كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

وداعا شاهين

عماد النويرى

عن رحيل

يوسف شاهين

   
 
 
 
 
 

رحل يوسف شاهين , وقبلها رحلت ذاكرته , وغاب عن الوعي في مشهد سينمائي مؤثر لايختلف كثيرا عن المشاهد التي حفلت بها أفلامه . بقى شاهين لمدة شهر غائبا عن الوعي وكأن وعيه يرفض ان يغيب . انتهى صراع شاهين مع نفسه بعد صراع طويل مع الأحباب والأصحاب والأصدقاء والأعداء والبسطاء والحكام . غاب أخيرا عن الوعي بشكل رسمي أعلنته الحكومة وأعلنته السماء واحد من أهم المخرجين العرب الذين أقاموا الدنيا وشغلوا الناس . وسواء شئنا أم أبينا وافقنا اوترددنا في اعلان ذلك فان يوسف شاهين نعيد ونؤكد كما يعيد ويؤكد كل من أحب سينماة هو الأب الروحي للسينما العربية الحديثة, وهو المؤسس لهذه السينما على مستوى المضمون والشكل . شاهين هو المتمرد ضد جميع أشكال القهر , وهو المؤسس لسينما الأنا التي تطرح مشاكلها الذاتية الفردية وتحاول ان تتواصل مع الأخر من خلال هذه المكاشفة , , وتعانق حين تنطلق متحررة من أسرها , تعانق الوجود كله . السينما التي قدمها لنا شاهين عبر افلامة عالجت كافة الأنواع و تمثل لنا عالما يلتهم كافة مظاهر الحياة . قدم لنا الكوميديا؟في ( بابا أمين ) والدراما الاجتماعية في ( ابن النيل ) والميلودراما في ( نداء العشاق ) والكوميديا الموسيقية في ( بياع الخواتم ) والدراما الملحمية في ( صلاح الدين ) و( المهاجر ) وو( وداعا بونابرت ) والسينما الحديثة في ( الاختيار ) والفيلم الوطني في ( جميلة بوحريد ) كما قدم لنا فانتازيا السيرة الذاتية في ( حدوتة مصرية ) و( أسكندرية ليه ؟ ) و ( إسكندرية كمان وكمان ) و( الاخر ) وفى كل افلامة كان الموضوع الرئيسي هو الهوية .

ان أية مراجعة بسيطة لأفلام يوسف شاهين ولسينما يوسف شاهين إنما هي مراجعة عكسية في واقع الأمر للتاريخ العربي المعاصر منذ الخمسينات ولغاية يومنا هذا . منذ ( بابا امين ) وحتى ( هى فوضى )

ويمكن إرجاء التناقض الملحوظ في سيرته السينمائية طيلة السنوات الأخيرة إلى السير المتعرج للعمل السياسي في الوطن العربي الذي خرج إلى العالم بمبدأ تطبيق الوحدة بمثل الطريقة التي أدت إلى نشوء عصر الانفصال , وأخيرا التفتت الموجود في الوطن العربي الذى يعيش أزهى فترات انحطاطه .

أفلام شاهين تحتاج إلى أكثر من مشاهدة لأنها أفلام تحرض - بعد استمتاعنا بقيمتها الفنية العالية وجماليتها الحديثة –على التفكير , وتحثنا على التغيير بجرأة مذهلة , وتعلمنا منظومة من القيم , لعل أهمها قيمتي التأمل والتسامح اذاكان هناك مايدعو للتسامح .

يعود الابن الضال ليستريح

ويرحل فنان جرىْ وشجاع

وتفقد الثقافة العربية الحديثة واحدا من أهم أعمدتها

ونقول وداعا أيها المخرج الكبير

مدونة "سينما اليوم" في 29 يوليو 2008

 

تحية له فى فراش المرض

تاريخ حافل بالحب والمشاكسة والغضب

يوسف شاهين.. رائد من رواد التنوير السينمائى

كتب عماد النويرى 

- فى ( جميلة بوحريد ) ركز على السمات البوليسية والعاطفية

و فى - العصفور - حديث مهم عن النكسة . وتحول جذرى فى - اسكندرية ليه

- تباينت الآراء في ماقدمة فى ثلاثيته السبعينية من حيث الموضوعات و طبيعة البناء الفني

- فى - وداعا بونابرت - رفض منطق بكر القائم على التعصب

وهو الأكثر جرأة من بين المخرجين في معالجة موضوع الجنس

منذ البداية أدرك يوسف شاهين ,المولود عام 1926 , إن صنع الأفلام يتطلب جهدا شاقا ووقتا طويلا . ومن خلال رغبته في الخروج من دوائرها التقليدية تمكن من تجاوزها إلى حد كبير .

ويمكن أن نحدد عام 1954 كبداية أول مرحلة جدية خاضها شاهين حين حقق ( صراع في الوادي ) , بعد أن حقق أفلاما قد تكون جيدة بالنسبة للسينما المصرية السائدة آنذاك إلا أنها لم تكن هي المرجوة منة , هذه الأفلام كانت ( بابا أمين ) أول افلامة عام 1950 و( ابن النيل ) 1951 و ( المهرج الكبير ) 1952 و( سيدة القطار ) 1953 و( نساء بلا رجال )1953 . و( شياطين في الصحراء ) 1954 و( صراع في الميناء ) 1956 و( ودعت حبك ) 1957 و( أنت حبيبي ) عام 1957 ثم ( باب الحديد ) 1958 .

نجاح وشاعرية

سينمائيا كان ( باب الحديد ) أول نجاح عالمي لشاهين واذارتبط نضوج شاهين بالمرحلة التي تلت ثورة يوليو بسنوات , فان هذا النضوج لم يكتمل إلا بعد فترة طويلة خضعت فيها تجربته لظروف التطور الاقتصادي والسياسي مما دفع بافلامة إلى ان تكون تعبيرا عن واقع الحال .

وبعد أربعة أفلام هي ( حب العباد ) 1959 و( بين ايديك ) 1960 و( رجل فى حياتى ) 1961 و( نداء العشاق) 1961 وبعد خمسة أعوام من ( باب الحديد ) قدم شاهين عام 1963 ( صلاح الدين الايوبى ) أول افلامة الملونة وأفضل الأفلام التاريخية المصرية , وكانت مصر آنذاك في وحدة مع سوريا وصلاح الدين الايوبى من اكبر رموز الوحدة العربية .

وفى ( فجر يوم جديد ) حاول شاهين تقديم الجانب المشرق من الحياة المصرية ثم يرحل إلى لبنان قبل هزيمة 67 بعامين ليقدم أول أفلام المطربة فيروز ( بياع الخواتم ) عن مسرحية للأخوين رحبانى , ومن بطولة وغناء فيروز وتكمن اهميتة في كونه استفاد إلى حد كبير من أجواء الرحابنة الساحرة وأسس هذا الفيلم لتعامل شاهينى مع الأغنية والموسيقى سوف ينمو لاحقا في بعض مشاهد ( عودة الابن الضال ) ثم ( رمال من ذهب ) عام 1966 الذي صور في لبنان والمغرب واسبانيا ثم بعد ذلك فى ( اليوم السادس ) و( الاخر ) و( المصير ) .

وفى عام 1970 قدم شاهين فيلم ( الأرض ) حيث عاد إلى أجواء ( صراع في الوادي ) واقتبس رواية لعبد الرحمن الشرقاوي أضفى عليها رؤيته السينمائية التي كانت قد ازدادت مع الأيام تميزا وسموا , ليجعل من هذا الفيلم واحدا من أفضل ماانتجتة السينما العربية ليس في نظر النقاد , بل في نظر الجمهور أيضا.

وفى عام 1972 ظهر فيلم ( العصفور ) ليخبرنا أن شاهين يعيش قدرا كبيرا من التشويش , ويملك أسئلة أكثر من الأجوبة , ولان شاهين أراد أن يقول فيه أشياء كثيرة وعديدة , ظل غامضا على الفهم لكن كان ( العصفور ) يمثل حديثا مهما عن هزيمة 67 , واستقبل حيثما عرض بترحاب شديد . ومن الناحية السينمائية شهد هذا الفيلم تطويرا جديا في استخدام شاهين للغته السينمائية . لقد كانت أخر عشرين دقيقة من الفيلم من ا جمل واقوي واصدق المشاهد السينمائية العربية على الإطلاق , وفيها يصور شاهين كيفية وقوع الهزيمة على إفراد الشعب العربي, واكتشافهم حقيقة وقوعهم ضحية لوسائل الإعلام الكاذبة. أن الصدق الذي يختم بة شاهين فيلمه في أجواء ملحمية وشاعرية مفعمة بالحماس جاء دليلا على وعى الفنان لشعبة وقضايا امتة .

وفى عام 1973 قدم شاهين فيلم ( الناس والنيل ), وكان فيلم الاختيار ( 1971 ) بداية مرحلة ,ونهاية مرحلة أخرى .. ومنذ فيلم ( الاختيار ) وشاهين يعلن المرة تلو الأخرى انه ومنذ كارثة 67 : (لم يعد يستطع أن يحكى حدوتة, فليس ثمة قصة يمكنها أن تعكس افكارة ومشاعره على نحو متكامل , وهو يريد أن يعبر بأسلوب خاص ومتحرر من وسائل السرد التقليدية عن رؤيته واحساسة بالتلاحق السريع للأحداث والتغيرات التي تلحق بالوطن

في ( الاختيار ) من الممكن إن تلمس واحدة من أفكار شاهين : فالمظهر النظيف المستقر غالبا مايخفى مضمونا سيئا ومتهالكا , فوراء نجاحات سيد مثقف السلطة الانتهازي سلسلة من الجرائم والخيانات .

إن خصوصية هذا الفيلم تكمن – حسب رأينا – في إن شاهين اخرج شريطا مصمما تصميما سرديا على المثال الاوروبى , ينحو فيه منحى طلائعيا , وتتعرج فيه العقدة على النحو الذي تاخذة فى الرواية أو في الفيلم البوليسي ,. وهو لذلك يعتبر فيلما لايساير توجهات سوق السينما العربية , الطاغية أنذالك , وبالتالي لايلبى مطالب الجمهور .

وفى ( العصفور )( 1972 ) نجد أن وراء الملصقات والإعلانات الثورية التي ملأت الشوارع والجدران قبل حرب 67 بأيام قليلة , والتي تتحدث عن تماسك الجميع وعن القوة القاهرة التي لن يصمد العدو أمامها نجد إن وراء هذا المظهر جريمة مروعة

كان يوسف شاهين بحسه الفني وبصدقة المفرط في تعامله مع الواقع أكثر الناس تشاؤما , وكان واقع السبعينيات المضطرب سريع التغير الملىْ بالصراعات يفرض نفسه بقوة على افلامة .

منطق كونى

فيلم ( أسكندرية ليه ؟ ) ( 1978 ) في خط من خطوطه كان امتدادا أصيلا لأفلام يوسف شاهين رغم ماقيل أيامها أنة مجرد حدوتة ذاتية تدور داخل طبقة محدودة وأقلية معينة باعتبار أنة .. ( لايمكن لأحد أن ينكر دور الأقليات التي عاشت في مصر . لقد لعبت هذه الأقليات دورا مؤثرا في الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية للمجتمع المصري وتصويري لهذا المناخ المنفتح يرد على ادعاءات الصهيونية الخاصة بان العالم الاسلامى عالم متعصب )

فيلم ( أسكندرية ليه ؟ )والذى قدمه شاهين عام 1978 قابل لأكثر من قراءة و ظهر خط جديد في رؤية يوسف شاهين : خط باتجاه التسامح ولا نقول المسالمة قال ايامها ( من حقي مناقشة بعض الشعارات والأسئلة إلى اطرحها من منطلق كوني شامل .)

أن ثمة تحولا جذريا تاما قد مس أسلوب شاهين السينمائي في ( إسكندرية ليه ؟ ) . أن هذا القلق الدائم الذي نلاحظه يعترى مسيرة تطوره السينمائي ذلك الذي يدفعه دائما من فيلم إلى فيلم ., إلى الإضافة والى توسيع الرؤية , قد أوصل اسلوبة ألان في هذا الفيلم إلى مرحلة كاملة من الممكن ان نسميها بالمرحلة التركيبية وكان لهذه المرحلة إن تلقى بظلالها على اغلب افلامة اللاحقة .

محاكمة وحسابات

وفى ( حدوتة مصرية ) ( 1982 ) قدم شاهين محاكمة لنفسه وفى ( أسكندرية كمان وكمان ) 1990 أكد فيه شاهين على المنحى الذاتي والنفسي الذي يتميز بين المراوحة والتداخل بين هموم الوطن ورغبات الفرد الفنان .

وتؤكد الثلاثية على إن شاهين قد تعلم عن طريق ملاحظاته المباشرة التى ميزت أنماط الأفلام التي تتقبلها المهرجانات السينمائية الغربية بعد تجاربه في مهرجان كان مع فيلم ( ابن النيل ) ومهرجان برلين مع فيلم ( باب الحديد ) ومع مهرجان موسكو مع فيلم ( جميلة ) .

تحوير وحذف

وفى ( وداعا بونابرت ) رفض شاهين منطق بكر القائم على الانغلاق والتعصب) . وفى فيلم ( اليوم السادس ) عام 1986 نجد الحضور الطاغي لولع شاهين بالسينما.. وإذا كان شاهين في اغلب افلامة يهتم بتناول الجنس وتصويره بشتى أبعادة ومستوياته : الواقعية والرمزية , الاجتماعية والسيكولوجية , السوية والشذوذية , المتحررة والمكبوتة فأنة في ( اليوم السادس ) يظهره كعنصر أو محرك اساسى يحكم العلاقات ويحدد توجهات الأفراد . أن شاهين هو الأكثر جرأة من بين المخرجين المصريين في معالجة موضوع الجنس والأكثر حساسية تجاه هذا العنصر الجوهري منذ ( باب الحديد ) وحتى أخر أعمالة .

ويتناول فيلم ( المهاجر ) 1994 قصة سيدنا يوسف مع بعض التحوير والحذف والإضافة وهو يذكرنا بملحمته هذه بروائح الأفلام التاريخية الهوليودية مثل ( الوصايا العشر ) و( شمشون ودليلة ) و( بن هور ) وكان من الواضح إن الفيلم يحتشد بأفكار شاهينية خاصة عن التعصب والتسامح والسلطة الدينية والعسكرية لكن كما يبدو فان تناول شاهين للمجتمع المصرى القديم جاء بصورة مسطحة وتبسيطية للغاية وكاريكاتورية في اغلب الأحيان وبما يتناقض مع الأفكار الكبيرة والقيم النبيلة التي مثلها بطل الفيلم .

متناقضات وتكريم

وفى عام 1997 وفى الدورة الاحتفالية لمناسبة مرور نصف قرن على مهرجان كان عرض فيلم ( المصير ) ليوسف شاهين وكان الفيلم العربي الوحيد في المسابقة الرسمية للمهرجان وعبر الفيلم وكعادته دائما طرح شاهين مجموعة من الإشكاليات والتساؤلات. فاذا كانت الاديان في الأساس جاءت وأحدثت طفرة وقفزات في تاريخ البشرية فما الذي حدث حتى تستخدم الأديان لإرجاع حركة التاريخ إلى الخلف ,؟ ! وهل هو حتمي إن تصطدم سلطة الفكر في اغلب الأحيان بفكر السلطة ؟1 ومزج الفيلم في اسلوبة بين عدة متناقضات وأنواع سينمائية في وقت واحد . وفى هذه الدورة حصد شاهين على أهم جائزة سينمائية في حياته وهى تكريمه وتقدير عن مجمل أعمالة السينمائية .

ولم يتوقف شاهين بعد إن نال تقدير العالم في مهرجان كان وإنما كان ذلك دافعا له لتقديم المزيد من النتاجات السينمائية فقدم فيلم ( الأخر ) عام 1999 وبعدها بعامين قدم ( سكوت حنصور ) ثم ( اسكندرية نيويرك ) 2004 . و( هى فوضى ) عام 2007 مع المخرج خالد يوسف .

وغير افلامة الروائية الطويلة قدم شاهين مجموعة من الأفلام القصيرة وهى ( عيد النيترون ) 1968 , و( سلوى ) 1972 و( الانطلاق ) 1973 و( القاهرة منورة بأهلها ) 1993 .

إن الصورة التي قد تحمل , بلا حرج , شيئا من الادعاء بالنسبة لطبيعة التزامات شاهين السياسية لأتمنع من القول إن هذا السينمائي ترك في الأذهان انطباع تمتعه بنظرة تقدمية ظلت على يسار المنهج السياسي الدائر ويمكن إرجاء التناقض الملحوظ في سيرته السينمائية طيلة السنوات الأخيرة إلى السير المتعرج للعمل السياسي في الوطن العربي الذي خرج إلى العالم بمبدأ تطبيق الوحدة بمثل الطريقة التي أدت إلى نشوء عصر الانفصال وأخيرا التفتت الموجود في الوطن العربي . لذا فان أية مراجعة بسيطة لأفلام يوسف شاهين ولسينما يوسف شاهين إنما هى مراجعة عكسية في واقع الأمر للتاريخ العربي المعاصر منذ الخمسينات ولغاية يومنا هذا . وتحية الى مخرج كبير فى فراش المرض .

مدونة "سينما اليوم" في 29 يوليو 2008

 
 

ماذا تستطيع مصر أن تفعل إحتفاءاً بسينما يوسف شاهين؟ *

محمد رضا

أسأل نفسي وأنا أتذكّر أن مخرجين جيّدين آخرين في مقدّمتهم كمال الشيخ وصلاح أبو سيف، مرّوا من هنا (اي من هذا العالم الى سواه) من دون أن يتحرّك أحد لأكثر من فعل الكتابة عنهم. طبعاً ليس كل فقيد يمكن أن يُثير إهتماماً يرتفع عن مستوى الكتابة، لكن خذ كمال الشيخ وصلاح أبو سيف وبركات وعاطف سالم وسواهم من المخرجين الجيدين في مصر، تجد أنك أمام كم كاف لتأليف عدّة تظاهرات من عدّة جوانب وليس من جانب واحد٠

الواقعية في السينما المصرية، الفلاح في السينما المصرية. صلاح أبو سيف- نجيب محفوظ في السينما المصرية، الفيلم البوليسي في السينما المصرية، السينما العاطفية في السينما المصرية، السينما السياسية في السينما المصرية، هذا عدا تظاهرات مخصّصة لبعض هذه الأسماء٠

لكن أهون الأمور هو الكلام العاطفي والإنشائي في المناسبات. إسترجاع آيات الأسى والأسف والدعاء للفقيد بالغفران ودخول الجنّة كما لو أنه أمضى كل حياته لأجل أن يتبارى البعض بالكتابة عنه في هذا النطاق ولكي يكسب دعواتهم ليوم او يومين ثم المضي في الحياة بإنتظار الفجيعة الأخرى٠

ماذا لو أن وزارة الثقافة المصرية نظّمت عروضاً خاصّة بأفلام يوسف شاهين الأهم (نحو عشرة او إثنا عشر) واتصلت بمتحف الفيلم في النمسا او بالناشنال فيلم ثيتر في لندن او بالسينماتيك في تورنتو او بمهرجان شيكاغو او مهرجان مونبلييه او سواهما (والمهرجانات ما شاء الله كثيرة) وعرضت هي تمويل تظاهرة خاصّة بالمخرج الراحل؟

عادة ما يحدث هو أن يتقدّم أحد المهرجانات من المسؤولين ومن المنتجين طلباً *

لأفلام السينمائي، راحلاً كان او موجوداً، والطلب منهم مساعدتها في الحصول على أفلامه لعرضها٠

شركة مصر العالمية التي يديرها غابي خوري عادة تلبّي وتنطلق ولا تتأخر في مثل هذه الأمور. إنها شركة محترفة لمحترفين، لكن ليس كل أفلام يوسف شاهين من إنتاجها وسيكون للتظاهرة نصيب أوفر من الإهتمام لو قامت وزارة الثقافة بنفسها بالإتصال بتلك المراكز السينمائية الكبيرة حول العالم مقترحة مثل هذه البرمجة وبالتأكيد ستجد تلك المراكز تشكرها سلفاً وتتمنّى٠

والا ما سينجلي عنه الأمر هو إحتفاءات محليّة ومقالات صحافية ثم تستمر الحياة كما هي من دون جديد٠

مدونة "ظلال وأشباح" في 29 يوليو 2008

 
 

مصر كلُّها في وداع يوسف شاهين

محمد عبد الرحمن

حكومة ومعارضة، مسيحيون ومسلمون، محجّبات وسافرات، أطفال وشيوخ... اجتمعوا في الجنازة ليؤكدوا أن الوحدة الوطنية لا تحتاج إلى أدلّة ... ولا حتَّى إلى أفلام!

ترك يوسف شاهين رسالة أخيرة قبل رحيله: الوحدة الوطنية لا تحتاج إلى دليل ولا حتى إلى أفلام، فقط إلى رموز يستطيعون جمع المصريين على قلب رجل واحد. جنازة جو أمس في القاهرة جمعت المئات داخل كنيسة القيامة: مسيحيون ومسلمون، محجبات وسافرات، أطفال وشيوخ، ممثلون ونقاد وحتى متفرجون، حضروا جميعاً، ليؤكدوا أنّ وداع الكبار لا يختلف، سواء خرج الراحل من مسجد أو من كنيسة. وهذا الدرس علّمه شاهين لتلاميذه، عندما كان يحرص على وداع محبيه في مساجد «عمر مكرم» و«السيدة نفيسة «و«مصطفى محمود»... مشهدٌ يعرفه بالتأكيد مَن يحضر جنازات الفنانين. لكنّ الدور جاء أمس على «الأستاذ» الذي اختلف حوله كثيرون في حياته، وأجمعوا على احترامه عند إعلان وفاته.

في الساعات الأولى من صباح أمس، اتجهت جميع الأنظار صوب مكانين: الأول، مستشفى القوات المسلحة في المعادي، المكان الذي قضى فيه جو أيامه الأخيرة. والمكان الثاني هو كنيسة القيامة للروم الكاثوليك في شارع الضاهر في الفجالة، وهي أصبحت أشهر كنيسة مصرية في اليومين الأخيرين. ولأن المستشفى يسير حسب قواعد عسكريّة صارمة، ذهب معظم المحبين والمفجوعين برحيل شاهين إلى الكنيسة التي استعدت باكراً للحدث الجلل. تزامن ذلك مع استعدادات مكثّّفة لرجال الأمن والحكم المحلي: جرى تنظيف الشوارع بعناية وتنظيم المرور وتجهيز الموقع لاستقبال المعزين الذي توافدوا من العاشرة صباحاً، وخصوصاً مع تضارب موعد القداس بين الثانية عشرة والواحدة ظهراً.

ظهور الفنانين بدأ باكراً، وبعد ساعة واحدة تحوّل السؤال مِن: «مَن أتى» إلى «مَن لم يأتِ بعد». ذلك أن كثافة الحضور الفني كانت واضحة، كما أن طريقة الجلوس داخل الكنيسة سمحت للكاميرات بالتقاط صور للفنانين بسهولة. وهذا الحضور الفني أعطى للحدث «مذاقاً خاصاً»، لكون معظم الأسماء قدّمت مع شاهين أبرز أدوارها. بالتالي، لم يكن من الصعب تذكّر شخصية «لويزا» في فيلم «الناصر صلاح الدين» فور ظهور نادية لطفي، وشخصية «الخليفة المنصور» في «المصير» بعد حضور محمود حميدة، وفيلمي «الأرض» و«الاختيار» مع وصول عزَّت العلايلي... وعندما فوجئ بعضهم بحضور نجوى إبراهيم، جاء الجواب السريع: أبرز فيلم قدمته في السينما كان «الأرض» مع يوسف شاهين.

بدا التأثر واضحاً على هاني سلامة وخالد النبوي، بطلي «المصير». كذلك جاء حضور خالد صالح للجنازة منطقياً، فشاهين نقله إلى مستوى رفيع في آخر أفلامه «هي فوضى». فيما كانت دموع يسرا صادقة بكل تأكيد، وهي التي قدمها شاهين بطلة أولى في «إسكندرية كمان وكمان» وعادت للظهور معه مراراً، وصولاً إلى «إسكندرية نيويورك».

أما الحضور الرسمي، فكان ضعيفاً في البداية. وخلص الحاضرون إلى مقاطعة الحكومة لجنازة المخرج الذي هاجمها بشدة وشارك في تظاهرات سياسية وعمره ثمانون عاماً. لكن ظهور وزير الدولة لشؤون مجلس الشعب مفيد شهاب، ووزير البيئة ماجد جورج قلّل من الغضب تجاه الدوائر الرسمية، وخصوصاً مع انتشار معلومة تؤكد أن الوزراء خارج القاهرة بسبب زيارة الرئيس مبارك إلى جنوب أفريقيا، وكان بعض الوزراء الآخرين في زيارات ميدانية في المحافظات صعُب إلغاؤها. وبالتالي، لم يحضر الجنازة وزيرا الثقافة والإعلام.

على النقيض تماماً، كان حضور رموز المعارضة واضحاً، وخصوصاً التيار اليساري المتمثل في قيادات التجمع حسين عبد الرازق وفريدة النقاش، ورئيس «حزب الوفد» محمود أباظة، والنائب الصحافي حمدين صباحي، رئيس حزب «الكرامة». وهذا الأخير ظهر ممثلاً في فيلم «الآخر»، مع زميله محمود سعد الذي شارك بدوره في لحظات الوداع. وتُلي في نهاية الجنازة، نعي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم للروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحّام.

الأخبار اللبنانية في 29 يوليو 2008

 

سكوت حَنصوّّر

محمد عبد الرحمن

التغطية الإعلامية المكثّقة لجنازة يوسف شاهين لم تعكس مكانة الراحل فحسب، بل كشفت خللاً واضحاً في طريقة تعامل الفضائيات العربيّة مع حوادث مماثلة، كما كشفت عن تدنّي المستوى الثقافي عند بعض المراسلين. لكن التعميم غير جائز، ذلك أن الخبرة ساعدت فريق قناة art على نقل الجنازة على الهواء مباشرة، فيما غابت «روتانا سينما» تماماً عن الحدث، ربما تأثّراً بغياب هالة سرحان، العقل المدبّر في مناسبات مماثلة. لكنّ مراسلي القنوات العامة وبعض الوكالات كانوا عبئاً على لحظات الوداع. إذ تعامل معظمهم مع الحدث على أنه فني، لا يختلف كثيراً عن العرض الخاص بفيلم جديد. وبالتالي، لا مانع من طرح السؤال نفسه على عشرات الفنانين، حتى لو كانت الإجابة واحدة. وذلك قد أزعج كثيرين، ما عدا من قرر التزام الصمت منذ البداية، مثل يسرا ومحمود عبد العزيز.

فيما استغل بعض المغمورين اهتمام الفضائيات بهم، ليتحدثوا عن شاهين. هكذا مثلاً، حصلت زيزي مصطفى على فرصة الظهور المتكرر لمجرد أنها والدة بطلة فيلمه الأخير (منة شلبي)، وأجرت غادة إبراهيم أكثر من لقاء لأن مراسلي القنوات يعرفونها. بينما ترك المراسلون مُخرجاً بحجم توفيق صالح لأنهم لم يعرفوا من هو. وحين سأل أحدهم: «مين الراجل أبو شعر أبيض ده»، وعرف اسمه، طرح سؤالاً آخر: «هل هو مهم؟». كأن هؤلاء لم يسمعوا عن توفيق صالح أو حتى لم يشاهدوا فيلم «إسكندرية كمان وكمان» لشاهين، وقد ظهر فيه صالح بشخصيته الحقيقية. وسط كل ذلك، كان الحديث مع نادية لطفي وحسين فهمي وغيرهما، صادقاً، استعادوا فيه لحظات استثنائية جمعتهم بجو.

الأخبار اللبنانية في 29 يوليو 2008

  

نجوم

غاب عن وداع شاهين كبار الممثلين مثل فاتن حمامة وهند رستم وأحمد رمزي وعمر الشريف. كذلك لم يحضر عادل إمام ونور الشريف وليلي علوي ومحمد منير مراسم التشييع. ومن المتوقع حضور بعضهم العزاء في استديو نحاس في مدينة الفنون.

الفنانة التونسية لطيفة لم تستطع بدورها الحضور بسبب ارتباطاتها الفنية في تونس حيث تستعد للغناء في «قرطاج». ولطيفة قدمت إلى السينما فيلماً واحداً، كان من توقيع شاهين، هو «سكوت حنصوّر».

محمود ياسين، وحسين فهمي، وشهيرة، ومحمود حميدة، وحسن كامي، والمخرج أسد فولادكار كانوا في مقدمة الحاضرين إلى الكنيسة قبل موعد الصلاة بساعتين تقريباً. واستمر توافد الفنانين والإعلاميين حتى خروج الجثمان من الكنيسة ـــــ حيث كان المئات في انتظاره ـــــ متوجهاً إلى الإسكندرية.

بدا التأثر واضحاً على تلاميذ شاهين والفنانين المقربين منه. ولم يتمالك معظمهم نفسه، وانهمرت الدموع، وخصوصاً في اللحظات الأخيرة للقداس عند تلاوة تراتيل الوداع. وأبرز المتأثرين خالد يوسف، ويسري نصر الله، ومنال الصيفي، وحسين فهمي، ويسرا، ولبلبة. كما بدا التأثر على مجموعة شبان وفتيات لم يكونوا مقربين من شاهين، علماً أن مجموعة مخصصة لوداع شاهين انطلقت على «فايس بوك» فور إعلان الخبر صباح أول من أمس.

بعض الحاضرين فوجئوا بخبر وفاة الممثل أحمد محرز الذي شارك في بطولة أفلام لشاهين أبرزها «عودة الابن الضال» و«اسكندرية ليه» و«سكوت حنصوّر». وعندما تساءل بعضهم عن سبب غيابه، أُعلن عن وفاته بهدوء قبل أسابيع.

وصل جثمان يوسف شاهين كاتدرائية القيامة، في تمام الساعة الثانية عشرة والربع ظهراً. ما أحدث خللاً في خطط بعض المعزّين، وخصوصاً رجال الدولة. وبعدما أشيع عن إقامة الجنازة عند الواحدة ظهراً، وصل بعضهم إلى الكنيسة في لحظات الدفن الأخيرة.

أجَّل الزحام الشديد خروج الجثمان من الكنيسة حوالى نصف ساعة.

السيارة التقليدية التي أقلت الجثمان من المستشفى إلى الكنيسة وكان رقمها « 63 تحت الطلب» لم ترافق النعش إلى الإسكندرية. إذ جرت الاستعانة بسيارة حديثة مخصصة لهذا الغرض حملت الرقم «909 تحت الطلب».

قوبل إعلان إقامة العزاء في مدينة الفنون بارتياح من جانب الحاضرين. إذ ستتحول وفاة شاهين إلى حدث يجمع كل أفراد الوسط الفني المصري، في المكان الذي انطلق منه رموز هذا الفن.

الأخبار اللبنانية في 29 يوليو 2008

 
 

يوسف شاهين:

رائد قضي ستين عاما في صناعة الفيلم والمشاكسة

ابراهيم درويش

في مرضه ووفاته لم يثر يوسف شاهين (1926 2008)، الصخب الكبير حوله، ولكنه في حياته التي استمرت ستين عاما في السينما ملأ العالم بالصخب، الموسيقي والرقص والجدل. فقد كان شاهين مخرجا شجاعا وانجز مشروعا سينمائيا، قدم افكارا جديدة وخيالا، وواقعية ساحرة ومثيرة كما اشار جين رينوار مرة. وشاهين نقل السينما المصرية للعالم، ووضع معايير للسينما المصرية والعربية وقدم عددا من كلاسيكيات السينما العربية. ومع انه كان في قلب السينما وعبر عن هموم الطبقة المسحوقة واحلام الطبقة البرجوازية، ونقل عالم مصر ما قبل الثورة وبعدها، فقد كان واعياً بدور الفنان ومسؤوليته. وأكد ان حرب عام 1967 كانت حافزا مهما له بوعي دور الفنان ومسؤوليته، مشيرا الي ان هذا الوعي تشكل لديه بعد ثورة الضباط الاحرار 1952. قدم شاهين سينما وثقت لجيل التحرر من الاستعمار وجيل هزيمة حزيران (يونيو) وسجل هموم العولمة وشروط الزمن الامريكي، وارهاصات وتداعيات ما بعد التفجيرات علي امريكا. وهو وان لقي الحفاوة في المهرجانات الدولية بسبب جدلية ما يطرح وخاض معارك داخل مصر مع من عارضوا افلامه الا ان افلامه ظلت لصيقة بالهموم الوطنية والعروبية والقومية. وتمثل افلامه الاولي "الارض"، (1969) الذي يعتبر ملحميا عن كفاح الفلاحين من اجل ارضهم في دلتا النيل " صراع في الوادي" و "جميلة الجزائرية" و "الناصر صلاح الدين" تعبيرا عن همومه القومية والوطنية وفيها شاعرية الانتصار والمرارة. وجاءت افلام مثل "العصفور" و "الاختيار" و "عودة الابن الضال" لتثير هموم مرحلة ما بعد الهزيمة. ثم جاءت مرحلة السيرة الذاتية في رباعية الاسكندرية وخلالها جاءت هموم التسامح والتعددية والتصدي للتشدد في افلام مثل "المهاجر" و "المصير" واخيرا مرحلة ما بعد هجمات ايلول (سبتمبر) وقضية العولمة في افلام مثل "هي فوضي" الذي لم يكمله وغيرها. وقد تميزت سينما شاهين بالجرأة وميلها نحو المشاكسة وان كانت افلامه الاولي اعمق واكثر واقعية وساخرة الا انها اتجهت في مرحلة لاحقة نحو الفانتازيا والاستعراض وتميزت بحس سيريالي. قال شاهين مرة ان الحظ كان وراء تقدير النقاد في الخارج له فقد اخذ فيلمه "ابن النيل"الي مهرجان البندقية، ولم يكن يتوقع ان يثير اهتمام النقاد خاصة انه جاء من مخرج شاب، لكن الحظ كان سببا في معرفة النقاد باعماله وبقيمته كمخرج، حيث هبت عاصفة اثناء عرضه الفيلم قرب الشاطئ مما اضطر المصطافين للبحث عن غطاء من المطر ووجدوه في قاعة العرض، وعلق شاهين ضاحكا ان مشاهدي فيلمه الاول جاؤوا اليه بملابس السباحة. لكن حظ شاهين في الخروج للعالم لا يغطي علي عبقريته السينمائية ولا علي انجازه فهو اكثر المخرجين العرب والمصريين خاصة تماسكا من ناحية التجربة السينمائية واستمرارية، فقد كانت السينما تعني له كل شيء علي الرغم من دراسته في كلية النخبة في مصر في عهدها، كلية فيكتوريا الا انه اختار في وقت مبكر الاخراج والعمل السينمائي حيث سافر الي امريكا وتدرب في معهد باسادينا في كاليفورنيا للتمثيل قبل ان يعود ويبدأ مشواره السينمائي. كان شاهين ابن الاسكندرية ويجسد المدينة في تعددها وتنوعها، وقد قال مرة ان خمس لغات كانت تستخدم في بيته لكنه كان "خائبا" ولم يتقن ايا منها، وقال مفتخرا انه نتاج لكل التنوعات في مدينته فهو عربي واغريقي ومسيحي ومسلم ودرزي في اشارة الي الاصول التي شكلت عائلته. وقد عكست هذه الاصول عددا من القضايا التي عالجها في افلامه التي وصلت الي اربعين فيلما، وحاولت استكشاف فكرة الهوية، معني ان تكون مصريا، وفكرة التصالح والتسامح ، وهو ان اثار حوله عواصف في انتقاده لما اسماه الظلامية الاصولية، وتجرؤه علي طرح موضوعات اشكالية بدأت من باب الحديد وفي رباعيته الا انه ظل متجذرا في مدينته الاسكندرية، وثلاثيته او رباعيته تأخذ الكثير من مدينته، تنوعها وتسامحها وانفتاحها، وتأخذ كثيرا من سيرته، "اسكندرية ليه" (1978) و"حدوتة مصرية" (1982) و"اسكندرية كمان وكمان" (1989). وفي الفيلم الاول من الثلاثية قدم اشرطة حرب من المتحف الحربي البريطاني، واغاني من الافلام الاستعراضية الامريكية ذلك ان الشاب كان مهووسا بأفلام هوليوود. وتمثل افلام شاهين صورة من تحولات شاهين ومستويات الفهم التي تم تلقيها، فقد حسبت بعض افلام الثلاثية علي معسكر التطبيع كما شجبت الجماعات الاسلامية افلامه اللاحقة، واعادت الحجارة التي رماها علي الجنود الاسرائيليين عند بوابة فاطمة اعتباره كما ان مواقفه من السياسة المصرية وضعته علي طرف النقيض مع المؤسسة المصرية واعتبرت افلامه الاخيرة معادية لامريكا. لكن ما يهم في صنعة شاهين السينمائية انها تحتفل بالانفتاح وتتجرأ علي فتح جبهات جديدة تعتبر جدلية.

ولد يوسف شاهين في مدينة الاسكندرية اثناء الاحتلال البريطاني، في عائلة مسيحية، الاب محام اصوله لبنانية/ سورية والام اصولها يونانية. وتلقي تعليمه الاولي في المدارس المسيحية (الفريرز) وانتقل بعدها الي كلية فيكتوريا. بدأ عشقه للسينما عندما شاهد وهو طفل مسرح خيال الظل.ذهب شاهين لجامعة الاسكندرية بعد ان رفض والده تلبية رغبته بان يدرس التمثيل ولكنه نجح باقناع والده اخيرا وسافر الي امريكا وانضم الي معهد باسادينا في كاليفورنيا وقضي فيه 3 اعوام. بعد عودته الي مصر قرر الدخول في مجال الاخراج السينمائي حيث قدم اول اعماله "بابا امين" (1950) وكان عمره 24 عاما. وبعده اخرج فيلم "ابن النيل" (1951). ولكن فيلمه "باب الحديد" (1958) يمثل انطلاقته الحقيقية، حيث وقف فيه شاهين لأول مرة امام الكاميرا ولعب دور قناوي بائع الصحف المقعد والمعتوه الذي كان يعشق سرا هنومة بائعة الشراب ويعتبر الفيلم البداية الحقيقية لشاهين كمخرج جاد وصاحب رؤية. في عام 1963 اخرج شاهين فيلم "الناصر صلاح الدين" الذي قدم فيه صورة عن البطل المسلم،وقدمت له السلطة المصرية كل ما يريد ووضعت تحت امرته 600 جندي و 120 فارسا، وقد فهم من الفيلم انه محاولة للمزاوجة بين شخصية البطل التاريخي وجمال عبدالناصر. ومع ان شاهين دعم ناصر الا ان خلافه مع وزير الثقافة حول فيلم اخر عني ان الفيلم تم تجاهله. في عام 1965 قام شاهين باخراج فيلم "بياع الخواتم" والذي مثلت فيه فيروز، واخرج في عام 1958 فيلما عن البطلة الجزائرية جميلة بوحريد "جميلة الجزائرية" الفيلم المناهض للاستعمار وتم قبل استقلال الجزائر . في عام 1972 انشأ شركة مصر وفي هذه الفترة بدأت مصاعبه الصحية حيث تعرض لجلطة في القلب واجريت له عملية اثناء تصويره فيلم "العصفور" الذي عكس فيه آثار هزيمة عام 1967 . في التسعينات من القرن الماضي قدم فيلمه "المهاجر" الذي اثار احتجاجات لتصويره النبي يوسف ومع ان شاهين ربح معركة قضائية الا ان الفيلم لم يعرض في اي دار للسينما خوفا من المتشددين. وفي عام 1997 ثارت ضجة اخري حول فيلمه "المصير" الذي اعاد فيه حياة الفيلسوف المسلم ابن رشد. وقد رفض شاهين كل الاتهامات الموجهة له قائلا انه لا يوجد شيء اسمه ارهاب اسلامي بل ارهاب. اثار شاهين العديد من المعارك مع المؤسسة فقد انتقد ما ينتجه التلفزيون الرسمي واعتبره تافها. ومع انه احب هوليوود ودرس في امريكا الا ان علاقته مع امريكا ظلت غامضة ففي فيلمه " اسكندرية ليه" (1978) يضحك تمثال الحرية ساخرا علي المهاجرين القادمين لامريكا. فقد قال شاهين مرة "عندي مشكلة مع امريكا.. كنت احبها كثيرا، درست فيها، وحبي الاول كان فيها.. لا اكره امريكا كما يظن البعض ولكن من الصعوبة التعاطف معها" وبعد هجمات ايلول (سبتمبر) قال شاهين ان علي امريكا ان تشاهد فيلمه "المصير" لكي تفهم سبب التفجيرات. وعلي الرغم من الاحتفالية التي اقيمت له في مركز لينكولن في نيويورك وعدد من المدن الامريكية عام 1998 وعرضت فيها 15 من افلامه الا ان فيلمه القصير عام 2002 في مرحلة ما بعد الهجمات علي امريكا ادي لاعتباره معادياً لامريكا من قبل مجلة "سترايدنت". وقد اخبر كاتبة نعيه في صحيفة "الغارديان" شيلا ويتكر ان امريكا عوضا عن نشر قيمها تقوم بتدمير الحضارات. كتب شاهين معظم نصوص افلامه بدءاً من "المهرج الكبير" عام 1952 وكان وراء اطلاق عدد من الممثلين والمخرجين من مثل عمر الشريف الذي قدمه في فيلم "صراع في الوادي" (1953) ولعبت المغنية الفرنسية من اصل مصري داليدا دورا في فيلم "اليوم السادس" (1986). ولعب عدد من الممثلين الفرنسيين ادوارا في افلامه وكذا المغنية التونسية لطيفة. في عام 1997 قدم له مهرجان كان جائزة الاستحقاق السينمائي، وفي عام 2004 ختم مهرجان "كان" بعرض فيلمه "اسكندرية ... نيويورك". في عام 2007 بدأ شاهين العمل علي فيلم "هي فوضي" الذي لم يكمله بسبب المرض واكمله تلميذه خالد يوسف وعرض في مهرجان البندقية عام 2007. ويقدم الفيلم صورة عن عنف الدولة ضد دعاة الديمقراطية وفساد الشرطة وتعذيب السجناء.
في نهاية حياته تحول شاهين لناشط سياسي ضد الفساد في مصر وضد العقلية العسكرية الامريكية. وفي عام 1992 طلب منه المخرج جاك لاساب ان يخرج مسرحية للكوميدي فرانسيز واختار مسرحية للكاتب المعروف البير كامو "كاليغولا" وكانت عملا ناجحا وهي عمله المسرحي الوحيد. سينما شاهين، في نخبويتها وتجذرها وواقعيتها وسرياليتها هي صورة عن تحولات فنان ومجتمع راقبه المخرج لأكثر من نصف قرن، وعبر عن صعوده وهبوطه واشواقه وافراحه، بحس فانتازي لم يخل من المرح والمرارة وهو في النهاية يقف في مصاف المخرجين الكبار.

من افلامه الاخري

بابا امين (1950) ابن النيل (1951)، صراع في الوادي (1954) نساء بلا رجال (1953)، شيطان الصحراء (1954) انت حبيبي (1957)، نداء العشاق (1960)، فجر يوم جديد (1964)، الناس والنيل (1968)، الاختيار (1970)، انطلاق (1973)، عودة الابن الضال (1976)، وداعا بونابرت (1985)، القاهرة منورة بأهلها (1991)، سكوت ح نصور (2001).

* كاتب من اسرة القدس العربي

القدس العربي في 29 يوليو 2008

 
 

عبدالنور خليل يكتب:«أيامه الحلوة.. والمرة» معه

يوسف شاهين العوده الي قلب الوطن

·         عقدنا محاكمة لشاهين بعد منع «المهاجر» وكان معي د. علي الراعي ورجاء النقاش وصالح مرسي

·         لم يغضب «جو» عندما وصفته بالمجنون بعد فوز «الاختيار» في مهرجان قرطاج لاعتقاده أن المثقفين مصيرهم الجنون!

·     توافق كبير بين شاهين والفرنسي جان لوك جودار وإن اختلفت طريقة العقاب علي حرية الرأي والتعبير احرجني شاهين في ندوة «المهاجر» في مهرجان برلين وهو يطلب مني أن أروي لنقاد وصحفي العالم ظروف منع عرض الفيلم في مصر

·         د.علي الراعي: شاهدت الفيلم مرتين وكتبت «ملحمة سينمائية في حب مصر».. بلا كراهية ولا سخرية من عظمتها

·         رجاء النقاش: الذين يهاجمون شاهين هم الذين اقنعوا الشاب الذي غرس السكين في عنق محفوظ بأنه كافر

·         صالح مرسي: شاهين أعلن في البداية أنه يقدم فيلما عن يوسف الصديق، وظلت ظلال سيدنا يوسف عليه السلام تطارد «المهاجر»

·     د.لويس عوض: سلمني مقاله للمصور ثم طلب مني أن اصطحبه لرؤية «المهاجر» بعد أن حكم بعرضه قلت لشاهين: جاي معايا د.لويس عوض فصاح: هستناكم بره علي الباب  

في زفة لك الله أيها العزيز «جو» .. فاجأتني بالسقوط في الغيبوبة وفاجأتني «بالرحيل .. لكنك سبتقي في القلب دائما وأبدا»كان فيلم «الاختيار» كما سبق لي أن حللت في الحلقة السابقة هو قمة رؤية يوسف شاهين في أزمة المثقف المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام، الذي أصيب بحالة من انفصام الشخصية في زمن وصف بأنه «حالة لا سلم ولا حرب» ولا حتي «حزم»، وأن هذا المثقف صائر في أحسن الظروف إلي الجنون، وهو المشهد الختامي في الفيلم .. وحمل «جو» الفيلم وذهب يمثل به مصر في مهرجان قرطاچ السينمائي الدولي، وفاز بجائزته الأولي الجائزة الذهبية لأحسن فيلم .. ولأنني كنت داخل الفيلم وأمثل فيه وأفهم جيدا ما وراء دوافع «جو» من تقديمه، فقد نشرت مقالا داويا في «الكواكب» عقب الفوز عنوانه «فعلها المجنون وفاز بالجائزة» ولم يغضب «جو» من العنوان فقد كان يؤمن بأن كل مثقف مصري صائر إلي والجنون.بين جان لوك جودار وشاهينفي إحدي دورات مهرجان كان السينمائي الدولي اشترك المخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار بفيلم سماه «مزود يوسف» أو ريبة يوسف «أو اسطبل يوسف» وهي كلها ترجمات تؤدي المعني من الفيلم وجان لوك جودار - مثل يوسف شاهين- أكثر مخرجي فرنسا المعاصريين فلسفة واجرأهم جرأة وتعبيرا وحرية في الانطلاق .. كان الفيلم إنتاجا سويسريا، ربما لأن جودار كان يرفض أي قيد من المتحفظين في اليمين الفرنسي، أو حتي اليسار الفرنسي علي فكره.. وكانت اللقطات الأولي من الفيلم عبارة عن ممارسة جنسية بين خادمة علي ما أذكر ورجل في الزريبة التي أصبحت مكانا ولد فيه سيدنا عيسي عليه السلام وكان يوسف صاحب الزريبة - عرف فيما بعد باسم يوحنا المعمدان - هو الذي عمد طفل العذراء البتول ستنا مريم العذراء عليها السلام، وهو الذي خرج بها وبابنها النبي سيدنا عيسي في رحلة العائلة المقدسة إلي مصر هربا من بطش الرومان.علي أي حال .. كان من المحدد أن يحضر جودار ونجوم فيلمه مؤتمرا صحفيا في صباح اليوم التالي لعرض الفيلم، وكنا نتجمع علي أبواب قاعة المؤتمرات الصحفية في الدور الثالث من قصر المهرجانات .. وفتح باب المصعد وخرج جان لوك جودار محاطا بمئات من عدسات المصورين، وفوجئنا برجل فرنسي يعترض طريقه، وقد حمل علي ساعده «علبة تورتة» وقال له: مسيو جودار.. لقد عبرت عن رأيك في فيلمك بكل حرية .. فاسمح لي أن أعبر عن رأيي فيك وفي فيلمك» وطارت التورتة إلي وجه جودار وصدره علي النحو الكوميدي الذي نراه أحيانا علي الشاشة .. وبالطبع تأجل مؤتمر جودار الصحفي، وأصبحت الحادثة مجال الحديث والتعليقات.«رام» بطل «المهاجر» ليس سيدنا يوسفتذكرت حادثة جودار هذه وأنا أطالع برنامج مهرجان برلين السينمائي الدولي عام 1994، وقد حدد البرنامج عرضا لفيلم شاهين «المهاجر» في بانوراما السينما العالمية، وحدد إقامة ندوة صحفية للمخرج المصري يوسف شاهين مع الصحفيين والنقاد من كل جنسيات العالم عن الفيلم بعد عرضه.كان قد صدر في مصر قرار بمنع عرض «المهاجر» مؤيدا بحكم محكمة رسمي حملت حيثياته أن الفيلم يتعرض لحياة سيدنا يوسف عليه السلام وأنه في الوقت الذي حملت فيه مقدمة الفيلم باللغة العربية نفيا قاطعا بأنه لا علاقة له بقصة سيدنا يوسف، إلا أن نفس المقدمة حملت في ترجمتها الفرنسية أن قصة الفيلم تستوحي الأحداث التي عاشها سيدنا يوسف في مصر ، وتستلهم أعماله الطيبة كنبي وكان الجانب الفرنسي المشارك في إنتاج الفيلم هو الذي دفع به إلي برلين لعرضه في المهرجان، في وقت كان يوسف شاهين قد استأنف حكم المحكمة الجزئية بمنع عرض «المهاجر» وينتظر حكم القضاء الأخير.المهم كان علي وعلي كل النقاد المصريين والعرب أن نحتل الصف الأول في ندوة يوسف شاهين بعد أن شاهدنا «المهاجر»، ومن الطبيعي أن يكون السؤال الذي بدأ به الصحفيون العالميون المساهمون في الندوة : لماذا منعت مصر عرض الفيلم.. وبدأ يوسف رده بأنه قال .. أنا لن استعرض ظروف المنع، ولن أحكي ما حدث للفيلم لكنني أحب أن أقدم لكم هنا صديقا لي - وأشار إلي- وهو ناقد سينمائي عالمي مثلكم وتخصص في حضور دورات برلين وكان وفينسيا لكي يحكي لكم ظروف المنع وموقف «المهاجر» في مصر .. وضعني «جو» في موقف لا مفر منه وبدأت أشرح أن قوانين الرقابة في مصر تمنع ظهور الأنبياء علي الشاشة، بل وهناك سلطة الأزهر الدينية التي توسع هذا المنع إلي الشخصيات الدينية مثل الصحابة العشرة المبشرين بالجنة، وقد تعرض لهذا الموقف المخرج السوري العالمي مصطفي العقاد عندما طلب أن يصور فيلمه العالمي «الرسالة» في مصر واضطر أن يصوره في المغرب، وظل الفيلم ممنوعا من العرض في مصر لسنوات طويلة، وغلطة يوسف شاهين هو أنه أعلن منذ البدأ أنه ينوي تقديم قصة سيدنا يوسف عليه السلام في مصر، واصطدم برفض الهيئات الدينية وعلي رأسها الأزهر ثم الرقابة السينمائية في مصر.وتحول يوسف بسبب هذا الرفض إلي تخليه عن فكرة تقديم سيدنا يوسف علي الشاشة وأنه سيكتفي فقط باستلهام قصة سيدنا يوسف في فيلم سينمائي حمل اسم «المهاجر»، وأكد في «الندوة» العالمية أن بطله رام «خالد النبوي» ليس سيدنا يوسف عليه السلام وأنه حمل بعض صفاته وخصائصه النبيلة.الحملة ضد «المهاجر» تزداد ضراوةازدادت الحملة ضد المهاجر وضد يوسف شاهين ضراوة .. وأججتها بعض الأوساط الدينية المتطرفة في مصر ورغم أن قناعة الرقابة بابتعاد شاهين عن تقديم قصة سيدنا يوسف في فيلمه «المهاجر» ورخصت للفيلم بالعرض إلا أن هناك من تطوع برفع قضية يطلب فيها سحب الترخيص بعرض الفيلم ومنعه بل وإعدام نسخه، وهو محام يدعي محمد أبو الفيض وأصدر قاضي الأمور المستعجلة المستشار جبر إبراهيم جبر حكما بوقف عرض فيلم «المهاجر».وفي خلال هذه الحملة الضارية قررت أن أعقد ندوة المصور الفنية تحت عنوان «يوسف شاهين وفيلمه المهاجر في الميزان»، وقد جاء في ورقة الندوة مقدمة تقول: هذه الضجة المثارة الآن حول فيلم «المهاجر» ليوسف شاهين .. وصلت إلي حد التقاضي لوقف عرض الفيلم بدعوي أنه يسيء إلي سيدنا يوسف عليه السلام ويسيء إلي مصر في فترة من تاريخها، والذين يتبنون هذا الرأي يحاولون فرضه بضراوة لوقف الفيلم ومنع عرضه في الداخل والخارج، بل وقد يصلون إلي حد «تكفير»صاحبه وحجتهم أن الأزهر رفض الموافقة علي الفيلم منذ البداية وأنه طلب من رقابة السينما ألا تصرح ليوسف شاهين بتصوير فيلم عن يوسف الصديق عليه السلام.. وعلي الجانب الآخر نجد يوسف شاهين يرفع شعار أنه لم يقدم فيلما عن سيدنا يوسف عليه السلام. وبطله «رام» بكل نوازعه الإنسانية شاب عادي وأنه لا يقدم فيلما تاريخيا، وأنه استوحي التاريخ ليقدم فنا سينمائيا تقبلته الجماهير وتقبله النقاد بحماس .الخلاف بين التوجهين كبير وعميق ولهذا دعونا يوسف شاهين في مواجهة ثلاثة من نقاد المصور الأساتذة د. علي الراعي ورجاء النقاش وصالح مرسي ومعهم بالطبع من القسم الفني والثقافي في المصور عبدالنور خليل وبدوي شاهين وأمنية الشريف.د. علي الراعي يبدأ الحواركان الذي بدأ الحوار هو د. علي الراعي.. وأنا التزم بنقل الحوار عن «المصور» الصادر في 11 نوفمبر 1994 وقبل نظر استئناف يوسف لعرض الفيلم بشهرين - قال د. الراعي : أريد أن أبدأ من قصة التقاء الفيلم مع قصة سيدنا يوسف .. ما موقفك من الناس الذين قالوا أنك قدمت فيلما يحكي قصة سيدنا يوسف وأسأت إلي نبي من أنبياء الله.. قدمت فيلما خرج عن منظوم الآداب والطاعة الدينية وعرضت مناظر خليعة .. ما موقف يوسف شاهين من هذا؟!ويجيب «جو»: «لو أنني كنت أقدم فيلما دينيا كان إنتاجه وإخراجه قد تم بنظام محدد.. فيه وضوح شديد، وفي نطاق قواعد وحدود يعرفها رجال الدين .. وكان شيخ الأزهر ووكيل الأزهر والمفتي يعرفون الخطوات التي أقوم بها وعندما رفضوا ومنعوا تجسيد قصة سيدنا يوسف أنا اقتنعت.. قالوا بلاش وقلت بلاش.. عملت فيلماً آخر لقصة أخري لم تعد قصة سيدنا يوسف موجودة .. والنبوة غير موجودة إطلاقا».د. الراعي:« في الفيلم بطلنا رام يتنبأ بالجو والتنبؤ من علامات النبوة وإن كنت اعترف أن التنبؤ في الفيلم جاء بشكل علمي.شاهين :«ما في الفيلم ليس تنبوءا .. دا شيء ممكن أي واحد يهتدي إليه ويعمله.. وزير ياخد شوية رمل يرميها لفوق ليعرف اتجاه الريح .. دي حاجة تعملها أنت وأعملها أنا.. أنا ابتعدت بالشخصية تماما عن «النبوة» وحذفت كل ما يمكن يدلل عليها.. الشيء الذي قيل لي ممنوع حذفته من الشخصية .. والذي حدد هذا الممنوع هو الأزهر ورجاله الأفاضل.د. الراعي: شاهدت الفيلم مرتين.. وأنا معك في أن الناس ماقالوش إن هذه قصة سيدنا يوسف بالذات .. البعض قال إن الفيلم «شبه تاريخي» يتكلم عن قصة شاب من الشباب يتلقي المعلومات الكثيرة عن مصر ويمتدح مصر قبل أن يأتيها ويظل يمتدح فيها حتي النهاية، ومن هنا اندهشت مما يقوله البعض أن الفيلم ضد مصر وضد المصريين ويسخر من المصريين.. كتبت وقلت أن الفيلم «ملحمة سينمائية في حب مصر» .. وكتب د. جلال أحمد أمين في مقال له أن الفيلم ليس في حب مصر وأورد كلاما غريبا عن «سمهنيت» رمز لمصر و«رام» رمز لإسرائيل.النقاش: إنه التفسير السهل المبتذل.المصور: «رام» اسم هندي وهو في الأصل إله من آلهة الهندوس.شاهين: «رام» معناه أنه هو الذي ينطح الصخر ويحطمه برأسه.د. الراعي: في العصور الوسطي كانوا عندما يريدون هدم باب حصين يحضرون قطعة خشب كبيرة جدا ويسمونها «رام باترنج رام» يضربون بها الباب حتي ينهدم أي أنها تعني التصميم وهذا موجود عند البطل رام.مرسي: رأيت «المهاجر» مرتين في يومين متتاليين .. وفي فترة ما كنت خبيرا في الإسرائيليات، وعندي مجموعة من الملاحظات .. بداية أنت كنت تعد فيلما عن سيدنا يوسف عليه السلام وعندما ذهبت إلي الأزهر منعوك، لكن ظل سيدنا يوسف عليه السلام لا يزال موجودا علي الفيلم سواء أردت أو أبيت .. قدمت قصتك أنت أو قصة ثانية ما زال ظل سيدنا يوسف موجودا في الفيلم، عملت خلطاً بين الطرح الديني لمرحلتي سيدنا موسي وسيدنا يوسف عليهما السلام، ففي مرحلة سيدنا يوسف لم يكن «أتون» قد ظهر وجبته علي أنه موجود أساسا، وقدمت اخناتون في لقطة سريعة جدا، ولم يكن ضعيفا ولا نحيفا بهذا الشكل بل كان قوياً وله «كرش»، الخناقة بين آمون وأتون كانت موجودة بعد سيدنا يوسف بنحو 300 سنة.. أتون لم يكن موجودا أيام سيدنا يوسف علي الإطلاق لدرجة أن البعض مثل «فروديد» قال: إن هناك شكا أن يكون سيدنا موسي هو اخناتون نفسه أو أحد قواده .. ولما نيجي نشوف شكل مصر في الفيلم .. أنا آلمني جدا أن يكون قائد جيش مصر «عنين» عاجز جنسيا .. لماذا؟!شاهين: أريد أن أوضح نقطة مهمة جدا.. أنا في «المهاجر» لم أكن أؤرخ لأحد كنت أؤرخ حدوتي أنا.مرسي : أنا أدرك هذا لكني قلت في البداية أن الفيلم كان معمول عن سيدنا يوسف عليه السلام، وعندما توجهت إلي لأزهر منعوك وقالوا لك بأن النبي لا يجسد فاقتنعت بهذا، لكن ظل سيدنا يوسف عليه السلام موجوداً والقصة أيضا.شاهين:لا الزمان ولا المكان.. والمواقف مختلفة اخترت زمنا يعطيني الفرصة لكي اتكلم وأناقش اجتماعيا وسياسيا.. أحكي لكم من أين جاءت القصة ومن أين جاءت جذورها.. أنا أخذت مركبا وعمري 18 سنة لكي توصلني إلي أمريكا.. وفي فيلمي «إسكندريه .. ليه» حكيت إزاي جبت الفلوس بالعافية علشان رحلة أمريكا لأنني مقتنع أن الموهبة مش كفاية وأني لما أشوف أفلام مالهاش عدد مش كفاية ولازم اتعلم.. المهم ركبت المركب وكان المفروض أن تمر علي حيفا - في فلسطين قبل 1948 ثم مرسيليا قبل أن تعبر جبل طارق إلي المحيط .. نزلت في حيفا مع ثلاثة ركاب وسمعنا ضرب نار وناس تجري هنا وناس تجري هناك وجري ورانا ناس من المركب وقالوا لا أرجعوا .. وجريت راجع وأنا لا أفهم راسي من رجلي .. كان فيه صراع أنا مش فاهمه.. وهذا بالضبط ما حدث لبطلي «رام» وهو يحلم يريد الدخول إلي هنا لكنه لا يفهم حقيقة الصراع .. الصراع الذي يسود الناس حوله.. كان هذا الموقف أول مواجهة لمجتمع فيه صراع.. مثلما حدث معي في الرحلة كان فيه ضرب نار وأنا مش فاهم ليه.. أريد أن أوضح وأعلن بأن سيدنا يوسف موجود بشكل مافينا كلنا، كل واحد منا فيه «حتة» من سيدنا يوسف عليه السلام .. وإلا فلماذا نحبه؟!.. لماذا أنزل الله سورة سيدنا يوسف لأن فيها شيئا هو «القدوة» أنا أخذت منها القدوة بمعني الكلمة التي أريد أن أقولها للشباب .. لا تيأس .. فيه ضرب من هنا ومن هناك وفي كل مكان مما يبعث علي اليأس.. القدوة في أجدع ناس زي صلاح الدين وغيره من الأبطال .. أنا لا أحفظ التاريخ عن ظهر قلب، لكن «الحتة» التي أعرفها أروح لها .. ومن هذا المنطلق فكلنا فينا شوية من سيدنا يوسف ..فينا حاجة من القدوة ومادمت تبحث عن الصواب والشيء الطيب فلابد أن تشبه أحدا من الطيبين.النقاش : أفهم أنك بابتعادك عن سيدنا يوسف عليه السلام أصبحت حرا وتريد أن تعطي العصر كلمة .. هل هذا مقبول فنيا؟!د. الراعي: هناك نقطة أهم .. هي أن يوسف شاهين لم يكن يكتب التاريخ هذا ليس تاريخا أخذ مفردات وجمعها في الخطة التي رسمها لنفسه، وهي أن يظهر في حالة غليان .. قوي ثائرة وأناس مضطهدون .. وشعب جائع.. شعب ليس له حتي حق البعث .. لأن الميت لا يمكن أن يحنط إلا إذا كان عنده فلوس .. وبالنسبة لنقطة القائد «العنين» كان يجب أن يكون عنيفا ليكون هناك تعبير فني لأن تنظر زوجته إلي غيره رغم أنه جميل الجسد ومملوء بالقوة.النقاش: زوجة نابليون كانت تخونه.. أنا عندي تعليق علي موضوع القائد «العنين».. أنا في الحقيقة الرسالة التي وصلتني بكل تواضع كمواطن .. شعرت أن فيه نقدا قاسيا للعسكرية العربية كلها، ولا يمكن أن يتجسد إلا بهذا الشكل .. لأن العسكرية العربية لم تحقق لنا إلا نصرا واحدا كبيرا هو نص أكتوبر العظيم.شاهين: أحب أن أقول إن حدوتة «أميهار» هي فيدرا التي سبقته بثلاثة آلاف سنة .. المرأة التي أحبت الولد الذي تبناه زوجها أو كان ابن زوجها «أميهار» شخصية نبيلة جدا.. أعطي للولد «رام» الفرصة ليتكلم .. صدقه.. ولم يأخذها مسألة كبرياء أو كرامة.. وأنا أوافق علي تفسير رجاء.النقاش: شخصية «أميهار» القائد شخصية مركبة وعالية جدا فهي ليست شخصية مسطحة .. شخصية معقدة وجميلة كنموذج درامي.د. الراعي : «أميهار» شخصية نبيلة جدا في عدة مستويات .. في كونه يحمي ثورة الشعب لأنه ينزل الجيش ليحميه من مذبحة وانضمامه الواضح للشعب، أما نقطة أنه «عنين» وتفسير الأستاذ رجاء تفسير زكي.. فعلي المستوي الشخصي هو شخصيا .. إنسان قادر ويحب زوجته فعلا ويريد أن يمارس حقوقه لكنه غير قادر.. وأقول أنه سجين نفسه وهذه نقطة درامية قوية جدا.شاهين: ما أحب أن اثبته أن 80% من الجمهور طلع من الفيلم مبسوط، وكان جمهور الشباب غالبا ويملأ دور العرض ومن ناحية أخري جمال مصر في الفيلم.. يمكن أن أقول بكل تواضع أنه لم يأتي مصادفة .. أنا اشتغلت رحالاً خمسة شهور أخذت أكثر من أربعة آلاف صورة لأعرف الشمس فين والطبيعة تقول لي أنا جميلة الساعة كام والريح من أين تأتي مثلما يفعل «رام»، ولا تنس شيئا مهما جدا لم يطلع بهذه الخزعبلات عن الفيلم إلا % أو 3% من مشاهدي الفيلم وفي رأيي ألا نعطيهم أي أهمية.مرسي: من رأيي أن هذا النقد احتفاء بالفيلم ورحلتك مع الفكر في السينما المصرية محترمة للغاية ، لنترك اللي عايز يقول يقول لأن الفيلم مهم جدا في تاريخ السينما المصرية.شاهين: لا اعتراض عندي علي أي نقد بل استفيد منه .. لما أقدم فيها فأنا مسئول عن كل شيء .. مفيش نقطة عاملها إلا ودارسها جيدا وعلي أن أدافع عن الوحدة الدرامية التي أوردتها في فيلمي وأدافع عن الفكر الذي أريد أن أقوله .. أنا مايهمني هو أن الشباب اليوم يائس ومضروب ولا أحد يتحدث عن هذه النقطة.. ما المناخ الذي نعيشة اليوم .. حكاية التشكيك أصبحت عادية جدا كل واحد يشكك في الثاني .. عايز اشكك في واحد ممكن أقول أنا سمعت أن والدته أو زوجته اتمسكت في قضية دعارة مش ممكن.النقاش: الشاب الذي ذهب لقتل نجيب محفوظ قالوا له إنه كافر.شاهين: هذا الشاب مساق.. غلابة ويموتون .. والذين يعطون الأوامر قاعدين في سويسرا والدنمارك وواحد منهم لسه في أمريكا .. وأنا أسأل .. إحنا في حالة زي دي ليه؟ أنا أجلس في كرسي المتهم ليه؟!النقاش : أنت في الحالة نفسها التي فيها محفوظ نفسه.شاهين: كيف يجيء اتهامي في الأسبوع نفسه الذي اعتدي فيه علي محفوظ .. ما المناخ الذي يولد فيه ما يحدث؟! ولماذا كلمة اليأس .. إن بعض الناس أصحاب مبادئ ليست بتاعتهم يريدون ضرب الشخصية المصرية .. هل يريدون أن ينزعوا الابتسامة عن وجه مصر .. احنا بتوع «الفرفشة» والجمال والإبهار ماذا جري لنا ! أصبح دمنا ثقيل وأصبحنا نخاف .. وتصاغرنا..من أمتي؟! رأيي .. لن تضرب الشخصية المصرية.أخذناه بعد هذه المحاكمة المضنية فيما يشبه رحلة الترفيه.. لقد كان قاضي الأمور المستعجلة كما قلت قد أصدر حكما بوقف عرض «المهاجر وسحب نسخة من دور العرض بل ومصادرته، ونفذ الحكم فعلا .. وقال لي يوسف شاهين: لقد استأنفت الحكم، وهذه المرة سيجلس علي منصة الحكم ثلاثة قضاة لا واحدا وأنا واثق أن الفيلم سيتحرر في النهاية .. وكانت جلسة الاستئناف محددة بعد شهرين.وقلت ليوسف ضاحكا .. أحمد ربنا أن الجمهور لم يعاملك مثلما عومل جودار في فرنسا.. ولمعت عيناه وهو يقول لي: التورتة أهون من السكين التي أخذت طريقها إلي عنق نجيب محفوظ.د. لويس عوض أصر علي أن آخذه إلي «المهاجر»كان يوسف شاهين محقا فقد انصفه قضاة الاستئناف الثلاثة والغوا حكم منع «المهاجر» ومصادرته .. وأعاد يوسف تحديد عرض احتفالي للفيلم في دار سينما «فيلمينا» التي كان يستأجرها من نقابة السينمائيين ويخصصها لعرض أفلامه .. في هذه الفترة كان المفكر الكبير الدكتور لويس عوض قد اختار «المصور» ليكتب فيه مقاله الأسبوعي إثر جفاء نشب بينه وبين الأهرام .. جاءني بمقاله ثم قال مبتسما: لي عندك طلب هو أن تأخذني لكي أري فيلم «المهاجر» في العرض الذي أعلن عنه يوسف شاهين.. واتصلت بيوسف لأخبره ، فضحك من قلبه قائلا:«حتلاقيني عامل زفة علي الباب في انتظار الدكتور لويس » وبالفعل قابلنا بزفة محاطا بكل تلاميذه، وبعد العرض قال لي د. لويس عوض: معه حق ففي الكلمة الفرنسية التي سبقت عرض الفيلم قال: أن يتخذ من سيدنا يوسف «قدوة» نبيلة للشباب.

جريدة القاهرة في 29 يوليو 2008

 
 

وصية شاهين، حب الوطن، وعشق الإنسان

صلاح هاشم من باريس

اعتبر ان يوسف شاهين، الذي توفي يوم الاحد 27 يوليو 2008 عن 82 عاما هو مؤسس تيار " المكاشفة " وحساب الذات في السينما العربية الجديدة، اذ يجسد المخرج المصري يحيي الاسكندراني في فيلم " الاسكندرية كمان وكمان " من انتاج 1990 حالة خاصة، في اطار عملية الخلق الفني، داخل بلد محدد هو مصر. وهذه الحالة الخاصة، في اطار الظروف الموضوعية العامة، اجتماعية وفكرية وسياسية واقتصادية التي تعيشها، هي موضوع فيلم شاهين، الذي يضع نفسه أمام المرآة،لكي يكتشف ملامح وقسمات تلك " الحالة " الخاصة جدا في شخصية يحيي الاسكندراني..

الاسكندرية كمان وكمان هو فيلم أقرب مايكون الى افلام " السيرة الذاتية " التي تسلط الضوء علي وضع انساني محدد، خلال فترة بعينها، وهو من هذا المنطلق فيلم للتاريخ وعن التاريخ، ينضم الى فيلمين سابقين من افلام شاهين هما " الاسكندرية ليه ؟ " انتاج 1979 وفيلم " حدوتة مصرية " 83 ليشكل " ثلاثية " هي الاولى من نوعها في السينما العربية، فها هو شاهين، وبعد مرور اكثر من عشر سنوات على انتهاء الجزء الاول في المرحلة الفرنسية التي شهدت فيلمي " الوداع بونابرت " 85 و " اليوم السادس " 86..

هاهو " جو " يعود في هذا الفيلم، الى وقائع شخصية وتاريخية محددة، ويطرح هذه الوقائع من خلال مرآة الشخصية، في علاقتها بالتاريخ، حين تكون " الأنا " هي المحور الاساسي في الفيلم، ولذلك يعد " الاسكندرية كمان وكمان احد اهم الأفلام العربية في تاريخها، اذ يؤسس لما نحب ان نطلق عليه " سينما المكاشفة " الذي يؤكد على قيم " الفردية " من حيث هي " بلورة " لفكر فردي فريد ونبيل وأصيل ومتفرد، في مواجهة تلك الافكار والجماعات التي تحارب كل ما هو نبيل وانساني، وتريد ان تكتسح بتياراتها السلفية الظلامية المتعصبة الفكر الآخر، وتعمل على اخراس الالسنة..

يركز فيلم " الاسكندرية كمان وكمان" على هواجس وهموم يحيي الاسكندراني، الذي يعيش حالة " انفصام " عن النجم – أو الذات الاخرى – الذي كان يقوم ببطولة أفلامه، وقد انشغل هذه المرة عن مخرجنا بمسلسلات وافلام تليفزيونية مشبوهة بأموال مشبوهة..

ندلف الى الاسكندرية من أول لقطة ونلتقي يحيي المخرج الاسكندراني ونسافر معه الى مهرجان برلين، حيث حصل فيلمه على جائزة الدب الذهبي جائزة احسن فيلم،ثم نتجه معه الى مهرجان " كان " الذي لم يحصد فيه الا مرارة الفشل، ونعيش معه قصة انفصال نجمه الذي يقوم ببطولة افلامه عنه، كما نعيش معه علاقته بفنه حيث يخرج فيلما بعنوان " هاملت الاسكندراني، ولا ينجح عمر " نجم افلامه " لا ينجح للأسف في تقمص شخصية هاملت كما يريدها المخرج ويطلبها..

يمنحنا الفيلم مخرجا شابا جديدا هو يوسف شاهين، حيث يمثل ويرقص ويغني في الفيلم، ويطلب منا في اغنيته ان نرى العالم بعيونه.. وان نتفحص جيدا في عينيه لنرى شهادة الحب.حب الوطن مصر وعشق الانسان.

ويشارك يحيي المخرج الاسكندراني الذي يلعب دوره شاهين ذاته في اضراب الفنانين في مصر ضد سلطة النقابة، واذا به يلتقي بهذه الممثلة الشابة " نادية " وتقوم بدورها الفنانة يسرا، فيقع في حبها، ولا يستطيع أن يصارحها بحبه، ومن خلال علاقته بها تتفتح ذاته على أشياء ووقائع وأحداث، مشاعر وأحاسيس ورؤى لم يكن يفهمها، او يستشعرها من قبل – من خلال المشاهد التي تظهر فيها يسرا في دور الملكة " كليوباترا " ويوسف شاهين في دور أنطوني مرة، ثم في دور الاسكندر الاكبر مرة اخرى، وهكذا يقدم لنا شاهين " رؤية " ذاتية تهكمية ساخرة في آن، لبعض الشخصيات التاريخية التي تركت بصماتها علي حياة وتاريخ المدينة..

كما ان " الاسكندرية كمان وكمان " في رأينا، يطرح ايضا " رؤية " ذاتية لهذه المدينة المتوسطية العريقة – كانت أول " عاصمة " لمصر – التي تشكل في جوهرها مساحة للتواصل والتسامح والتعارف والتفاهم وتبادل الثقافات بين جميع الأمم والأجناس، كما يتمثلها فنان كبير مثل يوسف شاهين..

نتابع في الفيلم أيضا مشاكل وهموم عملية الخلق الفني السينمائي، حيث يصنع يحيي مخرجنا الاسكندراني فيلما عن " هاملت " لشكسبير ويضع له عنوان " هاملت الاسكندراني "، وهي بالطبع تحية إلى مسرحية هاملت الشهيرة وتحية الى مؤلفها الكاتب المسرحي الانكليزي وليام شكسبير، فقد كان شاهين يحلم بتمثيل دور هاملت عندما كان يدرس في كلية فيكتوريا وقبل ان يشد الرحال للسفر والذهاب لدراسة السينما في أميركا..

يكشف الفيلم الذي يجسد " فن المكاشفة " من ابتداع شاهين وعند شاهين عن جدارة، يكشف أيضا عن التناقض بين شخصية الممثل وشخصية المخرج في ذات المخرج شاهين.لكنه هاهو شاهين يحل لنفسه هذه المشكلة، فيقوم ببطولة الفيلم بعد أن قام محسن محيي الدين بدور شاهين في " الإسكندرية ليه ؟ " الذي حكي لنا فيه عن رحلته لدراسة السينما في أميركا، وقام الممثل نور الشريف بدور شاهين في ذلك الجزء الثالث من " الثلاثية " ونعني به فيلم " حدوتة مصرية " ويحكي لنا فيه عن عملية تغيير شرايين القلب التي أجريت له..

فيلم " الإسكندرية كمان وكمان يضع رؤية الذات على حقيقتها من خلال أزماتها وهمومها، مع رؤية الواقع على حقيقته، من خلال الإضراب في النقابة، يضعهما مع حال السينما العربية في المهرجانات الدولية مثل فينيسيا وكان داخل بوتقة الفن الشاهيني، ليصنع لنا " تركيبة " مدهشة وساحرة من الأحاسيس والمشاعر والأفكار والأغاني والمواقف، تنفخ من جديد الروح في السينما العربية وتمسح عنها التراب. وفيلم " الإسكندرية كمان وكمان "، عندما يطلق للذات في السينما العربية حريتها،ويوفر لها إمكانيات القول والبوح- بلا كسوف او خجل، يحرر السينما العربية من الاطر الكلاسيكية القديمة التي تحبس فيها نفسها، بموضوعاتها المكررة المعادة المملة الثرثارة، ويفتح لها نافذة على بحر الإسكندرية، لكي تسافر في أفق ثقافتنا العربية المعاصرة، وتبحر في سلام مع الذات، داخل بحر الناس الكبير، وتكتشف ولأول مرة ربما نفسها والعالم.

موقع "إيلاف" في 29 يوليو 2008

 

المخرج الجزائري أحمد راشدي ينعي يوسف شاهين

كامل الشيرازي من الجزائر 

نعى المخرج الجزائري المخضرم "أحمد راشدي"، صديقه وزميله الراحل "يوسف شاهين"، وقال راشدي في رسالة تلقت "إيلاف" نسخة منها، أنّ "يوسف لم يمت" وأضاف راشدي أنّ يوسف مبدع مثله مثل الشعراء هؤلاء لا يموتون بل يأفلون كما تأفل النجوم أو المصائر لتخلد لراحة أبدية.وقال راشدي بنبرة متأثرة، أنّ الراحل شاهين كان يرغب في وضع لبنات سينما عربية صميمة، ملاحظا أنّ التجربة التي خاضها شاهين في مجال إنتاج الأفلام مع الجزائر كانت "جد مميزة" انطلاقا من فيلم "عودة الابن الضال"، وكشف راشدي أنّ "آخر مشروع لشاهين الذي لم ير النور، كان سيتمحور حول الجزائر، في إشارة من راشدي على اعتزام شاهين تحويل الرواية الشهيرة "ذاكرة الجسد" للأديبة "أحلام مستغانمي" إلى عمل سينمائي كان مقررا إنتاجه في الجزائر.

وانتهى راشدي في مرثيته إلى اعتبار فقدان السينما المصرية والعربية لشاهين "خسارة كبرى" واصفا الراحل بـ"أسطورة السينما العربية" وأحد عمالقة الفن السابع الذي عرف مشواره الفني بالتميز والثراء والجرأة والصدق في طرح القضايا الاجتماعية والسياسية بمسحة إنسانية، في التعبير عن ذاته وتجسيد آمال وآلام الناس العاديين وذلك باقتحام مواضيع وحكايات لم تعتاد السينما المصرية على معالجتها.

موقع "إيلاف" في 29 يوليو 2008

 
 

مات يوسف شاهين.. فمن يتولى نظارة المدرسة؟!

محمد صادق دياب

مات عبقري السينما العربية يوسف شاهين.. رحل المخرج الذي اعتاد أن يطرح رؤيته الفنية ويمضي غير عابئا بحاشية المدح والقدح.. حينما عرض فيلمه الشهير «باب الحديد» عام 1958 لم يطق الجمهور أن يبقى طوال الوقت يشاهد فيلما تصفه بطلته هند رستم ـ لمجلة آخر ساعة المصرية ـ بالغرابة وتقول: «إنه عبارة عن 12 ساعة في محطة مصر مع الرجل العجوز، والولد الأعرج قناوي، والبنت الغلبانة هنومة التي تقفز من قطار إلى قطار!»، فخرج الجمهور متظاهرا يردد: «سينما أونطة» مطالبا بإرجاع ثمن التذاكر.. يومها شحذ النقاد نصال أقلامهم لذبح يوسف شاهين، فوصفوه بأنه أكبر كارثة إخراجية في تاريخ السينما المصرية، لكن الزمن أنصف الفيلم ومخرجه يوسف شاهين بعد ذلك، فلقد احتل الفيلم بعد نصف قرن المرتبة الثامنة ضمن أحسن مائة فيلم في تاريخ السينما العربية، الأمر الذي يؤكد أن يوسف شاهين كان يسبق عصره الفني بعقود، وأن رؤاه الفنية قد تحتاج إلى زمن طويل للوصول إليها وإدراكها.

ويروي الصحافي محمد التلاوي بعض المفارقات الغريبة في مسيرة يوسف شاهين السينمائية، ومنها رغبته في بداية حياته المشاركة بفيلم له في مهرجان فينيسيا السينمائي، فقوبل بالرفض من قبل المسؤولين عن المهرجان، وبعد إلحاح من يوسف شاهين منحوه فرصة عرض فيلمه في حفل العاشرة صباحا حيث الإقبال ضعيفا، وحينما دخل شاهين القاعة لم يجد سوى أربعة أشخاص فقط، وبدون مقدمات هبت عاصفة كبيرة دفعت بكل من كان على شاطئ البحر إلى الاحتماء بقاعة العرض، فامتلأت القاعة بأكملها، وتعرف الناس يومها على يوسف شاهين رغم أنوفهم ليكتشفوا هذا العبقري العربي الذي لم يقدره منظموا المهرجان فأنصفته العاصفة.

مات يوسف شاهين أو «جو» كما يحلو للكثيرين مناداته تاركا خلفه 40 فيلما، أولها «بابا أمين» عام 1950، وآخرها «هي فوضى» عام 2007، وتضم القائمة بينهما مجموعة من أهم روائعه مثل: «باب الحديد»، «الناصر صلاح الدين»، «إسكندرية ليه»، «إسكندرية كمان وكمان»، «حدوتة مصرية»، «الأرض»، «المهاجر»، «المصير»، و«الآخر»، وهي أفلام تكفل ليوسف شاهين البقاء حيا في تاريخ السينما وذاكرة الفن.. مات يوسف شاهين لكنه ترك خلفه مدرسة فنية تضم عددا من تلاميذه في الإخراج، ومن أبرزهم المخرج الفنان خالد يوسف، المتخم بيوسف شاهين حتى النخاع، والذي أثار فيلمه «حين ميسرة» جدلا واسعا يشبه إلى حد كبير الجدل الذي تثيره أفلام أستاذه، وهو أكثر المؤهلين اليوم لنظارة هذه المدرسة الفنية بعد رحيل الناظر، والمؤسس، والرائد يوسف شاهين، الذي جعل السينما في عهده متعة ذهنية لا تنتهي بانتهاء الفيلم بل تظل تستشعر متعتها وأنت تفكر في الأحداث والصور والشخوص التي تركها «جو» تواصل العرض في دواخلك أياما طويلة.. مات يوسف شاهين، فما أفدح الخسارة التي منيت بها السينما العربية!

m.diyab@asharqalawsat.com

الشرق الأوسط في 29 يوليو 2008

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)