كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

"رجال بيض اغبياء" لمايكل مور

رسمي أبو علي

مهرجان كان السينمائي الدولي السابع والخمسون

   
 
 
 
 

على مدى الاسبوع الماضي، وربما لاسابيع قادمة سيظل الكاتب والسينمائي الاميركي مايكل مور حديث الصحافة ووسائل الاعلام العالمية بعد ان فاز فيلمه التسجيلي «فهرنهايت 11/9» بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي لهذا العام، ومن النادر ان يحصل فيلم تسجيلي على الجائزة - وآخر فيلم تسجيلي حصل عليها تم قبل اكثر من خمسين عاما - ولذلك فان حصول مور على هذه الجائزة هو حدث سينمائي وثقافي ولكن اولا وقبل كل شيء، فانه حدث سياسي من الطراز الاول.

بهذه المناسبة فاننا نفترض ان عشرات المقالات ستكتب عن هذا الفيلم الفائز، ولذلك لن نتحدث عن الفيلم وانما سنستعرض كتاب مور وعنوانه «رجال بيض اغبياء» التي اصدرته دار بنجوين للنشر في عام 2002 والذي اثار بدوره لدى نشره، عاصفة لا تقل عن العاصفة التي اثارها فيلمه الفائز الاخير.

اسقاط بوش.. مهمة رسولية

يبدو مايكل وكأنه يكرس الان كل نشاطاته الصحفية والكتابية والسينمائية فضلا عن نشاطاته في التحرك الذي لا يهدأ عبر الولايات المتحدة، لانجاز مهمة تكاد ترقى ان تكون مهمة رسولية هدفها الوحيد اسقاط وتعرية الرئيس الاميركي جورج بوش.

بهذا النشاط المتعدد والمكثف والفعال يثبت مور انه هو وليس اسامة بن لادن هو عدو بوش الاول بل انه في الفصل الاخير من الكتاب يلقى شكوكا مشروعه على علاقة ال بوش باسرة بن لادن طارحا السؤال الصاعق التالي:

-  هل صحيح ان اسرة بن لادن ظلت تمول عائلة بوش لما يزيد على عشرين عاما، طبقا لنيويورك تايمز مولت احدى مشروعاتك النفطية عام 1979 او تلك الشركة التي كانت تسمى «ارسبتو» جزئيا، بواسطة اسرة بن لادن؟

ايضا، ظل البنلادينيون مستثمرين في شركة والدك، مجموعة كارلايل، اكبر شركات المقاولات العسكرية في الولايات المتحدة؟ تلك المصادفات تحتاج الى تفسير ثم يطرح سؤالا لا يقل اثارة عن السؤال الاول.

-  في الايام والاسابيع التالية لهجمة ايلول وطبقا للتايمز اللندنية، سمحت لطائرة خاصة سعودية بالطيران في اجواء الولايات المتحدة، لنقل ما يربو على العشرين من افراد عائلة بن لادن وشركائهم الى خارج البلاد، لم تجر الـ«اف.بي.آي» او الشرطة اية استجوابات معهم، وفيما كان من غير المسموح لباقي الاميركيين بالطيران، واثناء الفوضى الكبيرة التي عمت، كان لديك الوقت لتجلس وتهتم بما يسعك عمله من اجل سلامة البنلادينيين، هل لك ان تفسر لماذا مثل ذلك اولوية ملحة؟ لماذا تلقى بنو لادن هذه المعاملة غير العادية؟

انقلاب عسكري، اميركي جدا

هذا هو الفصل الاول من الكتاب والذي هو بدون شك اخطر فصول هذا الكتاب والذي هو خطير بمجمله ويلقي اضواء على وقائع لم يكن يتصور احد انها من الممكن ان تحدث في بلد ديمقراطي كاميركا.. باسلوبه الحيوي النابض بالسخرية يفتتح مايكل مور هذا الفصل بقوله:

 اعترضت قوات الامم المتحدة الرسالة التالية يوم 9/1/2001 الساعة السادسة من مكان ما داخل قارة اميركا الشمالية.

انا احد مواطني الولايات المتحدة لقد تمت الاطاحة بحكومتنا وارسل رئيسنا المنتخب الى المنفى، احتل عاصمة بلادنا رجال مسنون يرتدون صدريات سوداء ويرفعون كؤوس المارينتي.

نحن محاصرون اننا حكومة الولايات المتحدة في المنفى، اعدادنا ليست تافهة، هناك حوالي 154 مليونا من البالغين و80 مليون طفل اي 234 مليون شخص لم ينتخبوا النظام الذي نصّب نفسه.

ويورد مور الحقيقة الصادمة المؤكدة:

آل جور هو الرئيس المنتخب للولايات المتحدة تفوق على جورج دبليو في الانتخابات باصوات قدرها 898ر539 صوتا، لكنه لا يجلس الليلة في المكتب البيضاوي بل يجوب البلاد من دون هدف او مهمة.

لقد فاز آل جور.. آل جور رئيسنا في المنفى، يحيا الرئيس البرتودددد جودددد!
من هو اذن ذاك الذي تحيل المبنى رقم 1600 شارع بنسلفاينا؟

لهذا السبب ونيابه عن 234 مليون اميركي طلبت من الناتو ان يفعل ما فعله في البوسنة وكوسوفو وما فعلته اميركا في هايتي..

ارسلو المارينز اهجموا بصواريخ سكود احضروا لنا رأسا كبيرا مزوري الانتخابات: انطونين سكاليا .

 

***

ليس هذا خيالا سياسيا لان مور يورد تفاصيل ووقائع واسماء تثبت أن لاعبا وتزويرا خطيرا حدث لقوائم الناخبين في بضعة ولايات - وخاصة في ولاية فلوريدا وحاكمها شقيق جورج دبليو وهو جيب بوش، ويشرح مور ان الغالبية العظمى من السود في فلوريدا يصوتون عادة للحزب الديموقراطي - ولكن حدثت عملية تزوير فاضحة، فلم يقم جيب بوش برفع اسماء ارباب السوابق السود فقط، بل ايضا اسماء الالاف من المواطنين السود الذين لم يرتكبوا جريمة واحدة في حياتهم، اضافة الى الالاف من السود ممن يحق لهم الاقتراع من الذين لم يرتكبوا سوى الجنح. وهكذا تم شطب 173000 ناخب مسجل في فلوريدا.. وهذه لم تكن سوى واحدة من سلسلة الشطب والتزوير والتلاعب والتي شملت حتى العسكريين خارج الحدود أما آل جور الرئيس المنتخب الشرعي وفق مو فانه يتهمه بالغباء، لانه بدل ان يلاحق ويكشف الوان التلاعب والتزوير فانه لجأ الى المحاكم التي تعج باصدقاء (دادي).. اي بوش الاب.

دفاعا عن المرأة... والزنوج

يضم هذا الكتاب المثير فصولا عديدة كل واحد منها جدير ان يتم عرضه ولكن بسبب ضيق المجال فاننا نكتفي بالالماح الى فصلين هامين في الكتاب يكشفان النزعة الانسانية الراديكالية لمايكل مور..

في الفصل السابع بعنوان «نهاية الرجال» يشن مور حملة ضارية على صنف الرجال الذين يقومون باشعال الحروب وتخريب الكوكب على كافة المستويات علي حين تحاول النساء اصلاح ما يفسده هؤلاء الرجال الاغبياء.. وبسبب وحشية الرجل فان مور يتمنى احتفاءه وهو يفرك يديه فرحا عندما يقول باننا نقترب من الوقت الذي سوف تستغني فيه النساء عن الرجال بعد ان تطورت اساليب التلقيح الاصنطاعي! اما عن الزنوج فانه يحاول انصافهم كونهم مضطهدين يعانون من وحشية الرجل الابيض وهو يقول «اذا وجدت نفسك محاطا باناس بيض فعليك الحذر، اي شيء قد يحدث.. ثم يطرح مجموعة من الاسئلة يبرهن ان جميع شرور هذا العالم تأتي من الرجل الابيض.

* من حمل الينا الطاعون الاسود؟

* من صنع المواد الكيماوية التي تقتلنا؟

* من بدأ كل حرب دخلتها اميركا؟

* من مسؤول البرامج في قناة فوكس؟

* من صاحب فكرة تلويث العالم بمحركات الاحتراق الداخلي؟

* من اباد الاميركيين الاصليين؟

* من قام بتجارة واستعباد الرقيق

الاجابة على كل هذه الاسئلة معروف: البيض، اذكر اسم ايه مشكلة - مرض، معاناة بشرية، بؤس مدقع حلّ بالملايين - أراهنك ان السبب هو الرجل الابيض. 

***

يتميز اسلوب مايكل مور كما قلنا بالحيوية المذهلة وحس السخرية والخيال السياسي المثير.. الكتاب يقع في 284 صفحة من القطع الكبير، ترجمة د. فاطمة نصر والكتاب من اصدارات مجلة سطور المصرية وهي مجلة شهرية ثقافية عربية.
rasmiabuali@hotmail.com

الرأي الأردنية في

05.06.2004

 
 

فـي الـوقـائـع الـمـفـتـرضـة لـفـيـلـم مـايـكـل مـور الـعـربــي ــ 2

عقل العويط

فاتني في الوقائع المفترضة لفيلم مايكل مور العربي أن أقترح على المخرج تصوراً أولياً لنمط العيش بين الديكتاتور وأبناء الرعية.

لم يفتني، في الواقع، شيء من هذا. غير أني لم أشأ التدخل كي لا ينجرح إحساس المخرج فتستبدّ به حالٌ من الإحراج والضيق والانفجار. فإبداء الرأي في شجون حساسة واختصاصية كهذه، من شأنه أن يفضي أحياناً الى نتائج عكسية، لن تكون في صالح الفيلم السينمائي نفسه، ولا في الغاية المرجوة منه.

كنتُ أرغب في أن أسطّر إليه رسالةً  تلفت خياله الإخراجي الى الوئام الموضوعي المستتبّ بين الحاكم والمواطنين، والى التواطؤ الرهيب الذي يمتّن الخيوط والوشائج بينهما في ميادين الحياة الشتّى، رغم مظاهر التشنج وظواهر الانقطاع والقطيعة.

فإذا سألني أحدهم عن حقيقة هذا الوئام وأدواته، لن أتردد في أن أشهر "سلاح اللغة" الذي يتحصن وراءه كلا الطرفين. وهو سلاح يعرف كلٌّ منهما حدوده فيه فلا يذهب به الى حافة الهاوية واللارجوع: اللغة هي نفسها، تعابير وأفكاراً وأهدافاً ووسائل، وإن اختلفت مواقع التعبير فيها.

لم يذهب الراعي العربي الى حدّ اللاعودة، ولا الرعية العربية فعلت ذلك يوماً. ربما لأن تعبيرَي الراعي والرعية تقترب صورتهما من معادلة المعّاز والقطيع. القطيع يعرف بغرائزه أن مرجعيته اللغوية هي المعّاز. أو هي... الكرّاز، في حال تغيّب الأخير أو غيابه. وكلما استبدّ شططٌ ما بالغرائز القطيعية فإن الشطط لن يفضي الى الخروج النهائي. الغلط على هذا المستوى ليس في جينات الطبع وإنما في التطبّع فحسب. ومتى كان الموضوع على هذا الغرار، فليس من سبيل لحقن الشغب بما ليس من طبيعته الغريزية.

قد يتوهم القطيع العربي أن الراعي ذكي. وهذا متأتٍّ ربما عن اللغة المطلقة التي تمعن في تهدئة الروع وطمأنة الخواطر بما يجعل القطيع متماهياً بقطيعيته التي ستصير هي أيضاً لغوية.

القطيع العربي ذكي أيضاً لكنه غريزيّ. لذا يتغافل ويتجاهل رغم معرفته. وهو يفعل هذا، ربما بسبب هذه المعرفة بالذات.

جهل الأول وتجاهل الثاني غريزيّان ولغويّان. وقد يذهب بي الغلوّ اليائس الى حدّ القول بأنهما "أزليان"، بحيث أن المشترك الذي يوائم بين الطرفين، كلٌّ لأسبابه، من شأنه أن يمنح الأزلي فرصة أن يكون أبدياً.

تخيّلوا ــ إذا كان هذا الغلوّ على قدْر من الصحة ــ أحوال المجتمعات والشعوب العربية، لحظة يجيء مايكل مور العربي، بأبطاله وممثّليه، بآلاته وكاميراته وعدّة تصويره وإخراجه، لينتج فيلماً أبوكاليبتياً عن وقائع التواطؤ الغريزيّ واللغوي بين المعّازين العرب وقطعانهم.

وكي لا أقع في ما لا تُحمد عقباه من تخيّل عروبوي تعميمي، قد أوحي الى مايكل مور هذا، أن يتخذ من صرخات الغرائز التي سُمع دويّها المتوائم في حيّ السلّم اللبناني، مثالاً أولياً طازجاً يصحّ كمدخل سينمائيّ لتأويل لغة العيش المتوائمة.

أو قد يرى في وقائع الانتخابات البلدية ما يصنع منها لغةً مشتركةً للوئام الموضوعي بين المعّازين وقطعانهم.

أو قد يرى في المعادلات اللغوية لـ"العيش اللبناني المشترك" وأديانه وأوثانه وأصنامه، وفي معادلات المعارضة والموالاة، والدجن والتمرد، والمثقفين والجهلة، ما يشفي غليل التواطؤ المتحرّق قليلاً وكثيراً.

وإذا سألني أحدهم عن الجدوى من هذا كله، فلن أحرج نفسي في إحالة الجدوى على التواؤم اللغوي، الأزلي ــ الأبدي، في الحياة اللبنانية المعزّزة بعروبويتها المعّازية ــ القطيعية.

وإذا سأل آخر عن المعادلة اللغوية، المعّازية ــ القطيعية، في وحدة المسار والمصير السورية ــ اللبنانية فلن أتأخر في القول إنها شرعية وممتازة ومثالية وجديرة بأن تُحتذى في العلاقات العربية والدولية جميعها.

لن أضطر الى لفت مايكل مور العربي الى أمثلة التواؤم والتوأمة كلها، والى التواطؤ اللغويّ البدئي الذي يمثل وراءها في الكواليس. فالأزلي محكومٌ بخيطيته الغريزية وبإرجائيته الأبدية.

ويتبدّى مثالُ هذا في الغنمية العربية، من خلال سفر القطيع وراء كرّازه، سفراً لا مفاجأة فيه، ولا شطط. ويتبدّى هذا أيضاً في عدم خروجه البتة الى مكانٍ قد يشبه مكان الخروج من النفق.

على صعيد الوقائع اللبنانية ــ العربية، من الضروري أن يعرف السينمائي مايكل مور العربي أن ذكاء الديكتاتور لا يزال يجعله يوغل في جهله، وأن معرفة القطيع لا تزال تجعله يوغل في تجاهله الذي يوازي التماهي بالديكتاتور.

لكن هذه المعرفة المزدوجة التي من شأنها أن ترفعنا نحن اللبنانيين والعرب الى مرتبة الخروج على القطيعية اللغوية، لا تزال توقعنا في الخيبة الهائلة، التي يقول فيها أنسي الحاج ما يأتي: "يا لها خيبة عندما تفاجأ بأن هذا الحاكم الداهية الرهيب، كان في الحقيقة متخلّفاً عقلياً: حرمانكَ تبرير أن تكون ضحية التفوّق".

العار، العار كلّه، أننا ــ لبنانيين وعرباً ــ لا نزال نخترع التبريرات لكوننا ضحية عدم التفوّق.

بعيداً من كل تعميم قطيعي أو تشاؤمي مفترض، سيقول أحدهم إننا قطيعيون ومتشائمون. وسأجيب إننا حقاً لقطيعيون إلاّ إذا خرجنا على القطيع. وإننا حقاً لمتشائمون لأن التشاؤم هو تفاؤلنا الوحيد وفرصة خلاصنا الوحيدة، يقول جوزيه ساراماغو.

وإذا كان لا بدّ من فيلم سينمائيّ عربي، وإذا كان لا بدّ من وقائع مفترضة له، فأعتقد أن واقعة المعّاز والقطيع لا تزال صالحةً لحياتنا العربية الراهنة. أبوكاليبس لبناني ــ عربي ينتظر مايكل مور عربياً. والآن.

فاتني في الوقائع المفترضة لفيلم مايكل مور العربي أن أقترح على المخرج تصوراً أولياً لنمط العيش بين الديكتاتور وأبناء الرعية.

لم يفتني، في الواقع، شيء من هذا. غير أني لم أشأ التدخل كي لا ينجرح إحساس المخرج فتستبدّ به حالٌ من الإحراج والضيق والانفجار. فإبداء الرأي في شجون حساسة واختصاصية كهذه، من شأنه أن يفضي أحياناً الى نتائج عكسية، لن تكون في صالح الفيلم السينمائي نفسه، ولا في الغاية المرجوة منه.

كنتُ أرغب في أن أسطّر إليه رسالةً  تلفت خياله الإخراجي الى الوئام الموضوعي المستتبّ بين الحاكم والمواطنين، والى التواطؤ الرهيب الذي يمتّن الخيوط والوشائج بينهما في ميادين الحياة الشتّى، رغم مظاهر التشنج وظواهر الانقطاع والقطيعة.

فإذا سألني أحدهم عن حقيقة هذا الوئام وأدواته، لن أتردد في أن أشهر "سلاح اللغة" الذي يتحصن وراءه كلا الطرفين. وهو سلاح يعرف كلٌّ منهما حدوده فيه فلا يذهب به الى حافة الهاوية واللارجوع: اللغة هي نفسها، تعابير وأفكاراً وأهدافاً ووسائل، وإن اختلفت مواقع التعبير فيها.

لم يذهب الراعي العربي الى حدّ اللاعودة، ولا الرعية العربية فعلت ذلك يوماً. ربما لأن تعبيرَي الراعي والرعية تقترب صورتهما من معادلة المعّاز والقطيع. القطيع يعرف بغرائزه أن مرجعيته اللغوية هي المعّاز. أو هي... الكرّاز، في حال تغيّب الأخير أو غيابه. وكلما استبدّ شططٌ ما بالغرائز القطيعية فإن الشطط لن يفضي الى الخروج النهائي. الغلط على هذا المستوى ليس في جينات الطبع وإنما في التطبّع فحسب. ومتى كان الموضوع على هذا الغرار، فليس من سبيل لحقن الشغب بما ليس من طبيعته الغريزية.

قد يتوهم القطيع العربي أن الراعي ذكي. وهذا متأتٍّ ربما عن اللغة المطلقة التي تمعن في تهدئة الروع وطمأنة الخواطر بما يجعل القطيع متماهياً بقطيعيته التي ستصير هي أيضاً لغوية.

القطيع العربي ذكي أيضاً لكنه غريزيّ. لذا يتغافل ويتجاهل رغم معرفته. وهو يفعل هذا، ربما بسبب هذه المعرفة بالذات.

جهل الأول وتجاهل الثاني غريزيّان ولغويّان. وقد يذهب بي الغلوّ اليائس الى حدّ القول بأنهما "أزليان"، بحيث أن المشترك الذي يوائم بين الطرفين، كلٌّ لأسبابه، من شأنه أن يمنح الأزلي فرصة أن يكون أبدياً.

تخيّلوا ــ إذا كان هذا الغلوّ على قدْر من الصحة ــ أحوال المجتمعات والشعوب العربية، لحظة يجيء مايكل مور العربي، بأبطاله وممثّليه، بآلاته وكاميراته وعدّة تصويره وإخراجه، لينتج فيلماً أبوكاليبتياً عن وقائع التواطؤ الغريزيّ واللغوي بين المعّازين العرب وقطعانهم.

وكي لا أقع في ما لا تُحمد عقباه من تخيّل عروبوي تعميمي، قد أوحي الى مايكل مور هذا، أن يتخذ من صرخات الغرائز التي سُمع دويّها المتوائم في حيّ السلّم اللبناني، مثالاً أولياً طازجاً يصحّ كمدخل سينمائيّ لتأويل لغة العيش المتوائمة.

أو قد يرى في وقائع الانتخابات البلدية ما يصنع منها لغةً مشتركةً للوئام الموضوعي بين المعّازين وقطعانهم.

أو قد يرى في المعادلات اللغوية لـ"العيش اللبناني المشترك" وأديانه وأوثانه وأصنامه، وفي معادلات المعارضة والموالاة، والدجن والتمرد، والمثقفين والجهلة، ما يشفي غليل التواطؤ المتحرّق قليلاً وكثيراً.

وإذا سألني أحدهم عن الجدوى من هذا كله، فلن أحرج نفسي في إحالة الجدوى على التواؤم اللغوي، الأزلي ــ الأبدي، في الحياة اللبنانية المعزّزة بعروبويتها المعّازية ــ القطيعية.

وإذا سأل آخر عن المعادلة اللغوية، المعّازية ــ القطيعية، في وحدة المسار والمصير السورية ــ اللبنانية فلن أتأخر في القول إنها شرعية وممتازة ومثالية وجديرة بأن تُحتذى في العلاقات العربية والدولية جميعها.

لن أضطر الى لفت مايكل مور العربي الى أمثلة التواؤم والتوأمة كلها، والى التواطؤ اللغويّ البدئي الذي يمثل وراءها في الكواليس. فالأزلي محكومٌ بخيطيته الغريزية وبإرجائيته الأبدية.

ويتبدّى مثالُ هذا في الغنمية العربية، من خلال سفر القطيع وراء كرّازه، سفراً لا مفاجأة فيه، ولا شطط. ويتبدّى هذا أيضاً في عدم خروجه البتة الى مكانٍ قد يشبه مكان الخروج من النفق.

على صعيد الوقائع اللبنانية ــ العربية، من الضروري أن يعرف السينمائي مايكل مور العربي أن ذكاء الديكتاتور لا يزال يجعله يوغل في جهله، وأن معرفة القطيع لا تزال تجعله يوغل في تجاهله الذي يوازي التماهي بالديكتاتور.

لكن هذه المعرفة المزدوجة التي من شأنها أن ترفعنا نحن اللبنانيين والعرب الى مرتبة الخروج على القطيعية اللغوية، لا تزال توقعنا في الخيبة الهائلة، التي يقول فيها أنسي الحاج ما يأتي: "يا لها خيبة عندما تفاجأ بأن هذا الحاكم الداهية الرهيب، كان في الحقيقة متخلّفاً عقلياً: حرمانكَ تبرير أن تكون ضحية التفوّق".

العار، العار كلّه، أننا ــ لبنانيين وعرباً ــ لا نزال نخترع التبريرات لكوننا ضحية عدم التفوّق.

بعيداً من كل تعميم قطيعي أو تشاؤمي مفترض، سيقول أحدهم إننا قطيعيون ومتشائمون. وسأجيب إننا حقاً لقطيعيون إلاّ إذا خرجنا على القطيع. وإننا حقاً لمتشائمون لأن التشاؤم هو تفاؤلنا الوحيد وفرصة خلاصنا الوحيدة، يقول جوزيه ساراماغو.

وإذا كان لا بدّ من فيلم سينمائيّ عربي، وإذا كان لا بدّ من وقائع مفترضة له، فأعتقد أن واقعة المعّاز والقطيع لا تزال صالحةً لحياتنا العربية الراهنة. أبوكاليبس لبناني ــ عربي ينتظر مايكل مور عربياً. والآن.

النهار اللبنانية في

06.06.2004

 
 

ملصقات الفيلم وحدها مشكلة..

هوليوود تفتح النار على بوش

هوليوود تحشد صفوفها لدعم جون كيري على خلفية عرض فيلم «فهرنهايت 11/9» المناهض لبوش

لوس أنجليس - يوجه الرئيس الاميركي جورج بوش عينيه إلى عدسات التصوير مباشرة معطيا أقوى تعبير حقيقي لديه عن مأمور شرطة جديد تشي ملامح عينيه الحادة بتصميمه على طرد عصابات قطاع الطرق من المدينة.

ويقول بعزم أكيد "إنني أدعو كافة الدول لبذل قصارى جهدها في التصدي لهؤلاء القتلة الارهابيين". ثم وبمنتهى الخفة يعود إلى عمله اليومي الحقيقي وهي لعبة الجولف ويقول للصحفيين"الان شاهدوا هذه الضربة" وذلك قبل أن يوجه الكرة نحو الحفرة بطريقة رجل شب على ممارسة لعبة الصفوة هذه.

ربما تبدو هذه اللقطات التي لا يستغرق عرضها أكثر من أربع ثواني غير ذات بال في حد ذاتها ولكن مشاهدتها مع الادلة المذهلة التي حشدها مايكل مور مخرج الفيلم الوثائقي المثير للجدل "فهرنهايت 11/9" تحدث من التأثير في نفوس الناخبين تجاه الرئيس ما لا يحدثه أي عدد من الدعايات السياسية التي تذاع عبر أثير محطات الاذاعة والتلفزيون الاميركية.

تناول الفيلم دور الرئيس المحافظ قبل وبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة ودوره في دفع البلاد نحو الحرب في العراق.

كما يشكك الفيلم في أهلية بوش لتولي أقوى منصب في العالم وشخصيته وغرابة أطواره وقدراته الذهنية وصلاته بصناعة النفط وعلاقات عائلته التجارية بعائلة بن لادن ومجموعة من الحقائق المزعجة عن الهياكل السياسية الاميركية.

كما يثير الفيلم بعض التساؤلات المقصودة بشأن وسائل الاعلام الاميركية التي تبنت بعد أحداث 11 سبتمبر أسلوبا شوفينيا عجز عن التحقق بدقة من تصرفات ومزاعم الادارة.

وبعرض الفيلم لقطات طالما اعتبرت "مروعة" بالنسبة للتليفزيون الاميركي تتضمن جنودا أميركيين بترت أطرافهم وأطفالا قتلوا في الغارات الاميركية أو جنودا يمطرون قرى عراقية بنيران المدافع بينما يستمعون إلى الموسيقى الصاخبة عبر سماعات يضعونها في آذانهم فإن السينما طرحت رؤية للواقع السياسي ربما لم تر لها أميركا مثيلا من قبل.

لم يسع مور - وهو داعية ليبرالي صريح - لالتماس أعذار لبوش والنتيجة إدانة قاسية لاقوى رجل في العالم بوصفه شخصية سطحية غير مبالية وثرثارة.

وبحسب مور فإن بوش - في أفضل الاحوال - شخص أحمق جاهل تلاعب به أصحاب النفوذ الاشرار المحيطين به. وفي أسوأها أصولي مسيحي متشائم يريد إعادة رسم صورة العالم على النحو الذي يناسبه ويناسب معتقداته الدينية ويخدم صناعة البترول وغيرها من المؤسسات المالية والصناعية التي يدين لها بالفضل فيما وصل إليه.

والنتيجة هي أكثر الاقلام السياسية في الولايات المتحدة إثارة للجدل على مدى عقود من الزمان وكرة نار سياسية تنفجر قبل الانتخابات الرئاسية التي تشهد منافسة حامية ويعتقد كثيرون أنه سيكون لها تأثير حاسم في مستقبل كوكبنا في السنوات القادمة.

الفيلم بدأ عرضه في نيويورك ويبدأ عرضه في سائر الولايات المتحدة الجمعة.

ويتزامن عرض الفيلم في الوقت الذي اجتمع كل نجوم هوليوود من باربرا سترايسند الى بن افليك وروبرت دي نيرو وليوناردو دي كابريو الخميس في حفل موسيقي ضخم في لوس انجليس لدعم جون كيري المرشح الديموقراطي للانتخابات الرئاسية الاميركية في تشرين الثاني/نوفمبر.

ودفع حوالى الفي شخص ما بين 250 و25 الف دولار لحضور هذا الحفل الذي نظم في قاعة والت ديزني الجديدة للحفلات بحضور جون كيري الذي سيضيف ما يصل الى 10 مليون دولار لاموال حملته.

وكان الحفل مناسبة لباربرا سترايسند ونيل دايموند للغناء للمرة الاولى منذ 24 عاما معا الاغنية التي جمعتهما عام 1978 "يو دونت برينغ مي فلاورز".

وهذا الحفل كان مرتقبا في 7 حزيران/يونيو لكنه ارجىء اثر وفاة الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغان قبل يومين من ذلك التاريخ.

ومن المرتقب تنظيم حفل اخر لدعم جون كيري في نيويورك في 8 تموز/يوليو بمشاركة الممثلة ووبي غولدبرغ ومغني الروك جون بون جوفي.

ميدل إيست أنلاين في

23.06.2004

 
 

الفيلم الوثائقي «11/9 فهرنهايت» الفائز بجائزةمهرجان  كان يتحول الى قضية سياسية

محمد الزواوي

الضغوط التي تمارس في مختلف الدول لمنع عرض فيلم سينمائي او برنامج تلفزيوني او نشر كتاب تؤدي في معظم الاحيان الى نتيجة معاكسة. ويبدو ان معارضي مثل هذه الاعمال لا يتعلمون من دروس الماضي، كما يتضح حاليا من الدعم الذي يحشده الفيلم الوثائقي «11/9 فهرنهايت» للمخرج مايكل مور، ابرز مخرجي الافلام الوثائقية في الولايات المتحدة، نتيجة معارضة هذا الفيلم من قبل المسؤولين في البيت الابيض وبعض زعماء الحزب الجمهوري وحتى مدير شركة دزني السينمائية المنتجة للفيلم والتي رفضت توزيعه.

وقد افتتح فيلم «11/9 فهرنهايت» قبل ايام في 868 من دور السينما الاميركية واستقبله الجمهور بحماس كبير، وحقق الفيلم نجاحاً على شباك التذاكر فاق كل التوقعات، حيث حصد 24 مليون دولار خلال الايام الثلاثة الاولى لعرضه، وهو اكثر مما حققه فيلمه السابق «بولنج لمدرسة كولومباين» (2002) في دور السينما الاميركية على مدى عام. ووصف مايكل مور هذا النجاح على شباك التذاكر بانه «مثير للدهشة» وعزاه الى المعارضين السياسيين للفيلم الذين وعد بارسال بطاقات معايدة لهم في عيد الميلاد.

ويبدو ان هؤلاء المعارضين قد نسوا بسرعة الشعبية المذهلة التي حققها فيلم «آلام المسيح» الذي اسهمت معارضة المنظمات اليهودية له ورفض استديوهات هوليوود الكبرى لتوزيعه الى تحويله الى اكثر افلام هذا العام شعبية على شباك التذاكر في سائر انحاء العالم، حيث زادت ايراداته العالمية الاجمالية حتى الآن على 600 مليون دولار.

ويقول المخرج مايكل مور عن فيلمه «انه فيلم وثائقي يتتبع الاسباب التي جعلت الولايات المتحدة هدفا للكراهية والارهاب». وقد استمد عنوان فيلمه الجديد من عنوان رواية «451 فهرنهايت» للمؤلف راي برادبيري والتي حولها المخرج الفرنسي الشهير فرانسوا تروفو في العام 1966 الى فيلمه الوحيد باللغة الانجليزية. وتتعلق هذه الرواية بدولة دكتاتورية مستقبلية تحظر فيها القراءة، وبالتالي يمنع فيها التفكير المستقل. وتشير درجة الحرارة 451 فهرنهايت الى درجة الحرارة الضرورية لحرق الكتب في تلك الدولة الخيالية. ويستخدم المخرج مايكل مور درجة 11/9، وهو تاريخ الاعتداءات على نيويورك وواشنطن، كدرجة الحرارة التي تحترق فيها الحرية في الولايات المتحدة.

وقد بدأ فيلم «11/9 فهرنهايت» من القمة من ناحية الانجازات الفنية. فقد فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، ليصبح بذلك اول فيلم وثائقي يحقق هذا الانجاز منذ 48 عاما، حين فاز بتلك الجائزة المرموقة فيلم «العالم الهادىء» للباحث والمستكشف جاك كوستو في العام 1956. واستقبل اعلان فوز فيلم «11/9 فهرنهايت» بالجائزة بتصفيق حاد من قبل المشاركين في مهرجان كان استمر 15 دقيقة، وهو شيء لم يسبق حدوثه في تاريخ هذه الجائزة. كما استقبل النقاد والاوساط السينمائية في هوليوود الفيلم بحماس كبير، وبينهم عميد مخرجي الافلام الوثائقية الاميركيين دون الان بينيبيكر.

ويوجه فيلم «11/9 فهرنهايت» نقدا لاذعا للرئيس الاميركي جورج بوش ولسياسته المتعلقة بالحرب على الارهاب وسياسته في العراق ويتهم حكومة الرئيس بوش باستغلال اعتداءات الحادي عشر من ايلول لخدمة اجندتها السياسية. كما يكشف الفيلم عن وجود صلات مالية بين اسرة بوش وسعوديين بارزين من بينهم اسرة اسامة بن لادن. ومن جانبه، وصف البيت الابيض الفيلم بانه «مضلل بشكل سافر ولا يستحق التعليق». وهدد مسؤولون في الحزب الجمهوري الذي ينتمي اليه الرئيس بوش بتقديم شكوى الى لجنة الانتخابات الفيدرالية الاميركية لمنع عرض الفيلم في الولايات المتحدة على اعتبار انه يشتمل على دعاية انتخابية ضد الرئيس بوش في قناع فيلم ثقافي.

ويشتمل فيلم «11/9 فهرنهايت» على مشاهد مأساوية لضحايا الحرب في العراق لم تعرض من قبل، وقد تمكن المخرج مايكل مور من الحصول عليها عن طريق عدة فرق من المصورين الذين ارسلهم نيابة عنه ورافقوا القوات الاميركية اثناء دخولها للعراق وتحركها نحو بغداد. وذلك دون علم السلطات الاميركية بعلاقة هذه الفرق بالمخرج مايكل مور. كما يشتمل الفيلم على مشاهد لاساءة معاملة السجناء العراقيين على ايدي الجنود الاميركيين في سجن ابو غريب تسبق الكشف عنها في وسائل الاعلام الاميركية.

ومن المواقف الساخرة في الفيلم ان المخرج مايكل مور يقوم باستئجار شاحنة صغيرة لبيع المثلجات ويستخدم مكبر الصوت الموجود فيها وهو يتجول في شوارع مدينة واشنطن حيث يقرأ لأعضاء الكونجرس نص «قانون الوطني» الذي يحد من الحريات المدنية بعد ان ابلغه عضو الكونجرس جون كونيرز بانه لم يقرأ اي من اعضاء الكونجرس نص ذلك القانون قبل ان يصوتوا عليه. كما يحاول المخرج ان يقنع اعضاء الكونجرس بتجنيد ابنائهم في القوات المسلحة لكي يذوقوا طعم الحرب، ولكنه لا يفاجأ - كما يقول - حين لم ينجح في الحصول على اي متطوعين.

وفيلم «11/9 فهرنهايت» هو العمل السينمائي او التلفزيوني الوثائقي الثاني عشر للمخرج مايكل مور الذي برزت مواهبه في فيلمه الاول «روجر وانا» (1989) الذي يعالج مشكلة استغلال شركة فورد لصناعة السيارات لسكان مدينة فلينت بولاية ميشيغان، مسقط رأس المخرج مايكل مور، وبلغ هذا المخرج ذروة نجاحه في فيلم «بولنج لمدرسة كولومباين» (2002) الذي يعالج مشكلة انتشار الاسلحة في الولايات المتحدة وارتباط ذلك بانتشار الجريمة في المجتمع الاميركي. وفاز مايكل مور عن هذا الفيلم بجائزة الاوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل وقام عند تسلم الجائزة بشن هجوم شخصي لاذع ضد الرئيس بوش على شاشات التلفزيون بسبب الحرب على العراق.

وقد اعتمد المخرج مايكل مور اسلوبا جديدا في فيلم «11/9 فهرنهايت» مقارنة بافلامه الوثائقية السابقة. فقد دأب في تلك الافلام على ان يكون الشخصية المحورية التي تجري المقابلات وتقدم التعليقات وتطارد الاشخاص الذين يمتنعون عن مناقشة القضايا التي لا تروق لهم او تدينهم، ولكنه يقوم في فيلمه الجديد بدور الراوي والدليل الذي يرشد المشاهد ويترك للصور والأحداث التحدث عن نفسها، مع انه يظهر في الكثير من المشاهد.

وليس هناك شك في ان عرض فيلم «11/9 فهرنهايت» في سنة انتخابية في الولايات المتحدة بعد الضجة التي اثيرت حوله سيلقى اقبالا جماهيريا واسعا. يشار الى ان الفيلم السابق للمخرج مايكل مور، وهو فيلم «بولنج لمدرسة كولومباين» حصد 58 مليون دولار في سائر انحاء العالم، وهو رقم قياسي في ايرادات الافلام الوثائقية، منها اكثر من 20 مليون دولار في دور السينما الاميركية.

لقد جابه المخرج مايكل مور قبل عدة سنوات جورج بوش حين كان حاكما لولاية تكساس. فما كان من بوش الا ان قال لمور «ينبغي عليك ان تتعلم التأدب. اذهب وابحث عن عمل حقيقي». ويبدو ان مايكل مور اخذ بنصيحة جورج بوش، فقد وجد «عملا حقيقيا» بالفعل هو تنغيص حياة جورج بوش. ولا يخفي مايكل مور رغبته في ان يؤثر عرض فيلم «11/9 فهرنهايت» في انتخابات الرئاسة الاميركية المقبلة ويسهم في هزيمة جورج بوش.

الرأي الأردنية في

01.07.2004

 
 

من دون نجم ولا قصة ولا أي عناصر تجارية

"فهرنهايت 11/9" فيلم سياسي مهم يخلو من الإبداع الفني

محمد رضا

كان متوقعا مثل هذا النجاح الكبير الذي أنجزه فيلم مايكل مور “فهرنهايت 11/9” في الأسبوع الماضي. في اليوم الأول من عرضه سجّل ثمانية ملايين دولار. مع نهاية الويك إند الأول حقق قرابة 22 مليون دولار. مع نهاية الأسبوع جذب قرابة 27 مليون دولار. هذا لم يحدث مطلقاً لأي فيلم تسجيلي في أي مكان من العالم.كما هي الحال الآن، ومن قبل أن نعرف شيئا عما سيؤول إليه الفيلم من إيرادات في نهاية دورته السينمائية، كسر الفيلم عدة إيرادات قياسية فهو أول فيلم تسجيلي يحقق مثل هذه النتيجة، وأول فيلم تسجيلي يحصد نحو 8 ملايين دولار في اليوم... وكل هذا والفيلم بلا نجم. بلا قصّة وبلا عناصر تجارية من أي نوع.سبب نجاح “فهرنهايت 11/9” عائد بلا ريب إلى الظرف السياسي الحاصل. كل من مايكل مور وشركة ميراماكس المموّلة ماهران في الدعاية لأعمالهما فما البال لو اجتمعا على عمل واحد. لكن النجاح بهذا القدر عائد إلى حقيقة أن الفيلم يدخل طرفا في الجدال القائم حول الحرب على العراق والوجود الأمريكي هناك والسياسيين الأمريكيين الذين أيّدوا بوش واشتركوا بمسؤولية إرسال رجالهم إلى الحرب ليقتلوا وليُقتلوا.

الناس في أمريكا، شأنها في ذلك شأن كل الناس في كل مكان، تريد أن تعرف والفيلم نافذة للمعرفة. تريد أن تقرر والفيلم منصة قرار. والمخرج يمارس كل ذلك بحنكة وبإيمان شديد لذلك هو مؤثر ولذلك يدخل الفيلم في السعي لإقالة الرئيس الأمريكي الحالي. لكن على أهمية الفيلم السياسية وحنكة مخرجه وفهمه الدور الذي يلعبه الآن في وجدان الأمريكيين فإن “فهرنهايت 11/9” ليس فيلماً خالياً من الشوائب. ليس أفضل فيلم تسجيلي وليس أفضل ما أخرجه مور نفسه من أفلام تسجيلية. 

الرئيس الجديد

“فهرنهايت 11/9” مجموعة من الآراء والنظريات والمواضيع المستفزة التي تستحق بلا ريب فيلماً او أفلاماً عنها. الفيلم من الإقحام والجرأة النقدية بحيث انه يتدخل سلباً في حملة الرئيس الأمريكي جورج  بوش فيخسره المعركة (نكتب هذا قبل إجراء الانتخابات).  المشكلة هي أن مور ليس لديه الوقت الكافي لبحث كل ما يتطرق إليه بحثاً عميقاً ولا يريد أن يستغني عن أي من المواضيع المطروحة مقابل تمتعه بمعالجة أكثر تحديداً. هذا على عكس فيلميه السابقين “روجر وأنا” و”باولينغ فور كولومباين” حيث تعامل مع موضوعين محددين نجح في إيفائهما ما يستحقّانه من عمق وطروحات.

هذا الوضع يجعل “فهرنهايت 11/9” عملاً معادياً لنفسه. يحاول اجتياز مسافة طويلة محمّلا بأعباء كثيرة تترك المشاهد المحايد أحياناً بحاجة إلى المزيد من الإقناع، لكن ذاك المشاهد الذي لا تعجبه سياسة بوش وحقبته الرئاسية لن يزيده الفيلم الا معارضة لهما.

يبدأ الفيلم بتمهيد حول كيف أصبح بوش الابن رئيسا. يعيد  وصف الظروف التي أدّت إلى انتخابه ودور محطة فوكس (اليمينية المحافظة) في إطلاق إشاعة فوزه قبل الأوان ما جعل المحطات التلفزيونية الأخرى تسارع بنقل الخبر عنها خوفاً من أن تخسر عامل السرعة في إعلان النتائج، لكن بوش لم يكن فاز بعد وعد الأصوات كان لا يزال دائرا. لكن ما أدت اليه الإشاعة  المدبّرة هو ترجيح كفّته قبل الأوان. بعد ذلك هناك دقيقة من الشاشة السوداء حداداً. بعدها يفتح المخرج الكاميرا على يوم 11/9 والكارثة الإنسانية ما زالت تقع، لكن الشاشة السوداء قد تلعب، لو شاء، دوراً مزدوجاً إذ تلي إعلان فوز بوش. بعد ذلك يبدأ مور طرح مواضيعه التي تنتمي إلى خط الفيلم الأساسي وهو معارضة بوش ورئاسته، وهو موقف مور المعروف من يوم أن وقف على مسرح الأوسكار وصاح “عار عليك يا بوش”.

المحطة الأولى في مسيرة مور هي  طرح السؤال حول لماذا تم تهريب 120 شخصية من جنسية عربية بطائرة خاصة من الولايات في اليوم التالي للحدث مباشرة. ويعني المخرج رسم خلفية العلاقات الثنائية بين عائلة بوش وحكام عرب، وكيف، في نظره، لعبت دوراً حاسماً في إثراء آل بوش وحلفائهم من رجال الأعمال والسياسيين وعقد تحالفات عمل أثرت العائلة الأمريكية والمقرّبين إليها. لكن مور هنا في رغبته تقديم إدانة ما، يتجاوز حقائق كثيرة في مقدّمتها أن العلاقات الاقتصادية قد تكون دافعاً لكنها لا تؤكد او تنفي تورّطاً بحد ذاتها.

الفيلم يبدو منشطراً بسبب طرح لا يصب كثيراً في صلب الموضوع. وبالفعل، يتحسّن وضع الفيلم على هذا الصعيد بدءاً من المحطة الثانية التي تتجه بالفيلم إلى الموضوع العراقي. هنا يتردد اسم وولفوتيز وصورته مراراً ويُتاح لنا أن نرى مجرم الحرب هذا يبصق على يده ليسوّي بها شعره أمام الكاميرا استعدادا لمقابلة. المحور الجاذب هنا هو أن الهجوم على العراق كان أمراً مبيّتاً وأنه ما ان حدثت كارثة 11/9 حتى وجد المؤيدون للهجوم على العراق الفرصة مواتية، بما أن العراق لم يُدن في العملية الإرهابية فإنه كان لا بد من تصفية الحساب مع ابن لادن وطالبان أولاً بينما الاستعدادات الحقيقية كانت غزو العراق.

أكاذيب وحقائق

ويتوقف المخرج عند الأكاذيب التي بذرها البيت الأبيض تمهيداً لحملته وتبريراً لحربه، ويكشف كيف أن الآلة العسكرية والسياسية الأمريكية جزّت نفسها والبلاد في حرب من دون إثبات إدانة واحدة “العراق لم يقتل أمريكياً واحداً”، يقول ابن لادن في تعليق يصيب المستمع  المشاهد بالأسى. وأحد  أفضل المواضيع التي يطرحها الفيلم موضوع الخوف الذي بثته الإدارة الأمريكية بين المواطنين الأمريكيين لتفريغ شحنة المعارضة للحرب. هذا تم بتصوير الخطر الماحق وهو يهدد أمريكا حتى في أصغر بلدانها (قرية لم يسمع بها أحد من قبل قوامها 2000 نسمة) وتعريض الأمريكيين لهزّات وخضّات بتسريب معلومات تطلب منهم الحذر من عدوان محتمل وتوزيع ألوان من أخضر إلى أصفر فبرتقالي فأحمر تشير إلى درجة الأمن المتوافر او عدمه. والنتيجة أن هذا الخوف ابتلع المعارضة فعلا ما سهّل انتقال القوّات الأمريكية إلى العراق والبدء بشن الهجوم الكبير عليه. ويرينا المخرج حال الأبرياء الذين سقطوا بين قتيل وجريح وأسير وخائف من الأسر، وكيف عامل الجنود المشهد بكثير من التعنّت والقسوة في الوقت الذي كان فيه بعض القادة يؤكدون  رغبتهم في كسب ثقة المواطن.

وهذا ما يدلف بالفيلم إلى وضع مهم آخر. الفيلم يصاحب متقطعا حال أم أمريكية يقدّمها الفيلم وهي في أوج شموخها واعتزازها بأمريكيتها مؤيدة جهود بوش العسكرية وسياسته معلنة اشمئزازها من المظاهرات المعادية. لكن  حين يعود اليها الفيلم قبل نهايته بقليل، نراها امرأة أخرى تماما فلقد مات ابنها في الحرب وأدركت فجأة أن بوش فعل منكرا حين أرسل أبناء أمريكا للقتال في بلد بعيد لم يهدد أمريكا ولم يعلن الحرب عليها. ويلوّن المخرج الوضع ببعض السخرية حين يصوّر نفسه واقفا عند باب مبنى الكونجرس الأمريكي يطلب من كل سيناتور يراه خارجا التوقيع على موافقته بإرسال ابنه هو إلى الحرب العراقية وكيف هرب هؤلاء من وجهة... وفعلا يجوز السؤال الذي يطرحه مور هنا: “من يريد أن يرسل بابنه إلى الحرب؟”.

إلى الأم الثكلى والسيناتوريين الهاربين حين سؤالهم عما يريدون التضحية بأبنائهم، وأفغانستان والحرب على العراق، هناك نحوها من المسائل والمشاغل الأخرى. مور ليس لديه الوقت لتمحيصها لكن ألم يكن لديه الوقت للاختيار منها ما يبلور فيلما أكثر تركيزا؟ في محاولة الإسراع بتوضيب فيلم متعدد الرؤوس، وكلها متوجهة إلى بوش وباقي أعضاء البيت الأبيض، يرضخ الفيلم، إيقاعاً وتوليفاً وعلى صعيد اختيار الأفلام الوثائقية، إلى عامل السرعة. مور الهاذر والساخر ليس موجوداً بالوفرة ذاتها كما في فيلمه السابق. بقدر ما “فهرنهايت 11/9” عمل سياسي ومهم في ذلك على تعدد طروحاته، بقدر ما هو مقصّر فنيا. لم يقل أحد أن مور مخرج يبحث عن الفن في أعماله، لكنه هنا يحرم المشاهد من أي قدر منه متكلا على منهجه الريبورتاجي التلفزيوني الذي  نعترف  بأنه أوصله إلى هذه الشهرة الكبيرة والمؤثرة التي له.

الخليج الإماراتية في

04.07.2004

 
 

حول مايكل مور وفيلمه عشية إطلاقه في الصالات المحلية

خطــاب سينــمائـي صــادق أم ديمـاغـوجـي ؟

ترجمة: سلفانا الخوري

بعد فيلم "آلام المسيح" لمِلْ غيبسون، ها فيلم ثانٍ يثير هذا الموسم موجة من الجدالات في اميركا والعالم. "فاهرنهايت 11/9" للمخرج الاميركي مايكل مور الحائز السعفة الذهبية في مهرجان كانّ السينمائي ويخلق حوله حتى قبل نزوله الى الصالات مناقشات كبيرة جعلت كثراً يطرحون تساؤلات حول الصورة التي يروجها المخرج عن نفسه وهدفه من الفيلم ومدى صدقيته. وبين مويدي الفيلم الى أقصى الحدود والمعادين له حتى الموت، قلّة بقيت على الحياة، ولا سيما في ظل التساؤلات والتكهنات حول ما اذا كان الفيلم سيؤثر على نتائج الانتخابات الرئاسية في اميركا، علماً ان مور يقرّ في صراحة بأنه لن يعتبر فيلمه ناجحاً إلا اذا ساهم في اخراج بوش من البيت الابيض. الفيلم ليس الأول من نوعه في اميركا اذ يدخل ضمن موجة من الأفلام الوثائقية الملتزمة التي عرفت في الفترة الأخيرة رواجاً كبيراً لدى الاميركيين الذين يبدون مولعين بأفلام التحقيقات التي  تفضح مكامن الفساد في مجتمعهم.

الاسبوعية الفرنسية "لو كورييه إنترناسيونال" أفردت في عددها الأخير ملفاً خاصاً عن الفيلم يتضمّن مقالات وتحقيقات ظهرت في أكثر من صحيفة أميركية وعالمية.

من هو فعلياً مايكل مور؟ الصحافي اندرو انتوني من صحيفة "ذي أوبسرفر" البريطانية التقاه في كانّ ولم يخرج بانطباع جيد عنه، إذ قال عنه انه يحب ان يلعب دور الضحية في مواجهة الشركات المتعددة الجنسية، كما انه غالباً ما يتهم بأنه يتلاعب بالتواريخ والأحداث لخدمة أفلامه، لكن ذلك لا يمنع نجاحها ورواجها إذ غالباً ما تتصدر كتبه وأفلامه أفضل المبيعات في الولايات المتحدة وخارجها. "بولينغ من أجل كولومباين" حقق أكبر ايرادات في يومه الأول في تاريخ الأفلام الوثائقية. في حين حقق كتابه "رجال بيض أغنياء" افضل مبيعات في الولايات المتحدة في فئة أبحاث ووثائق، وتجاوزت مبيعاته الأربعة ملايين نسخة في العالم.

مور المليونير صورة عن اميركا الاستهلاكية. قد تكون كتبه وأفلامه سبب شهرته العالمية، لكن الصورة التي روّجها عن نفسه في وسائل الإعلام جعلت منه مثال الرجل الشعبي الغربي. حتى لو كان يعيش منذ أربعة عشر عاماً في أحد أرقى أحياء مانهاتن، فإنه نادراً ما يترك مقابلة تمرّ من دون أن يشرح انه ينتمي الى "الطبقة العاملة" لكنه في الواقع نشأ في فلينت في حي للطبقة الوسطى وفي عائلة كانت تملك آنذاك سيارتين. والده كان يعمل في قطاع صناعة السيارات ويلعب الغولف وتقاعد قبل ان يبلغ الستين وكان دخله كافياً ليؤمن الدراسات العالية لابنائه الثلاثة. وبعدما ترك مور الجامعة أدار مركز تأهيل لمراهقين يعانون مشاكل. بعد ذلك أسس دورية أطلق عليها اسم "فلينت فويس" فضح فيها في حماسة فساد الموظفين وعنصرية الشركات، مما دفع مجلة "ماذر جونز" عام 1986 لتقوم بدعوته الى سان فرنسيسكو ليكون رئيس تحريرها. لكن تم الاستغناء عن خدماته بعد بضعة أشهر: اعتبرت هيئة التحرير انه يستحيل العمل معه. وبعدما ربح دعوى الطرد التعسفي التي أقامها ضد المجلة وحصل على أثرها على مبلغ 58 ألف دولار، باع منزله واستثمر المال لتنفيذ فيلم "روجر وأنا" الوثائقي الذي لفت نظر النقاد. استقر بعد ذلك في نيويورك وانتقل الى التلفزيون حيث حقق مجموعة حلقات سياسية انتقد فيها في تهكم عنيف الجشع والجهل والكذب.

لكن في الكواليس سمعته غير ذلك تماماً. ارباب عمله يواجَهون بطلبات تتجاوز حدود المعقول. خلال عمله في بريطانيا على "الحقيقة المرعبة" أصرّ على ان ينزل في الريتز، الأمر الذي يبرره بقوله انه كان انتقاماً للعمال ضد قوة الشركات. مساعدوه غالباً ما يشكون من أسلوبه في العمل. دوغلاس اوربانسكي مدير أعماله السابق يقول عنه: "مور هو الرجل الأصعب إدارةً الذي التقيته في حياتي... انه مهووس بالمال".

وينهي الصحافي البريطاني مستنتجاً: "بعد الوقت القصير الذي أمضيته معه أقول ان مور شخص لن يحب أحد أن يكسبه كعدو، لكن من ناحية أخرى سيفكّر مئة مرة قبل أن يعتبره صديقاً. رغم انه مخرج موهوب يدافع عن الشعب، فإنه يجيد لعب دور المدافع المستقل، غالباً ما يتصرف في عناد وفكر ضيق. من فرط ما يريد الظهور كشخص صالح يُظهر للنافذين عيوبه، لا يتوانى عن تعيير الاشخاص الأضعف منه بعيوب موجودة فيه. ربما هتفوا له في كانّ، لكنه على ما يبدو ليس رجلاً شعبياً".

نظرة معاكسة

اذا كان هذا رأي الصحافي البريطاني، بعدما التقاه فإن الكثير من الأوروبيين لا ينظرون اليه على هذا النحو. يعتبر البعض انه يقدم الى الأوروبيين سلة كاملة من الأفكار المسبقة. فهو آتٍ من دولة لديها العنف والجشع، العنف الاجتماعي والتديّن الساذج، استغلال الخوف وسياسة خارجية خرقاء يتوقعها الأوروبيون من بلاد رأسماليين ورعاة بقر جاهزين دوماً لاستلال سيوفهم، تقول "نيوزويك". لكن مور يملك كذلك الطاقة والوقاحة والصراحة في الكلام التي يقدرها كثر من الاوروبيين لدى معظم الاميركيين. وهو الى ذلك ضخم ويعتمر قبعة بيسبول، مكملاً بذلك صورة الأميركي المنتمي الى الطبقة المتوسطة الذي يقوم بإطعامه اوروبيون كثر.

كم عدد الاشخاص الاميركيين الذين يقولون انهم من عامة الشعب؟ تتساءل المجلة. معظم الاميركيين، حتى الذين يعتبرون أنفسهم عمالاً فقراء، لا يقولون إنهم ينتمون الى الطبقة العاملة. لكن الكثير من الاوروبيين يفعلون، ومور يلعب كثيراً على هذه النقطة. في النهاية تختم المجلة في أسف: "بتأكيده الأفكار المسبقة الموجودة أصلاً، لن تساعد أعمال مور الاوروبيين كثيراً على فهم الحقائق السياسية أو الاجتماعية الأميركية".

هذا بالنسبة الى مايكل مور كشخص، أما في ما يتعلق بفيلمه "فاهرنهايت 11/9" فهذا ما خرج به المثقف اليساري كريستوفر هيتشنز بعد مشاهدته:" مع فيلمه الجديد يتجاوز مايكل مور مرحلة جديدة. يجمع بين النضال الطنّان لـMove on.org. (الموقع الخاص باليسار الأميركي) وأفلام البروباغندا لسيرغي ايزنشتاين وليني ريفنشتال، انما في نوعية سينمائية أدنى. أن ننعت الفيلم بالمخادع والديماغوجي يضفي نوعاً من الاحترام على هذه الصفات. ان ننعته بالرداءة سيحط من قيمة المناقشة. ان نصفه كعمل يهدف الى تملق مشاعر الجماهير يكون ذلك في سبيل الاستسهال. فيلم "فاهرنهايت 11/9" سيرك كريه يدّعي الأخلاق، مموه على نحو فظّ حتى يبدو عملاً فكرياً. كما انه عرضٌ لجبن سياسي دنيء، متستراً بعرض عضلات ثوروي (...)". وينتقد هيتشنز التنافر في أقوال مور "حتى لو حاول المونتاج اخفاء التناقضات". قائلاً: "أمّا أن السعوديين يُملون السياسة الاميركية أو لا، كحلفاء أو أنصار لطالبان أو أنهم عارضوا التدخل الاميركي في افغانستان (وهذا ما فعلوه اذ لم يسمحوا لطوني بلير باستعمال أراضيهم خلال العمليات) أو انهم لم يعارضوه، أو اننا ارسلنا الكثير من الجنود أو اننا اخطأنا بارسال جنود أصلاً - كان ذلك رأي مور عام 2002 - او اننا لم نرسل جنوداً بما يكفي. كي لا يبقى على قيد الحياة أو يهرب أي فرد من اعضاء "القاعدة" كان ينبغي أن نكون أكثر قسوة، لكنني أشك في أن السيد مور كان سيكون موافقاً على ذلك". ويتهم مور بعدم قول الحقيقة كاملة واخفاء ما يتناقض مع وجهة نظره. ويزيد: "يقدما لنا مور العراق كأمة ذات سيادة، وفي تلك المملكة الهانئة نشاهد أولاداً يلعبون بالطائرات الورقية وتجاراً يفيدون من أشعة الشمس، والحياة تكمل بوتيرة هادئة... ثم فجأة - بوم! - أسلحة الرعب الامبريالية تمزّق سماء الليل. المشاهد التي يقدمها مور عرفتها فوراً، هي صور قصف القصور الملكية ومواقع الشرطة والعسكر، في حين لا شيء في الفيلم يوضح لنا هوية الأهداف. حتى في أحلك ساعاتها محطة [الجزيرة] نفسها لم تكن لتجرؤ على بث بروباغندا مماثلة. إذن، حتى لو اعتبرَنا مور أغبياء، فإن المشاهد سيفهم انه قال شيئاً، أي شخص عاقل او متوسط الإطلاع سيجد صعوبة في تصديقه: صدام حسين لم يكن مشكلة. كلا أبداً. بالانتهازية نفسها يهاجم مور سياسة مكافحة الارهاب. بعد توجيهه اتهاماً بأنه لم يتم الاحتياط كفاية وأنه تم اهمال التهديدات التي كانت تحدق بالبلاد قبل 11 أيلول ،2001 يتهم لاحقاً ادارة بوش بالتمادي. يقدم إلينا مواطنين اميركيين في مواقف كافكاوية وفي شجار مع موظفي أمن متحمسين. ثم بعد ذلك فوراً يقدم إلينا أجهزة شرطة لا تملك الوسائل ولا الجهاز البشري الكافي للقيام بتوقيفات وتفتيش دقيق. ومور ساخط يطالب بصلاحيات أكثر لهذه الاجهزة. يقول مور كل شيء وعكسه. انه في كل بساطة غير جدي.  يعتبر البعض انه لا يجب القلق ففي النهاية ليس سوى فيلم. أعرف عن خبرة أنه لا بد للوثائقي من أن تكون له وجهة نظر واتجاه معين. لكن الغاء كل ما يمكنه ان يمسّ السياق لتلافي ضياع الاتجاه وفعل كل شيء كي لا نناقض نقطة بنقطة ما سنقوله لاحقاً من غير ان نعطي فرصة لمن يملك وجهة نظر مختلفة، فهذا خيانة لفنه. وتملق الجمهور دليل على احتقاره له وإهانة لذكائه. في أي لحظة من الفيلم لم يعمل على أن يكون موضوعياً".

اراء متفاوتة

تينا براون كتبت  في صحيفة "ذي واشنطن بوست" بعدما شاهدت الفيلم وراقبت ردود فعل الجمهور: "أظهر الجمهور تساهلاً مفاجئاً حيال الرواية التبسيطية الصاخبة التي قدّمها مور، على طريقة الأشرطة المصورة. المشاهدون الضجرون الذين يسرعون عادة لمغادرة الصالة ما أن يبدأ الجينيريك ظلوا في صمت مهيب منتظرين أن يتوجه مور في خطى متثاقلة الى المسرح، بقبعة البيسبول والسترة الجلدية الأبدية، ليتبجح بأهمية الذهاب للتصويت.

السؤال المطروح هل سيؤثر الفيلم على قرار المترددين في الانتخابات؟ في غالب الظن كلا، لكنه بالتأكيد سيقوم بحشد القاعدة الانتخابية. الفيلم يصدر عنه طاقة قوية تجعل المشاهد يوافق عليه رغم كل الأخطاء بفضل الصور الصادمة.

ثمة مشاهد يحبها الجمهور وتبقى عالقة في ذهنه كالمشهد الذي يظهر فيه وزير الدفاع بول وولفويتز من دون علمه يبصق على مشطه قبل أن يُمرّه في شعره. في السياسة هذه التفاصيل الفاضحة تشكل قوة الهجوم. سنظل نتذكر هذا المشهد حتى بعد أن تصبح خطته الجيوسياسية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط من التاريخ.

كذلك الأمر بالنسبة الى المشهد الذي نرى فيه بوش صباح الحادي عشر من أيلول ،2001 إذ تمكن مور من الحصول على الفيلم الذي يظهر فيه الرئيس الاميركي جالساً في صف مدرسي يقرأ كتاباً للاطفال، ويدخل عليه اندي كارد ويهمس في اذنه خبر الهجمات مذهولاً فيلبث جالساً بنظرته الجامدة لسبع دقائق طويلة تسمع فيها تكّات الساعة.

الحجج التي تقدم عادة ضد مور لا تصمد أمام مشاهد بمثل هذه القوة. بعد خدعة أسلحة الدمار الشامل ومسؤولية صدام في احداث 11 أيلول لا بد من إجراء جرد حساب".

ستيوارت كلاونس كتب في "ذي نيشن": "فضلاً عن الرسالة السياسية فإن الفيلم يستهدف كل العواطف والانفعالات. يحوي الفيلم بعض الصور الكاريكاتورية التي يحبها مور. فضلاً عن مشاهد راهنة نرى مشاهد من ثقافة البوب يستعيدها المخرج لإيصال التهكم والسخرية، الى مقابلات مع خبراء كالمسؤول السابق عن مكافحة الارهاب ريتشارد كلارك. سلسلة كتابات ورسوم بيانية ومشاهد من النقل الحي. والأهم مقابلات مع اميركيين عاديين، بينهم المرأة التي تحتل القسم الأخير من الفيلم، ليلى ليبسكومب والدة الرقيب مايكل بيرسن الذي كان ضمن وحدة في العراق وقتل بعد وقت قصير على نهاية العمليات الكبيرة. تجسد هذه السيدة خيبة الأمل، فبعدما ازدرت المتظاهرين ضد الحرب الذين يمثلون في اعتقادها اهانة لجنود الولايات المتحدة، تبكي ولدها الميت الذي قال في رسالته الأخيرة عن بوش: "أرسلنا الى هنا من أجل لا شيء". السيدة ليبسكومب، مثقلة بالأحزان تتوجه الى مقربة من البيت الابيض ومور في إثرها وتقول انها سعيدة لأنها أتت، وأنها وجدت مكاناً تنفّس فيه عن غضبها. للمرة الأولى في  عمله يقدمه مور شخصاً بكل عناصر شخصيته،  المشبعة بالاعتقادات والمبادئ التي قد لا يتشاركها معها بالضرورة لكن عليه احترامها. يسمح لمشاعر هذه المرأة أن تغطي على مهارته. انها اللحظة التي يشعر فيها المشاهد بدوره بالتأثر. الفيلم هو العمل النقدي الأكثر حدة لمايكل مور وكذلك أفضل أفلامه واكثرها تحريكاً للمشاعر".

نجاح وصدقية

أفلام مور السابقة جعلت معلّقين محافظين راغبين في تأكيد غياب الدقة وكثرة المبالغات في أعماله يعملون على التدقيق في أقل التفاصيل والوقائع الواردة في فيلم "فاهرنهايت 11/9" إذ سيتم التدقيق فيها كما لم يتم ذلك في أي من أفلام مور الأخرى ولا حتى في أي وثائقي آخر.

من ناحيته، رفض مور وموزعو الفيلم توزيع نسخ عنه قبل العرض الأول، فالفيلم بحسب قوله كان لا يزال يخضع لتعديلات طفيفة من أجل مزيد من الوضوح. فريقه الذي يتألف من محامين وخبراء وباحثين يؤكد انه بناء على أمر منه، عمل على التدقيق في كل المعلومات ليقينه بأن مؤيدي بوش سوف يستغلون ضده أقل خطأ في الوقائع، وهم جاهزون للرد على أي اتهام يستهدف صدقية الفيلم ومستعدون لملاحقة أي شخص يفتري على الفيلم أو يسيء الى سمعته: "سنرد في قوة على أي محاولة للتشهير بالفيلم"، يقول مور ولا يبدو انه يمزح. "لدينا الحقيقة الى جانبنا، إذا أصرّوا على الكذب سوف أقاضيهم"، يضيفون.

في نسخة سابقة للفيلم كانت هناك اشارة الى تهمة غالباً ما تم التداول فيها، روتها محطة "سي بي اس" في تموز ،2001 تقول ان وزير العدل جون اشكروفت حُذر من هجومات محتملة وتوقف إثر ذلك عن السفر على خطوط تجارية. الإشارة الى هذا التحقيق ألغيت من الفيلم عندما تبين لاحقاً ان أشكروفت سافر على خطوط عادية ذاك الصيف مرتين على الأقل. لكن رغم كل شيء يؤكد فريق مور انه لا يعتبر الفيلم وثائقياً عادياً: "انه مقال رأي وليس تحقيقاً".

قد يكون السبب الأساسي وراء الضجة الكبيرة التي أحدثها الفيلم، فضلاً عن الفضائح التي يكشفها، تقديمه في وقت قد يؤثّر على نتائج الانتخابات الرئاسية في اميركا. فهل سيحقق الفيلم نجاحاً لمايكل مور الذي يقرّ بأن هدفه الأساسي المساهمة في اخراج بوش من البيت الأبيض؟ الأمر ليس أكيداً، لكن التكهنات كثيرة، فالفيلم قد لا يؤثّر على ا لحزبيين الملتزمين لكنه قد يؤثر على الناخبين المترددين وعلى الشباب. بروس كين الخبير السياسي في "سان جوزيه ميركوري نيوز" يقول: "الفيلم سيغضب 40% من الناخبين وسيسعد 40%، يبقى أن نرى تأثيره على العشرين في المئة الباقين"، أو ما يعرف بـ"السوينغ فوترز" او الناخبين المترددين الذين يعيشون عادة في ولايات يمكنها ان ترجح كفّة الانتخابات لمصلحة الديموقراطيين او الجمهوريين. في حين تعتبر "لوس أنجلس تايمز" ان الفيلم سيعمل على تعبئة القاعدة الديموقراطية، وخاصة ان نسبة المشاركة تقليدياً مرتفعة أكثر لدى الجمهوريين. ومن ناحية أخرى يفضل معظم الخبراء عدم التكهن إذ من الصعب معرفة هل سيهتم المترددون أصلاً بموضوع الفيلم، والأصعب من ذلك معرفة ما ستكون آراؤهم لدى التصويت.

تلاحظ صحيفة "ذي بوسطن غلوبز" انه من غير المؤكد ان جون كيري المرشح الديموقراطي الذي يبدو أنه يفضل ترك مسافة بينه وبين مايكل مور سيفيد من تأثير الفيلم: "الفيلم لا يأتي البتة على ذكر المرشح الديموقراطي جون كيري الذي أيّد الحرب على العراق والذي يمالق ناخبي الوسط". أما "ذي كريستشن ساينس مونيتور" فلا تبعد احتمال ان الفيلم "سيعبئ مناصري رالف نادر الذي كان معارضاً للحزب منذ البدء".  

من "لو كورييه إنترناسيونال"

النهار اللبنانية في

12.07.2004

 
 

مايكل مور وسؤاله: لماذا يَقتلُ الأمريكي؟

نصري الصايغ

الكاتب والمخرج الأميركي »المنشق« مايكل مور يبحث عن جواب
لماذا يطلق التلميذ الأميركي، ذات صباحات تتكرر، رشقاً من النار على زملائه في المدرسة ويُرديهم؟

يذهب مايكل مور الى المدرسة، يحمل عينيه وقامته المريحة، ويستفتي بكاميرته الأسباب. يسأل: من المسؤول عن المذبحة؟ من القاتل؟ التلميذ أم البندقية أم انتشار السلاح أم الأفلام العنيفة التي يعرضها التلفزيون؟

لماذا تتخطى نسبة الاجرام، في المدن الأميركية، كل النسب »المعقولة« في مدن العالم، هل هذا وباء، أم هي عادة، أم هي أسلوب حياة أم لأن أميركا تحمل في ثقافتها »جينات قاتلة«.

لا يقنع مايكل مور بالأرقام. الأجوبة السهلة لا تحطّ براحة أمام أدوات التفتيش. فهو محقق بارع، ومثابر على الكشف... والافتضاح.

لم أكن أعرف مايكل مور. كل ما عناني من مسيرته ان فيلمه الوثائقي الطويل »بولينغ فور كولومباين« حاز على تنويه في مهرجان »كان« الأخير. وعلى غير عادة أن تقبل أفلام وثائقية في حفل فاخر مثل »كان«، أو أن يكون له بطاقة عبور الى المنصة. ولكنهم تجرأوا... وفعلوها.

كنت في باريس، عندما أمرني ولدي، بالكفّ عن القراءة والسياحة والعائلة، والذهاب معه الى »مايكل مور« كان مزاجي بليداً، غير راغب بالتحديق، أو بمصافحة أحد. فأميركا هي أميركا. وما قرأته عنها يكفيني كي أكوّن صورة شديدة القتامة وكثيفة العبوس.. ومع ذلك خضعت لآداب الزيارة، وبرهنت أني مطيع لثقافة الفن السابع.
شتاء باريس بكائي ومحبط. انتظرت دوري لمصافحة مايكل مور من خلف شباك التذاكر... لكن المقاعد كانت قد بلغت ثمالتها. فعدت مطمئناً الى أن ولدي لن يعاتبني على تقصير ما. غير أنه بادرني بالقول :مايكل مور الهال.. اسرع. وتبعته حتى بلغت مقعدي، وكانت الصالة الباريسية مكتملة النصاب.

دخل مايكل مور... ها هو بقامته يوقّع على أوراق، يفتح حساباً في مصرف، وينال مكافأة لقاء ذلك: بندقية مع وجبة من الطلقات بالرصاص الحي.؟
من هنا يبدأ الفيلم الوثائقي الطويل، الذي صفقت له باريس، ومنحته جائزة »السيزار«، كما صفقت له هوليوود عندما كرسته أفضل مخرج لأفضل فيلم ومن منصتها اطلق صيحته:العار عليك يا بوش.

وتبدأ رحلة البحث عن القاتل وعن القتل

»مايكل« لا يدير الكاميرا. إنه حاضر في متن المشهد. يذهب الى كل الأمكنة الصعبة. ويطرق الأبواب الممنوعة. يتخفّى ويلبس قمصان »شبان البنادق«، الذين يحرضون على اعتناق عقيدة البندقية، ونشر الايمان السماوي بالدفاع عن النفس، وعدم الركون الى الشرطة، فالأميركي الشجاع لا يحتاج الى شرطة كي »يستعيد حقوقه«، بل الى بندقية تردع »الجاني«، أو الى قتل احترازي، لخصم أو عدو مفترض. ولائحة الاعداء طويلة، تبدأ باللون المكسيكي والأميركي اللاتيني، ويُضاف إليها ملحق بالسود والخلاسيين والسمر. فالأمة الأميركية أمة بيضاء... فقط؟ ...فطهّرونا من كل دنس.

لم أشعر بملل. كنت أركض خلفه بتعب وشغف. بدا لي الفيلم، أنه رواية حقيقية. رواية من لحم ودم. من أطفال يقتلون عن جِدّ. لا تمثيل في الجريمة. إنها الجريمة وقد تعرّت من مساحيق الدم. إنها الفزع الطبيعي... الهلع الفجّ... الاختباء خلف الطاولات، وتحت الأرض واللجوء الى السلالم»التمثيل ممنوع« الكاميرا تنقل الحدث. تُسمعك الطلقات والاستغاثات، وبكاء الأهل والرفاق، ثم تدعى الى وضع باقة زهر على الدم المسفوك... فنفعل مثلهم، وتنخرط في الدمع.

مَنْ قَتل مَن؟

مجهول قتل مجهولاً، أو، معلوم قتل معلوماً. وبلا سبب، ولكن لماذا؟
في كولومباين مدرسة. وثمة لعبة بولنغ. لا أعرف العلاقة بين الاثنتين. إلا أنني تخيلت أن لعبة البولنغ تفرض على القناص الماهر، أن يصيب بطلقة واحدة، وبدفعة كرة واحدة، كل الشهود المنصوبين في آخر الرواق الطويل. لعل هذا هو السبب في الرشق الذي يطلقه طفل كان سوياً بالأمس، على رفاقه في الصف والمدرسة وقاعة الطعام.
قلت: لعل الجواب مقيم لدى عصابة تجار البنادق، والقوانين التي تبيح بيع الأسلحة، كما تُباع العلكة وعلب »التشيبس« ووجبات »الهمبرغر«.. فكرة السلاح بين أيدي الناس تغريهم باستعماله

مايكل لا يقنع. فعلى الرغم من مطاردته لمروّج هذه العقيدة، وقائدها الأبيض، الممثل تشارلتون هستون. فإن عدد قطع السلاح في كندا، بالنسبة الى عدد سكانها، يفوق عدد قطع السلاح في الولايات المتحدة الأميركية. ولدى »استجواب« وزير العدل الكندي، يخرج مايكل باستنتاج: إن عدد جرائم القتل في أميركا يصل الى ما فوق العشرين ألف في العام. بينما لم يستطع وزير العدل الكندي أن يتذكر عدد حوادث القتل في بلده، بل هو صمت قليلاً وقال في هذا العام: لا أحد، في العام الماضي، ربما جريمتان أو ثلاث جرائم. إذاً: السلاح وحده لا يقتل.

على أن مايكل، لا يصدر عفواً عن أداة الجريمة. يحرض الفتيان والأطفال على المطالبة بحقهم في الحياة، بلا سلاح، يدفع الجميع الى استعداد تشريع بمنع بيع الرصاص في المحلات العامة. يصرّ على ذلك. لأن إحدى الجرائم ارتُكبت برصاص قاتل اشترى صندوقاً من المخازن الكبرى التابعة ل٫K-Mart

يطارد الفتيان البائع. الإدارة مجلس الإدارة. يصرون على احضار الاعلام. يطردون... ولكن الاولاد، بقيادة الولد الكبير، مايكل مور، يفوزون، فتعترف الإدارة بأنها ارتكبت بيع الرصاص الحي القاتل في مخازنها وتعتذر أمام شاشات التلفزة. وتعد بأنها لن تفعل ذلك بعد اليوم.

لكن الفيلم لم يجب بعد عن السؤال: الآلة لا تقتل. فمَن القاتل؟ لا... ليست أفلام العنف. لقد برهن مايكل، أن هذه الأفلام تدور صورها في القارات الخمس، وتغزو مشاهدها الدامية شاشات العالم، وتقيم في غرف النوم مع الأولاد... ومع ذلك، فإن نسبة جرائم القتل لا تتأثر كثيراً بهذه المشاهد، وإن كانت تخلق تشوّهات نفسية، وتعطل قوى المجال في المخيلة.

إذاً: مَن القاتل؟ مَن المحرض على القتل؟ لماذا وحده الأميركي، بين سكان هذا الكوكب، يعيش في كوكب آخر من العنف؟

قبل الاجابة التي يعرضها الفيلم، سمحت لنفسي بفسحة من السياسة، على عادتي في الهروب من الموضوع. لقد أصرّت وسائل الثقافة والدعاية والسياسة الأميركية على تعميم الخوف وتوزيع الرعب كل يوم، من القنابل الذرية التي يمكن أن تسقط في أي لحظة آتية، من الاتحاد السوفياتي. فخاف الأميركيون، وصار السوفياتي عدواً. وبات كل من لا يخاف من السوفياتي، عدواً أيضاً. فالخوف المشترك هو هوية الأميركي العادي.

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وانهيار جدار الفصل بين عالم مخيف وعالم خائف، استمرت الولايات المتحدة الأميركية في تكريس الخوف لدى الأميركيين. ولما سئل وزير الدفاع الأميركي الحالي دونالد رامسفيلد عن الأعداء المحتملين والذين يهددون أميركا اليوم أجاب: كوريا الشمالية و...

سخر معلّق سياسي من هذا الجواب؟ :ليس لدى الشعب الكوري أرغفة خبز كافية ليومه. شعب جائع... فكيف يهدد أميركا؟؟، إلا أن الأميركيين يصدقون إعلامهم الصاخب والمكرر. ولا يتنبّهون الى ملاحظات ساخرة أو حقيقية يطلقها معلّقون أو مفكرون مترفون في نقدهم ومهملون لواجباتهم اليومية، ازاء احترام الأميركي الذي من حقه أن يخاف ويدافع عن نفسه.

المشاهد على قارعة القلق: لماذا يقتل؟

لكنني صدّقت فرضيته بالكاميرا المجردة. الأميركي مواطن يتربى على خوف دائم يوقظ فيه غريزة الدفاع عن نفسه بسلاحه. ولأن الأميركي خائف، ومتخوّف دائماً، فهو يقتني السلاح ليدافع به عن نفسه، وليقتل عندما يرى ذلك ضرورياً. وليمارس حقه في تطهير المجتمع الأميركي من الطفيليات الآنية من وراء البحار الصينية والهندية والعربية والإسلامية واللاتينية. وتطهير القارة البيضاء، من غير المتحضرين البيض.
ثمة ملاحظة أشار اليها ادوار سعيد، عندما تحدث عن »السي إن ان« الأميركية بأنها تخلو من أي ملون يظهر على شاشتها في الداخل الأميركي، بينما يطعّم مشهد الشاشة بعدد مقبول من الملوّنين وذوي اللكنات العالمية، لمخاطبة شعوب العالم بما يليق بهم. فلكل شعب لونه ولغته.

مايكل مور يقدم في فيلمه »بولينغ فور كولومباين« قصة مقلقة. بل يقدم وثيقة إدانة للثقافة الأميركية السائدة، التي عمّمت أسلوب الحرب الوقائية، كدرس يومي، يتعلّمه المواطن في الدفاع عن نفسه من قبل عدو مفترض.

ولا يعود غريباً أن يصدق الأميركيون جورج دبليو بوش في حربه المعلنة على العراق وسواه من الدول »الحارقة« ففي العالم الأميركي الصغير، ترتكب جرائم قتل متفرقة. وفي العالم الأميركي الامبراطوري. ترتكب جرائم قتل فائقة الأعداد. انها الثقافة نفسها... بل هي العار نفسه.

لذلك، عندما اعتلى مايكل مور منصة »الاوسكار«، هتف بأعلى جرحه: العار عليك يا بوش.

الخائن مايكل مور واحد من أجمل الخونة المخلصين لبلادهم، بطريقة أخرى.
فهو يستحقّ أكثر من تحية... ولعلنا نستحقّ أن نمضي خلفه في صراعه الشرس، ضد الزيف... وضد »الطغمة الحاكمة« في واشنطن، التي استولت على السلطة، بقرار تزوير الانتخابات...

# # # #

لأول مرة في تاريخ دور العرض السينمائية المحلية:

الفيلم الوثائقي »فهرنهايت ١١/٩« بالبحرين يفتح الباب لأفلام أخرى

أحمد مرسي

في بادرة هي الأولى من نوعها في تاريخ دور العرض السينمائية المحلية، تعرض سينما السيف الفيلم الوثائقي »فهرنهايت ١١/٩« للمخرج مايكل مور الحاصل على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان »كان« السينمائي عن الفيلم ذاته.

الفيلم سجل رقماً قياسياً في شباك التذاكر لإسبوعين متتاليين من عرضه كونه فيلماً وثائقيا، حيث حقق ٨.١٢ مليون دولار في اول ثلاثة ايام من عرضه.

عرض الفيلم يمثل تحولا جديدا -ربما- في تعاطي دور العرض السينمائية المحلية التجارية مع الأفلام الوثائقية خصوصاً، إذا لم يسبق أن عرضت السينمات فيلماً وثائقيا، وتأتي هذه المبادرة كون الفيلم أخذ حيزا كبيراً من خلال حجم الدعاية التي رافقته خصوصا التزامن الذي حظي به في ظل الأوضاع السياسية الامريكية المتقلبة وفي ظل غزو العراق من ناحية أخرى.

عرض الفيلم لا يخلو أبدا من حسابات لدى سينما السيف، وهي خطوات تطال وتيرة التنافس الذي تشهده دور العرض السينمائية بينها وبين سينما الدانة التي هي أيضا بالمقابل تسعى لكل ماهو جديد تجاريا، فمع بدء الصيف عرض سينمات الدانة فيلمي (اليوم التالي) وفيلم (الرجل العنكبوت ٢) وبدأت السيف بعرض فيلم (هاري بوتر) وينتظر عما قريب عرض فلمي (شريك٢) و(الملك آرثر) اللذين يحققان مدخولا جيدا في دور العرض السينمائية، لهذا فإن عرض فيلم »فهرنهايت ١١/٩« وإن كان غير مدرج في خطط السيف السابقة إلا أنها خطوة تعد مكسبا لواقع حركة دور العرض، وهذا بالتأكيد سيلفت انتباه القائمين على دور العرض في ان يستقطبوا مثل هذه الأفلام غير المدرجة ضمن التصنيف التجاري.

من ناحية أخرى تعتبر البحرين من أوائل الدول العربية التي تعرض الفيلم، ويتوقع أيضا أنه بحال عرض الفيلم في الدول العربية ودول الشرق آسيوية أنه سيحقق أرباحاً تعكس توقعات متابعي السينما الذين يصنفون الدول العربية بالدول الأقل مدخولا في حجم ارباح تذاكر الشباك، وتأتي هذه التوقعات للظرف الموضوعي الذي سيزيد من ارباح الفيلم (عربيا) والذي يركز فيه مور على وجهة نظره بأن الحرب على العراق لم تكن في مصلحة أميركا٬ وأن الهدف الوحيد منه كان خدمة المصالح الضيقة للشركات الأمريكية الكبرى. وأن مسؤولي إدارة بوش قد كذبوا بشأن الأسباب الحقيقية للحرب، واستغلوا مناخ الخوف الذي ساد في الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر لتحقيق مآربهم الخاصة.

سيجد القارئ هنا تناولا نقدياً للفيلم من خلال الكاتب أحمد مرسي من جريدة المستقبل اللبنانية ومقال آخر للكاتب نصري الصايغ الذي يتناول فيه فيلم »بولينغ فور كولومباين« الذي اخرجه مور قبل فيلمه الأخير والذي تدور أحداثه حول العنف في المجتمع الأمريكي.

 

»فهرنهايت«٫٫ مايكل مور في الصالات الأميركية نجاح جماهيري متصاعد وانخراط سينمائي قوي في الانتخابات الرئاسية

أحمد مرسي

لم أحاول، بالرغم من توافر الرغبة والفضول، أن أقف في طابور بضع ساعات لأجد مقعداً خالياً في دار عرض لمشاهدة فيلم »فهرنهايت ١١/٩«، في احتمال كبير للفشل، خاصة، بعد أن قرأت في الصحف أن »المحظوظين« الذين شاهدوا الفيلم في عرضه الأول في نهاية الأسبوع الماضي قضوا الليلة وقوفاً، مصطفين في طابور طويل أمام دار العرض في مانهاتن.

ومع اشتداد ذهول النقاد والمراقبين لنجاح الفيلم »الوثائقي« المدوي، بعد أن حقق إيراداً قياسياً خلال عطلة الأسبوع، مكنه من احتلال رأس قائمة أعلى الأفلام دخلاً، خلال العطلة الأسبوعية، بما فيها الأفلام التي تكلف إنتاجها عشرات الملايين، قررت أن أشاهده في العرض الصباحي الأول ـ الساعة الحادية عشرة صباحاً ـ في أحد أيام العمل ـ وكان ذلك يوم الثلاثاء.

وصلت الى شباك التذاكر في الموعد المحدد بالضبط، وقد دهشت عندما لم أجد طابور المشاهدين الذي كنت أتوقعه وأخشاه٫ وكانت دهشتي أكبر عندما دلفت الى قاعة العرض في الظلام، وتبينت أن القاعة لا تغص بالمشاهدين، وأن المقاعد الخالية تزيد بنسبة كبيرة على المقاعد المشغولة٫ ولكنني لم أدهش طويلاً، فقد أدركت، بعد وهلة قصيرة، أن العرض الصباحي لا يحضره غير »المواطنين المسنين« Senior Citizens.

يبدأ الفيلم بتقديم يمهد لفتح ملف بطله، جورج و٫ بوش، بسرد وقائعي مختزل لدراما موقعة الانتخاب من ولاية فلوريدا، التي خاض معركتها، بالنيابة عنه، محاربون غير مجهولين من بينهم جيمس بيكر، وزير الخارجية في إدارة والد »المرشح«، وشقيق المرشح، حاكم الولاية، ومساعدوه، وخاصة سكرتيرة الولاية التي لعبت دوراً هاماً في المناورات التي حسمتها في آخر الأمر المحكمة العليا، التي عين بوش الأب، كما يقول مايكل مور في الفيلم، معظم قضاتها، لتسليم مقاليد حكم الولايات المتحدة للمرشح الذي لم تؤيده أغلبية الناخبين.

وبعد هذه المقدمة التي رسمت اسكتشاً ـ ذا دلالة هامة ـ لشخصية البطل٫ بدأ استعراض أسماء المساهمين في العمل السينمائي الوثائقي من فنيين وفنانين بمن فيهم المعد والمخرج مايكل مور، ثم ينزاح الستار عن قصة »شره وعجز« الحكومة الأميركية، ونشاطات الرئيس بوش صباح يوم ١١ سبتمبر »المشؤوم«، الذي أصر على أنه ما أن علم بهجمات القاعدة أثناء اجتماعه بأطفال مدرسة حضانة في فلوريدا، حتى هرول في الحال من الحجرة مندفعاً من أجل إنقاذ البلد..

عنزتي الأليفة

ولكن الفيلم يؤكد أنه أُخطر بالهجوم على مركز التجارة العالمي قبل أن يدخل حجرة المدرسة، وقد قرر أن يتم تصويره وسط الأطفال كما كان مقرراً من قبل٫ ونشاهده عندما يبلّغه أحد المسؤولين ـ أندرو كارد ـ بالهجوم على البرج الثاني، ويقول صراحة »نحن نهاجم«، ولكن الرئيس يواصل قراءة »عنزتي الأليفة« لمدة سبع دقائق أخرى، ويلاحظ المشاهد اضطرابه وبلبلته في حركة عينيه )كشخص محشور يبحث عن مرحاض، كما وصفه أحد الكتاب الأميركين)، حتى أصر مساعدوه على مغادرة المدرسة٫ ولكنه مكث نصف ساعة أخرى٫ ولا شك أن هذه اللحظات الحاسمة تكشف الشيء الكثير عما يمكن توقعه من الرئيس الأميركي في خضم أزمة ـ تاريخية، مثل الهجوم على عصب التجارة وسوق الأموال في نيويورك، ورمز القوة العسكرية للقوة العظمى الوحيدة في العالم، البنتاغون.

ويلتقط مور خيط قصته الوثائقية التراجيكوميدية إذا صح الوصف، بواقعة أيلول متحرياً ردود أفعالها التي توجت بقرار غزو العراق، على أساس مبررات أثبت الواقع بطلانها٫ بالرغم من إصرار إدارة بوش على عدم الاعتراف بذلك، حتى الآن٫ ويعجب المرء كيف حصل مور على تلك اللقطات التي صورت بأمانة الواقع ارتباك الرئيس الأميركي بل ارتباك إدارته بأسرها في اللحظات الأولى بعد وقوع الهجوم غير المتوقع٫ ولا شك أن هذه اللقطات بالذات التي استخدمها في فيلمه لم يشاهدها المواطن الأميركي على أي شبكة تليفزيونية، وكأنها التقطت خلسة ليستخدمها مايكل مور ببراعة وسخرية لا تخلو في معظم الأحيان من الدعابة، وهي بالتأكيد دعائم موهبته التي يسخرها في الغالب لخدمة قضية تهم المواطن الأميركي العادي٫ وقد أشار مور في برنامج تلفزيوني الى أن المتحدثين باسم البيت الأبيض قد نددوا بالفيلم باعتباره »عملاً مزيفاً تزييفاً صادماً« يرمي الى التأثير على الانتخابات القادمة، وذلك، بالرغم من أنهم لم يشاهدوه٫ بينما اتهم الجناح اليميني مور بتنفيذ مؤامرة لحساب »الجناح اليساري«٫ وقد علق أحد الكتاب بقوله إن المحافظين اليمينيين اشتهروا بتدبير مؤامرات للنيل من والتشهير بمسؤولين ديموقراطيين منتخبين٫ وربما قد حل وقت الرد بالمثل٫
وعلى كل حال، ينبغي أن يشاهد الجميع الفيلم قبل أن يناقشوا القضايا المثارة٫ فلا جدال، في أن الغرض من أي فيلم وثائقي هو التأثير على الرأي العام٫ ولكن بدلاً من الصوت المهم المألوف الذي يعلق على الحدث ويوجه تفكير المشاهد، يطرح هذا الصوت أسئلة منطقية صعبة، ويقدم ردوداً عقلانية، ولا يفقد في أي لحظة قيمته الترفيهية.

إن ريتشارد مور، الذي فضح شره الشركات العملاقة في »روجر وأنا« ومكافحة حمل السلاح في (Bowling for Columbine)، يشعر الآن برغبة جانحة في مواجهة إدارة بوش التي بدأت تبدو، كما يوحي الفيلم، أقرب ما تكون الى الرايخ الثالث٫ فهو يتهم مسؤولي الادارة بالكذب بشأن دوافع شن الحرب ضد العراق، البلد الذي لم يهدد الولايات المتحدة أبداً، وقتل آلاف المدنيين الأبرياء انتقاماً من هجوم ١١ أيلول، بالرغم من عدم وجود أي عراقي بين الإرهابيين الذين ارتكبوا الهجوم، وقتل أكثر من ٠٠٨ أميركي، جميعهم من عائلات الأقليات العرقية أو من الطبقات العاملة الفقيرة.

وقد شدد ريتشارد مور على هذه الحقيقة بشكل مباشر ومقنع، بدون الاكتفاء بسرد رقم إحصائي، وذلك عن طريق إجراء مقابلات مع عدد من أسر لمقاتلين، وبعض المقاتلين أنفسهم الذين شهدوا بأن التطوع للخدمة العسكرية هو الخيار الوحيد المتاح لهم لإمكان إتمام أي دراسة جامعية، لعدم قدرة ذويهم على تحمل نفقات الجامعة٫
ومن بين أكثر أجزاء الفيلم إفصاحاً بهذه الحقيقة، وأشدها تعرية لمشاعر الإنسان العادي المعقدة، والتي لا يمكن فهمها، أو حتى تصديقها، إلا في إطار تطورات حالة معينة٫ جزء تناول أمّاً أميركية بيضاء متزوجة من رجل أسود٫ ويتابع المخرج قصة هذه الأم المكافحة التي استطاعت، بفضل قوة إرادتها ورغبتها في تحسين وضعها الاجتماعي، الارتقاء من مجرد سيدة تبحث عن عمل لا يتطلب خبرة أو أي كفاءة لا تملكهما، الى تولي وظيفة مرموقة في نفس الهيئة الحكومية التي لجأت اليها لتشغيلها فساعدتها على تنمية قدراتها وتأهيلها للعمل٫ ويزور المخرج بيت الأم حيث تكتشف من حديثها معه إحساسها الوطني الجاد، وربما المفرط، وزهوها بأن ابنها، الذي لم يتجاوز العشرين، يقاتل في العراق، دفاعاً عن الوطن٫ وقد حرصت، مثلما تفعل أسر المقاتلين الأخرى، على رفع العلم الأميركي بواجهة البيت٫ وما أن يصلها نعي الجيش لابنها في العراق، تتحول فجأة هذه الأم ذات الكبرياء الوطنية الى سيدة مكلومة أفاقتها الصدمة على مرارة الحقيقة، موت الإبن في مطلع شبابه في حرب لا مبرر لها، وضد بلد لم يهدد وطنها، أمريكا.

الأم والأب

وفي مشهد يجمع الأم والأب وبقية أفراد العائلة تقرأ الأم لمايكل مور آخر رسائل الإبن التي يعبر فيها هو الآخر عن بلبلته والإحساس بانقشاع الوهم٫٫ وهم الدفاع عن الوطن في بلد لا علاقة له بهجوم ١١ أيلول٫ ويدفع نفس هذا الإحساس بانقشاع الوهم الأم الى السفر الى واشنطن العاصمة ومحاولة نقل الإحساس بالذنب الى الذين أمروا بشن الحرب على العراق والإلقاء بإبنها الى حتفه في أتون حرب ظالمة٫ ولكنها تواجه بجدران صماء وأسوار البيت الأبيض الباردة فتنخرط ـ فيما يشبه تراجيدية يونانية ـ في هذيان دام وتحكي قصة الإبن القتيل.

وعلى الجانب الآخر، بينما لا ينكر أحد أن صدام حسين كان طاغية، إلا أن الأمهات العراقيات والأطفال الذين أنقذوا من هذا الطاغية، هم أنفسهم الذين أحرقوا بالصواريخ وقطعت أوصالهم ليعيشوا مدى الحياة بدون أذرع وبدون أرجل على أيدي أشرار آخرين في زي مختلف.

بوش والفظائع

وفي نفس الوقت، يبين المخرج الرئيس بوش وهو يبرر الفظائع الأميركية ضد صدام حسين بقوله »لقد حاول قتل دادي« ويسلط مور الضوء على الحرب التي لم يعد يشعر بالحماسة لها نفس الجنود الذين يخوضونها، كما يكشف الحوار معهم، بينما عادت على الولايات المتحدة الكراهية وعدم ثقة العالم بدرجة غير مسبوقة، وفي الوقت الذي نرى فيه الرئيس بوش يمارس رياضته المفضلة »الجولف متجاهلاً القضايا المحلية الملحة لرعاية الصحة والتعليم والضمان الإجتماعي والبطالة والاقتصاد، ولكنه يحرص على تنبيه الصحافيين المحيطين به في ملعب الغولف بأن يشاهدوا ضربته القادمة٫ بينما قام القائمون بشؤون البيت الأبيض، بدعم من صحافة غير مسؤولة لم تعبأ بطرح الأسئلة الصحيحة، باستمالة الرأي العام بإشاعة الخوف والترويج لفكر ديني عن زالمسيحي الذي ولد من جديد«، والذي يعتنقه الرئيس بوش وحواريوه٫ ويقول مور »إن عملية بث عوامل الخوف استعاضت بالإرهابيين والمذنبين عن الشيوعيين »والبتنيكس«، ولكنك إذا تمكنت من تخويف الناس بقدر كاف، يفوز ـ القبضاي ـ دائماً«.

ويتهم مور إدارة بوش بأنها لا تزال تحاول أن تخفي الدليل الذي يثبت غباءها باحتجاز ٨٢ صفحة من تقرير لجنة ١١ أيلول المستقلة٫ وقد ركز المخرج على العلاقة الخاصة بين آل بوش والسعوديين بصورة عامة، وبخاصة آل لادن٫ وادعى أن آل بوش حققوا أرباحاً قدرها ٥.١ بليون دولار من المصالح البترولية لآل لادن، أسرة مدبر ١١ أيلول٫ ويتساءل لماذا سمح البيت الأبيض، في الوقت الذي أوقفت فيه حركة الطيران في أنحاء البلد بعد ١١ سبتمبر، بجمع أفراد أسرة بن لادن من أطراف الولايات المتحدة على متن طائرة وسفرهم ضمن ٢٤١ سعودياً آخر الى الخارج دون تحقيق أو استجواب بالرغم من اعتراض مكتب التحقيقات الفيدرالي.

كما يكشف الفيلم عن شخصية صاحب اسم شُطب عليه من السجلات العسكرية لطيار زميل عُلق وضعه كطيار لرفضه اجراء فحص طبي٫ وكان الصديق الذي كان بوش يحاول حمايته هو جيمس بات، الذي شاركه في إدارة الاستثمارات المالية الأميركية لعائلة بن لادن.

ويتعرض مور للقانون المسمى »باتريوت« ـ الذي سارع الكونغرس إلى اعتماده بدون قراءته ـ ويسجّل حالة الهوس التي أفرزها: مجموعات من المواطنين تداهمهم الشرطة لعقد اجتماعات ناد خاص، وامرأة ترفض السلطات السماح لها بدخول طائرة لأنها كانت تحمل زجاجة لبن عصرية من ثديها، ويؤكد مور أن جميع هذه التكتيكات ترمي إلى صرف انتباه الشعب الأميركي عن الجثث المرسلة الى الوطن من العراق لتشييعها في جنازات لم يحضرها الرئيس جورج بوش ولو مرة واحدة، أو صرف الانتباه عن أسطورة »أسلحة الدمار الشامل«٫ ويعرض الفيلم مشاهد يتحدث فيها أميركيون مختلفو الأعمار عن شكوكهم حول أولئك الصبية الذين فقدوا حياتهم في حرب مشكوك فيها لا تبدو لها نهاية في الأفق، أجل ماذا؟ يقول بوش »الدفاع عن الحرية، بينما يقول الفيلم: من أجل تحقيق الربح«٫ ويفضح الخلل في الميزان٫ فالكونغرس الذي يبلغ أعضاؤه ٥٣٥ عضواً، ليس من بينهم غير عضو واحد له ابن يخدم في العراق.

ويعكس مايكل مور هذه الحقيقة المذهلة، بكل ما تنم عنه من نفاق وادعاءات البطولة والوطنية الفارغة بالوقوف في صحبة ضابط بالجيش أمام الكونغرس ويحاول ان يقنع بعض الأعضاء الخارجين من الكابيتول بملء استمارات تطوع أبنائهم للخدمة في العراق٫ ولكنهم ما إن يتبينوا المصيدة حتى يلوذوا بالفرار، الواحد بعد الآخر ٫ ويكفي هذا المشهد الفكاهي لتعرية الوجه المأسوي للحرب، خاصة اذا كانت حرباً مفتعلة ووقودها أبناء العائلات الفقيرة وأسبابها كاذبة.

يقول الناقد ركس ريد٫٫ زلقد أعلن دهاقنة »كان« وأحرار الليموزين ان فهرنهايت ١١٩ هو فيلم العام الوثائقي الفذ٫٫٫ واعتقد انه ينبغي ان يتطلب ان يشاهده كل أميركي ولكنني كالعادة اخشى ان الناس الذين يمكنهم ان يستعملوا أكثر من القضايا التي يثيرها، سوف يتجنبونه، كما يتجنبون جامع تبرعات من أجل إجهاض مجاني.. (يقصد المحافظين ـ الجدد انصار الرئيس بوش).

معارضي مايكل مور يسمونه بأنه عمل تحريضي حزبي مشحون ايديولوجياً، وهو كذلك لكن اي رؤيوي يحاول أن ينمي تغييراً مصيره ان يحصد اعداء٫ وبغضبه المعتاد الموجه والذي يسيطر عليه، ينطلق مايكل مور ليسبر ويطلق صيحة صحوة في سنة انتخابات مشحونة عاطفياً، حيث الحقيقة قد دُفنت على عمق ستة اقدام تحت الارض، وينجح بدعابة وعضة٫ والنتيجة بدون شك، مستقطبة، وتُغري بالمشاهدة الى حد كبير وعمل سينمائي جيد بالفعل، واذا أقنع شخصاً ليس ناخباً بأن يفكر، سوف يخدم عرضاً٫ وأكثر شيء اثارة للحزن والغضب علمته من فهرنهايت ١١ سبتمبر ليس هو الأثر السياسي لكنه حقيقة مدى خفة وزن الرئيس في اطار التاريخ الأميركي٫ ان جورح بوش ربما كان اول رئيس للولايات المتحدة قد قام بغسل مخه.

بينما ينصح قائد آخر، اندرو ساريس، المرشح الديموقراطي جون كيري بضرورة أن يقوم مستشاروه السياسيون باجراء دراسة متروية لفيلم مايكل مور٫٫٫ لا من أجل مذاقه الجيد وعمقه أو حتى أصالته، بل من أجل تشبثه ككلب شرس في إهالة الوسخ على الميثولوجيا الوطنية التي عُزلت من أكاذيب وأنصاف حقائق في البيت الأبيض.

الأيام البحرينية في

13.07.2004

 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)