الفيلم. وأعتقد أنهم ظلموني لأن الفيلم كان جيداً فعلاً. وكان من أفضل أفلامي لحد اليوم.

* «جميلة الجزائرية» (1958)

هذا الفيلم (الذي بني على فكرة ليوسف السباعي، وشارك في كتابة السيناريو له نجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي وعلي الزرقاني) كان بداية تعاملي المباشر مع موضوع سياسي في جوهره... لقد عاب الجزائريون على الفيلم أنه اهتم بشخصية بطولية، بينما حرب الجزائر كانت ثورة الملايين. هذا الفيلم لو حققته ثانية اليوم سيأتي بالطبع مختلفاً، لكنني مقتنع بأنه كان يحمل في ذلك الحين شحنة لا بأس بها من اتهام لقمع الاستعمار ووحشيته. كان صرخة تنادي بحق الشعوب في حريتها

* «الناصر صلاح الدين» (1963)

الحقيقة انني إذ كنت بداية الستينات من القرن الماضي قد تمكنت من تجاوز المرحلة السوداء في حياتي، فإن الفضل يعود في ذلك الى المخرج المرحوم عز الدين ذو الفقار. فهو كان من المفروض أن يقوم بإخراج فيلم عن صلاح الدين، إلا أنه تعرض لأزمة صحية فطلب مني أن أُخرج الفيلم مكانه. في البداية رفضت الفكرة تماماً. فعز الدين كان يعمل على إعداد الفيلم منذ سنوات، فكيف أحل محله؟ إلا انه أصرّ قائلاً لي ان هناك الكثير من المخرجين الذين يتطلعون الى إخراج الفيلم، ولكنه هو لا يريد أحداً غيري. فوافقت وبدأت العمل في «صلاح الدين». ولا بد ان من أذكر هنا أن الدولة المصرية أنشأت القطاع العام في السينما خصيصاً من أجل صلاح الدين. وبالنسبة إليّ ساعدني هذا الفيلم تماماً على الخروج من الحقبة السوداء التي كنت غرقت فيها. ومن الناحية الفكرية والسياسية رغبت من خلال هذا الفيلم أن أؤكد مبدأ التسامح المطلق الذي يحكم تعامل العرب مع بقية الأديان.

* «بياع الخواتم» (1956) ثم «رمال من ذهب» (1966)

بعد إنجاز «فجر يوم جديد» وعرضه، شعرت أن البيروقراطية الناصرية بدأت تثبط من عزيمتي، إذ راحت تسيطر تماماً، من طريق القطاع العام على المؤسسة العامة للسينما وعلى ما ينتج في مصر بالتالي. وكانت تلك هي الفترة التي دعيت فيها الى بيروت لحضور العرض العالمي الأول لـ «فجر يوم جديد» ضمن إطار مهرجان بيروت السينمائي الدولي، في خريف 1964. وهناك في بيروت التقيت الأخوين عاصي ومنصور الرحباني اللذين عرضا عليّ أن أخرج أول فيلم سينمائي تقوم ببطولته فيروز. وكان الفيلم عن مسرحية «بياع الخواتم». ولما كنت، أنا، في وضع سيئ جداً، كان لا بد من أن يظهر هذا الوضع على الفيلمين اللذين حققتهما خارج مصر («بياع الخواتم» و «رمال من ذهب»)، لكن «بياع الخواتم» يبقى فيلماً دافئاً. وفيروز شخصية فنية جبارة. وموسيقى الأخوين رحباني جميلة جداً. أما «رمال من ذهب» الذي صورته في إسبانيا والمغرب، فأعتقد أنه أسوأ فيلم صنعته في حياتي. وقد خرجت من هذه التجربة الأخيرة باقتناع راسخ: أنا لا اصلح لما يسمى بـ«كومبينات السينما»، وهكذا عدت الى مصر... بعد عامين من الغياب.

* «الأرض» (1968)

بعد «الناس والنيل»، وبعد فيلم قصير عن الكنيسة القبطية هو «عيد الميرون»، عدت الى مشروع قديم كان يعتمل في ذهني منذ ثماني سنوات على الأقل: تحقيق فيلم عن رواية «الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوي، والتي كانت قد نشرت للمرة الأولى مسلسلة قبل العام 1952. وفي هذه الرواية كان الروائي يتحدث عما يعرفه أكثر من أي شيء آخر، ذلك انه كان هو نفسه فلاحاً. وكنت اشتغلت على السيناريو مع حسن فؤاد واضطررنا الى اختصار مشاهد كثيرة من عمل يزيد عدد صفحاته عن 600 صفحة. وفي البداية كان يفترض أن يكون «الأرض» أول فيلم أحققه بعد عودتي. لكن الحظ جعل «الناس والنيل» يحقق قبله... وكان ما يهمني أكثر من أي شيء آخر لديه طريقته في رسم لعبة التناقضات الاجتماعية وسط عالم مصغر. و «الأرض» هو في نهاية الأمر فيلم عن الصراع الطبقي داخل قرية مصرية. وفيه رغبت ان أبرهن ان الناس غالباً ما يكونون تحت تأثير وضعهم الاجتماعي والاقتصادي. صحيح ان أحداث الرواية (والفيلم) تدور في العام 1933، غير ان هذا التحديد التاريخي لم يكن مهماً على الإطلاق. وأذكر هنا أنني كنت تعاونت مع عبدالرحمن الشرقاوي في فيلم «جميلة الجزائرية» كما في بعض أفلامي الأخرى. و «الأرض» كان يحتوي، في صيغته كرواية الكثير من الطروحات المشتتة. كما ان الفعل فيه لم يكن ذا بعد درامي. وهكذا وجدت نفسي مضطراً الى الاختصار، والى تكثيف الخطاب الذي أريد التعبير عنه، بالاستناد الى إشارات مخبوءة أعدت هيكلتها. وقد سعيت الى الوصول الى توليفة من طريق الصورة، ان أعطي حساً للمتفرج بأنني أرسم الشخصيات رسماً. كما أردت أن أربط بين أحداث ليس ثمة، في الأصل رابط حقيقي بينها. وكنت أريد أن أعبر عن مبرر وجود بعض الأحداث ودلالاتها. في «الأرض» كانت المرة الأولى في حياتي التي آخذ وقتي بكل صبر وأناة من أجل عرض فكرة من الأفكار أو أمر من الأمور. وأنا أعتقد على أي حال أن «الأرض» هو أحد أهم الأفلام المصرية التي أعطت الكلمة للشعب.

* «الاختيار» (1970)

كان «الاختيار» فيلمي التالي بعد «الأرض». وقد حققته خلال مرحلة سياسية شديدة الغرابة. إذ إننا في مصر كنا في حالة أطلق عليها اسم «اللاحرب واللاسلم»: كنا نعيش وسط اللايقين. وكشعب لم نكن نحظى بأي احترام. كانت الكبرياء منتشرة والحاسدون في كل مكان. وكان من الضروري وصف تلك الوضعية التي لا يمكن احتمالها. يومها لفت أحدهم نظري الى حكاية عن الانفصام كان نجيب محفوظ قد كتبها. إنها حكاية أخوين توأمين يختفي واحد منهما. فمن الذي قتل الآخر: هل القاتل هو «الأزعر» ذو القلب الطيب، أم المتعلم ذو الصفات الحسنة والذي يمثلنا في منظمة الأمم المتحدة؟ كان «الاختيار» يريد ان يبني أنه بات من الملحّ أن نتحرك، وإلا فإننا سنعيش جميعاً وسط انفصام تام. ففي ذلك الحين لم يكن أحد ليجرؤ على اتخاذ أي قرار. ولم نكن لنعرف من سيسيطر على من. إزاء هذا كله وجدت الفكرة مهمة للغاية. ورأيت أنه بات في إمكاني أن أعبر عن نفسي في شكل أكثر انفتاحاً، مع شيء من الجرأة الزائدة.

* «اسكندرية ليه؟» (1978)

بدءاً من فترة «عودة الابن الضال» أدركت في أعماقي كم أن التحركات التاريخية التي نعيشها موقتة وغير ثابتة. وتساءلت:... وبعد عبدالناصر ما هي القوة التي تمنعنا من الاستمرار في التدهور وفي التفتت؟ هناك قطيعة في العالم العربي تلزمها قوة كبيرة تعيد التوحيد. ولا يبدو لي أن هناك قوة أخرى في هذا الحجم غير الثورة الفلسطينية. فهي هدفها إنشاء دولة ديموقراطية علمانية. الثورة الفلسطينية كانت القوة التي في وسعها جمع الشمل. وفجأة بدت وكأنها لم تعد تناسب مصالح الأطراف. يبدون جميعاً وكأن فكرة الدولة الديموقراطية العلمانية لم تعد تناسبهم. من هنا، فإن «إسكندرية ليه؟» نافذة صغيرة مفتوحة على هذه الدولة التي يحلم بها الفلسطينيون. لكن الفيلم جاء في فترة يريد فيها كل واحد تفسير ما هي الثورة الفلسطينية بحسب حاجاته الخاصة. من ناحية أخرى يتحدث الفيلم عن يحيى (ابن السابعة عشرة). يوسف شاهين يروي حكاية يحيى كجزء من فترة. وإذا كان «اسكندرية ليه؟» بعد كل شيء فيلماً عن التسامح، فإن هذا نابع من مدينة الإسكندرية نفسها. الاسكندرانيون متسامحون في شكل خاص لأنهم طوال عمرهم عاشوا مع ناس من مختلف الطوائف والجنسيات: مع يهود وطليان ويونانيين وغيرهم. واليهود كانوا عندنا طائفة مثل غيرهم. موضوعهم بدأ يهمنا بسبب قضية فلسطين. أخذ لوناً آخر. ولكن هذا جاء في ما بعد.

* «حدوتة مصرية» (1982)

إن القاسم المشترك بين «إسكندرية ليه؟» و «حدوتة مصرية» هو يحيى، الذي هو يوسف، أي أنا. ومسار هذه الشخصية هو المسار الذي أحكي عنه في الفيلمين. ويحيى/ يوسف هو شخص آلى على نفسه أن يفهم. وأنا فهمت منذ كنت، بعد، يافعاً، انه لا يمكنني في حياتي أن أكتفي برواية الحكايات. كنت أعرف انني ألماني، وكنت أدرك أنني راغب في ان اصرخ، أن أقول لأحد ما انني أعاني. ولعل هذا كان السبب الأول الذي حرك لدي حبي للسينما. ولاحقاً أدركت أن من المفيد أن أقول أيضاً «لماذا» أعاني «ومن ذا» الذي يجعلني أعاني. وبالنسبة الى «حدوتة مصرية» تحديداً، ولدت لدي فكرة الفيلم بعدما اكتشفت أن علي أن أجري عملية قلب مفتوح. وأدركت انني بت على أبواب الموت وراحت تراودني كل تلك الأسئلة: ما الذي فعلته في حياتي حتى اليوم؟ والسينمائي لا يحب، عادة، أن يترك هذا العالم من دون ان يترك وراءه إمارة أخيرة. تماماً مثل خوفو الذي بنى أهراماً لتخليد ذكراه، أو مثل الجار الذي يؤمن بالمثل القائل «من خلّف لم يمت». أنا لم يكن لدي ابن ولا أستطيع أن ابني اهراماً. فماذا أترك ورائي؟ بضعة أفلام.

* «اليوم السادس» (1986)

حققت «اليوم السادس» عن رواية اندريه شديد، أولاً، لأن هذه الرواية كانت تعجبني جداً. وكنت منذ سنوات طويلة أرغب في تحويلها الى فيلم. لفتت الرواية نظري منذ كنت أصور «باب الحديد». ولهذه الرواية على أية حال مدلولاتها لجهة السياسات الخطأ. صحيح ان الاحتلال البريطاني صار جزءاً من الماضي، لكن اليوم هناك الاحتلال الاقتصادي، طالما أننا لم نفهم بعد ما هو الاقتصاد. في كلا الحالين أنت تحت رحمة الآخرين. عندما حققت «اليوم السادس» شعرت بأنه كان عليّ أن اذكّر بالحقوق الأساسية للإنسان. وقد قالت لي أندريه شديد بعد مشاهدتها الفيلم: ليتني كنت كتبت الرواية بعد أن شاهدت الفيلم. أجل ان ما يجمع بين صديقة (داليدا) وتحفة (محسن محيى الدين) في الفيلم هو حبهما معاً للسينما ومشاهدة الآلام. كلنا تربينا على السينما وتعلمنا أشياء كثيرة من خلالها. أنا استغرب جداً كيف أن رؤساء وقادة بلدان يحتلون أعلى المناصب يقللون من شأن السينما، بل حتى يستخفون بها.

* «المهاجر» (1994)

لقد حاول البعض أن يقول ان قصة فيلم «المهاجر» هي نفسها قصة يوسف وأخواته، لكن هذا ليس صحيحاً. لا أقول ان ليس ثمة نوع من التشابه. ومع هذا أؤكد ان «المهاجر» هو بالنسبة إلي استكمال لسيرتي الذاتية. إن المهم في هذا الفيلم، بالنسبة إليّ، هو القرار الذي يتخذه رام، بطل الفيلم، بترك الصحراء التي يعيش فيها، للبحث عن العلم حيث يجده. قرر رام أن يعمل المستحيل لكي يحصل على العلم. وهذا ما حصل معي حين سافرت الى أميركا. أنا تعلمت في أميركا، ولكنني لم أبق في أميركا. عرضوا علي أن أبقى هناك وأعلم، وكنت في تلك الفترة في الثانية والعشرين من عمري، وبالتالي كان في إمكاني أن أبقى هناك وأبدأ حياتي من جديد. ولكنني لم أفعل. قراري كان ان اذهب الى أميركا وأتعلم شيئاً وأعود الى بلادي وأحاول ان أكون مفيداً لشعبي أولاً. لقد كان على الذين زعموا أن ما في الفيلم هو قصة يوسف، ان يتذكروا الفارق الجوهري بين رام ويوسف: فيوسف يهاجر الى مصر ويبقى فيها. لقد قالوا ان هناك تشابهاً بين هذا المشهد في الفيلم، وذاك في حياة نبي من الأنبياء. والحقيقة أن صفع أب لابنه أمر موجود منذ فجر التاريخ!

* «المصير» (1997)

فيلم «المصير» الذي أتى بعد «المهاجر» حققته كما كنت أريد تماماً. لقد قلت لهم منذ البداية انه إذا كانت لدى الرقابة أسئلة تود طرحها عليّ بسببه فلتفعل. فلتقل لي أين تكمن المشكلة؟ إن المثقفين في شكل عام يحاولون دائماً تمرير رسالة تختلف عن رسالة المتشددين. ومصر أمة فيها تنويعة كبيرة من الناس. ومعنى هذا أن المسألة تقوم أولاً وأخيراً في معرفة كيفية تعبئتهم. لكنني خلال المحاكمة التي خضع لها «المصير» خاب أملي كثيراً إزاء موقف بعض السينمائيين الذين لم ألحظ لهم حضوراً خلال المحاكمة. ومع هذا لا بد من أن اذكر أن هناك كتاباً وشعراء وقفوا الى جانبنا. وهذا الأمر كان له تأثير فيّ. وتمكنت حقاً من ان اعكس هذا التأثير في «المصير». لقد أردت في «المصير» أن أذكر بأن الفكر ينبع من الإنسان. ومناقشة ما هي الحضارة أو كيف يتم التواصل بين الناس، أمور تجعلنا نتذكر مسائل قد يحدث أننا ننساها في بعض الأحيان.

* «الآخر» (1999)

لقد فكرت بهذا الفيلم وموضوعه خلال السنوات الثلاث السابقة على تصويره. ورحت أبحث عن كل المعطيات التي يمكن توافرها حول موضوعه. والموضوع هو العولمة التي كنت توقعت سلفاً أنها لن تمر إذا ما بقيت من دون ضوابط. بل ستشكل خطراً كبيراً حتى على الأجيال المقبلة، ويمكن ان تقضي عليها. وهذا ما أردت قوله في الفيلم. وهو نفس ما تعبر عنه التظاهرات الكثيرة التي يشهدها العالم ضد العولمة والتي يقوم بها أناس يفكرون بالأمر كما أفكر أنا. لقد سررت بهذه التظاهرات لأنها كشفت لي انني لست وحدي.

* «الاسكندرية - نيويورك» (2004)

الى حد ما، يتطابق الحلم الأميركي لديّ مع حلم حياتي. كنت في التاسعة من عمري حين اصطحبتني جدتي الى صالة بائسة في الحي الذي كنا نقطنه: كان هناك ثلاثون كرسياً مخلعة من القصب، وفي صدر المكان شاشة صغيرة يبث عبرها عدد من المشعوذين خيالات صينية. هناك، فجأة ومن دون أي استعداد مسبق، حدثت لدي تلك الخبطة العاطفية القوية: اتخذت بيني وبين نفسي القرار بأن أقلدهم وأن أدهش جمهوراً ما. بعد ذلك دخل حياتي عدد لا بأس به من أفلام الكوميديا الموسيقية، الفرنسية أولاً مثل أعمال هنري غارا وليليان هارفي. بعد ذلك جاءت الحرب العالمية الثانية ووصلت معها الكوميديا الموسيقية الأميركية. ذلك أن أوروبا كانت في ذلك الحين معزولة وغير قادرة على ان توصل الينا أفلامها. ومع هذا لا بد من أن أقول بكل تأكيد ان فيلم «الفأس الكبير» لجوليان دوفيفييه، الذي شاهدته أكثر من أربعين مرة، كان هو الفيلم الذي جعلني أتخذ قراري النهائي من دون تراجع. ومنذ ذلك الحين انطلقت، ولم أتوقف بعد ذلك عن الانطلاق أبداً(...). حين كنت أصور في نيويورك، كنت أشعر بسعادة مطلقة. لكنني كنت في الوقت نفسه مأخوذاً بالشخصيات التي أصورها اكثر مما كنت مأخوذاً بالأمكنة.
هذه التوليفة من تصريحات شاهين حول أفلامه، جرى اقتباسها وربطها، بالاستناد الى حوارات طويلة أجريت مع الفنان، ونشرت في كتب أو في مجلات عربية أو فرنسية أو إنكليزية.

الحياة اللندنية في 1 أغسطس 2008

 
 

يوسف شاهين.. ذكريات ما قبل الرحيل

عدنان مدانات*

كنت ما أزال على مقاعد الدراسة الثانوية حينما سمعت باسم يوسف شاهين للمرة الأولى، من خلال برنامج سينمائي إذاعي ثقافي كان يعده ناقد يهتم بالتعريف بالسينما العربية الواقعية، حيث تحدث كثيرا عن فيلم جديد لشاهين بعنوان ''باب الحديد'' عدّه نقطة تحول في السينما المصرية الواقعية جنبا إلى جنب مع فيلم آخر بعنوان ''درب المهابيل'' للمخرج توفيق صالح. بعد عام من ذلك سيتردد اسم يوسف شاهين بقوة في أرجاء العالم العربي مع النجاح الجماهيري الساحق لفيلم جديد له بعنوان ''جميلة'' عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، حيث ساهمت في هذا النجاح الحماسة القومية العربية للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي.

في العام 1967 سنحت لي الفرصة للقاء الشخصي الأول يوسف شاهين، وكان ذلك في موسكو، وتحديدا في الفناء الأمامي للمبنى القديم لجامعة موسكو الواقع وسط المدينة على مسافة خطوات من الساحة الحمراء الشهيرة. كنت خرجت لتوي من محاضرة عندما شاهدت فريق تصوير سينمائياً يجري الترتيبات لإخراج مشهد ما. اقتربت من فتاة من ضمن الفريق ذات ملامح شرقية وحاولت التحدث معها بالروسية غير أنها أجابتني بلغة عربية ولهجة مصرية أنها لا تفهم ما أقول. عندما علمت هذه الفتاة أنني عربي وأنني أدرس في هذه الجامعة ركضت نحو شخص نحيل وحدثته بشيء ما فاتجه نحوي مرحبا وتبادل معي بعض الحديث، واستفسر عن أحوالي وكأنه صديق قديم، وأبدى اهتماما خاصا عندما أبلغته أنني أدرس السينما، وشجعني على أن آخذ الأمر بكل جدية، ثم تركني ليتابع ما كان يعمله. كان هذا الرجل هو يوسف شاهين، وكان يعمل على فيلم، رجاني أن لا أن لا أفشي سره بين الطلاب العرب، وهو الفيلم المكرس لبناء السد العالي بدعم من الاتحاد السوفياتي، والذي سيعرف لاحقا باسم ''الناس والنيل''. لم أفهم في حينه لماذا لم يرد يوسف شاهين أن أبلغ أحدا بوجوده، أكان بسبب حساسية موضوع الفيلم، والذي لن يرى النور لاحقا، ربما بسبب هذه الحساسية، أم رغبه منه في تجنب ازدحام قد يعيقه عن العمل ينتج عن توافد الطلاب العرب على الموقع للقاء المخرج العربي الشهير.

بعد سنوات من ذلك اللقاء الذي لا أعتقد أنه بقي منه شيء في ذاكرة شاهين، فأنا كنت مجرد طالب جامعي التقاه لقاء عابرا، سنحت لي فرصة جديدة للتعرف على يوسف شاهين ولكن هذه المرة في تونس أثناء حضوري مهرجان قرطاج السينمائي في أواسط سبعينيات القرن الماضي، الذي كان شاهين أحد ضيوفه النجوم. عندما جمعتنا جلسة مع سينمائيين آخرين ذكّرت يوسف شاهين بلقائي الأول معه في موسكو ثم أهديته نسخة من كتاب كان صدر لي قبل فترة بعنوان ''بحثا عن السينما'' عن دار القدس ببيروت والتي أسسها الكاتب والمحلل الصحفي مازن البندك، وقد أهديته نسخة الكتاب لمجرد المجاملة، وكنت واثقا أنه لن يتصفحه حتى. في اليوم التالي بادرني يوسف شاهين بتلقائيته المعروفة عنه بشتيمة ودية: ''دا انت ابن كلب''. سألته ضاحكا: ''لماذا''؟ أجاب بسرعة: ''لم أنم طوال الليل بسبب كتابك''.

سألتقي بيوسف شاهين مرارا في السنوات اللاحقة في أكثر من مهرجان سينمائي، ستتاح لي فرصة الحديث لوقت قصير معه أحيانا، وأحيانا أخرى لن أحظى بهذه الفرصة لكثرة من يحيطون به. سأكتشف في أحد هذه اللقاءات جانبا آخر من شخصية شاهين العفوية، فذات مهرجان سينمائي في موسكو طلب مني شاهين أن أحضر معه لقاء مع أحد مسؤولي المهرجان السوفيات للمساعدة في الترجمة إن اقتضت الحاجة، على الرغم من وجود مترجم مصري كان مرافقا لشاهين يعيش في موسكو ويحضر لشهادة الدكتوراه. بعد تبادل المجاملات اندفع شاهين بالحديث حول العلاقات المصرية السوفياتية والتضامن السوفياتي مع مصر، ثم أخذته الحماسة فبدأ يتحدث عند جمال عبد الناصر موجها انتقادات لسياسات عبد الناصر الداخلية. كان شاهين يتحدث بحماسة شديدة وبسرعة كلام لا يستطيع المترجم أن يجاريه فيها ويتنقل من فكرة لفكرة ومن موضوع لموضوع ولا يتوقف إلا حين يطلب منه المترجم ذلك. كنت أستمع صامتا دون أن أتدخل فيما كنت أضحك في سري، فقد كان شاهين يقول أشياء سلبية عن عبد الناصر؛ في حين كان المترجم يترجم كلاما آخر مناقضا كليا لما يقوله شاهين، فهو كان يدرك أن ما يقوله شاهين لن يرضي السوفيات الذين كانوا يكنون لعبد الناصر احتراما خاصا ويعدّونه صديقا حليفا لهم. وما كان ليوسف شاهين الذي كان يتحدث بعفوية ويعبر عن آرائه بصدق وببساطة لا علاقة لها بالحديث الدبلوماسي المجامل، أن يدرك ما يفعله المترجم الحصيف الحريص، وأن ما يقوله يذهب أدراج الرياح.

بعد أن تمرست في مشاهدة أفلام شاهين في السنوات اللاحقة، وكنت قد تحولت إلى ناقد محترف، وكان يوسف شاهين قد تكرست سمعته كمخرج متميز في العالم العربي وخارجه وله تبجيل خاص بين السينمائيين في مصر خاصة الممثلات والممثلين والذين أصبح العديد منهم نجوما بعدما ظهروا في أفلامه، أدركت أنه يصنع أفلامه بالطريقة نفسها التي يتحدث بها، وربما يعيش بها. أفلام يوسف شاهين، خصوصا منذ ''العصفور'' وحتى آخر فيلم له تتسم بالعفوية نفسها وصدق القول غير المجامل، وفيها المواضيع والأفكار الحساسة التي لا يبالي شاهين إن استفزت أحدا، وهي أفلام يرغب شاهين أن يقول في كل واحد منها كل ما يستطيعه من قول، لذا يتنقل بين المواضيع والأحداث بالسرعة نفسها التي يتحدث بها، ويبدو في بعض الأحيان وكأنه يخلط الحابل بالنابل (يصور شابا فلاحا في ''وداعا بونابارت'' يتحدث الفرنسية بطلاقة ويحفظ أشعار كبار شعراء فرنسا الكلاسيكيين وهو يعمل في مقاومة الغزو البونابارتي، لكنه مع ذلك يصبح عشيقا لجنرال فرنسي، وفي فيلم ''المصير'' فإن أفضل أصدقاء المفكر ابن رشد وندمائه هم جماعة من الغجر، وغير ذلك من أمثلة كثيرة).

يخرج شاهين أفلامه بإيقاع لاهث، ينعكس حتى على طريقة أداء ممثليه. أفلام يوسف شاهين، هي بهذه الدرجة أو تلك، يوسف شاهين نفسه إنسانا وفنانا، ويتضح هذا بجلاء من الأفلام الأربعة التي أخرجها يوسف شاهين عن سيرته الذاتية وضمنها سيرته السينمائية وأفكاره حول السينما بدءا من ''الإسكندريه ليه'' مرورا بـ''حدوثة مصرية'' و''اسكندرية كمان وكمان'' انتهاء بـ''إسكندرية نيويورك''. يصنع شاهين أفلامه متتبعا خطى المتنبي الذي كان يكتب أشعارا يختلف الناس جرّاها ويختصموا، ومع ذلك لا ينكر أنصاره أو منتقدوه أهميته وتميزه وإخلاصه للسينما التي يعشقها وكرّس حياته من أجلها. لهذا فإن أفلام يوسف شاهين لم تذهب أدراج الرياح، على الرغم من، أو ربما بسبب المواضيع الشديدة الإشكالية، أو الصادمة، التي كان يضمنها أفلامه، وهي مواضيع صادمة للسلطات وللرأي العام سواء بسواء.

(تنشر هذه المقالة بالتزامن مع مجلة ''الجيل'' اللبنانية).

* ناقد سينمائي أردني

الرأي الأردنية في 1 أغسطس 2008

 
 

يوسف شاهين..

ستة عقود من اختبار الحياة فـي السينما

ناجح حسن*

اعادت دورة مهرجان ''كان'' السينمائي الدولي للعام 1997 الاعتبار للمخرج الراحل يوسف شاهين، الذي ودع الحياة مؤخراً عن 82 عاما بعد طول انتظار في ان يقطف واحدة من الجوائز الكبرى في هذا المهرجان الدولي، بعد ان كاد في مرات سابقة يعيش وهج الانتصار الاكبر بنيله جائزة مهرجان (كان) الكبرى لكن دون ان يحالفه الحظ.

اثار شاهين الكثير من الجدل والافتتان بكل عمل سينمائي جديد يقدمه، فهو طوال ستة عقود صارع السينما العالمية في اكثر من مهرجان ليكون ندا قويا لها، ويفرض عليها اعترافا به كسينمائي قادم من صفوف الطبقة الوسطى في مجتمع عربي يمتلك ثقافة وهوية خاصتين.

بزغ نبوغ شاهين السينمائي في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، في مشهد كان يضم اسماء: توفيق صالح، كمال الشيخ، وفطين عبد الوهاب، وهو الجيل الذي بدأ حياته السينمائية مع بوادر التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جاءت بها ثورة يوليو 1952. وتميز شاهين بوضع خاص بين ابناء جيله، وفي تاريخ السيما المصرية والعربية بوجه عام، فقد استطاع ان يكون نموذجا فريدا على الصعيدين المصري والعالمي للفنان السينمائي الملتزم، صاحب الرسالة، وكان عليه، بالطبع، ان يدفع ثمن ذلك.

ولد شاهين في مدينة الاسكندرية العام 1926 لأب كان يعمل بالمحاماة ولأسرة مسيحية تنتمي للبرجوازية الصغيرة، استطاعت ان تيسر له الدراسة في كلية فكتوريا التي كان يدرس فيها اولاد الموسرين، ومن بين زملائه في الكلية كان ميشيل شهلوب الذي اكتشفه شاهين وقدمه باسم عمر الشريف، والراحل رشدي اباظة، واحمد رمزي، والمخرج الراحل شادي عبد السلام صانع التحفة السينمائية ''المومياء''.

بعد دراسته في كلية فكتوريا، تملك شاهين هوس السينما، وأصر رغم الحالة لمادية الصعبة التي بدأت اسرته تعاني منها، على السفر الى الولايات المتحدة لدراسة السينما التي كانت بالنسبة له، آنذاك، اكبر مصنع للاحلام في العالم، ورأى ان هذا الحلم لا يمكن ان يتحقق الا بالانتقال الى ''هوليوود'' لا غيرها.

بعد عودته الى موطنه، ولم يكن قد تجاوز الرابعة والعشرين، حقق شاهين باكورة حلامه السينمائية الطويلة ''بابا أمين'' العام 1950، وبعد عامين انجز شريطه لروائي الثاني ''ابن النيل''، وفي اعقاب قيام الثورة اخرج فيلمه ''صراع في الوادي'' لعام 1954.

ومع تسارع المد القومي آنذاك حقق شاهين واحداً من أشهر افلامه الطويلة وهو ''جميلة بوحريد'' العام 1958، وهو عن محاكمة لامرأة عدت من ابرز ابطال الاستقلال في الجزائر، وفي العام نفسه اخرج فيلمه ذائع الصيت ''باب الحديد'' الذي غدا واحدا من اشهر كلاسيكيات السينما العربية، بعد ذلك انجز شاهين شريطه التاريخي ''الناصر صلاح الدين'' العام 1963، وهو ليس مجرد فيلم تاريخي فقط، وانما اتى بدلالات قوية واضحة ومعاصرة رغم ان احداثه تدور في حقبة زمنية تحكي عن فترة القائد صلاح الدين الايوبي وانتصاراته على الصليبيين وتحرير الاراضي المقدسة، وفي الفيلم تبرز مدى اهمية وحدة العرب في صنع التحرير وطرد المستعمر.

وكان شاهين أظهر الناصر صلاح الدين لا رجلَ قتال فحسب، بل بوصفه طبيبا ورياضيا ورجل دولة وفيلسوفا انسانيا دارت معركته الرئيسية ضد الحملات الصليبية على الشرق. وجاء فيلم ''الناصر صلاح الدين'' وفق انتاج تاريخي ضخم يخلو من التعصب الديني، مركزاً على احترام المسلمين للآخرين، ومبتعداً عن اي شوفينية، وهو يصور مظاهر الخداع والدسائس والمؤامرات والجشع الذي اتسم به تجار وزعماء اوروبا ذوو الاطماع المتلاقية احيانا والمتنافسة احيانا اخرى، وتفادى فيه يوسف شاهين ان يصور الصليبيين كأشرار والعرب كأخيار.

ادار شاهين باقتدار مجاميع من الممثلين والكومبارس يزيد عددهم على الآلاف دون ان يسقط في الفخ الهوليوودي وابهاره الزاعق، وفي مشهد الهجوم على الحجاج المسلمين وذبحهم نراه يعبر عن المشهد دون ان يراه المشاهد باللجوء الى استخدام ملابس الحجاج ناصعة البياض ينساب عليها الدم الاحمر عقب الهجوم مباشرة، وكانت لقطة تشكيلية فائقة النجاح والاختزال، ففيها نشعر بمدى بشاعة المذبحة خصوصا عندما تتلطخ معظم اجزاء الشاشة بدفقات الدم وبفعل راية منكسة للاعداء، واخرى اهترأت بفعل حوافر الخيول التي دهمتها. يعبر الفيلم عن جريمة العدو في احدى المعارك، ويهتم يوسف شاهين بتفاصيل لقطاته ومسار الحركة داخل الكادر، ولا يأتي هذا الاهتمام لأسباب جمالية فحسب، ولكن لأهداف فكرية في المقام الاول.

ساهم في نجاح الفيلم مشاركة الروائي نجيب محفوظ في كتابة السيناريو، الى جانب تصميم شادي عبد السلام للملابس، وتجهيزات العمل المدهشة في حرفيتها بليغة المستوى.

فيلم ''الناصر صلاح الدين'' درة من درر السينما المصرية والعالمية، وفيه بلغ يوسف شاهين في حقبة انتاج الفيلم في بداية الستينيات مرحلة تتسم بالنضج والاكتمال، كانت خطوته الاساسية في الاتجاه نحو آفاق جديدة تهيأت له فيها الامكانات الفنية والمادية، وبلغ انتشاره خصوصا الجماهيري على طول امتداد الساحة العربية، لينطلق نحو الشهرة العالمية.

عدّ كثير من النقاد العرب والعالميين فيلم ''الناصر صلاح الدين'' بمثابة تحول كبير في ميدان الصناعة السينمائية العربية، ومن اهم الانجازات البصرية والاعلاء من ارادة التغيير.

بعد هزيمة الخامس من حزيران 1967 بدأ الوعي السياسي لدى شاهين يأخذ مسارا آخر انعكس على افلامه، فقدم فيلمه ''الارض'' العام 1970 الذي بلغ فيه قمة نضوجه الفني والفكري والجمالي معا. يستمد الفيلم احداثه عن رواية للكاتب عبد الرحمن الشرقاوي يتناول فيه المخرج يوسف شاهين صراع مجموعة من الفلاحين البسطاء في قرية صغيرة ضد قوى الاقطاع والاستعمار عندما يتم تقليص فترة ري حقولهم من عشرة ايام الى خمسة، مما يجعلهم يتكاتفون ضد هذا القرر ويرسلون بمناشدة للمسؤولين تطالبهم العودة عن هذا القرار المجحف بحقهم، لكنهم لا يلقون آذانا صاغية مما يدفعهم للجوء الى القوة في تغيير مسرى المياه الى حقولهم لتقوم قوى الهجانة بقمعهم بقسوة شديدة وضربهم بالسياط والكرابيج واعتقال بعضهم وعلى رأسهم الفلاح محمد ابو سويلم الذي يقوم بدوره محمود المليجي في واحد من اجمل افلامه على الاطلاق. وبعد خروجهم من السجن يقوم احد الاقطاعيين الكبار بمحاولة شق طريق بين قصره والمدينة يمر من وسط اراضي المزارعين الذين يواجهون هذا المشروع بمقاومة عنيفة، وينتهي الفيلم وسط تشبث الفلاح ابو سويلم بأرضه ويداه ملطختان بالدم النازف على حقول القطن وقد جرته خيول المستعمر بقسوة ووحشية.

يتناول فيلم ''الارض'' الظواهر والابعاد للتناقضات الطبقية التي حكمت المجتمع الريفي في مصر خلال حقبة الثلاثينيات الحالكة من تاريخه، ولكن هذه الصورة القادمة من الماضي القريب تتحدث ايضا عن صفحات من الواقع المعاصر باتصال متين وتلقي عليه ظلالها.

يصور شاهين ايضا نماذج من المصالح الشخصية عندما تصبح عائقا امام حركة المجاميع، فهناك الفلاح الذي يخون زملاءه، والتاجر الذي لا يهمه سوى الربح حتى لو كان عن طريق استغلال الفلاحين، ورجل الدين الذي يترك المواجهة ويغادر الى المدينة.

ورغم فشل المقاومة في فيلم ''الارض''، إلا أنه يستخلص دروسا مستفادة تجعل منه واحدا من افضل الافلام العربية المتميزة، حيث يثبت فيه شاهين تمكنه من ادواته الفنية وتقديمه فيلمه عبر لغة سينمائية حرفية متقنة الصنع وفي ايقاع عذب ومتين للاجواء الريفية في استخدام متمكن وجذاب لمختلف العناصر الصوتية والبصرية.

وبقي شاهين وفيا لأفكاره وبيئته الاجتماعية والثقافية، فأخرج ''الاختيار'' العام 1971، ثم ''العصفور'' العام 1973، و''عودة الابن الضال'' العام 1976، وحاول في هذه الثلاثية السينمائية ان يتناول العلاقة بين المثقف والسلطة والمجتمع في اعقاب هزيمة حزيران.

ويعد ''العصفور'' احد ابرز اعمال السينما المصرية التي جسدت مقدمات هزيمة حزيران 1967 وجسدت رفض الشعب للهزيمة من خلال تمسكه بالنصر والقتال لتحرير ما احتل من الارض على سلسلة من الاحداث التي قادت الى هذا الوضع الصعب الذي عاشه الناس، ونماذج مختارة من ضابط شرطة يتأقلم مع الفساد الآخذ بالانتشار على جوانب الحياة. هناك ايضا صحفي جريء يكشف التناقضات والى جانبه شاب يتفجر وطنية وساخط على الوضع المتردي داخل بلده وجميعهم يلتقون في بيت ''بهية'' (تؤدي الدور محسنة توفيق) ويتحرك بينهم موظفون صغار التهمتهم حياة الفساد والخضوع لمباهج الحياة الزائفة والرخيصة على حساب انتمائهم لبلدهم في مرحلة حاسمة تشهد تحولات جذرية.

علاوة على قيمته الفنية السينمائية يتميز الفيلم بأهميته ونقائه كعمل سينمائي سياسي مهم، خصوصا في الدقائق الاخيرة منه، التي كانت من اجمل واقوى واصدق المشاهد السينمائية التي حققها يوسف شاهين، حيث يصور فيها أثر الهزيمة على افراد الشعب العربي واكتشافهم حقيقة وقوعهم ضحية الوسائل الاعلامية الكاذبة قبل الحرب واثناءها مما قادهم وبإصرار الى قبول ذلك التحدي، وتنطلق صرخات رفض الهزيمة والاصرار على النصر في اجواء ملحمية وشاعرية مفعمة بالحماسة جاءت دليلا على وعي الفنان لقضايا شعبه وامته وايمانه بحتمية الانتصار على اعداء الداخل والخارج.

واذا كان ''العصفور'' شهد تصعيدا في نبرة يوسف شاهين المنددة بالهزيمة، فإنه شهد في الوقت نفسه امعانا في التعقيد والتركيب جعل من الصعوبة على المشاهدين متابعة قضاياه الشائكة المجتمعة في عمل أخاذ ذكي وشاعري يتفوق بشكل بعيد على جميع أعماله السابقة من جهة قابليته لأكثر من قراءة وعلى اكثر من مستوى.

ظل فيلم ''العصفور'' مصادرا من الرقابة المصرية لأكثر من عامين ولم يسمح له بالعرض الا بعد قيام يوسف شاهين بوضع تتر وعنوان جديد في بداية عناوين الفيلم تقول: ''ان العصفور لم يستطع ان ينطلق لولا الانطلاقة الكبرى للانسان المصري يوم 16 اكتوبر العظيم!''.

في العام 1978 قدم شاهين فيلم ''اسكندريه ليه؟'' الذي يمكن عده رؤية لسيرة ذاتية، تنبع من خيال فنان مبدع وتصور رغبة شاب في دراسة السينما خارج بلده في مكان بعيد مثل اميركا، وسط دهشة واستهجان اقرانه في هذا الفيلم يعبر شاهين عن فكرة التعايش بين الاديان الثلاثة، من خلال العلاقة بين الشاب وصديقه اليهودي، وهي علاقة تتحطم مع وصول قوات ''رومل'' الى مشارف (العلمين) ثم هجرة الاسرة اليهودية وتفرق ابنائها.

يشكل ''اسكندرية ليه؟'' رؤية سينمائية مفعمة بالشخصيات والاحداث، ويحتوي الوجوه والمناخات عن مدينة الاسكندرية 1942 جامعة الاجناس متفاوتة الثقافات وحاضنة التنوع الغزير في الاهداف والرؤى. انها الاسكندرية ابان الحرب العالمية الثانية ومعركة العلمين وانعطافة على ذكريات وسيرورة الفتى الذي يحلم أن يشق طريقه نحو عالم السينما والفن رافضا ان يكون مطية للتقاليد السائدة وفيضا من احلام المراهقة الآتية من احلام عائلة صغيرة تعاني جنون العنف الذي اجتاح محيطها، واحلام اثرياء الحرب ومستغليها واحلام الوطنيين المشوشة، وهناك في المقابل قطبا الصراع الدولي في احراز النصر من ألمان واميركان.

في هذا الفيلم نلمح صورة يحيى الشاب المشغوف بالتمثيل ورغبته في دور ''هاملت'' على خشبة المسرح وثنائي حب مستحيل بين احمد زكي ونجلاء فتحي التي تمثل دور فتاة يهودية تذهب مع والدها (يوسف وهبي) الى فلسطين هربا من الفاشية التي صارت على ابواب الاسكندرية، ثم لا يلبثان ان يعودا بعد اصطدامهما بالمشروع الصهيوني ولا يجدان الامان سوى في مسقط رأسهما ''الاسكندرية''. هذا الجانب من الفيلم اثار الكثير من اللغظ على الفيلم ومخرجه وادى الى منع الفيلم في اكثر من عاصمة عربية ابان فترة انتاجه.

في ''اسكندرية ليه؟'' هناك صراع مستمر لشرائح عديدة داخل المجتمع تقفز من فترة الى اخرى ومن موقع الى آخر يحمل كثير من الافكار التي تتدفق على طول شريط الفيلم، تدين، تناقش، تسأل، تجيب، تقف عند الحدث ثم تتخطاه، وفي النهاية تؤدي هذه العناصر الى ما يشبه النتيجة الحتمية لمصائر شخوصها المتناقضة في الآمال والاهداف.

من هذه القراءة السريعة لواقع مدينة الاسكندرية واسرة الشاب يحيى وتلك النماذج الانسانية التي تتحرك وسط مساحة من الاحداث نصل الى نتيجة الرؤية التي يطرحها يوسف شاهين في الفيلم، وهي رؤية انسانية للصراع.

واذا كان شاهين بإثارته التعاطف لدينا ازاء شخصياته البرجوازية الصغيرة وازاء احلام بطله بالذهاب الى اميركا قد اعطى الفيلم طابعا قابلا للنقاش فإنه في الجانب الآخر وفي اسئلته العديدة التي يثيرها العمل حول مسألة الحرب والسلام، طرح بجرأة غير مسبوقة، اخطر الاسئلة التي يمكن لسينمائي عربي ان يطرحها بحيث قادته الى ان يصل إلى ما أصبح عليه الآن من مرتبة رفيعة عن سائر السينمائيين العرب صوب التحليق في فضاءات السينما العالمية.

يواصل شاهين مسيرة حياته بفيلميه اللاحقين: ''حدوتة مصرية'' 1982 و''اسكندرية كمان وكمان'' 1990، والنتيجة: ثلاثية سينمائية آسرة وممتعة، جريئة وكاشفة لعلاقته المضطربة مع اسرته في حالة غير مسبوقة في السينما العربية لعرض سيرة ذاتية فيها مثل هذه الخصوصية التي تصل حد الجلد الذاتي في الاتهام والتجريح.

ومن الضرورة بمكان الاشارة الى قيامه بإخراج اكثر من عمل سينمائي ابان اشتغاله على هذه الثلاثية، حيث حقق فيلمين آخرين هما ''وداعاً بونابرت'' العام 1984 و''اليوم السادس'' العام 1986، وحاول في ''وداعاً بونابرت'' طرح رؤية معاصرة في موضوع الغزو الفرنسي لمصر اواخر القرن الثامن عشر بزعامة نابليون بونابرت وصور فيه علاقة المصريين بقوات الحملة، ناقدا بشدة جناح المقاومة، بسبب اعتماده على وسائل بدائية في التصدي مخفظا الى حد بعيد من الاعمال الهمجية التي قام بها الجنود الفرنسيون عبر تصويره علاقة صداقة وتحد بين شاب مصري متسلح بالعلم والمعرفة ومهندس الحملة الفرنسية التي اضفى عليه شاهين سمات انسانية.

يعود شاهين في ''اليوم السادس'' الى فترة الاربعينيات، زمن انتشار وباء الكوليرا في طموح لتصوير رؤيا عبثية لنهاية العالم، معتمدا على قصة لكاتبة فرنسية من اصل مصري هي (اندريه شديد) واسند دور البطولة فيه الى مغنية فرنسية من اصول مصرية ايضا هي (داليدا) الى جانب بطل افلامه منذ ''اسكندريه ليه؟'' محسن محي الدين.

وثارت العام 1991 ضجة كبيرة في الصحافة المصرية لدى عرض شاهين فيلمه القصير والبديع ''القاهرة منورة بأهلها'' في مهرجان كان السينمائي، ووصل الامر الى حد المطالبة بمنع عرض الفيلم داخل مصر، بل معاقبة مخرجه والتحقيق معه بتهمة الاساءة الى سمعة البلاد! والفيلم مشروع تقدمت به القناة التلفزيونية الفرنسية طالبة منه تقديم شهادة برؤيته الخاصة لمدينة مزدحمة مثل القاهرة ابان فترة شهدت تحولات سياسية مهمة هي ''حرب الخليج الثانية''.

في العام 1995 وجد يوسف شاهين في فيلمه ''المهاجر'' ما يوازي بين حياته الخاصة وبين الشخصية التاريخية المأخوذة، في اجزاء كثيرة منها، عن قصة النبي يوسف عليه السلام ليتتبع فيها مسارا شبيها بالمزاوجة ما بين الرؤية المعاصرة للتاريخ واستنطاقه، وقد جر عليه ذلك كثيرا من الدعاوى القضائية من اطراف اجتماعية متعددة.

وسعى بفيلمه ''المصير'' 1997 الذي صور في اكثر من سوريا، لبنان، فرنسا واسبانيا، لتقديم رؤية جريئة لواقع شبيه بماض تاريخي وبحث دؤوب عن العلم والمعرفة والحياة من خلال شخصية الفيلسوف العربي ابن رشد الذي عاش حياة ثقافية وفكرية ثرية وترك بصماته على الفلسفة الاوروبية، وفيه يعيد للسينما العربية شيئا من بريقها الذي فقدته عقب فوز الجزائري محمد الاخضر حامينا بالسعفة الذهبية في منتصف السبعينات في مهرجان (كان) السينمائي. ويذهب شاهين في فيلمه هذا الى قطاع عريض من المشاهدين بخلاف توجهات افلامه السابقة التي خاطب فيها النخبة منذ فيلمه الشهير ''العصفور'' 1971.

ظل شاهين يقدم انجازاته في الاتجاه نحو سينما تفكر او سينما تسعى لتقديم الفكر والمتعة الفنية في آن، وتطمح الى تغيير الادوار السائدة للمشاهدين ولو عن طريق الصدمة البصرية.

قطع شاهين شوطا على طريق تحرير اداته السينمائية وتحويلها الى وسيلة لتناول الواقع الذي يعايشه، من خلال رؤيته الذاتية الخاصة، لكنه بفيلم ''سكوت ح نصور'' يعود ليعكس اجتهاده الخاص في فهم طبيعة التحولات داخل البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر اليوم، ويتابع التطورات على مجموعة من الشخصيات المحورية التي اختارها: الجدة سليلة الطبقة البرجوازية (ماجدة الخطيب) بكل ما لديها من طموحات وفطنة والباحثة عن الحياة والبهجة والسعادة ولو في اخر لحظات حياتها، والتي تعيش داخل قصر فخم نفيس بمقتنياته المتوارثة ومعها ابنتها المغنية ملك (لطيفة) الباحثة عن ذاتها في عالم الشهرة والنجوم، والتي هجرها زوجها وتقيم علاقة مع شاب محتال وانتهازي يرغب في الاستيلاء على ثروة العائلة (يؤدي الدور احمد وفيق) كنموذج لأحد افرازات العولمة الجديدة الخالية من القيم والمشاعر الانسانية، إذ لا يأبه الا بطموحاته المادية في الثراء السريع ولو عن طريق الخداع والكذب والادعاء.

غير ان الشخصيات التي يختارها شاهين تنتهي كلها الى مصير معلق ورهنا بالتحولات القادمة وتوضع في مواقف كوميدية وبدعابات تسخر من الواقع، لكن اهم العناصر التي يشكل منها شاهين فيلمه هي الموسيقى والغناء في محولة لجذب اكبر عدد ممكن من المتفرجين، وهو المخرج الذي كان قطاع واسع من المشاهدين يصد عن افلامه بدعاوى صعوبة فهمها وكونها تحاكي قضايا شائكة على فهمه، لكن شاهين في معرض جذبه لهؤلاء المشاهدين عرف كيف يصنع حبكته السينمائية الاجتماعية والسياسية الناقدة والتصالحية احيانا والتي تعدّ تطويرا خلاقا لكل افلامه السينمائية الاخيرة لما تتضمنه من الرموز الاشارات والدلالات لمفاهمين الواقع المثقل بهموم العولمة والقضايا الاجتماعية الملحة في رؤيا ذاتية تنبع من خيال موضوعي في تركيبه من الغناء والموسيقى، وتحية للسينما عموما صانعة البهجة والسحر والاحلام مثله الاعلى نجوم السينما في الرقص والغناء في حقبة الاربعينيات. وبصعوبة شديدة ينجح في انجاز لوحات كاملة الاتقان لا توفرها ميزانية الفيلم التي تتطلب اوركسترا سمفونية كاملة ترافقه طوال التصوير ويلجأ الى توظيف احدى اللوحات الموسيقية الراقصة من احد الافلام الكلاسيكية الشهيرة بهذا النوع ولكنه لا يتوانى عن توجيه النقد للذوق الذي افرزته ''الاغنية الشبابية''، عندما يحصل ظرف طارئ لوالدة المغنية فإنها تغادر المسرح الذي يطل على آلاف الشباب ويحل محلها الشاب المخادع الذي يقدم اغنية وسريعا يتعاطف جمهور الشباب مع الاغنية ويأخذون بالتراحم على المطرب المخادع في نقد لاذع لما آلت اليه الموسيقى والغناء اليوم، لكن في المقابل كانت المغنية على فراش والدتها تؤدي اغنية محمد عبد الوهاب الشهيرة ''ليلة الوداع'' في مقارنة لا اروع ولا احلى بما تتضمنه من تباين في الاذواق والعلاقات في طريق البحث عن الخلاص بالحب والغناء.

وعلى عادته دائما، يبرز عند شاهين دور الممثل . و''سكوت ح نصور'' من الافلام القليلة التي جازف فيها شاهين باختيار مطربة مثل التونسية لطيفة لاداء الدور الرئيسي والى جوارها الممثلة ماجدة الخطيب في اهم ادوارها على الشاشة البيضاء وهو دور العمر لكليهما. وتبرز ايضا قدرة شاهين على ادارة المجاميع والرقصات والمشاهد المأخوذة في المسرح وجمهور النظارة او في شاهد انفاق المترو والقطار وداخل الاستوديو، اي اخراج فيلم داخل فيلم.

في الجزء الاخير من رباعيته عن مدينة الاسكندرية الذي اطلقه تحت عنوان '' اسكندرية نيويورك '' حاكى شاهين غاضبا تداعيات احداث 11 ايلول 2001. وقد صور احداث فيلمه في الولايات المتحدة وتحديدا في ولايتي كاليفورنيا ونيويورك حيث المعهد السينمائي الذي درس فيه. ويبدو عمله هذا نتاج علاقة مركبة بينه وبين اميركا التي نال فيها تعليمه السينمائي، واثار شغفه فيها تلك الانواع والنماذج السينمائية التي كانت تقدمها آنذاك صناعة الافلام الهوليوودية والتي اخذت جانبا من حياته عبر احتكاكه بصناعها ونجومها والمنتجين والناس هناك، حيث استحوذت جمالياتها على اعماله الاولى.

واكد شاهين في عمله الاخير ''هي فوضى'' على انحيازه الى البسطاء في واقعهم اليومي وفق اسلوبية مغايرة لأفلامه السابقة بحيث استطاع ان يقدمه بافتتان بليغ لا يخلو من الجرأة التي دأبت عليها مسيرته السينمائية الطويلة بما تحمله من ثراء فني وخصوبة فكرية ورؤية ناضجة للواقع والتي تمكنت ان تحفر لصاحبها المكانة اللائقة بين افذاذ صناع الفن السابع بالعالم.

* ناقد سينمائي وصحفي أردني

الرأي الأردنية في 1 أغسطس 2008

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)