كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

من آلان فرانكوفيتش عام 1980 إلي مايكل مور 2004

السينما الأمريكية لا تعدم الشرفاء دائماً

«1/2»

د. مدكور ثابت

مهرجان كان السينمائي الدولي السابع والخمسون

   
 
 
 
 

قبل 24 عاماً فجر مخرج أمريكي قنبلة سينمائية كشفت عن أسرار خطيرة للمخابرات الأمريكية.. وحصل علي جائزة ذهبية من مهرجان شيوعي

كنت رئيساً لوفد مصر في مهرجان لايبزج بألمانيا الشيوعية عندما تزاحم الناس لرؤية فيلم فرانكوفيتش.. ومشاهدة رجال الـ CIA لأول مرة علي الشاشة

لم تحجب مآسي سجن «أبوغريب» تلاحق الأخبار المدوية حول موقف المخرج الأمريكي مايكل مور وفيلمه «فهرنهيت 11/9»، المناهض لرئاسته الأمريكية، بسبب قوة تفرد الموقف مع اشتباكه بسخونة كل الأحداث الراهنة في آن واحد، ومن ثم فإننا إذا ما كشفنا أو أضفنا من المعلومات ما يحقق قراءة أوسع لهذا الموقف، نكون قد لامسنا ارتياح الوضوح، إذ ربما تسعفنا الحقائق في فهم الماهية الراهنة للفنان السينمائي، وفي سبر خفاياها الفاعلة إزاء متاهة هذا الزمن التي أصبحت تربك، إن لم تستغلق كثيراً علي التحليلات الصائبة، حتي غدت حيرتنا حادة في تراوحها بين معنيين مختلفين لزمنين عشناهما متتاليين.

لذلك فإنني عندما أكتب عن مايكل مور، إنما أكتب عن ربع قرن من تاريخ العالم، تبدأ سنواته مع إرهاصات النهاية لزمن الحرب الباردة، وتصل إلي زمن العولمة الذي نعيش صراعاته المعقدة.

24 سنة بالتحديد، هي التي تفصل بين الواقعتين السينمائيتين المتشابهتين في قوة وتفرد سخونتهما السياسية، حيث تأتيان في سياق ما أسماه صاحب الواقعة الأسبق المخرج الأمريكي آلان فرانكوفيتش في عام 1980 «عملية نمو الضمير الأمريكي»!! وفق ما صدرت به مقال لي عن هذه الواقعة الكبري لفوزه كأمريكي بالجائزة الذهبية لأكبر مهرجان عالمي للسينما التسجيلية في دولة شيوعية، عندما قال عن فيلمه المعنون «بتكليف من الشركة»:

«لا يمكن لفيلم واحد أن يغير من الرؤي السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن علي المرء أن يعتبره عنصراً في عملية نمو الضمير الأمريكي.. لقد استغرق إنتاج الفيلم حوالي خمس سنوات، وخلال هذه المدة كان لدينا ما بين أربعين إلي ستين من رجال وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يواجهون كاميراتنا التي صورت مقابلات فيلمية معهم يبلغ طولها الإجمالي حوالي مائة وخمسين ساعة عرض سينمائي».

لكن ما لم يقله أو يدركه فرانكوفيتش، إنه كان علينا أن ننتظر مرور ربع قرن علي حديثه وعلي قنبلته السينمائية، حتي تبرز لنا الواقعة التالية في مسار نمو هذا الضمير علي يدي أمريكي آخر هو مايكل مور.. ربع قرن!

ربع قرن مر إذن علي ما وقع شبيهاً بما يحدث الآن خلال الموقف الشهير لمايكل مور وفيلمه في مهرجان كان.. ذلك عندما بدا فيلم ماركوفيتش في مهرجان لايبزج السينمائي الدولي عام 1980 «الدورة 23» وكأنه السوبرمان الأمريكي الذي اخترق المهرجان خاطفاً كل الأضواء من شاشة عرض سينما الكابيتول التي قدمت خلال دورة ذلك العام 218 فيلماً من 47 دولة، أي من جميع جنسيات العالم، شرقه وغربه «حضر كاتب السطور» دورة هذا المهرجان رئيساً لوفد مصر، وباعتباره مخرج فيلم «علي أرض سيناء» الذي اختير ليمثل مصر في المهرجان مع فيلم «حديث الحجر» لخيري بشارة.. وأمام كل هذا الحشد العالمي، كانت أمريكا هي نجم مهرجان عام 1980 من خلال فيلمها «بتكليف من الشركة» الذي أخرجه الأمريكي آلان فرانكوفيتش، ومن إنتاج الشركة الأمريكية «أفلام أيزلانيجرا» بكاليفورنيا، بل وتصدرت مناقشة هذا الفيلم كل ندوات وسهرات الحوار بين مختلف الوفود، إلي الدرجة التي فرض بها الفيلم نفسه علي الجلسات الخاصة، حتي مع من يتم الالتقاء بهم من أبناء الشعب الألماني ذاته. كما ظلت إشارات الفيلم متأججة حتي اللحظات الأخيرة من انتظار نتائج مسابقة المهرجان. بل وبعد حصول الفيلم علي الجائزة الذهبية للجنة التحكيم الدولية، عندما كان لنفس الفيلم نصيب الأسد في العرض الأخير الذي تبع توزيع الجوائز، مما جدد إثارة المناقشة حوله، وعبر ما تناقلته وكالات الأنباء، وما نشرته مختلف صحف العالم.

لكن واقعة مايكل مور الأحدث، تميزت بأن جاءت ملتحمة ـ في مباشرة ـ بسخونة ولهيب الأحداث الراهنة والمؤسية، كما أن بداية الصرخة الشخصية من مايكل مور علي مسرح جوائز الأوسكار التي يتابعها العالم كله في زمن الفضائيات، أحدثت دوياً هائلاً لقوله بأعلي صوت ـ وهو يتسلم جائزته: «عار عليك يا سيد بوش»، قاصداً نية بوش ـ حينذاك ـ في شن الحرب علي العراق، ومن ثم فقد ذاعت شهرة موقف مور لأنه فجر موقفه مرتين: الأولي في صرخته الحادة والمفاجئة علي مسرح الأوسكار، والثانية عندما فاجأ أمريكا والعالم بفيلمه «فهرنهيت 11/9» الذي يقدم ـ وفقاً للأنباء ـ سيرة مليئة بالانتقادات في حياة بوش وعائلته، التي يبرز الفيلم ارتباطاتها المشينة بأسامة بن لادن، كما يشكك في انتخابات بوش، ومن ثم فمازال الفيلم ممنوعاً من تسويقه للعرض في أمريكا، مما أثار الالتفاف والأضواء حوله في مهرجان كان هذا العام. وهذا هو ما نتناوله ضمن معطيات موضوعنا هنا، إذ لست إزاء نقد أو تحليل لفيلم مايكل مور ـ حيث لم أشاهده بعد ـ ولكني أكتب عن واقعته في كل من السياقين السياسي والسينمائي الأمريكيين، وفقاً لما تناقلته الأنباء ومحتوي ما وصل صيته إلينا من وقائع وأضواء، لأن لنا تساؤلاً محورياً وراء بحثنا في الوقائع السياسية.

إننا إزاء فرصة حقيقية للاستجلاء المفاهيمي حول ما هية الفنان السينمائي في هذا الزمن الجديد، الذي أصبح المعلن فيه نظرياً غير معبر عن حقيقة الصراع علي الأرض، وحيث تفلت من الفنان القدرة علي التقاط الرؤية الواضحة في ظل ضبابية النظريات والتحليلات وتناقضها مع واقع الصراعات الفعلية. وهي الفرصة التي توفرها لنا الواقعتان الفريدتان بما يفصل بينهما زمنياً، لننظر إلي كل منهما في ضوء زمنها، سعياً إلي قراءة واضحة عن وضعية الفنان في هذا الزمن الراهن، بعد أن كان لدينا وضوح عنها فيما مضي من زمن الصراع الواضح.

وأذكر أني عندما ذهبت لمشاهدة فيلم فرانكوفيتش عام 1980 كان الزحام مهولاً، ولكن كان من الطبيعي ألا يثير ذلك اندهاشاً، حيث سبقته سمعة الفيلم.. إلا أن الافتقاد للدهشة سرعان ما تبدد، إذ ما إن أطفئت أنوار القاعة الضخمة ودارت آلات العرض، حتي بدأت المفاجآت وساد الذهول.. لقد أصبحت «الشاشة ـ الكاميرا» هي «نحن ـ المتفرج»، نجلس مع رجال المخابرات الأمريكية وجهاً لوجه، يتحدثون إلينا باعتبارنا الكاميرا، وقد بدا طوال الوقت أنهم وحدهم المتحدثون ونحن الصامتون، ولكن حواراً أعنف كان يعتمل في عمق كل منا، إذ كان الصمت مجرد غلاف للصخب المكنون في هذا العمق، حيث التشوق حاد والذهول أكثر حدة، كنا نتعجب لتبسطهم فيما يعترفون حول أحداث تاريخية خطيرة، فالعالم وتاريخه أمامهم خشبة مسرح للعرائس وهم محركوها.

يقول جاكسون لكاميرا الفيلم: «إننا نعمل علي بناء مجموعة معينة في زمن الحرب الساخنة، لتعمل لحسابنا أثناء الحرب الباردة.. إننا نتعامل مع أحزاب يتم إنشاؤها ومع الكثير من أنظمة المخابرات في العالم، وكذلك وسائل الصحافة المفتوحة، بل ولابد من إنشاء نقابات عمالية في مختلف البلدان لتعمل لحسابنا».. كلمات اعتراف صريح ومفاجئ، لأنها تكشف عن حقائق جديدة كانت خافية، أو هي كانت محل تخمينات واتهامات قائمة علي مجرد الاجتهادات، دون أن ترقي من قبل إلي مستوي الوثيقة.

مذهل هذا اللقاء في البساطة التي سيطرت علي إلقاء أحاديثه، لأنها البساطة المقرونة بأخطر أسرار التاريخ الإنساني لعالم القرن العشرين، فهي لم تكن أسراراً عن حياة نجمة من هوليوود، ولا نجم سياسي كبير واحد، أو حتي الاكتفاء بأسرار حزب من الأحزاب السياسية، أو علي أحسن الافتراضات أسرار دولة كبيرة بعينها، وإنما هي أسرار تمس مصير البشرية وحياتها وأمنها وأحلامها ودماءها، وكل ما تضمنته من حروب، ومظاهرات، وانقلابات، ومفاوضات، ونشأة، وانهيار نقابات، وقوانين، ومعاهدات، وعلاقات شعوب وأمم وحكومات، وأسلحة دمار.. إلخ، وهو ما تعرض أحداثه الشهيرة علينا الآن، عبر أرشيف الوثائق الفيلمية المصورة، لنري الآن وقائعها بالمنظار الجديد لهذه الاعترافات التي تنهال علينا مفاجآتها بلا هوادة.

لكننا، وبينما رحنا نلهث مع تتابع الفيلم وقنابل أسراره، كنا لا نفتأ نتساءل في كل لحظـة: هل تفضح هذه القوة الأمريكية نفسها مجاناً أو اعتباطاً، فتلقي هكذا أسرارها لتنشر خلال صالة عرض لأكبر مهرجان سينمائي بين الدول الشيوعية، عندما كانت الحرب الباردة في أوجها بين الكتلتين، في الزمن الذي كانت توجد فيه وتعلو أصوات حكومات شيوعية فيما كان يسمي بالكتلة الشرقية، وحيث يقام مهرجان لايبزج هذا علي أرض واحدة منها هي التي كانت تسمي من قبل «ألمانيا الشرقية»؟

وجدير بالذكر، أن المفارقة والتداعيات كانت تداعب الذهن في هذه اللحظات من أواخر نوفمبر 1980، فالمبني الذي تعتمل به سخونة عرض هذا الفيلم في مهرجان لايبزج بألمانيا الشرقية ـ الشيوعية حينذاك، هي دار سينما الكابيتول التي تحتضن عروض المهرجان، في نفس الوقت الذي تبدأ فيه لحظات تجدد وانتعاش بمبني آخر يحمل نفس الاسم، ولكن في ضفة المعسكر الآخر، حيث يستعد مبني «الكابيتول» في العاصمة الأمريكية، والذي يضم الكونجرس، لاستقبال رئيس أمريكي جديد لأربع سنوات مقبلة، مهللاً له المبني بزينة الرايات والأعلام، ألا وهو الرئيس الأمريكي رونالد ريجان فيما بعد، والذي زخرت حياته الماضية منذ كان ممثلاً في هوليوود ـ مثلما زخرت سنوات رئاسته ـ بالكثير مما أثير حول المخابرات الأمريكية، أي ذات الموضوع الساخن الذي يتأجج هنا علي شاشة «الكابيتول» الشيوعية، وحيث تجد الاعترافات والأحاديث التي تأتي بالفيلم علي ألسنة مسئولي وكالة المخابرات الأمريكية وقد تركزت كلها حول هدف واحد لتاريخ الوكالة، هو مكافحة النشاط الشيوعي في العالم، بل وفي قلب أمريكا ذاتها من قبيل ما يقول به سميث للكاميرا: «لقد سمعنا أن هناك مؤامرة شيوعية في أمريكا، حيث قيل إن وزارة الخارجية الأمريكية أصبحت مليئة بالعملاء الشيوعيين، فهل من المعقول أن نترك هذا؟».

إنهم واعون إذن ولن يتركوا شيئاً من هذا القبيل في الداخل، أو في الخارج.. ومن ثم فإن مجرد الموافقة علي جلوس حوالي ستين من الأمريكيين حملة هذه الأسرار الدفينة أمام الكاميرا، واحداً تلو الآخر، يتحدثون وهم في كامل وعيهم، لابد وأن يكون بناء علي موافقة واعية أيضاً بهدفها، ومن ثم فلابد أن يكون هذا العرض السينمائي في ذاته واقعة سياسية لها هي أيضاً أسرارها وملابساتها ضمن مجريات هذه الحرب الباردة، وهو ما تلقي عليه ذات الاعترافات الواردة بالفيلم ضوءاً من اليقين عندما نلتقي بالاعتراف الذي طالما نوه لذات فحواه كثير من النقاد فيما يتعلق بالسينما الأمريكية، ولكنه في هذه المرة يأتي علي لسان مسئولي الوكالة الأمريكية ذاتها، عندما يعلنون صراحة: «إننا نستخدم السينما الأمريكية في الخارج»، وبما يحدده أحدهم في قوله: «من خبرتي علي مدي أربعين سنة، فإن للفيلم الأمريكي عاملاً كبيراً ومهماً في التحضير النفسي لأعمالنا المختلفة في هذه البلاد».

وفي ضوء ما نسمعه بهذا النص حول استهداف «التحضير النفسي» ـ ولابد أن المسئولين الشيوعيين أنفسهم قد سمعوه مثلنا، علي الأقل عند المشاهدة في لجنة الاختيار والتصفية لعروض المهرجان ـ كان لنا أن نتساءل حول الاحتفاء الشيوعي بوصول هذا الفيلم الأمريكي الساخن، لكن تساؤلنا ينصب علي كل من الجبهتين:

  • علي الجبهة الشيوعية: وحيث التساؤل منشؤه أن الفيلم قد تبناه الشيوعيون في لايبزج تبنياً صارخاً، رغم أن الطرف الشيوعي لابد وأنه قد فهم ولو للحظة اللعبة وما تحمله من عدم البراءة التي لا تخفي هدف الحرب النفسية فيها، من حيث إبراز أصابع المخابرات الأمريكية باعتبارها القوة الأولي والأخيرة المحركة لأحداث التاريخ المعاصر برمته، مما قد يبعث علي اليأس إزاء هذه القوة المتغلغلة حتي النخاع، وحيث تبث القناعة في الرأي العام بأنه لا فكاك من أذرعتها بحال من الأحوال.
  • علي الجبهة الأمريكية: وحيث ينشأ تساؤلنا من كون أن ثمة فيلماً بهذه الخطورة، ينظر إليه باعتباره فاضحاً لنشاط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وتاريخها، ومع ذلك فهو إنتاج أمريكي، بل والأبعد من ذلك أن الذي قام بعرضه أولاً هو التليفزيون الأمريكي نفسه، طبقاً لما صرح به مخرج الفيلم من أنه قد تم عرضه مرتين قبل وصوله إلي مهرجان لايبزج، وإن كنا نحن لا نعرف كم مرة قد عرض بأمريكا نفسها فيما بعد.

ومع كل التداعيات التي يثيرها شعار «الحرية الأمريكية»، لابد أننا راغبون هنا في استقصاء هذه التجربة المثيرة، طالما أنها تمس التعبير الجريء فيما أسماه مخرج الفيلم نفسه بعملية نمو الضمير الأمريكي، فتساؤل الاستقصاء هنا إنما ينصب علي تجربة المخرج نفسه «إنتاجاً» و«عرضاً» مع كل ملابسات الواقع الأمريكي.

التسلسل التاريخي مع تطور الوكالة:

مع لهاثنا وطوال تدرج المفاجآت في مسار الفيلم، كان يتم التضفير دائماً ما بين التسلسل المعروف عن تاريخ وقائع وأحداث العالم، وبين تطور العمل في وكالة المخابرات الأمريكية ذاتها، بدءاً من إنشائها ومروراً بالأساليب المختلفة التي يتم تطويرها لتحقيق أهدافها.

وعبر هذه الفكرة البنائية، نري الفيلم ينساب تسلسله التاريخي، وقد بدأ باستسلام اليابان في الحرب: «لقد ترك عدونا السلاح».. والحوار بالطبع من وجهة النظر الأمريكية، بينما نعرف أنه قبل ذلك ـ وكنتيجة للهجوم الياباني المفاجئ الذي أدي إلي كارثة الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر «جزر هاواي» ـ كان قد طلب الرئيس الأمريكي روزفلت من الجنرال دونافان أن ينظم أول وكالة مخابرات تجمع المعلومات في جهاز مركزي ليقوم بتصنيفها وفرزها واستخلاص حقائق ومعلومات جديدة من خلال هذه العملية، بهدف عرضها علي الحكومة الأمريكية للتحرك والعمل من خلالها، وهو الأمر الذي دعا الجنرال دونافان إلي الاستعانة في هذا الصدد بأبرز العلماء في مختلف التخصصات، كالزراعة والعلوم الطبيعية والطب وجميع فروع العلوم والفنون، بالإضافة إلي العسكريين.

أما خطوات التطوير فقد بدأت تتلاحق، وسمعنا أهمها عندما ظهر وليم كولبي «أحد الرؤساء السابقين لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الفترة من عام 1973 إلي 1976، والذي مر قبل ذلك بمختلف المناصب في الوكالة خلال ربع قرن» متحدثاً إلي الكاميرا ـ نحن، ناطقاً باعترافاته الهادئة الرزينة والمتبسطة في أدائها، ولكنها المتلاحقة المعلومات عن وقائع تاريخية رهيبة، إذ مع التبسط والرزانة تصدم أذن «النحن» كلمات عديدة من قبيل: «في زمن الحروب نقوم بالتخريب.. اشتركت في ذلك بنفسي في نهاية الحرب العالمية.. وطورنا الوكالة».. إلخ، بينما تتقدم لقطات الأرشيف السينمائي لتؤدي دورها عبر تتابع مونتاجي حول الوقائع التاريخية، دون أن تتوقف أصوات الحكي بالأسرار المصاحبة للقطات الوثائقية، وحيث يبدو واضحاً اعتماد المعالجة السينمائية ـ التي سنتحدث عنها لاحقاً ـ علي عنصري: الريبورتاج «الحديث المباشر للكاميرا» من ناحية، والأرشيف السينمائي الوثائقي من ناحية أخري.

أما الريبورتاج وحده فقد كان لب موضوعه هو الاعترافات المتلاحقة من مسئولي وكالة المخابرات الأمريكية ذاتهم، وبالحديث المباشر للكاميرا عن مولد ونشأة هذه الوكالة، وكذلك أسباب ودواعي إنشائها، ثم بعد ذلك تاريخ نموها وتطورها، وفقاً لتتابع وتلاحق الأحداث العالمية في شتي الأرض، وما كان منها ساخناً علي وجه الخصوص، هذا دون أن يكتفي الفيلم بالوقوف عند مسئول واحد، بل يبدو تلاحق وتتابع ظهور المسئولين واحداً تلو الآخر في أحاديثهم المواجهة للكاميرا «الجمهور» وكأنه التتابع التاريخي بعينه، حيث يكمل كل منهم الحلقة التالية لسابقه.

خصوصية الأسلوب الفني وميكانيزم التلقي:

إن للوثيقة هنا «مركبا فنيا خاصا»، فتوثيقية هذا الفيلم عبارة عن عملية «بحث فني» تعيد تركيب المعطيات: معطيات هذا الاعتراف المنطوق، ومعطيات الأرشيف السينمائي التقليدي المكون من الشرائط المصورة لأحداث القرن العشرين، وهي التي كانت ومازالت متوافرة لكل من يشاء استخدامها، إلا أن ما يجب التأكيد عليه هنا، أن المعلومات المتداولة من قبل والمتعارف عليها عن كل واقعة بعينها، هي التي كانت تحكم أي مستخدم لهذه المواد الأرشيفية، وما أكثر ما تم استخدامه منها سينمائياً وتليفزيونياً من قبل، بل وعبر ذات الطريقة التي عولج بها الموضوع هنا سينمائياً خلال ساعتين من عرض الفيلم، لكن الفيصل بين الحالتين إنما يكمن في الخصوصية التي تبرز عبر كل من الأسلوب وميكانيزم التلقي له.

لقد كنا عندما تأتينا الحقيقة ـ الاعتراف المنطوق علي لسان أحد مسئولي وكالة المخابرات الأمريكية نظل نحن ـ الكاميرا، أي نحن المتفرجين، لاهثين وراء الحقيقة ـ الواقع، فمثلما أن للاعتراف قوته الصدمية، فإن للتجسيد الحي أيضاً حسمه القاطع من خلال صورة الواقع الحي بحركته علي الشاشة، ونحن عندما يصدمنا الاعتراف المنطوق، نظل في حاجة إلي الحسم الذي يشبع «استمتاعنا» بالصدمة من خلال تأكيدها، الذي هو توثيقها بالتعيين، وهذا هو عين أسلوب الفيلم، أي أسلوب التضفير فيما بين قوة الاعتراف، وبين حسم التوثيق بالصورة الحية، فهو الذي يقطع في الفيلم بقوة اعتراف تومبرين مثلاً للكاميرا عندما يقول: «في سنة 1947 عندما كان هناك تهديد بسقوط الحكم في فرنسا عن طريق الأحزاب الشيوعية، قمنا بتكوين نقابة عمالية جديدة لتقف ضد هذه الأحزاب، وتمتص جماهيريتها، لتكون تابعة لتوجيهاتنا نحن».. فما في هذه الكلمات هو فقط صدمة الاعتراف حول مجريات التدخل الخفي، أما القوة التي يمنحها الفيلم للاعتراف فهي منحه الحقيقة ـ الواقع، عبر تتابع لقطات الأرشيف السينمائي المعني بما يشير إليه الاعتراف، وهي في ذاتها لقطات لا تعدو ـ من ناحية أخري ـ كونها تاريخاً مصوراً محفوظاً: لقطات لمظاهرات.. واجتماعات.. ولقاءات.. وانفجارات.. إلخ، ولكنها تأخذ الآن معني جديداً وتأثيراً جديداً في تركيبها السينمائي، في ضوء الاعترافات الجديدة.

لكن أول ما يجب التسليم به أن التأثير الخاص لهذا الفيلم، إنما قد تحقق كنتاج لإبداع «المفارقة بالمونتاج»، فما من حقيقة أو سر يجري الاعتراف به للكاميرا من أحد مسئولي المخابرات المركزية إلا وسرعان ما ينقلنا المونتاج بالقطع في هذه اللحظة المناسبة «اللحظة التي يتم اختيارها بقصدية محددة»، لعرض لقطات الأرشيف السينمائي المصور للواقعة أو الوقائع التاريخية التي يتحدث عنها الاعتراف، فإذا ما تذكرنا في لحظة الفرجة ـ وهو ما كان يحدث ـ أن نفس هذه اللقطات قد سبق عرضها مراراً وتكراراً، سواء في أفلام وثائقية، أو جرائد فيلمية في حينها، أو حتي خلال العديد من الأفلام الروائية التي تتعرض تاريخياً لمثل هذه الوقائع.. نقول إننا ما ان نستحضر مثل هذه الحقيقة البسيطة، حتي نقع في المفارقة المذهلة بين ما نعلمه وما صرنا الآن نعلمه، وما هذا إلا دور خاص بالصياغة السينمائية في هذا الفيلم، انظر مثلاً عندما يسترسل صوت المتحدث الذي يلقي باعترافه، مستمراً ـ هذا الصوت ـ علي لقطات الواقعة التاريخية المعروضة من الأرشيف الوثائقي السينمائي، إن هذا الصوت في هذه المرة من العرض إنما يأتي وقد أضفي ضوء الحقيقة الجديدة علي نفس لقطات الوقائع المعروفة سلفاً في ظل مفاهيم طال اختزانها، وطال اجترارها، وهكذا يتلقي عقل المشاهد هذا الضوء الجديد باعتباره الضوء الحقيقي، وكأن ما سبق اختزانه لم يكن أضواءً ولكنه كان إظلاماً.

خصوصية الرؤية في قصدية المونتاج:

وبالرغم من البنية التأريخية، فإن تتابع الفيلم لا يحكمه مجرد مبدأ السرد التاريخي، وإنما رؤية الفنان المخرج صانع الفيلم، والذي تبدو قصديته الواضحة في تحديد لحظة «القطع» من اعتراف إلي التالي، ثم لحظة القطع للعودة إلي اعترافات الأول.. وهكذا، ربما بغرض إتاحة الفرصة للمقارنة المقصودة، إذ قد يجيء قطع في لحظة بعينها لكشف تناقض معين، أو لكشف ما يمكن اعتباره «كذبة» مثلاً، أو لإلقاء الضوء الحقيقي علي أسرار أحد الأحداث العالمية الشهيرة، بل والأبعد من ذلك هو قصدية الإيحاء الذي يساوي تصريحاً بما لا تنطق به الاعترافات المباشرة، من خلال إعادة تركيب الاعترافات في علاقة جديدة باللقطات ليوحي المركب الفني بما لم يتم التصريح به. فهذا هو كولبي مثلاً تتم العودة إليه متحدثاً للكاميرا ـ نحن، بأن الوكالة قد تم تكوينها حتي نجمع «والحديث لكولبي» الأخبار السرية، وحتي نتعرف علي أشخاص ذوي أهمية، وكل ذلك بهدف واحد هو المحافظة علي الأنظمة التي نريد لها البقاء.. كما تعمل الوكالة علي إفناء أي جماعة أو مجموعة تخدش أو تهدد مثل هذه الأنظمة ـ وهنا يتم الانتقال بالأرشيف الوثائقي السينمائي الحي إلي إيطاليا والبابا ينادي الشعب بعدم انتخاب الشيوعيين، وهي الانتقالة التي لا يمكن إنكار خطورة مغزاها الإيحائي، الذي يساوي تصريحاً غير معلن، ولكنه فقط ناتج عن هذا الربط الذي يلعب دوره سحر المونتاج السينمائي وفقاً لقصدية المخرج وحده.

كذلك وعندما ينقلنا هذا المونتاج إلي وثائق الأرشيف المصورة للرئيس الأمريكي ترومان معلناً: «سياستنا الحرية»، فإنه باستخدام المفارقة المونتاجية يتم الانتقال إلي لقطات أرشيفية أيضاً، ولكن لمؤتمر أوروبا حول اقتراح مارشال بأوروبا موحدة، بينما تضفر هذه اللقطات مع اعترافات أحد مسئولي الوكالة وهو فيليب ريجيم متحدثاً حول أن أمريكا قد نجحت في أوروبا، لأنها كانت ترفع الشعارات ضد الفاشية، كما أنه قد تم تكوين وكالة المخابرات الأمريكية لنمنع «والحديث لفيليب ريجيم» المنظمات السرية من تخريب اقتراح مارشال بأوروبا موحدة. ومن ثم فهي الانتقالات والتضفيرات السينمائية التي تتوج ما سبقها من تكثيف للمعلومات، بتصريح إيحائي مفاده التأكيد علي أن هذا الاقتراح هو مشروع أمريكي في الأساس، وأن الذي كان يتحرك وراءه هو أهداف وكالة المخابرات الأمريكية.

وهكذا نجد أنه برغم وجود تعقيبات ووجهات نظر وآراء أخري مسجلة بالفيلم، في مقابل أحاديث مسئولي الوكالة، بالإضافة إلي ما كان يتم من الرجوع أحياناً إلي وجهات نظر تاريخية معلنة سابقاً حول أي من الموضوعات التي يتناولونها، فقد كانت وجهة نظر المخرج وحده هي صاحبة الأثر ـ التصريح النهائي، إذ هو الذي يبدع علاقات المركب الفني بين كل هذه التقابلات المونتاجية، سواء تلك التقابلات بين المتناقضات حيناً، أو بربط التوافقات حيناً آخر، كأن يلجأ إلي الاستمراريات التكاملية للأحاديث المتتالية بأكثر من شخص زعيم أو قائد أو مواطن، عبر اللقطات لكل منهم في أكثر من مكان، ولكنها في تتابعها تبرزهم وكأنهم صوت واحد يقول بنفس الفكرة أو المفهوم الذي يتم ترديده حول موضوع تاريخي بعينه.. ثم إذا بالقطع إلي لقطة اعتراف المسئول الأمريكي، سواء لتفجير مباشر لسر، أو للإيحاء عبر هذا القطع بذلك السر، بما من شأنه أن يصدم أو يهدم كل ما قيل وأشيع وسبق بثه، أو علي الأقل فإنه يحسم شكوكاً طال أمدها، وبما يجعله انقلاباً لا يتأتي بمجرد «الشرح» الصوتي المصاحب للقطات الوقائع، أي بما يتطابق مع ما يعلنه فرانكوفيتش نفسه: «لقد أحثتنا الطبيعة التنويرية المستهدفة من الفيلم لأن نتخلي عن التعليق الطويل، ومن ثم فإن الاعترافات المباشرة من رجال الوكالة هي التي أصبحت مسيطرة، حتي غدت لقطات الأرشيف وثائق لا يمكن لأحد إنكارها».

جريدة القاهرة في

25.05.2004

 
 

فيلم عن هجمات سبتمبر يثير جدلا بالولايات المتحدة

أثار الفيلم التسجيلي "911 فهرنهايت" (Fahrenheit 911) للمخرج والمنتج الأميركي المثير للجدل مايكل مور أزمة بين شركات هوليود بسبب الأسئلة التي يحاول الفيلم الإجابة عليها والمتعلقة بملابسات أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001.

وأوضح مور أن الفيلم يسعى بالأساس لفهم ما يجري في الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر/أيلول، وكيف استغلت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش هذا الحدث المأساوي لتطبيق أجندتها السياسية.

وأضاف مور -في رسالة بعث بها إلى معجبيه ونشرها على موقعه على الإنترنت- أن "الفيلم يبحث العلاقة بين بوش وزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن, كما أنه يثير العديد من التساؤلات التي لم أجد لها حلا إلى حد الآن, ولكنني عازم على اكتشاف ذلك".

وقالت صحيفة ديلي فارايتي التي تصدر في هوليود إن شركة والت ديزني منعت شركة ميراماكس التابعة لها من توزيع الفيلم. ومن المتوقع أن يثير قرار ديزني أعنف معركة قضائية حتى الآن بين الرئيس المناوب في ميراماكس هارفي وينشتاين وبين رئيس ديزني مايكل إيسنر الذي أشرف على شراء ميراماكس قبل عشرة أعوام.

ومن المخطط أن يعرض "911 فهرنهايت" في مهرجان كان السينمائي في فرنسا الأسبوع المقبل, بعد أن رشحته اللجنة المنظمة ضمن أفلام المنافسة الرسمية الـ 18.

وتردد أن الفيلم سيعرض في أميركا الشمالية في يوليو/تموز المقبل, غير أن الصحيفة قالت إن الفيلم لم يظهر على جدول ميراماكس لعروض الصيف, مما يثير مخاوف من منع عرضه في الولايات المتحدة.

وحصل مور -الذي عادة ما تثير أفلامه غضب المسؤولين الأميركيين- على جائزة أكاديمية العلوم والفنون السينمائية (أوسكار) عام 2002 عن فيلمه الوثائقي "مباراة بولينغ لأهالي كولمباين" (Bowling for Columbine).

وحصل ذات الفيلم، الذي يبحث أسباب تكالب الشعب على شراء السلاح وارتفاع معدلات الجريمة بين الشباب وانتشار ثقافة القتل بين الأميركيين، على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان السينمائي الدولي الـ 55 عام 2002، وجائزة سيزار الفرنسية لأفضل فيلم أجنبي.

المصدر : وكالات

الجزيرة نت في

05.05.2004

 
 

هكذا تكلم مايكل:

الرأسمالية حينما تربح أموالاً بفضل أفلامي

في العادة يحب مايكل مور ان يصرخ بالكلمات الكبيرة والشعارات الرنانة, من تلك التي يمكن لنا ان نسميها "صحيحة وصائبة سياسياً" من وجهة نظر متمردة, و"ساذجة وديماغوجية" من وجهة نظر السلطات التي يهاجمها. وفي الحقيقة ان هذا النوع من العبارات يقوله مايكل مور غالباً للاستهلاك الشعبي. اما حينما يكون مندمجاً في حديث صحافي او في تصريحات لهيئات يرى انها اكثر ذكاء من الجمهور العادي, فإنه يبدي قدرة فائقة على شحذ كلامه, وإضفاء طابع عقلاني وواعي على العبارات نفسها. ولكن اذ تقال في شكل أقل ديماغوجية وأكثر تعقيداً... وهنا بعض عباراته.

·         طالما ان الرأسماليين قادرون على جني أرباح مالية بفضلي, فإن الرسالة التي أضعها في أفلامي لا تشغل بالهم على الاطلاق. وهذا عيب الرأسمالية في اعتقادي.

·         منذ حققت فيلمي "روجر وأنا" في العام 1989, التقي غالباً, في الطريق أشخاصاً يريدون ان يدعوني الى قدح بيرة او الى سندويتش هامبرغر, مستفيدين من المناسبة لكي يرووا لي حكاية انهيار حلمهم الأميركي (...). والحقيقة ان كل الحكايات, هنا, تتشابه مع بعض التنويعات التي تتعلق مثلاً بأخ دفعه طرده من العمل الى الانتحار, او بأم فقدت كل مدخراتها بسبب افلاس صندوق المعونات. لقد سمعت من هذه الحكايات, تكراراً, مما يجعلني قادراً حتى على اكمال الجمل التي تقال امامي. وأنا, اذا كنت اصغي الى الحكايات التي يرويها لي كل هـؤلاء النـاس, فذلك لكي أتـفـادى الوقـوع في يـأس اشد مرارة.

·         ان عدداً كبيراً من الشخصيات التي كانت ملتزمة سياسياً في سنوات الستين, صارت جزءاً من عالم الأعمال في أيامنا هذه... وحتى هارفي فنشتاين من شركة "ميراماكس" (منتجو وموزعو فيلمه الجديد) هو شخص تقدمي... وهو صاحب أفكار سياسية معلنة ويبدي رغبة كبيرة في حدوث تغيير في هذا البلد.

·         لقد بدأنا العمل على فيلم "فهرنهايت 11/9" قبل اندلاع الحرب في العراق... وحينما اندلعت هذه الحرب اتخذ الفيلم ابعاداً جديدة له... ومن هنا فإن الفيلم هو مزيج من الحديث عن العلاقات بين آل بن لادن وجورج بوش, والطريقة التي أثرت بها تلك العلاقة في الحرب على الارهاب من ناحية والحرب على العراق من ناحية ثانية.

·         ان فكرة هذا الفيلم تطورت لديّ كما تتطور عادة كل افكار افلامي السابقة: فالفيلم يبدأ لدي بفكرة ما أو بإرهاص معين... ومنذ ذلك اعطي الفكرة متسعاً من الافكار الثانوية والابعاد, لكي أقرر في اي اتجاه عليّ أن أسير. وفي حال "فهرنهايت 11/9" بدأت بالتساؤل مستغرباً حول واقع نعرفه جميعاً: إبان تدمير البرجين كانت أسرة بن لادن موجودة في الولايات المتحدة, وعلى الفور قدم البيت الأبيض لمسؤولي الأسر كل عون لكي يتم تجميع افرادها وتسفيرهم الى خارج البلاد.

·         ان فيلمي يمضي جل وقته وهو يطرح اسئلة أكثر مما يحاول العثور على اجوبة بالضرورة, لكنه - أي الفيلم - سرعان ما يطلب من المتفرجين ان ينضموا اليه فكرياً ويحاولوا تصور ما يمكن ان تكون عليه الاجوبة. ونحن حينما جربنا عرض الفيلم أمام جمهور محدود في ميدويست, لاحظنا كيف ان الناس تحركوا في شكل عميق جداً, تاركين الصالة وهم يفكرون في مسؤوليتهم الشخصية, وضرورة ان يتحركوا ويتصرفوا كمواطنين متحدين في أمة ديموقراطية.

جريدة الحياة في

28.05.2004

 
 

مايكل مور

شعبوية مدهشة تشغل مكاناً ما بين كولوش ولوبان

إبراهيم العريس

"هالو... مستر بريزيدانت... اسمي مايكل مور..."

"آه... انت مايكل مور؟ لماذا لا تبحث لنفسك عن مهنة حقيقية".

هاتان العبارتان تردان في احد اطرف مشاهد فيلم "فهرنهايت 11/9" الذي فاز بالسعفة الذهبية في الدورة الاخيرة لمهرجان "كان" السينمائي. وهما عبارتان متبادلتان, كما يمكننا ان نفهم منهما, بين الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش, والسينمائي/ الكاتب مايكل مور صاحب الفيلم. وهما بدتا من القوة والصدق الى درجة ان في الوقت الذي كان متوقعاً فيه, منذ ايام ان يفوز "فهرنهايت 11/9" بالجائزة الاسمى في هذا المهرجان الفرنسي العريق والحافل بالبعد النجومي عادة, كان يتندر البعض بتوقع ان تعطى جائزة التمثيل الرجالي مناصفة, في المهرجان نفسه, بين بوش ومور. العدوان اللدودان. فالحقيقة ان على رغم وجود عشرات النجوم الكبار في "كان", من تشارليز ثورون الى ايمانويل بيار, ومن براد بيت الى توم هانكس... سيطرت نجومية بوش/ مور, على المهرجان منذ ايامه الاولى. وهذا ما عزز القول إن دورة هذا العام من "كان" بدت الاكثر سياسية - بل حتى ايديولوجية - منذ اولى دورات هذا المهرجان الذي يقام مرة في كل عام منذ ستة عقود من السنين تقريباً.

لجنة التحكيم, على لسان رئيسها المخرج كوينتن تارانتينو, قالت في مؤتمر صحافي عقد غداة اعلان النتائج, ان هذه لم تكن سياسية على الاطلاق. ولم يقتنع طبعاً بحججها احد. فأن يفضل "فهرنهايت 11/9" على افلام عالية الجودة الفنية, وحتى متميزة في مضامينها الانسانية او السياسية او الابداعية - الى اي نوع انتمت - مثل "الحياة معجزة" و"2046" و"يوميات سائق دراجة" بين اعمال اثارت اعجاب النقاد والجمهور على السواء, امر لا يمكنه ان يمر مرور الكرام.

صحيح ان "فهرنهايت 11/9" عمل متميز فنياً, وصنع بذكاء شديد في توليف حفظ جيداً دروس ايزنشتاين. لكن هذا لا يصنع منه بالطبع تحفة فنية. وفي يقيننا ان لو كان اسم مخرجه اي اسم آخر غير مايكل مور, لما كان اهتم به احد مثل هذا الاهتمام. ولو كان الفيلم موجهاً, في معركته السياسية, ضد شخص آخر غير جورج بوش لكان مر مرور الكرام. لكن الفيلم أفاد من تعاطف مسبق مع مايكل مور, كما من حال اجماع عالمي ضد جورج بوش الابن, لكي يضرب ضربته.

راحة لضميرهم

ومايكل مور اعتاد دائماً ان "يضرب ضربته" في اللحظة المناسبة فهو, بوزنه الذي يزيد كثيراً على مئة وثلاثين كيلوغراماً, وسحنته القريبة من سحنة "بابا نويل" وبخفة حركته التي تتناقض تماماً مع وزنه, لا يكف, منذ نحو عشرين سنة عن المشاكسة, في الساحة السياسية الاميركية. وحتى إن كان كثر يرون انه, في نهاية الامر ليس اكثر من مهرج ذكي, ومناضل شعبوي, يعرف ماذا يرفض لكنه لا يعرف ابداً ماذا يريد, فإنه هو - بفضل هذه الشعبوية التي تضعه في مكان ما, ايديولوجياً, بين المهرج الفرنسي الراحل كولوش, وبين اليميني الفرنسي المتطرف جان - ماري لوبان - تمكن من ان يوجد لنفسه مكانة, غامضة بعض الشيء على اي حال, في الساحة السياسية الاميركية... ولكن ليس, في الساحة الفنية, حتى وان كان كثر من الفنانين الاميركيين يستظرفونه ويرون انه يعبر عنهم جميعاً. فهو, يقول "بصوت عال عادة ما لا يرغب كثر في قوله إلا بصوت منخفض". ومن هنا يأتي تأييد بعض النخب الاميركية له, كنوع من راحة ضمير لهذه النخب, خصوصاً انه في افلامه الستة التي حققها حتى الان, كما في كتبه الكثيرة التي تلقى رواجاً كبيراً عادة, يطاول مسائل في عمق الايديولوجية الاميركية: حرية المؤسسات في صرف عمالها كما تشاء (في فيلم "روجر وأنا") تجارة السلاح كسبب مباشر لانتشار الجريمة في الولايات المتحدة (كما في "باولنغ من اجل كولومباين") والحرب على العراق (في فيلمه الاخير).

وازاء راحة الضمير هذه, التي تشعرهم بها افلام مور, يغفر كثر من اهل النخبة الاميركية لهذا المشاكس ان يوحي مثلاً, في فيلمه الاخير, بأن العراق, قبل ضربة بوش, كان جنة الله على ارضه: الشعب أنيق وسعيد, الاعراس والحدائق في كل مكان. والعدالة ترفرف... وهذه فكرة من الصعب ان نجد من يشاطرها مور, اذا استثنينا اليميني الفاشي الفرنسي جان ماري لوبان, وغلاة الصداميين العرب, من قوميين وناصريين واسلاميين. لكنها في "فهرنهايت 11/9" تمر هكذا وكأنها امر مسلم به. وكذلك الحال بالنسبة الى العنصرية الساذجة التي يتحدث بها الفيلم عن بعض الدول الثانوية التي تساند بوش في معركته العراقية (هندوراس والمغرب...) كل هذا يضع مايكل مور في خانة ديماغوجية واضحة, لكن اهل "كان" شاءوا غض النظر عنها اذ اعتبروا ان النضال ضد جورج بوش له الافضلية على مثل تلك التفاصيل الصغيرة.

أسرار معروفة

ويقينا ان هذا الامر كان في ذهن مايكل مور, حينما وقف, اثر العرض الجماهيري الاول لـ"فهرنهايت 11/9" يتلقى بسرور بالغ تصفيق الحضور طوال ثلث ساعة (وهو امر لم يحدث كثيراً في تاريخ مهرجان "كان")... إذ كان, كلما خف التصفيق يصرخ "بوش... خارجاً" مذكراً بما كان فعله قبل عام ونيف, حينما نال جائزة اوسكار افضل مخرج فوقف خطيباً وهو يصرخ "عار عليك يا سيد بوش".

ان هذا كله كان واضحاً: مايكل مور يعتبر ان معركته ضد جورج بوش معركة شخصية. ويعرف يقيناً ان معركته ضد جورج بوش قادرة على ان تخلق من حوله مناصرين كثراً. وازاء هذا هل يهم حقاً, ان يكون كل ما في فيلمه الجديد قديماً معروفاً من قبل, وبخاصة حينما يتحدث باسهاب عما يسميه العلاقات المالية - وربما العائلية - التي تربط بين بوش الاب والابن, من ناحية, وأسرة محمد بن لادن (والد أسامة بن لادن) من ناحية ثانية؟ وأيضاً حين يقدم مرافعة سياسية - تستند حقاً الى سذاجة الرئيس الاميركي جورج بوش - تتعلق بخلفيات الحرب العراقية؟ او حينما يتحدث الى سيدة تبدي اول الامر حماسة كبيرة لحرب يشارك فيها ابنها, ثم حين يقتل هذا الابن في الحرب تنتفض ضد سياسة جورج دبليو؟

ان هذا كله معروف... بل ان مايكل مور نفسه سبق ان استخدمه, نصاً في كتابه الصادر قبل شهور عن الحرب العراقية وعن تدمير الارهابيين لبرجي مركز التجارة العالمي, وعنوانه "داد... أين هو بلدي؟" الذي ترجم الى الفرنسية تحت عنوان "الكل الى الملجأ"... ومع هذا, على رغم ان "فهرنهايت 11/9" لا يحمل اي جديد وأتى خالياً من اي مفاجأة... بل انه لم يلتزم بـ" الوعود التي كانت مقطوعة" بقول أمور مذهلة حول عملية البرجين كما حول العراق وأسلحة الدمار الشامل وغيرها من المسائل المطروحة على الصعيد العالمي, منذ سنتين وأكثر, فإنه في نهاية الامر فيلم مشغول بذكاء... اذ انه يولف مشاهد صورها مور بنفسه, جنباً الى جنب مع صور (نادرة) للمعارك وضحاياها, ويستجوب العديد من الاشخاص المعنيين, ويستعين بلقطات رائعة للرئيس جورج بوش. ومنها ذلك المشهد الذي لا ينسى للرئيس الاميركي وهو يقنع طلاباً صغاراً بفائدة القراءة, حينما يأتيه نبأ تدمير البرجين فيصمت طوال دقائق ويبدو على وجهه بله استثنائي, قبل ان يستأنف حديثه عن القراءة.

كل هذا عرف الفيلم كيف يولفه بشكل جيد, ليصل في مشهد نهائي "يمثل" فيه مايكل مور بنفسه, الى الدوران من حول مجلس النواب الاميركي سائلاً هؤلاء عما اذا كانوا يرغبون في ارسال اولادهم ليحاربوا في العراق, قائلاً لهم إن معلوماته تشير الى ان سيناتوراً واحداً من بين المئات ارسل ابنه ليشارك في الحرب هناك.

لحساب من يعمل؟

أمام فيلم من هذا النوع, وفيه توليف جيد - حتى وان لم يكن جديداً - لما يتناقله العالم كله طوال الشهور الاخيرة من حول ما يحدث في هذا العالم, هل كان في الامكان البحث عن فيلم اكثر شعبوية من "فهرنهايت 11/9" لمنحه سعفة كان الذهبية؟

"في اللحظات الحرجة والمصيرية ليس ثمة وقت للجماليات". قالها مرة احد الحزبيين الكبار. ومايكل مور يبدو دائماً راغباً في اتباع هذا القول, مثل كل المناضلين الذين يعيشون ويبدعون وسط الازمات وبفضلها. ومن حظ مايكل مور ان العالم لم يكف عن عيش ازمات العنف والارهاب والعولمة والبطالة, منذ تفتح وعيه الخاص على هذا العالم. ومن هنا لا يعود غريباً لشاب اميركي ولد العام 1954, وعاش اولى لحظات وعيه خلال سنوات السبعين. وكان منذ صباه مشاكساً معادياً لأي سلطة, قادراً وبسرعة عجيبة على شخصنة كل صراع يخوضه ("أما أنا... او هم" يقولها دائماً وهو في اوج صراعه مع سلطة معينة), لا يعود غريباً عليه ان يبدأ "نضاله" بفيلم رائع عن جنرال موتورز وطردها للعمال تعسفياً (روجر وأنا" - 1989)... وهي المعركة نفسها التي يتابعها في "الواحد الكبير" (1998)... وبين الفيلمين كان حقق في العام 1995 فيلمه الروائي الطويل الوحيد "بيكون كندي" يتخيل فيه ان مؤشرات شعبية رئيس اميركي قد هبطت فوجد لزاماً عليه ان يفتعل حرباً تؤلب الامة من حوله وترفع شعبيته, فيعلن حرباً ضد... كندا. ومور كان, في الوقت نفسه الذي يحقق فيه هذه الافلام التي حققت في حينه نجاحات متفاوتة انما لم توصل سمعته الى العالم, يصدر كتباً تلقى رواجاً كبيراً, لعل اشهرها "رجال بيض حمقى", الذي باع ملايين النسخ وأوصل صوته وسمعته الى العالم اجمع. اما كسينمائي فلقد كان عليه ان ينتظر العام 2002 وعرض فيلم "باولنغ من اجمل كولومباين" وجائزة كبرى نالها في دورة ذلك العام لمهرجان "كان" ثم فوزه بالأوسكار, حتى يصبح اسمه على كل لسان, بخاصة انه ثنى على ذلك بصراخه ضد جورج دبليو وجملته الشهيرة حول "عار" هذا الاخير.

اليوم يبدو مايكل مور, خارج الولايات المتحدة على الاقل, قيمة ثابتة ومتعاظمة. شعبوية ونضالية ولكن تجارية ايضاً... ومن المؤكد ان هذه السمعة الخارجية ستنعكس على وضعه في داخل الولايات المتحدة, بخاصة ان فيلمه ""فهرنهايت 11/9" سيعرض خلال اسابيع, بعد شائعات عدة رافقت امكان هذا العرض ويبدو انها مرتبة تماماً ضمن اطار حملة الدعاية المنظمة للفيلم. ومنذ الآن يقول كثر ان الفيلم سيستخدم جيداً في المعركة الانتخابية ضد جورج بوش الابن.

فهل معنى هذا انه سيعود بالفائدة على مرشح الحزب الديمقراطي؟ من الناحية المبدئية نعم... وهذا ما يجعل كثراً يرون ان مايكل مور, الذي يبدو ظاهرياً, زئبقي التوجه, انما يعمل في الحقيقة لحساب الديموقراطيين. ومع هذا فإن هؤلاء لا يكفون عن ابداء الحذر تجاهه... وهو الحذر نفسه الذي تبديه ازاء مايكل مور وكتبه وأفلامه, نخبة المفكرين الليبراليين واليساريين الاميركيين, من الذين يرون ان شعبويته قد تضر بهم وبمعاركهم العقلانية, بمقدار ما تضر بجورج بوش على المدى القصير. ترى أليس موقفاً من هذا النوع كان ذاك الذي عبر عنه مفكرون فرنسيون قبل عقود, وابان الظهور الشعبوي الكبير لجان - ماري لوبان واكتساحه عقل الناخبين الفرنسيين, تجاه لوبان؟

سؤال طرح بقوة وصار محل سجال منذ سنتين. ولكن من الواضح ان مايكل مور ليس من النوع الذي قد يبالي بمثل هذا النوع من الاسئلة.

جريدة الحياة في

28.05.2004

 
 

من "فهرنهايت 11/9" الى "سيدة القصر":

عندما تصبح الكرة في أيدي السينمائيين الحقيقيين

إبراهيم العريس

·         الخبر الأول: فيلم مايكل مور الجديد "فهرنهايت 11/9" يفوز بالجائزة الاسمى "السعفة الذهبية" في المسابقة الرسمية للدورة 57 لمهرجان "كان" السينمائي الدولي.

·         الخبر الثاني: في المهرجان نفسه, وفي هذه التظاهرة الاساسية, كما في غيرها من التظاهرات الموازية, عرضت افلام عدة تبتعد عن السينما الروائية قليلاً, وكثيراً في بعض الاحيان, مثل فيلم "سلفادور اللندي" للشيلي غوزمان, وفيلم "موسيقانا" لجان - لوك غودار.

·         الخبر الثالث: فيلم "سيدة القصر" للسينمائي اللبناني سمير حبشي, عرض في الصالات التجارية, ولا يزال معروضاً في بعضها حتى الآن, وحضره ألوف المتفرجين. الفيلم من انتاج ماريان خوري وهو يأتي ضمن اطار مشروعها عن نساء عربيات متميزات, الذي كانت هي حققت ضمنه فيلمها "عاشقات السينما".

ما الذي يجمع بين هذه الأخبار الثلاثة اضافة الى كونها حديثة جداً؟ ببساطة كون الافلام التي تتحدث عنها, أفلاماً وثائقية (أو تسجيلية اذا شئتم) من ذلك النوع الذي كان يكاد يكون مرذولاً من الصالات ومن قبل الجمهور العريض حتى سنوات قليلة. وايضاً من ذلك النوع الذي كان "الحكم المبرم" قد صدر لعقود طويلة من السنين في حقه بأنه لا يصلح إلا لشاشات التلفزة, وإلا لعروض الفن والتجربة. وكان هذا الحكم دائماً هو لسان حال الموزعين والمنتجين, حين يستنكف هؤلاء عن انتاج عمل, ويستنكف أولئك عن ايصاله الى صالاتهم او الى صالات غيرهم.

اليوم, وعلى ضوء هذه الاخبار الثلاثة, يبدو ان الامور تبدلت وربما في صورة جذرية. يبدو ان هذا النوع من السينما قد وجد مكانه وجمهوره وصار له نجومه ايضاً. وهم نجوم لا علاقة لهم, لا من قريب ولا من بعيد, بنجوم هوليوود او القاهرة او بومباي المتلألئة في عالم الحكايات المخملية. فهل علينا ان نذكر هنا بأن هذا الواقع الجديد انما فيه اعادة اعتبار لجذور فن السينما نفسه, كما صاغه وحققه مؤسسوه الحقيقيون من توماس اديسون الاميركي, الى الاخوين لوميار الفرنسيين؟

ربما لا تكون الامور على مثل هذه الشاكلة بالنسبة الى رواد التقنيات السينمائية هؤلاء, طالما ان آمالهم الأولى كانت كلها تسجيلية بحتة تصور ما يحدث امام الكاميرا من دون اي تدخل ابداعي. لكن الامور ستبدو على هذه الشاكلة ان نحن توجهنا صوب رواد ومغامرين آخرين من طينة روبرت فلاهرتي في (صاحب "تابو" و"نانوك الشمال") او كبار الوثائقيين السوفيات من دزيغا فرتوف الى ميخائيل روم مروراً بايزنشتاين. "لتحيا المكسيك"... وصولاً الى غريرسون الانكليزي - الكندي, فجوريس ايفانز, الهولندي, وكريس ماركر والفرنسي جان روش... ونحن, حينما نذكر هذه الاسماء هنا, وكلها اسماء لرواد رحلوا - وكان جان روش آخرهم رحيلاً حتى الآن -, فإننا نذكر في الواقع بعض اولئك المثابرين المغامرين الذين آمنوا دائماً بأن سينما الحقيقة, السينما التي تصورالحياة كما هي, هي السينما الأفضل والأبقى... حتى وإن كانت هذه السينما نفسها قد خدمت الفاشيات, ولا سيما على يد الالمانية ليني ريفنشتهال وامثالها, التي لا بد سنلاحظ ذلك التعاون بين عبقرية خطابها الفني وفجاجة خطابها السياسي النازي.

لقد عاش هؤلاء وماتوا... ثم ورثهم غيرهم وحلم كل واحد منهم ان تصل صوره الى الجماهير العريضة. ونحن نعرف ان هذا نادراً ما حدث. وان الغالبية العظمى من اعمال هؤلاء, على رغم تزيينها, اليوم للموسوعات العالمية, ولكتب المتخصصين, وللدراسات التاريخية, لم تبرح ابداً هوامش المهرجانات وصالات النخب المثقفة, واحياناً مراكز الدراسات الجامعية - بالنسبة الى افلام غلب عليها دائماً البعد الانثروبولوجي -. وحتى على شاشة التلفزة, ظلت الافلام الوثائقية الابنة المظلومة (سندريلا الشاشة الحقيقية). ولكن لأن السندريلا في الحكاية نهاية سعيدة... كان لا بد من ان يفيق أميرها على وجودها ذات يوم. وحتى ولو كان الأمير ذا سحنة وشكل يذكران بـ"الوحش" في حكاية "جميلة والوحش"... ولكن قبل ان ينقلب اميراً حقيقياً. وهذا الأمير - مهما كابرنا - يحمل الآن اسماً: مايكل مور.

طبعاً ليس مور في عبقرية جان - لوك غودار, ولا له تقنيات وعبقرية صاحب "لتحيا المكسيك" ولا حساسية جان روش او ريمون دي باردون, او موهبة جويس ايفانز وكريس ماركر. لكنه - على الأقل - في شطارة اي تاجر من ابناء المدن. و من هنا اذا كان قد حقق فيلمه الاول بدولارات قليلة, فإنه عاد وباعه بأربعة ملايين دولار ليجني الذين اشتروه 25 مليون دولار ارباحاً. كان اسم الفيلم "روجر وأنا"... وكان ذلك في العام 1989. صحيح انه لم يكن اول فيلم وثائقي يحقق نجاحاً جماهيرياًَ... ولكنه كان الاول الذي وصل نجاحه الى هذا المستوى. ولعل ما ساعده ان الجمهور العريض - بعض الشيء - كان في تلك السنوات بالذات (أواخر الثمانينات) قد بدأ يعيد النظر في وعيه السياسي العام كما في نظام النجوم - الذي كان ولا يزال يشكل الركيزة الاساسية للسينما الجماهيرية - وكذلك كان بدأ يعيد النظر في علاقة الفن في الواقع الحقيقي و بالحياة التي نعيش. وكانت الهموم الحقيقية - مع اسقاط العولمة الطبقات الوسطى في مجتمعات العالم الرئيسة - بدأت تتحول من نطاق النظرية الى نطاق الحياة المعيوشة, ومن نطاق الخوف من المستقبل, الى نطاق الرعب امام الحاضر. وهكذا, وربما على ضوء وعي جديد كان لا بد للتلفزة من ان تنتهي بخلقه, راحت افلام الواقع المباشر (المسماة وثائقية او تسجيلية), تفرض حضورها وتلقى رواجاً.

واذا كانت سعفة "كان" الذهبية, تعتبر اليوم ذروة هذا الرواج في السينما العالمية, من ناحية مخاطبة الجماهير العريضة في فيلم له ما له وعليه وما عليه, فإن عرض "موسيقانا" لجان - لوك غودار, في مسابقة "كان" (وإن خارج المسابقة لحسن الحظ) اتى ليكرس الظاهرة: ظاهرة ان الفن الكبير يمكنه بدوره ان يجد مكانه حتى وإن كان مغرقاً في فنيته او ذكائه, وتجد بالتالي جمهوره.

ومن كل هذا يمكننا ان ننطلق الى واقع جديد, في مجال الصورة, يقول لنا ان المهم في الامر كله ان الفوارق تزداد اختفاء, بين ما هو روائي وما هو وثائقي, وربما ايضاً ما هو اصلاً للنخبة وما هو للجمهور العريض, وما هو - بالتالي - للتلفزة وما هو للسينما في العالم (و"كان" ونجاحات مايكل مور شاهد على هذا) ولكن عندنا هنا ايضاً (والألوف الذين قصدوا "سيدة القصر" ليشاهدوه, شهود على ذلك بدورهم)... ويقيناً ان هذا الواقع القديم - الجديد, والذي كانت سبقت الاشارة اليه مرات عدة, في كل مرة طلع فيها عمل يلغي الفوارق (اعمال في مصر مثلاً), يحقق احلاماً قديمة لأولئك الرواد الذين كان همهم وحدة فن الصورة, كما يحقق احلاماً لمجددين لا يكفون عن المناداة بالتقاط الفنانين السينمائيين الحقيقيين الكرة, في مزج خلاق بين السينما والتلفزة, والوثائقي والخيالي والواقعي والمنتمي الى الحلم... ليحققوا افلاماً سيكون رائدهم فيها هنا جان - لوك غودار, بالتأكيد, اكثر من مايكل مور.  

جريدة الحياة في

28.05.2004

 
 

مـايـكـل مـــور رئـيــســاً أمــيـركــيـاً فـي... فـرنـسا

فرح جبر

يبدو ان المخرج السينمائي الاميركي مايكل مور لا يترك مهرجانا الا يثير فيه الجدل، سواء بآرائه أو بأفلامه او حتى بكتبه. صار في تحركاته شبيها الى حد ما بتحركات الفلاح الفرنسي جوزف بوفيه، بل ان مواقفه لها صداها في العالم اكثر من القمة العربية. قبل ايام فاجأنا مهرجان كانّ بأن قرر منحه الجائزة السينمائية الارفع شأنا في مهرجانات السينما العالمية، تكريماً لفيلمه "9/11 فهرنهايت" الذي يتخذ من الرئيس جورج بوش "بطلاً" له.

مايكل مور صوت ثقافي وسينمائي واخلاقي بالغ الخصوصية، اذ يمتاز بجرأته ودعابته وفطنته في تناول الامور. في كل مرة يسدد ويصيب هدفه. فمنذ فيلمه الوثائقي "بولينغ من اجل كولومباين" الذي اثار ضجة، الى كتابه "الرجال البيض الاغبياء" راح مور يحتل الواجهة، وقد كلل اختباراته بفيلمه   "9/11فهرنهايت" الذي حاز بسببه "السعفة الذهب" في مهرجان كانّ. ينتقد الفيلم سياسات الرئيس الاميركي جورج بوش، بما تضمنه من اماطة اللثام عن صلات مزعومة لبوش بعائلات سعودية بارزة، بينها عائلة ابن لادن.

فيلم مور هو اول فيلم تسجيلي يحصل على الجائزة منذ "عالم الصمت" لجاك ايف كوستو والمخرج لوي مال الذي حاز الجائزة نفسها عام .1956 ثمة اختلاف جوهري بين الفيلمين. فالاول يطلق غواصة الاعماق "كاليبسو" في باطن البحر الابيض المتوسط والبحر الاحمر وبحر العرب والمحيط الهندي، في حين ان شريط مور يطلق العنان للكاميرا كي تغوص عميقا في قلب ظلمات آل بوش. الفرق شاشع ايضا بين المعركة الشرسة التي يلتقط الفيلم الاول صوّرها بين اسماك القرش وكائنات المحيطات المسالمة، وجرائم الحرب التي ارتكبها بوش ضد الافغان ويرتكبها ضد العراقيين.

مايكل مور نجم مثير ومعارض وداعية اول ضد السياسة البوشية. سينمائي محترف، يقدم السينما العابقة باليسارية والانسانوية والرسالية، والحاملة مواقف التحدي والاعتراض. لا يقتصر موقفه على الصورة التي تعرّي ظلمات الواقع بل ينزل الى الارض ويشارك الآخرين تحركاتهم. فهو منذ وصوله الى كانّ نزل الى الشارع مع المتظاهرين ليعبّر عن مساندته لهم ودعمه لحقهم في الحياة الكريمة. وحين تسلم "السعفة الذهب" لمهرجان كانّ قال انه يهديها الى "الشعب العراقي والى كل اولئك الذين يعانون بسببنا، بسبب الولايات المتحدة"، معلناً انه يأمل ان يشجع فيلمه الناخبين المترددين على التصويت في انتخابات الرئاسة الاميركية في تشرين الاول المقبل.

يدغدغنا مايكل مور بكلامه ومواقفه رغم اننا لا نحب الشعارات في السينما وفي الفنون عموما. يجعلنا نعشق كلامه الذي يحمل ما نود ان نقوله. فحين سئل عن ردة فعل بوش بعد نيله الجائزة قال: "اتمنى الا يبلغه احد خبر الفوز وهو يأكل بسكويتا مملحا"، مشيرا الى حادثة الاختناق التي تعرض لها بوش في العام 2002 فيما كان يتناول بسكويتا. تومىء سعفة مور الى انها تخلط السينما بالسياسة. ولا عجب، بل ولا ضير، وخصوصا ان الذين يحكمون اميركا هم من الممثلين. قدرة الاميركي على التمثيل هي التي تجعله يحكم اميركا التي تضج بالاستهلاك. وكان آخر غلاة التمثيل ارنولد شوارزينغر الذي يحكم كاليفورنيا. قبله الممثل ريغان. ولا احد ينكر ان كلينتون كان ممثلاً، لكن بوش الابن الذي يصفه مور بالغبي واللص، يبدو الاقل تمثيلا والاكثر فشلا. يدرك مور محنة بوش السياسية والاخلاقية فيوجه سهامه في اتجاهه بعد ان يكمن له جيدا. اكثر ما "يؤذي" في الجائزة انها تجيء قبل حوالى 5 اشهر من الانتخابات الرئاسية الاميركية، لكن اللافت ان لجنة التحكيم تضم 4 اميركيين من اصل 9 اعضاء بينهم رئيسها كينتين تارانتينو. ولأجل هذا السبب بالذات اندفع النقاد الى وصف الجائزة بأنها سياسية بامتياز او بأنها انتقام فرنسي من السياسة الاميركية في العالم. وفي هذا بعض الصحة وليس كلها. فالفيلم اثار عاصفة عالمية في وسائل الاعلام بعدما منعت شركة والت ديزني وحدة ميراماكس للافلام السينمائية التابعة لها من توزيعه بسبب ما قالت انه يمثل استقطابا سياسيا.

لا يخفي مور عمله في السياسة. قال انه كان يرغب في تصوير ما بعد 11 ايلول "وما حصل لنا كشعب اميركي. هذه المرة اتعاطى مع نفسي على محمل الجد، لأن بوش يملك ما يكفينا من البلاهة، وآمل ان يتحول الناس بعد فيلمي مواطنين صالحين".

يتضمن الفيلم نقدا لاذعا وساخرا لمعالجة الرئيس الاميركي جورج بوش لمسألة العراق والحرب على الارهاب. ويعتبر مور ان اساس هذه الحرب مادي نفعي. فالمقربون من آل بوش هم المالكون والمديرون لشركات وقّعت عقودا للعمل في العراق سواء مع الجيش او لاعادة اعمار البلد. حتى حرب افغانستان، يقول مور في الفيلم ان ادارة بوش لم تخضها الا بهدف تأمين مصاريف الطاقة وتوصيل خط انابيب لنقل الغاز من بحر قزوين عبر افغانستان بعدما رفضت حركة "طالبان" ذلك.

الإنتقام... بالسينما

يبدأ الفيلم بظلام دامس يلتهم شاشة العرض، ثم يسمع هدير الطائرات المخطوفة وهي ترتطم ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، قبل عرض لقطات للضحايا المفجوعين، مقابل لقطة لبوش وهو يجلس متلبد الاحساس. من اكثر اللحظات حرجا في الفيلم تلك التي يتبلغ فيها بوش خبر الضربة على الولايات المتحدة فيما كان في مدرسة للصغار في فلوريدا بعد سلسلة طويلة من العطل امضاها بعيدا عن البيت الابيض وغالبا في مزرعته في تكساس، "وذلك ببساطة لأن احدا لم يكن معه ليتخذ القرار عنه".

وفي حين تتوالى اللقطات التي تظهر افرادا من اسرة ابن لادن وهم يُحملون بسرعة في طائرات الى خارج الولايات المتحدة بعد 11 ايلول، ترتفع بالتدريج نغمة اغنية "عليّ ان اخرج سريعاً من هذا المكان". وإمعانا في السخرية، يستخدم مور خلفية من موسيقى البوب، فتظهر نجمة البوب المغنية بريتني سبيرز وهي تمضغ العلكة لتعبّر عن تأييدها للرئيس. خارج البيت الابيض تنحني سيدة مفجوعة في نوبة بكاء هستيرية على ولدها الذي قتل في العراق.

وعلى خلفية الجدل الدائر في شأن صور الاعتداءات التي تعرّض لها سجناء عراقيون، يعرض الفيلم لقطات للجنود الاميركيين وهم يسخرون من الموتى ويقفون لالتقاط الصور التذكارية مع معتقلين عراقيين غُطيت رؤوسهم بالاكياس.

الفيلم مفعم بالسخرية. يعرض مور لقطة لجورج بوش الابن وهو يصرخ فيه قائلا: "احترم نفسك والا فاذهب وابحث عن عمل آخر حقيقي". يكشف مور ان بوش لم يؤدّ خدمته العسكرية، وانه هجر الجيش مع شخص آخر على علاقة بعائلة ابن لادن حذف اسمه من التقرير. ويتهمه بفرض الخوف على الاميركيين بالتلويح لهم بشبح "القاعدة" الذي يصوره قادرا على الوصول الى اي مكان في الولايات المتحدة.

يتوقف الفيلم مطولا عند كيفية ارسال الولايات المتحدة اثنين وعشرين شخصا من عائلة ابن لادن كانوا يقطنون الولايات المتحدة الى السعودية بعد يومين من الاعتداءات في رحلات خاصة رغم توقف الحركة في كل المطارات وذلك بعد عشاء مع السفير السعودي في واشنطن الامير بندر بن سلطان الذي يطلَق عليه في الفيلم لقب "بندر بوش".

ويظهر الفيلم كيف ان الفقراء الاميركيين هم في النهاية الذين يحمون النظام. النظام نفسه الذي يتسبب بآلامهم ويستغل حبهم لبلدهم فيدفعون الثمن من دماء اولادهم: "ان تكسب الحرب يعني ان تديمها الى الابد".

ينتقل مور بالكاميرا من غرفة المعيشة حيث العائلة المنكوبة بولدها الى عالم المال والاعمال حيث البحث عن العقود في العراق. يخبره احد المسؤولين التنفيذيين العالميين لدى شركة لتصنيع العربات المصفحة قائلا: "للاسف، نعتقد ان الموقف سيكون جيدا جدا على المدى القصير لعقد الصفقات لكنه سيكون سيئاً للناس".

يصوّر الفيلم النبأ الذي اعلنته التلفزيونات الاميركية عن فوز المرشح الرئاسي آل غور، نائب الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون في ولاية فلوريدا، قبل ان تعود شبكة "فوكس نيوز" وتعلن فوز بوش. لكن المفاجأة التي لا يعرفها المشاهد هي ان شقيق بوش هو الذي يرأس هذه القناة التلفزيونية وهو الذي كان وراء اعلان هذا الفوز الذي اكدته في ما بعد هيئة محلفين تابعة لشبكة عائلة بوش. بذلك يؤكد الفيلم ان ولاية بوش قامت على كذبة وهذا ما اثبته المخرج. لا يوفر مايكل مور الاعلام الاميركي فيتهمه بالتواطؤ مع بوش وادارته، ويصوّر الرئيس في لحظات حرجة عمد الاعلام الاميركي الى اخفائها باستمرار.

الوقائع المصورة لا بد ان تكون صادمة ومروعة بالنسبة الى الشخص العادي فكيف بالنسبة الى رئيس اقوى دولة في العالم. لذلك يقول مور ان الحزب الجمهوري حاول منع عرضها اضافة الى رفض شركة ديزني توزيع الفيلم كما كان متوقعا، وهذا ما اكسبه دعاية مجانية كبرى.

بوش... خارجاً

يقدم مايكل مور في "9/11فهرنهايت" عملا ضخما ولاذعا يناسب مواقف جميع الذين يناهضون الحرب والذين وقفوا احتراما لمور وصفقوا له طويلا وخصوصاً عندما صرخ: "بوش... خارجا". الرجل نفسه الذي نال الاوسكار في العام الماضي عن فيلمه "بولينغ من اجل  كولومباين"، وقف وراء المنصة صارخا: "عار عليك يا سيد بوش".

فيلم مور يريد تسخيف بوش وتعريته لكنه ينشد السلام. هذا ما يؤكده مور مقتبسا من الرئيس الراحل ابراهام لنكولن: "لو قلنا الحقيقة للاميركيين فسوف يصار الى انقاذ الجمهورية". نستطيع ان نقول ان فيلم مور الجديد هو استمرار لمدرسة مور نفسها في السينما والكتابة. ففيلمه "بولينغ من اجل كولومباين" كان ذا اهمية ايضا بسبب معالجته قضية العنف في الولايات المتحدة. ينطلق من الحادثة التي وقعت في 12 نيسان 1999 حين أطلق طالبان النار في مدرسة كولومباين الثانوية في مدينة ليتل تاون بولاية كولورادو، على زملائهما في الصف، ثم اقدما على الانتحار. في الحادث قتل 12 طالبا ومعلمة واحدة، وقد حظي الفيلم بجائزة الاوسكار عن افضل فيم وثائقي، كما انه كان الفيلم الوثائقي الاول الذي شارك في المسابقة الرسمية في مهرجان كانّ. ولكن تحت غطاء الجوائز والخفة والروح الكوميدية التي تجعل الفيلم ملائما لأوساط مختلفة من الجمهور، ثمة نقد لاذع ودقيق جدا للواقع الاميركي العنيف وللهيمنة الاميركية على العالم.

اما كتابه "الرجال البيض الاغبياء" فمثير وساخر، اذ يرفع تهمة ضخمة ضد الاميركيين، لكنه عميق ومهم وقد احتل قائمة الكتب الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة لمدة طويلة. الكتاب يحمل على جورج بوش الابن ويتهمه بالغباء، وبأنه يمثل امة غبية. ورغم ان النص كتب قبل هجمات الحادي عشر من ايلول 2001 ونشر بعدها، فإن ذلك لم يفقده اهميته، بل ربما قوّى من اطروحته التي تركز على جهل الرئيس الاميركي وغبائه وعدم المامه بالسياسة وصناعة القرار.

يرصد الكتاب نقاط الخلل في سياسات اميركا وفي ثقافتها السياسية، ويرى ان اشد ترجمة للخلل تتمثل في انتخاب جورج بوش رئيسا، فيسمّيه اللص وليس الرئيس، ويعتبر انه سرق الرئاسة من آل غور من طريق التزوير والتآمر وكل الطرق القذرة. فلهذا فإن الكاتب لا يستهدف جورج بوش الابن فحسب، بل والاب والبطانة التي حوله والتي سهلت له الفوز، او بكلماته، تآمرت معه على سرقة الفوز.

فالمناقشات التي يتضمنها لا تغني القارئ بالقسط الذي يتوقعه من المعرفة اما لجهل المؤلف بالاطروحات الثقيلة في حقل السياسة الاميركية واما لعدم رغبته في التصدي لها. يبدو بوش هدفا سهلا في الكتاب، فهناك ماضيه في الادمان على الكحول، وقيادته السيارة وهو سكران، والقاء القبض عليه بسبب تصرفات طائشة اخرى، واخفاقاته المتكررة في مجال الاعمال، وضعف فطنته، ورداءة لغته الانكليزية.

ويذكر ان مايكل مور بدأ صحافياً في جريدة محلية مغمورة تصدر في بلدة فلنت، ولاية ميشيغان، قبل ان يلفت انتباه مطبوعة كبيرة هي Mothe jones فتعيّنه محررا، ثم تقيله لأنه رفض نشر مقال متحيز ضد ثوار نيكاراغوا. شركة جنرال موتورز، حفزت مور على انجاز فيلمه التسجيلي الاول "انا وروجر" (1989) الذي يروي مسؤولية الشركة ورئيسها روجر سميث في تحطيم الاقتصاد المحلي في بلدة فلنت. ولقد حقق الشريط نجاحا مذهلا وحصد جوائز اساسية في العديد من المهرجانات، مما شجع مور على متابعة الموضوع نفسه في شريط ثان بعنوان "لحم ام حيوانات اليفة: العودة الى فلنت". شريطه الثالث، الروائي، كان بعنوان "لحم خنزير كندي" ويسرد مخطط رئيس اميركي لتلفيق حرب باردة ضد كندا ويرصد انعدام المساواة والفقر وانحطاط الحياة.

الى جانب السينما والكتابة عمل مايكل مور مع رالف نادر، وكتب عشرات التعليقات السياسية التي جمع بعضها في كتاب.

النهار اللبنانية في

30.05.2004

 
 

مايكل مور

هجّاء أميركا الأمرّ

جورج كعدي

إنسانيّ أم ديماغوجيّ مايكل مور؟ يكشف الحقائق أم يتلاعب بالعقول؟ يلعبها "نظيفة"، على ما يقال، أم يفعل لغايات في النفس خفيّة غير ظاهرة؟ هل ينتمي الى "كلان" سياسيّ (ديموقراطي مثلاً ضدّ - جمهوريّ) أم هو منزّه عن كل غرض من هذا القبيل ولا تسخّره أي جهة سياسية أو انتخابية؟

اسئلة ضرورية ينبغي طرحها قبل الخوض في "بروفيل" هذه الظاهرة الفريدة المدعوّة مايكل مور. فما قصة هذا الفضّاح اللاذع، والطريف الغاضب، والحيوي المشاكس، الذي يحبّه الجميع ولا أحد يفقه سرّه أو يشكّ في نواياه؟

لنقل أولاً إنّ مور يشفي غليل الأميركيين غير الراضين عن واقعهم داخل "الحلم الاميركي" الموهوم والمزعوم (الذي تحوّل الى "كابوس أميركي" بحسب المخرج يوسف شاهين) وهم فئة عريضة من المجتمع الاميركي العامل والفقير والعاطل عن العمل (بل المسرّح غالباً بين ليلة وضحاها من الشركات والمصانع بلا أدنى رحمة او اعتبار انساني) والمهمّش والهامشي والبلا مأوى والمنتمي الى عالم سفليّ تحجبه هالة "أميركا الثرية" ويقطن الأحياء الشعبية المكتظّة أو يفترش الأرصفة في العراء أو ينزل الى أقنية المجارير (بلى، هذا في أميركا، وفي عاصمتها وأكبر مدنها، لمن لا يعرف)... كذلك يحاكي مور نقمة الأوروبيين على الولايات المتحدة كرمز للطغيان والاستبداد الإمبراطوريّ في الأزمنة الحديثة، وكعدوّ أوّل لقضايا البيئة والمناخ عبر تنصّلها من الاتفاقات العالمية (كيوتو مثلاً) وكآخر دولة عدوانية تشنّ الحروب وتنسج المؤامرات ضد الشعوب وتمتنع عن مساعدة الدول والقارات المنكوبة، وفي مقدمها أفريقيا حيث المجاعات والتصحّر والأمراض تهدّد بمحو جزء من العالم، بل مهد البشرية، من الوجود... واليوم يستجيب العالم كلّه لخطاب مايكل مور (السينمائي والمكتوب على السواء) طالما ان العالم بأسره أدركه أذى "الامبراطورية".

الأرجح إذن ان مايكل مور انسانيّ صادق وليس ديماغوجياً (يستند في الأقل الى واقع عينيّ ثابت)، وهو كاشف لحقائق فعلية وليس متلاعباً بالعقول، ولا يخفي ميله الى الحزب الديموقراطي مؤثراً إياه على الجمهوريّ، وإن لم يعفِ الديموقراطيين (زمن كلينتون تحديداً) من مرارة انتقاداته. فلو فضّل وآثر لا يسامح ولا يتغاضى، ويحتفظ كأي أميركي بحقّ الاختيار والالتزام. ومع ذلك يبقى سؤال واحد معلّقاً بلا جواب حاسم: هل يخدم مور انتخابياً الديموقراطيين ضد الجمهوريين؟ أي هل خطابه السينمائي جزء من حملة او حملات انتخابية على الأبواب؟!

***

هذا البدين "غير المهذّب" وغير الحليق وغير المعتني كثيراً بمظهره. هذا المُقلق والمزعج دوماً بأسئلته الموجهة الى السلطات على نحو فضائحي واتهامي. هذا الجريء غير المتهيّب والعنيد غير المهادن من أين أتى ومن يكون؟!

مايكل مور (خمسون عاماً تقريباً) هو ابن عامل بسيط من مدينة فلينت الكئيبة ناحية ميشيغن حيث تهيمن مصانع "جنرال موتورز" وحيث صوّر مشاهد فيلمه الأول "روجر وأنا"، الوثائقي المخصّص لمعالجة النتائج المأسوية لانتقال المصنع الى المكسيك، من بطالة وبؤس اجتماعي وتهديم للبنية الاجتماعية. وعبر هذا الفيلم دعا مور الى اكتشاف الوجه الآخر من "المعجزة الاميركية الاقتصادية". ولفت الفيلم انظار الاميركيين ووزعته شركة "وارنر" في الصالات حيث عرف نجاحاً ضخماً. لكن هذا الفضّاح العنيد الذي تعلّم العناد من الراهبات في مدرسته الابتدائية الأولى مثلما تعلّم منهن ألا يخشى شيئاً ولا يهاب أحداً، خاض في مجالات تعبيرية أخرى قبل السينما، فأنشأ مجلة ساخرة كانت بطاقة عبوره وانتقاله الى التلفزيون "تي في نيشن" وألّف كتباً (أشهرها "رجل أبيض غبي" الذي منع وبيع منه مع ذلك مليون نسخة وترجم الى لغات عديدة بينها العربية) هجائية حادة للسياسة والقيم الاميركية،  وحاز مور شهرته المتأخرة عام 1989 وكان في الخامسة والثلاثين.

صحافة، تلفزيون، كتب... بيد أن قوّة مايكل مور الحقيقية في السينما التي يكشف بواسطتها، وعلى نحو تسجيليّ يحمل نظرته الذاتية (هو غالباً وسط افلامه يقود بنفسه التحقيقات ويجري المقابلات مع الناس العاديين أو سواهم في السلطة أو أجهزة الدولة والشرطة)، والدعابة المرّة ماثلة دوماً في أفلامه لأن غايته ليست اصابة المشاهدين بالكآبة أو "خلع الأبواب المفتوحة"، في تعبيره، فحقائق المجتمع الاميركي المرّة معلومة، ومن غير المجدي اظهارها على نحو فائق الجدية والمأسوية. السخرية المريرة سلاح فاعل في يده، حتى وهو يعالج موضوعات اجتماعية قاسية في فيلمه الثاني The big one (1999) شبيهة بفيلمه الأول Roger and me، أو في الشريط اللاحق ذي الضجيج العالمي Bowling for Columbine الذي يهجو فيه موضوع انتشار الأسلحة المرعب في الولايات المتحدة انطلاقاً من فاجعة ليسيه كولومباين عام 1999 التي قَتَل فيها مراهقان ثلاثة عشرة تلميذاً من رفاقهما، رامياً الى قول شيء حول الحدث بعينه وحول العنف في بلاده، متلافياً مع ذلك الخطاب المباشر من نوع "الأسلحة، هذا أمر سيئ"، بل وفق القاعدة الصحافية الأساسية المكوّنة من أربعة أسئلة: أين؟ متى؟ كيف؟ ولماذا؟، والسؤال الأخير (لماذا؟) كان الأهمّ له: "(...) الخطاب القديم يقول ان المسدس هو امتداد للعضو الذكري. هذا نعلمه جميعاً، أليس كذلك؟ [يقول ضاحكاً]. بدا لي ان الأهم هو المضيّ أبعد في البحث".

***

الى شريطه الأخير Fahrenheit9/11 المتوّْج بالسعفة الذهبية في مهرجان كانّ لهذه السنة [يذكّر عنوانه بفيلم لفرنسوا تروفو استعاريّ عن حرق الكتب في المرحلة الفاشية] ويحمل عنواناً فرعياً "درجة الحرارة التي تحترق عندها الحرية". في إلماع مباشر الى مبدأ الحرية الذي ينهض عليه الخطاب الرسمي الأميركي فيما يمارس نقيضه في الداخل والعالم، اذ يكفي التذكير بمنع عرض الفيلم في الولايات المتحدة ومحاربته ومحاربة مخرجه والضغط على شركات التوزيع لعدم توزيعه، حتى ان مِلْ غيبسون نفسه امتنع عن انتاجه إثر تلقيه اتصالاً من البيت الأبيض (!) ويُخشى ان يواجه جون لانديس المصير عينه مع شريطه الوثائقي الانتقادي Slasher عن بائعي السيارات المستعملة ويبدأ بمشاهد لسياسيين يهذون كذباً، وفي مقدمهم جورج بوش معلناً للتلفزيون البولوني انه تم للتوّ أكتشاف اسلحة الدمار الشامل في العراق!

في "فاهرنهايت 11/9" هذا الذي أرعب بوش والسلطات الأميركية الى حد المطالبة بمنع عرضه ومحاصرة الموزعين وترهيبهم، يكشف مايكل مور العلاقة القديمة والوثيقة بين آل بوش وعائلة بن لادن، وبرهانه الموثّق عن ذلك انه غداة سقوط برجي مركز التجارة العالمي تمّ ابعاد افراد عائلة بن لادن الموجودين على أرض الولايات المتحدة وحمايتهم من جانب الشرطة الفدرالية. كما يعتمد الفيلم على توليفة مضحكة للرئيس الاميركي في وضعيات تثير الهزء والقهقهة [عرضت مقاطع على التلفزيون كنموذج يتضمنه الشريط الذي لم يعرض بعد إلا في إطار مهرجان كانّ ولجمهوره المحدود] وعلى شهادات حية من العراق حيث التوليف المتوازي، مثلاً، بين امرأة عراقية باكية والمغنية الأميركية بريتني سبيرز التي تؤيد الحرب ضد العراق!

***

كأن مايكل مور آخر "اليساريين" في اميركا التزاماً بقضايا شعبه، العامل والفقير والمهمّش بخاصة، وإن لم يكن الفنان والسينمائي الوحيد في معركته المبدئية هذه ضد الفساد والانحراف والكذب ورسم السياسات الظالمة في أروقة الظلام. يسعنا أن نذكر اسماء شون بن (زار العراق قبل بداية الحرب ووجه رسالة لاذعة الى بوش في كبريات الصحف الأميركية) وسوزان ساراندون وتيم روبنز وجون سيلز وغْلِنْ كلوز وروبرت ردفورد وآخرين... لكنّ هؤلاء، على عكس مايكل مور، مناهضون هادئون. وحده يخوض مهمة الكشف المرتفعة الصوت، الجريئة القول، الفاقعة السخرية، المريرة الهزء والهجاء.

فبغير ذلك لا يكون مايكل مور هو مايكل مور.

النهار اللبنانية في

31.05.2004

 
 

من انقلاب آلان فرانكوفيتش 1980 إلي ثورة مايكل مور 2004

أول مخرج أمريكي يعلن أنه شيوعي

«2/2»

د. مدكور ثابت

* فرانكوفيتش غادر أمريكا احتجاجا علي تردي الأوضاع السياسية.. ثم عاد ليشارك بأفلامه في معارضة حرب فيتنام

* مايكل مور يفلت من ماكينة الإعلام الأمريكي المبرمجة.. ليفضح سياسة بوش في العراق

إن وقائع ما بعد الفوز المدوي لمايكل مور بالسعفة الذهبية لمهرجان كان هي الوقائع الأهم، علي نحو ما يؤكده التأمل في مثيلتها عند سلفه الأمريكي آلان فرانكوفيتش صاحب الضربة القوية الأسبق، عندما خطف الجائزة الذهبية من أكبر مهرجان دولي للسينما التسجيلية في الدول الشيوعية حينذاك «لايبزج بألمانيا الشرقية 1980»، والذي كان فوزه بسبب انتصاره السينمائي المذهل في تسجيل اعترافات ستين من أهم مسئولي المخابرات الأمريكية للكاميرا عبر مركب فني فذ في استخدامه.. علي مدي ساعتين للقطات الأرشيفية لأحداث العالم الساخنة خلال القرن العشرين من منظور ما يتكشف من أسرار هذه الاعترافات الخطيرة.

أما أهمية ما بعد الفوز في الحالتين، فإنها تبرز لنا فيما نستكمله، بالقراءة التي يجب أن تتضمن الفني والسياسي معا، سواء بسبب سياقها فيما أسماه فرانكوفيتش «عملية نمو الضمير الأمريكي»، أو بسبب نفس ممارسات الصدام والحصار الأمريكي حول عرض الفيلم الأسبق، والتي تنقل الأنباء لنا مثلها لمنع عرض فيلم مور الأحدث، والذي تأتي صداماته أكثر حدة لأن وقائعه تسبق الانتخابات الأمريكية، مباشرة وتأتي في سياق انقلابي.

خطورة الانقلاب العقلي بالسينما

وللكشف عن هذه الخطورة وأهمية التعرف علي ملابستها، اضطر أن أعود أولا إلي العنوان الذي كنت قد اخترته للكتابة عن فيلم فرانكوفيتش حينذاك، والذي جاءت صياغته توثيق التاريخ والانقلاب العقلي بالسينما، ففي هذا الفيلم الذي وضعنا مباشرة في مواجهة ستين من رجال المخابرات الأمريكية نجد أن كل واحد من هؤلاء المسئولين عندما يلقي في دوره إلي الكاميرا، باعترافات الحقائق المثيرة إلي الجمهور، فإنها تثير ذهولا بحيث لا يكاد يصدقها عقل بشر، ليس فقط لأنها تكشف أسرارا تمثل إضافة معلومات جديدة، ولكن لأنها تقلب كل موازين العقل المعاصر بعد كل ما اختزنه هذا العقل من معلومات سابقة حول التاريخ المعاصر وأحداثه، والتي كان يدركها العقل، من قبل بمفهوم معين بناء علي تلك المعلومات السابقة، والتي كانت تحدد موقفه إزاء كل قضية من قضايا العالم، إنها انقلاب عقلي إذن وليست مجرد نصر صحفي تم تحقيقه بشريط صور متحركة بدلا من كلمات مطبوعة للقراءة، والانقلاب العقلي يكون حادا هنا، لأنه نتاج ما تمسه هذه الأسرار إذ هي أسرار كل العالم وتاريخه واللهفة علي مصيره، عبر سنين القرن العشرين ودماراته المهددة للبشر أجمعين، أي كل ما كتبت فيه آلاف أطنان الكتب والمجلات والجرائد اليومية والأسبوعية وبثت فيه مليارات ساعات الإرسال المرئي والمسموع وكل ما تناقلته دقات التكرز من وإلي.. أي كل ماتم صبه في عقل القرن العشرين، فرسخ وتبرمج، إلي أن جاءت صفعة وصدمة هذه الاعترافات الجريئة، والتي التقت بهدف واضح  يعلنه المخرج: إن مهمة فيلمنا، أن يقدم ثلاثين عاما مطردة كانت تجري في السر، فالتفاصيل التي أصبحت معروفة عبر الفيلم قد خرجت بهذه  المجاري السرية إلي النور وهي التي دأبت وكالات الأنباء الرسمية في أمريكا علي محاولات حجب حقيقتها دائما تحت الأقنعة.

من هنا كان تحقق الأثر الذي آثرنا تسميته بالانقلاب العقلي عبر ما يوقعه الفيلم في ذلك العقل الذي يقف مذهولا مرتبكا فهو ما إن يكتشف أو يتيقن من المحرك الحقيقي الكامن وراء كل أحداث العالم، صغيرها وكبيرها ساخنها وباردها طوال هذه السنين.

وفي شتي بقاع الأرض ألا وهو أصابع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، الكامنة وراء كل ذلك بما لا يمكن لبشر أن يتوقعه يكون متفرج الفيلم، بعامة قد دخل في الحقيقة لحظة هذه الفرجة، التلقي. إلي معمل للعقول البشرية، بحيث يخرج منه بعد إنارة أضواء صالة العرض السينمائي، وقد انقلبت في رأسه كل العلاقات المختزنة عن الحقائق التاريخية السابقة والراهنة ومن ثم فهو يخرج من الباب وقد استحوذ علي منظار جديد، رغم سيطرة لحظات الاندهاش والانبهار والذهول.

* جمع متناقضات الأهداف حول متحقق واحد:

يصبح المطلوب الآن هو قياس أهداف الجبهات الثلاث مع المتحقق عبر الفيلم سواء عبر صورته الفنية أو عبر أثره في التلقي، إذ لابد أن كل جبهة منهم قد تحقق هدفا لها، وإلا ما كان الفيلم  قد وجد فرصة إنجازه إنتاجا وعرضا، سواء علي الجبهة الأمريكية أو الشيوعية.

أولي الجبهات هي جبهة فرانكوفيتش، وحيث إذا كان الأثر النهائي المتحقق بفيلمه هو انقلاب عقلي، فإن القصدية الواضحة التي برزت في معالجته السينمائية، إنما تعني أن هذا الانقلاب هو استهدافه، إلا أنه كان انقلابا في اتجاه الحقيقة وحدها.

ثانية الجبهات هي جبهة الوكالة المركزية  للمخابرات الأمريكية، والتي تحقق هدفها عبر الصورة الفنية المباشرة للفيلم، حيث قد تم تسجيل الاعترافات لبثها إلي المتلقين، أي ما من شأنه بث حرب نفسية، تقوم علي إشاعة الاستسلام لتلك القوة الرهيبة المحركة لكل أحداث العالم.

وثالثة الجبهات هي جبهة أولئك الشيوعيين الذين وجدوا بالفيلم السند الوثائقي لكل ما سبق أن دأبوا علي إعلانه اتهاما للولايات المتحدة الأمريكية وأجهزة مخابراتها، ومع ذلك فلابد أن هناك تفارقا بين هدف فرانكوفيتش والمستهدف علي كل من الجبهتين المتصارعتين.

إن الفرق ـ في النتيجة النهائية لهذا الانقلاب العقلي، بين هدفي كل من فرانكوفيتش ووكالة المخابرات الأمريكية إنما يكمن في الفرق بين «الاعترافات المباشرة»، التي أدلي بها المسئولون بالوكالة مسجلة عبر صوت وصورة الفيلم وبين تلك التصريحات الإيحائية، التي تضيفها، معالجات فرانكوفيتش في المونتاج والمكساج بالفيلم.

أما الفرق في ذات النتيجة بين هدفي كل من فرانكوفيتش والشيوعيين فقد يبدو للوهلة الأولي ألا وجود له وأن ثمة تطابقا بينهما ولكن مجرد العودة للتأول حول عدم انتباه الشيوعيين، إلي هدف «الحرب النفسية» في نفس الوقت الذي يتوضح فيه وعي فرانكوفيتش، ولاشك بهذا الهدف، لكفيل بأن يجعلنا نقر بعدم تصنيف فرانكوفيتش، جنديا في هذه الجبهة الشيوعية، وإلا فقد كان عليه أن يلعب دوره التحذيري كجندي منتم وهو مالم يحدث بدليل قيامه أساسا بإنجاز الفيلم الأمر الذي يدفعنا للتوقف مع خطوة التعرف علي فرانكوفيتش سعيا وراء استكشاف هذه النقطة.

* المخرج الأمريكي فرانكوفيتش... من؟

من هو إذن ذلك الرجل / الجبهة، صاحب تجربة هذا النفاذ بين الجبهتين / القمتين علي طرفي الحرب الباردة؟... من هو هذا الأمريكي فرانكوفيتش؟ إن أول ما نلتقي به هو انشغاله بالعمل السياسي من خلال الفن إذ يقول: لقد كنت مهتما بالمسرح أساسا، وقد اتجهت إلي فرنسا بعد أن تبدي لي اضمحلال الصورة العامة للسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنني عندما عدت إلي أمريكا بعد ثلاث سنوات كانت الحركة المضادة للحرب قد بدأت ومن ثم فقد شاركت بكاميرتي في أول مسيرة للاحتجاج ضد الحرب في فيتنام، وسرعان ما أدركت الإمكانية الخاصة للأفلام في العمل السياسي، فأقدمت علي إخراج الأفلام من منطلق هذا المفهوم، وحتي اليوم «نوفمبر 1980» قد أنجزت ثلاثة أفلام تسجيلية طويلة، وفيلما واحدا روائيا قصيرا بالإضافة إلي عملي في مجال الأدب.

تجعلنا اهتماماته تلك نفهم أن استهداف الانقلاب العقلي بالسينما ليس بغريب عما نستخلصه حول قناعاته، والتي ستبدو لنا أكثر وضوحا بما يساعد في إلقاء الضوء المركز علي أعماق موقفه، عندما يحكي عن حياته: «والدي مهندس تعدين وقد عمل لعدة سنوات في بلاد أمريكا اللاتينية، وكان هذا هو السبب في أنني قضيت الغالب الأعظم من سني طفولتي في أمريكا اللاتينية، حيث كنت أواجه بظروف الحياة الاجتماعية في هذه البلاد: الفقر والظلم الاجتماعي الذي هو  نتاج طبيعي لهذا الفقر.

نفهم إذن هنا روافد تكوينه التي قادت اهتماماته في اتجاه موضوع المخابرات الأمريكية خاصة فيما يستطرد به قائلا: من ثم فقد نشأ عندي ارتباط مبكر جدا بأمريكا اللاتينية، التي سرعان ما جعلتني أرتبط باهتمام أكبر بمشاكل جميع الدول النامية... في عام 77 / 1978 عملت فيلمي «شيلي في قلبي»، والذي تركزت قضيته الأساسية حول الانقلاب الفاشي الي وقع في هذا البلد. حيث لعبت وكالة المخابرات المركزية  الدور الأكبر في تحقيق هذا الانقلاب.. وخلال تحقيقي في واقع الحقائق ومصادرها، تعرفت تماما وعن قرب، علي ميكانيكية مشاريع المخابرات المركزية، إلا أن اهتمامي بها يمتد أكثر إلي الماضي.

أما عن فيلم «بتكليف من الشركة»، فيمكننا أن نلتقط الخيط الرئيسي لاستقصاءاتنا علي جبهة هذا الرجل، فيما جاء به  تصريحه كهدف معلن بوضوح شديد الحسم، إذ يقول: إنني أتصور عملنا بهذا الفيلم باعتباره حركة تنوير... نحن المواطنين الأمريكيين مسئولون عن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية في السياسات العالمية.. ومن هنا يصبح من الضرورة أن تقدم لكل أمريكي، حقيقة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية... إن كل مناورة في سياسة أمريكا إنما لابد أن لها صلة بأنشطة وكالة المخابرات المركزية، وهو ما لا يعتبر موقفا جديدا، ولكنه مثل ما يجري منذ عشرات السنين، وأما الاتجاهات الحالية فإنه يمكن الرجوع إلي أصولها في الفترة الرئاسية لكيندي، حيث رئيس الوكالة «هيلمز» يعرف مجمل التطورات ويعترف بحقائقها لكاميرا الفيلم.

إن الاستهداف هنا واضح أما المفهوم أو التوجه الذي يحكم هذا الهدف، فهو المدخل إلي مشكلتنا في فهم تجربة فرانكوفيتش، بعد أن يكون تصريحه بنفس الوضوح والمباشرة قائلا: وكان هدفنا أن يعرض الفيلم خلفية أنشطة الوكالة المركزية للمخابرات الأمريكية لأن الشعب الأمريكي يجب أن يعرف أن سياسة أمريكا الخارجية إنما تحكمها بدرجة كبيرة المصالح الربحية للاحتكارات الكبيرة التي تدير دفة الاقتصاد الأمريكي، وكذلك دفة الاقتصاد في أمريكا اللاتينية، وفي أقطار أخري عديدة من العالم... وكل فرد يعرف هذه الاحتكارات من واقع خبرته الخاصة، وأن مصالحها هي ما تدافع عنها وكالة المخابرات المركزية أما أنواع هذه المصالح التي تمثلها فهو يتجلي واضحا في أحاديث ولقاءات كاميرا الفيلم مع أعضاء الوكالة، وفي هذا الصدد فإن توثيقات فرانكوفيتش الفيلمية، وفقا للاعتراضات التي جاءت علي لسان كوري السفير الأمريكي السابق في شيلي لهي مثيرة حقا.

هكذا تشير تلك الدلائل إلي توجه يساري توضحه تصريحات فرانكوفيتش عن نفسه وعن تجربته، بينما أنه أمريكي الجنسية قام بالتعامل بالكاميرا مع نفس مسئولي  وكالة المخابرات الأمريكية الذين أعلنوا لذات هذه الكاميرا أن أنشطتهم في مكافحة النشاط الشيوعي، لا تمتد إلي بقاع العالم فحسب، بل وفي قلب أمريكا ذاتها، أي حيث نتعرف علي فرانكوفيتش، وتجربته تلك، ومن ثم يتساوي أن تنشأ الريبة، أو مجرد التساؤل حوله، طالما أن مسئولي الوكالة لابد أنهم واعون ولن يتركوا شيئا من هذا القبيل في الداخل، أو في الخارج.

إنه أمريكي الجنسية من ناحية ويعلن عن  يساريته من ناحية أخري وبهذا فهو يغدو في ذاته إشكالية، ليس فقط بسبب يساريته التي هي رغما عن أمريكانيته، ولكن لأنه ستنطبق عليه ذات التساؤلات التي طرحت علي كل من الجبهتين، فهو مثلا وفيما يتعلق بزعم اليسارية: هل يخون جبهة الكتلة الشرقية / الشيوعية، والتي ينتمي إليها زعمه المذهبي، فيخترقها بإنجاز التحضير النفسي بالسينما والذي تستهدفه الجبهة الأمريكية متمثلة في وكالة مخابراتها المركزية؟ إنه تساؤل لم يحسمه نفي أو إيجاب كلما استحضرنا جهد فرانكوفيتش في قصيدته الفنية ومع المتحقق عبرها من انقلاب عقلي بالسينما التي أنجزها إذ انه أثر متحقق لا يتطابق مع الهدف الأمريكي المضاد من الناحية الأخري، مثلما أنه وبنفس القدر لا يتطابق مع مبدأ تجنيب الرأي العام الشيوعي مغبة الوقوع في «التحضير النفسي» المستهدف أمريكيا. بل وسوف يعود التساؤل أكثر تكثيفا إذا ما عدنا إلي ما يخص الجبهة الأمريكية وسمعنا تعليق فرانكوفيتش عما يحتمل أن يكون قد لقيه من مصاعب، إذ يقول: ومع ذلك لم تكن هناك مهاجمات شخصية  ضدي، لأن مثل هذه المهاجمات كانت ستثير التساؤل حول ما يمتدح دائما في الحرية الأمريكية لوسائل الإعلام، وكذلك لم يتم الضغط عليه بأية إجبارات سرية ولنلاحظ هنا ضرورة الربط مع ما يجري حاليا من منع العرض فيلم مايكل مور فهرنهايت 11 / 9 في أمريكا... علي أن تكون المقارنة للربط أو  التفارق بين الحالتين.

إذ عندما سئل فرانكوفيتش هل تمت محاولة لمنع عرض الفيلم أجاب: لقد حدثت المحاولة خلال التليفزيون في البداية، حتي أنه قد أصبح فيلما شهيرا لدي المعلنين كما كانت هناك بعض المهاجمات من الصحفيين المعروفين بتعاونهم مع وكالة المخابرات المركزية ومع ذلك فإن هذه المهاجمات قد توقفت أمام المواجهة المباشرة للعرض التليفزيوني نفسه لن تتوقف إذن سلسلة التساؤلات التي تستدعي بعضها البعض إزاء هذه التجربة المثيرة ولكن تواصل هذه التساؤلات هو نفسه ما يؤكد الحقيقة المهمة: حقيقة أن فرانكوفيتش قد كان هو ذاته جبهة مستقلة، وحيث لا إجابة لأي تساؤل إلا هذه الاستقلالية وهي ذاتها الدافع وراء تحقيق قدرة للنفاذ إلي الجبهتين المتصارعتين.... ولكن مرة أخري: كيف؟

المؤكد أن فرانكوفيتش قد لعب علي الجبهتين، فاستطاع النفاذ، إذ ان ملابسات. تجربته نفسها هي التي تشير إلي:

أولا: إنه من ناحية كان يعي  الهدف البعيد المدي الذي يفكر فيه المسئولون الأمريكيون، وفقا لقناعتهم في استهداف التحضير النفسي للعمل السياسي الأمريكي، ومن ثم فقد فهم فرانكوفيتش عدم البراءة في تسهيل هذا التسريب لمثل تلك المعلومات، وراح يستثمر ذلك الهدف لدي الطرف الأمريكي بما جعله يتمكن من التعامل معهم من هذا المنطلق، وإلا ما كان قد تمكن من إقناع هذا الحشد من مسئولي الوكالة للمثول بالاعترافات أمام كاميرته.

فهل كان مايكل مور بالمقابل في واقعة فيلمه الأحدث عام 2004 يعي أن ثمة جبهة منافسة في الانتخابات مثلا يمكن أن تسانده، مجرد سؤال رغم أنه يصطدم بالحقيقة الأخطر، وهي أن كلا من الجبهتين الأمريكيتين المتنافستين مؤيدتان للحرب من أساسها، أي أن مور لا سند له في أي من الحالتين.

ثانيا: إن فرانكوفيتش كان فيما يتعلق بالجانب الشيوعي، يعرف مسبقا أنهم سيتهللون باعترافات المخابرات الأمريكية، ومن ثم فإنهم سوف ينشغلون بالتهليل فقط لما اعتبر تدليلا قاطعا علي كل ما سبق وأعلنوه اتهاما للمخابرات الأمريكية، دون أن يلتفتوا إلي الهدف السياسي الحقيقي من الواقعة السينمائية المتجسدة في إنتاج وعرض هذا الفيلم، أي «التحضير النفسي»، فقد كان فرانكوفيتش، يعرف، مثلما يعرف كل هؤلاء الأمريكيين ذلك الجمود الهائل في النظرة، والذي يتمتع به هؤلاء الشيوعيون ممن يختارون ممارسة وظيفتهم في العمل السياسي من خلال التدثر بعباءة النقد السينمائي أو حتي صناعة الأفلام، بينما هم براء منها، حيث لا يملكون إلا القدرة علي إطلاق حناجر التهليل بالشعارات السياسية، أي ذات ما حدث فعلا، عندما لم يستلفتهم إلا مجرد كون الفيلم وثائقيا دون أدني انتباه إلي أن الانشغال بأحادية النظرة عبر قناة التهليل السياسي الأعرج، لم يكن ليدع فرصة سانحة للالتفات إلي هذه الوثائقية بأكثر من كونها وثائقية فقط، أي دون الالتفات إلي إبداع أسلوبها الخاص، الذي هو في حقيقته جوهر تحقيق النجاح الأمريكي من ناحية وتجسيد كل هذه الإثارة من ناحية أخري، بل وبدون خصوصية هذه المعالجة الفنية سينمائيا لم تكن مجرد الاعترافات والأسرار الجديدة بقادرة علي تحقيق ما أحدثته.

لقد أدت أحادية النظرة لأن يكون الفيلم انفجارا سياسيا، بينما حجب ذلك أي نظرة متأملة في خصوصيته الفنية مثلما غطي علي هدفه السياسي الحقيقي، فهل سينطبق هذا علي التعامل مع فيلم مايكل مور؟

ومع ذلك يمكننا الافتراض بأن المسئولين الشيوعيين، قد توقفوا إزاء الأمر ولو للحظة واحدة يشعرون فيها بالريبة حول تسهيل تسريب هذه المعلومات وفي هذا الصدد كان من الواضح أن فرانكوفيتش قد ألقي إليهم بطعم فالتقطوه بنفس السهولة، عندما صور لهم التقاءه معهم حول فكرة عدم البراءة في تسريب هذه المعلومات ولكنه استخدم ذكاءه في  أن يحصر التصور بعدم البراءة في مفهوم آخر يريح الشيوعيين ليبتلعوا الطعم وهو الأمر الواضح فيما حكاه لهم ونشروه بيومية المهرجان علي لسانه إذ يقول:

في بداية السبعينيات كانت المعلومات عن تصرفات الوكالة قد تسربت بالفعل وسببوا بها الذعر للشعب الأمريكي.. حيث ظهرت الأخبار عن هذه الأعمال عبر وكالات الأنباء الأمريكية ذاتها.. وعلي كل فإن الأسباب الفعلية وراء تقارير وكالات الأنباء هذه لا تعبر عن شفافية بريئة، فقد قدمت التقارير عن هذه التصرفات ونوقشت باعتبارها حالات خاصة تدخل في نطاق الصراعات والتنافسات داخل وكالة المخابرات الأمريكية وكأنه لا صلة لها بطبيعة هذه المؤسسة ولم يعد خافيا علي الشعب الأمريكي الدور الذي تلعبه الوكالة في  سياسة إدارة الخارجية الأمريكية، وعلي سبيل المثال فإن حرب فيتنام لا يمكن أن تنسي، وبسبب المأزق في الداخل وفي الخارج، برزت المطالبات لاستكشاف أنشطة الوكالة، هذه المطالبات التي ازدادت وتضخمت لدرجة أن الكونجرس قد أنشأ لجنة لتقصي الحقائق، وقد أقبلت علي عملية تتبع ومراقبة شديدة لمجمل تطورات المسألة، كما لاحظت أن الشعب الأمريكي قد بدأ يحصر انتقاداته للوكالة في المظاهر الأخلاقية، مبتعدا بذلك عن الجوهر... إن طبيعة الوكالة لم تكن لتري من خلال حقائق ظلت غامضة.. عندئذ كرست نفسي للدور المضاد لاستراتيجية حجب الحقائق في تقارير وكالات الأنباء، وأن أصل إلي قاع وعمق الصلات والعلاقات الحقيقية، وقد عضد أهدافي هذه  مواجهة بعض رؤساء وكالة  المخابرات للجنة الكونجرس الخاصة بتقصي الحقائق فقد أحس هؤلاء الناس بأنهم حوصروا ومن ثم فقد اختاروا مواجهة الخطر. إن إلحاحهم علي تبرئة أنفسهم جعل ألسنتهم تنفلت.

وبدا واضحا، لنا أن الشيوعيين قد أراحوا أنفسهم واقتنعوا بأن إلحاح هؤلاء المسئولين علي تبرئة أنفسهم هو فقط الذي جعل ألسنتهم تنفلت وكأن هذا الحشد منهم كان يجلس أمام الكاميرا كل في دوره وقد تم تخديرهم لتنفلت ألسنتهم... هكذا كلهم!!

وأترك هنا للقارئ المتأمل مهمة الربط والتساؤل عما جري ويجري اليوم من تحقيقات علنية أمام الكونجرس الأمريكي فيما يتعلق بحرب العراق.

أما من الناحية الأخري، فقد استطاع فرانكوفيتش، أن ينفذ أيضا بتجربته المتضمنة لما يهدف إليه علي الجانب الأمريكي، فهكذا هو نفسه يشرحها: «لقد تم عرض الفيلم حتي الآن «1980» مرتين في التليفزيون الأمريكي، واني لأعتقد أنه قد نقل مفهوما جديدا للكثير من المتفرجين، وإذا ما كان الأمر كذلك، فإن الفيلم يكون قد حقق واجبه... صحيح أنه لا يمكن لفيلم واحد أن يغير من الرؤي السياسية في الولايات المتحدة لكن علي المرء أن يعتبره عنصرا في عملية نمو الضمير الأمريكي، كما أن المعلومات عن طبيعة الوكالة، وخلفية أنشطتها لكفيلة بأن تكثف سرعة هذه العملية... وبالمقابل فإنه يصعب القول متي ستترجم المعلومات إلي وقائع سياسية؟

وهنا وبالنظر إلي ما قارب ربع القرن بين الفيلمين الواقعين فيلم فرانكوفيتش 1980 وفيلم مور 2004 لابد للقارئ من وقفة التأمل بجدية عن مدي تحقق ما أسماه فرانكوفيتش عملية نمو الضمير الأمريكي.

انتصر السينمائي فرانكوفيتش إذن، منتصبا بساقيه علي الضفتين، دون أن يعنيه إلا إنجاز تجربته السينمائية، «إنتاجا وعرضا» في الإطار الصحيح لمفهوم الفيلم / الفن، الذي يستهدف من تعامله مع التاريخ اقتناص الحقيقة ليحقق بها فرانكوفيتش ما تأكدنا نحن من كونه إمكانية ألا وهو الانقلاب العقلي بالسينما.

وعلي وجه الإجمال، فقد انتهي فرانكوفيتش إلي تقديم فيلم أمريكي مثير حول التاريخ السياسي المعاصر ولكن أن ينجح فرانكوفيتش في اقتحام عميق لأسرار المخابرات الأمريكية من ناحية وأن يبتلع الشيوعيون طعم فرانكوفيتش من ناحية أخري، فليست هذه التجربة في ذاتها إلا تجربة، واقعة تاريخية لها كل الأبعاد التي تسم أي واقعة مما يصنع التاريخ السياسي المعاصر الذي يعالجه نفس الفيلم، عبر محاولته النفاذ بأدواته السينمائية لإنجاز التعامل بالكاميرا وبمونتاج شرائطها مع الحقيقة في هذا التاريخ ذاته، ولتتم العروض السينمائية للشريط النهائي، محققة بالانقلاب العقلي رأيا عاما غيره قبل الدخول إلي صالة العرض باعتبار ذلك أيضا تتمه للتجربة الواقعة في ذات التاريخ.

ومن هنا فإذا كانت الكيفية الفنية التي كان يفترض مجرد افتراض صوري أن تكون هي سبب فوز اعترافات المخابرات الأمريكية بجائزة لجنة التحكيم الدولية في مهرجان سينمائي، هي موضوع فني فلأنها من المفترض أن تكون كذلك فعلا في نهاية الأمر حيث لابد أن تستوقف المهتمين بالسينما ولكنها أيضا يجب أن تستوقف المهتمين، بل المشتغلين بالسياسة وبالتاريخ وبالتأريخ، إذ من خلال تحقق هذه التجربة الفيلمية وفهم ملابسات تحققها سوف يستقرئون العمل الأمريكي الذي كان يستهدفه «التحضير النفسي»، بمثل هذا الفيلم وذلك فيما آلت إليه السنون من تحول عالمي مذهل شهدناه وعشناه مع نهايات القرن العشرين، وبدايات الواحد والعشرين.. إنه التحول الدراماتيكي المذهل الذي انهار به أحد المعسكرين القديمين، حيث انتهت الحرب الباردة إلي هيمنة ما سمي «النظام العالمي الجديد» وهو ما كان السبب في استحضارنا للفيلم الأمريكي بتكليف من الشركة بواقعيته المثيرة عام 1980 لاستثارة الربط مع الواقعة الأحدث في موقف مايكل مور وسخونة مناهضته لرئاسته الأمريكية عام 2004 عبر تساؤلنا عن خندق الفنان وماهيته في هذا الزمن المربك في تعقيداته بعد أن زالت ثنائية التناقض الواضح في زمن الحرب الباردة و التي حلت محلها هيمنة تحاول أن تبرز لنفسها أحادية القوة فيما هو الظاهر المعلن فقط بينما أن استقراء الواقع الساخن يدلنا أن العالم مازال يحمل صراعات حادة ولكنها من نوع جديد أكثر تعقيدا وأكثر إرباكا للعقل... وبما يؤخر أو هو يؤجل رؤية الفنان الحقيقي.

مع ذلك يبقي مفهومنا عن الفنان قائما، باعتباره جبهة ثالثة دائما مهما تأخرت أو تأجلت مواقفه التي ستتحقق إن آجلا أم عاجلا، طالما أن القضية الأبدية للفنان هي «العدل» كما تبقي «الحرية» هي المناخ الشرطي له أما «الحقيقة» فهي أداته للأداء الإبداعي، حيث تبرز في هذه المعادلة قضية نمو الضمير الأمريكي التي أشار إليها فرانكوفيتش عبر لجوئه إلي «الحقيقة» أيا كانت خلفيات النفاذ لإنتاجها، وفقا لما اجتهدنا في قراءته وأملا في بحثها لدي مايكل مور عندما نتوفر علي فيلمه والذي تؤكد الكتابات النقدية والأنباء أنه خرج به من أسر ماكينة الإعلام المبرمجة علي أحلام «العولمة» ودون أن يثبت  لنا حتي الآن أنه مور منضو تحت مظلة من التكتلات المتصارعة، الأمر الذي يؤكد علي ما أشرنا إليه من ضرورة إخضاع فيلمه ووقائعه للتحليل السياسي مثلما يستنير بالقراءة الفنية، مع تسليمنا بأن حالة مايكل مور مازالت بهذا التفرد مجرد «محطة أمريكية» مما يتحقق فيه موقف الفنان خارج هذه الماكينة.

أما عن وقائع الأيام القادمة ودرجة تسارعها أو بطئها في سياق ما أسماه فرانكوفيتش عميلة نمو الضمير الأمريكي فإن هذا ما ننتظره، لعل الرؤية تسعفني حول ما يستجد لأستكمل أوراقا وسطورا عن ماهية الفنان في هذا الزمن الساخن المربك، بمشروع مقال لاحق، ربما أعنونه: «إيقاع الوقائع.. في نمو الضمير الأمريكي الواقع».

جريدة القاهرة في

01.06.2004

 
 

فيلم مايكل مور المعادي لجورج بوش يخرج قريبا الى صالات السينما الاميركية

سيكون في وسع الجمهور الاميركي ابتداء من الصيف مشاهدة الفيلم "فهرنهايت 11/9" للمخرج مايكل مور الذي حصل على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان للسينما ما يغذي آمال المخرج المعادي بشدة لجورج بوش في المساهمة بهزيمة الرئيس الاميركي في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر.

ويثير هذا الوثائقي الهجائي العنيف اللهجة مخاوف استديوهات هوليوود الكبرى وليس فقط مجموعة والت ديزني وستتولى في نهاية المطاف توزيعه في الولايات المتحدة استديوهات "لاينز غايت فيلمز" الكندية المستقلة.

واعلن مايكل مور على موقعه على الانترنت باحرف ضخمة صفراء على خلفية سوداء بدء عرض فيلمه في الولايات المتحدة الجمعة 25 حزيران/يونيو وكأنه يعتز بتمكنه من التغلب في نهاية الامر على "الرقابة" التي ندد بها لدى نشوب السجال مع شركة ديزني.

وسيعرض الفيلم في الف صالة من خلال شركة انشئت خصيصا لهذا الهدف بين "لاينز غايت" ومجموعة "آي اف سي انترنينتمنت" وشركة "فيلووشيب ادفنتشر" التي انشأها خصيصا الشقيقان هارفي وبوب واينستين اللذان اشتريا بصفة شخصية الاسبوع الماضي جميع حقوق الفيلم.

وصرح جون فيلتايمر رئيس مجلس ادارة لاينز غايت بحسب ما ورد في البيان الذي اعلن عن الاتفاق في وقت متأخر مساء الثلاثاء ان "مايكل مور مبدع موهوب ويشرفنا ان نتولى توزيع فيلمه الاخير".

و"فهرنهايت 11/9" يحمل بحدة على الحرب على العراق ويفضح الروابط القائمة بين عائلة بوش وعائلة اسامة بن لادن. وهو من انتاج استهديوهات ميراماكس التابعة لشركة ديزني والتي يديرها الشقيقان واينستين.

وكان ينبغي اساسا ان يفيد الفيلم من قدرات مجموعة ديزني التوزيعية الواسعة غير ان رئيس مجلس ادارة المجموعة مايكل ايزنر رفض في مطلع ايار/مايو توزيع الوثائقي تحت شعار مجموعته الترفيهية. وقال "لسنا شركة ملتزمة سياسيا" مؤكدا على واجب لزوم الحياد في هذه الفترة الانتخابية.

وتؤكد مجموعة ديزني انها اوصت الشقيقين واينستين قبل اكثر من عام بالامتناع عن انتاج مثل هذا العمل السياسي غير انهما قررا عكس ذلك وراهنا في قرارهما على الاصداء المتوقعة للفيلم والضجة الاعلامية المحتومة التي سيحظى بها.

وكتبت صحيفة "نيويورك تايمز" الاربعاء ان السعفة الذهبية التي فاز بها هذا العمل في مهرجان كان في 22 ايار/مايو لم تكن كافية لحمل شركة دينزي على تبديل موقفها كما انها لم تقنع شركتي وارنر براذرز (مجموعة تايم وارنر) وباراماونت (فياكوم) اللتين رفضتا توزيعه.

وقال مايكل مور مساء الثلاثاء "اود الترحيب مع فرودو وسام (الشقيقين وينستين) اللذين يترأسان فيلوشيب الان بشركتي لاينز غايت وآي اف سي اللتين انضمتا الى سعينا من اجل ان نقدم للجمهور ترفيها عائليا جيدا" في اشارة ساخرة الى افتقار الاستديوهات الكبرى الى الجرأة.

ومن المقرر بعد الولايات المتحدة عرض الوثائقي في خمسين دولة على الاقل في اوروبا واميركا اللاتينية واليابان وحتى تايلاند وسنغافورة بحسب ما علم الاربعاء من مصدر مقرب من الفيلم.

واكد المصدر الذي طلب عدم كشف اسمه لوكالة فرانس برس ان شركة "وايلد بانش" الباريسية التي تقوم بمهام وكيل دولي للشقيقين واينستين وجدت موزعين للفيلم في "خمسين دولة على الاقل".

وعلم كذلك ان شركة التوزيع "مارس فيلمز" تخطط لتوزيع "200 الى 300" نسخة في فرنسا. كما سيبدأ عرض الفيلم في السابع من تموز/يوليو في سويسرا وبلجيكا وهولندا على ان يخرج الى الصالات في 23 تموز/يوليو في اسبانيا وفي 14 اب/اغسطس في اليابان. اما في كندا فلم تحدد شركة التوزيع "آليانس" اي تاريخ حتى الان.

موقع الـ MSN في

03.06.2004

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)