تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

"هلب" لمارك أبي راشد بعد حرمانه إجازة العرض وغضب المحافظين عليه

ســيــنــمــا  الــوشـــايــة  يــرجــمــونــهـــا  بـالــحــجـــار!

هوفيك حبشيان

بهذا الفيلم لمارك أبي راشد، يخرج ما يُعرَف بالسينما اللبنانية، الى حدّ ما، من الغيبوبة التي سقطت ضحيتها فيلماً بعد فيلم. بعد "البوسطة" و"سكر بنات"، اللذين ندرك تمام الإدراك انهما ينتميان الى نوع ثانٍ من السينما، ها نحن أمام تجربة جديدة ومختلفة، تناقض في اطروحاتها ما استنتجه الفيلمان المذكوران عن جزء من المجتمع اللبناني، بخطابين يلتقيان في مكان ما، وكانا قريبين الى درجة كبيرة من الخطاب الرسمي العام، والدليل ان أحداً لم يزعل منهما بل رُفعا على الراحات، وأظهرا لبنان مكاناً يحلو فيه العيش، على رغم كل الأزمات التي كان عرضة لها. فيلم أبي راشد ليس من النوع الذي يرضي وزارتي الثقافة والسياحة، وهذا شيء ايجابي. من السياحة فيه لا شيء، ومن الثقافة (والوشاية) فيه ما يكفي ليُغضب المسؤولين الذين منحوه "قرشين" كمساهمة في انجازه، ثم ابتعدوا عنه قدر المستطاع. الشريط هو باكورة سينمائي شاب، عاشق لأفلام روي أندرسون ووودي آلن (يقول عن الأخير: حين يطعن بسكين في ظهره، يصبح المشهد هزلياً ومأسوياً في الحين نفسه)، كان لا بدّ أن يأتي عاجلاً أو آجلاً، ومجيئه ضروري ويشير الى الكثير، منه أن سينما البلدان المتخلفة والنامية لا يسعفها واقع أن تكون أحادية الجانب ودائماً في يد "المحظوظين" ممن ينتزعون التمويل من الشركات الأجنبية. ولا يسعفها أيضاً أن تبقى رهينة لنزوات المنتجين الفرنسيين. الفيلم كان يجب أن يكون، أقله ليكذّب هذين الفيلمين، ويقول أشياء في الواقع اللبناني غابت عن بال الأفلام الأخرى التي انجزت بدءاً من النهاية المزعومة للحرب الأهلية.

السينما بركان يصب غضبه على المُشاهد. والمتعة التي يشعر بها السينيفيلي الحقيقي كثيراً ما يكون مصدرها الانزعاج جراء متابعة فيلم لا تسلية فيه. ولعل الاستقبال السيئ الذي حظي به الفيلم، في بلد صغير وعقليات ضيقة، يؤكد ما قاله مراراً وتكراراً برهان علوية عن الجمهور اللبناني في انه لا يحبذ أن تنعكس صورته على الشاشة. "هلب" لا يفعل الاّ أن يضع الفاعل والمفعول به وجهاً لوجه. اذاً هناك مواجهة معلنة، وعداء وضغينة، وما من ظاهرة أكثر صحية من هذا كله في السينما. واذا رأينا هؤلاء المهمشين الذين يصوّرهم أبي راشد في فيلمه، قد همّشوا الى أقصى درجات التهميش، فذلك لأن هناك من بين المشاهدين، واحدا أو إثنين أو أكثر، ممن ساهموا في تهميشهم. لكن لا أحد (لنقلْ قلة) يريد أن يلتفت اليهم أو يستمع الى خبرياتهم. الكل بريء من جريمة أن يهمّش البعض في مجتمع ينادي بالتنوع ويدّعي العفة والطهارة. الفيلم يفضح جزءا كبيرا من هذه الاكذوبة الجماعية. لكن الفضيحة، الشيء الأعز الى قلب السينما، هي الأخرى مدانة!

أشياء كثيرة، جزء منها مكتوب وآخر مسموع، قيلت في هذا الفيلم، ومعظمها ينم عن جهل وتخلف وعدم معرفة بثقافة السينما، لا بالسينما فحسب. نحن في شباط 2009، ولا يزال يرد على بال البعض "بياع الخواتم" (يوسف شاهين ــ 1965)، عندما تُلفظ أمامهم كلمة "سينما لبنانية". في حين أن كثراً يناضلون، كلٌّ على طريقته، للقضاء على الرقابة اللبنانية، بعض من حملة الأقلام الرديئة يساهمون في أن ترفع الرقابة رأسها وتقول: "أرأيتم، هناك من يؤيدنا". حراس الأخلاق الحميدة يؤكدون بمنطقهم هذا أن الرقابة هي حقاً بدعة مجتمع لا بدعة سلطة وأن الرقابة الرسمية أكثر رحمة من رقابة الناس. بعض الكتابات تدمّر اليوم ما صنعته أيادي النقاد الكبار في هذا البلد، عاماً بعد عام، وما ناضل من أجله أمثال سمير نصري. وفي بلد مثل هذا، مزنر بالجهل والعفن والعنف، لا تستطيع ان تلقي اللوم على هؤلاء، فيما الناشر هو الذي يفترض فيه أن يتحمل مسؤولية ما يُنشر في مطبوعته. وعليه، من غير الطبيعي أن تكون الصحافة، بعدما كانت قدوة، قد وصلت الى هذه الحال من الانحطاط: "أولاد" يُسمح لهم بأن يكتبوا عن فيلم، ليقولوا مثلاً أن "الكادر يرتجف لأن الكاميرا محمولة على الكتف"، وأنا على يقين، لا بل أؤكد، أن صاحب جملة من هذا النوع لا يعرف ان "دوغما" لارس فون ترير موجود. وآخرون، على التلفزيون هذه المرة، يتوجهون الى المخرج بأكثر الأسئلة غباء وسذاجة في تاريخ الصحافة: "ألا تعتقد أن هذا الفيلم يسيء الى صورة المجتمع اللبناني؟". كأن المجتمع اللبناني أفضل من أي مجتمع آخر. وأنه مجتمع نموذجي لا شوائب فيه ولا غبار عليه. واذا مشينا بمنطق هؤلاء، فهذا يعني أن المجتمعات كلها شوِّهت صورتها من خلال السينما! نحن أمام حالة غريبة اذاً. نخجل أن نقول إن حالة بنجامين باتن لا شيء قياساً بهذه الحالة!

 

أياً يكن، أميل الى الاعتقاد أن الفيلم فضح خارج الشاشة أكثر مما فضح داخلها: الكل تبرأ منه، ما ان شاهدوا نهدين لممثلة شابة حتى صرخوا "يا للفضيحة والجرصة!"، بدءاً من جهات يفترض أنها تدعم الفيلم وصولاً الى أطراف آخرين اعتبروا أنفسهم "خُدعوا" وتورطوا في صناعة هذا "العمل المشين". نكتب ما نكتبه ونحن مصابون بالذهول، لأن الفيلم أعادنا سنوات الى الخلف. بعد ما سمعناه، هنا وهناك من كلمات تنم عن تخلف عميق لا شفاء منه، بتنا نخجل من مطالبة الرقابة بأن تذهب الى أمكنة أخرى. الحجة نفسها تنزل على رؤوسنا مع كل فيلم يفضح هذا المجتمع المريض ويعرّيه: "هذا ليس مجتمعنا... هذا ليس نحن... هؤلاء ليسوا أولادنا". هذا المستوى من التفكير، الذي يعالج ويستنتج ويحسم نيابة عن كل فرد، يذكّرنا ببعض النقاد في مصر ولا سيما الذين لا يزالون يناقشون ما اذا كان يجب أن يكون في السينما، 47 عاماً بعد رحيل ماريلين مونرو، اغراء أم لا. وقال لي أحدهم في معرض الحديث عن الفيلم: "لي بنات، ولن أسمح لهن بمشاهدة هذا الفيلم". وبمَ نرّد على هذا الكلام؟ ألا يكفي أن يكون الفيلم ممنوعاً لمن هم دون الثامنة عشرة؟ ولأن النقد أنزلق شيئاً فشيئاً في خانة الرأي، ولأن الرأي محصن بألف ذريعة وذريعة تعوق امكان المناقشة، فـ...  

ماذا اذاً في هذا الفيلم الشيطاني الذي يغضب الى هذا الحدّ اللبناني المحافظ وكل من يصنف نفسه طاهراً ويعيش في بلد لا مثليين فيه ولا عاهرات ولا أولاد تأكل من القمامة؟ هنا بيت القصيد: هؤلاء المحافظون يريديون سينما على شاكلة أفكارهم، تكون انتقائية الطرح، تستر أكثر مما تعري. ذلك لأن الحالة تكبر وتزدهر حين تصل الى الشاشة الفضاحة. التعرية هي ما يفعله أبي راشد في فيلمه هذا عبر مجموعة شخصيات. هناك أولاً علي، صبي في الرابعة عشرة، ثمرة الفقر المدقع ولامبالاة الدولة ورعايتها لهذه الفئة. هناك أيضاً ثريّا (جوانا أندراوس)، عاملة الجنس التي تجني المال من خلال تأجير جسدها في مقابل خمسمئة دولار أميركي. هناك أيضاً جانو، ذو الميول الجنسية الواضحة. وهناك توأمان كبيرا السنّ يلتقيان، من ضمن لقاءات أخرى تجري في خلال الحوادث. هؤلاء نماذج عن اقصاء الأكثرية للاقليات.

"هلب"، يولد من خلاصة اللقاءات بين هؤلاء، على طريقة الفيلم الكورس الذي راج في الغرب (ألتمان، ب. ت. أندرسون، أرجوكم أعفونا من المقارنات) الذي وصل أوجه مع "بابل" لايناريتو و"الهضبة المشتعلة" لأرياغا. وانتظروا من الفيلم أن يلد ثانية وثالثة، عند كل مفترق جديد، وكل لقاء في مدينة يسهل فيها ترتيب حوادث فيلم كورس لأن "الكل يعرف الكل". مع ذلك، فالحبكة بسيطة وهشة: أحد التوأمين لا ينطق الاّ بعبارة واحدة: "على ثريا أن تموت". ويريد أن يقتل ثريا لقصة غامضة لا يطلعنا النص الاّ على شذرات منها، رغبة منه في أن ينام الفيلم على هذا السر. أياً يكن، ليست الدوافع مهمة، بقدر ما هي النتيجة. على ثريا أن تموت لأنها ليست كمثيلاتها اللواتي لا نراهن في أي حال. نحن في قلب الواقع اللبناني: من لا يعجبك، تلغيه!

يمكننا أن نذهب الى أبعد في ذكر المراجع السينمائية التي يوحي بها الفيلم، لكن نخشى الوقوع في المغالاة. "هلب" لا شك انه يذكّر ـــ وأقول يذكّر ـــ برعونته وعفويته وحلوله التقنية (صوت غير مسموع أحياناً، كاميرا غير مضبوطة كلياً، خيارات أمكنة التصوير، نوعية الحوارات، نمط التمثيل، الخ)، بـ"الموجة الجديدة الفرنسية" والـ"فري سينما" الانكليزية. ولا يمكننا أن نرى في البيئة التي يصفها، وطريقة غوصه في أعماقها، الا امتداداً منطقياً لسينما "أندرغرواند" تحتاج الى أن تجد لها منبراً في لبنان، لأن ثمة عالما سفليا مهمشا تماماً، ساقطا عن السينما اللبنانية النظيفة.

لم أقل الى الآن أن الفيلم تحفة. وهو ليس عملاً نهائياً أو طليعياً ينسف المعتقدات والمفاهيم (ونحن لا نزال في انتظار هذا الفيلم العجيب الذي سيفعل ذلك). بل ليس حتى فيلماً كاملاً متكاملاً من حيث الصيغة التقنية أو البنية السردية. أبي راشد ليس مارون بغدادي أو غسان سلهب. لكن لا يمكن أن نقطع الطريق عليه. وخصوصاً أنه يأتي من مكان آخر، من السينما المحمولة على الظهر التي تجرّب أمامنا، ولا تخشى من التهور على مرأى من المُشاهد. ولعل الفيلم محض محاولة للمضي في اتجاه غير مضمون. اتجاه لا يسلكه الجميع. ولا شكّ أن رجمه بالحجار يزيده أهمية. لأن وحدها الأشياء التي تحمل مبلغاً من الحقيقة تُشتَم لدى ظهورها الى العلن. أليس كذلك؟

لعل أهم ما يظهره الفيلم هو البيئة التي تجري فيها الحوادث ويخرج منها الشخوص. حسبي أن الحكاية برمتها ليست أكثر من حجة للغوص في هذه الجماعة، التي لها الحق في أن تكون. البيئة هي أهم ما في نظرة المخرج، اذ تتضمن الحركات الطبيعية لشخوصها، بلا تقليد سهل أو تجسيدية كاريكاتورية. وتبدو فكرة لامعة لجوء المخرج الى بعض الشخصيات التي هي فعلاً من هذا المحيط. في نظرته أيضاً شيء من هذا الغول الذي يخافه الجميع: الواقعية. يأتي أبي راشد من سينما مطلع الستينات، يسيطر عليه انبهار التسعينات لجهة اللجوء الى الحبكة المركبة والسقطة المخادعة. لكن تقطيعه، المتنقل مثلاً بين إثنين يتحدثان على الهاتف، ليس ستينياً على الاطلاق. وهذا ينسحب على إفراطه في استخدام الموسيقى التصويرية (أهو فرض ام خيار؟) التي تجعل لحظات الصمت شبه معدومة، واللقطات كأنها عائمة في الفراغ.

 

استيتيكية الفيلم بلونيها المائلين الى الأزرق والأخضر، تمنح الصورة طابع "غلوك". يبرع المخرج في مشاهد العتمة أكثر مما يبرع في المشاهد الملتقطة نهاراً. أبجديته السينمائية لا تزال محدودة، تصل، في بعض الفصول، الى البدائية: نسمع أحدهم يقول عن الدعارة إنها مهنة "وسخة"، ثم نرى صاحبة الشأن تستحم! جوانا أندراوس تستعجل قليلاً في التمثيل والمشي، ملزمةً الفيلم ايقاعها الخاص المرتبك. أداؤها على الحافة، ظهورها الأول وهي تقود، تضخيم واسقاط، وكان يمكن أبي راشد ضبط تجاوزاتها المسرحية. على رغم ذلك، نحيي جرأتها في الدور، ومشهد المجامعة الثلاثية (هي وشابان) لا يصدم الاّ السذّج الذين لم يشاهدوا فيلماً ايروسياً واحداً في حياتهم. كادرات الفيلم ضيقة من باب عدم اهتمامه ببيروت وجماليات المدينة. شغله الشاغل هو الشخوص وكيفية مواجهتم الواقع اللبناني الذي لا رغبة له في استيعابهم. هناك بعض الهنات التقنية الخاصة بالفيلم الأول التي لا تنفك تطفو على السطح، وأهمها الوصلات الخاطئة للمونتاج والميكساج: عيار صوت الراديو في السيارة يبقى مرتفعاً عندما تنتقل الكاميرا من داخل السيارة الى خارجها. أياً يكن، فنحن ازاء سينما وشاية من نوع آخر. لا تتهكم ولا تشفق ولا تدين. روائية لكن وجعها وثائقي. تنقّب في بيئة لبنانية موازية لعلها تعثر على شيء. وتعود من المهمة سلّتها فارغة وحزينة، وفي قلبها حكاية من لا يحظون بمستمعين.

() Help ـــ  لا يزال في انتظار تصريح الرقابة لعرضه في الصالات المحلية.  

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb)  

 

"الحالة الغريبة لبنجامين باتن" لديفيد فينتشر في الصالات المحلية

الـــزمــن عـلــى عــكــس مـا  نــشـــتــهــيــه

لا أحد كان يتوقع من ديفيد فينتشر أن يكون على هذا القدر من الكلاسيكية (العظيمة الشأن) في جديده، على رغم ما كان يشي به فيلمه السابق، "زودياك"، من علامات ذات إرث هوليوودي كبير بدأت تتضح عند صاحب "سبعة". على رغم ذلك، فقد فعلها وانضم الى قافلة السينمائيين الذين يتحلّون بحكمة أكبر قلما تقدموا في السنّ. التقدم في السن هو مادة "الحالة الغريبة لبنجامين باتن"، لكن في المقلوب أو في الاتجاه المعاكس لعقارب الساعة. يصور فينتشر تأثير الزمن في أكثر من 80 سنة من التاريخ الأميركي، متسلحاً بحكاية قوية ومؤثرة، فنبدأ بالجاز وأجواء العشرينات في نيو أورليانز الأميركية وننتهي بتهديدات الرعد صحبة امرأة عجوز تنازع (كايت بلانشيت، لا تعرفها!) في أحد مستشفيات المدينة نفسها، في انتظار أعصار "كاترينا" الذي سيأتي ليمحو آخر أمجاد هذا التاريخ المجيد والحافل بالإنجازات الكبرى، بدءاً من الحرب العالمية الثانية وصولاً الى صعود أول رجل على سطح القمر وتفاصيل أخرى. لكن هذا التأثير للزمن الذي يمضي فينتشر في رصده، على مدار أكثر من ساعتين ونصف الساعة، نراه أولاً وأخيراً على الجسد، جسد بنجامين باتن، الذي يولد عجوزاً في الثمانين ويُكتب له أن يعيش بالمقلوب، أي أن يستعيد شبابه الى أن يصير طفلاً رضيعاً ومن ثم يموت.

هذه الفكرة، أي السير بعكس الزمن، لا تأتي من فراغ، فهي ما يسعى اليها ساعاتي كفيف، نكتشفه في مطلع الفيلم، يفبرك ساعة بغية أن تعلَّق في احدى المحطات وتسير عقاربها الى الخلف، لربما يساهم هذا في أن ينهض ابنه الذي ذهب الى الجبهة ومات، في العودة الى عائلته. مشهد تعليق الساعة يغدو مناسبة عظيمة لفينتشر كي ينجز واحداً من أكثر المشاهد التي ستبقى ماثلة في الوجدان السينمائي، وهو المشهد حيث نرى أجساد الجنود تخرج من جوف أرض المعركة وتسير الى الوراء. اللافت في الحكاية المستوحاة من قصة قصيرة لأف سكوت فيتزجيرالد من 44 صفحة، هو ان جسد بنجامين تسقط عنه، شيئاً فشيئاً، علامات الزمن من تجاعيد وشوائب، لكن العقل يذهب في اتجاه النضج. أياً يكن، فهذا أكثر الأفلام غرابة واحتفاء بالانسان وحياته يأتينا من الولايات المتحدة منذ زمن طويل. ثم ان الفيلم هائل في ضخامته ومشهديته العريضة، اذ يأخذنا من حقبة زمنية الى أخرى، ليجعل من بنجامين شاهداً حياً على عصره.

ما من بدعة رقمية تعصى على فينتشر: تبريج سيليكوني عجيب لوجه براد بيت، إنفجار مذهل لباخرة وسط المحيط، الخ. واذا كان فينتشر "يشطّ" في بعض اللقطات، ففي مكان آخر تكفيه مثلاً لقطة واحدة جوية لباريس ودوائرها العشرين، لنحاط علماً بأننا في العاصمة الفرنسية. يصور فينتشر التحولات كلها التي حلت بأميركا على مدار نحو ثمانية عقود، علماً انه كلما تقدمنا في الزمن الى الأمام، قلّت التفاصيل الى حدّ أن فينتشر يقرر في خاتمة الأمر أن يحجب عنا مشهد إعصار "كاترينا" التي يضرب المنطقة. بالنسبة الى فينتشر، فإن سرّ الفيلم ومنطقه العام يكمنان في هذه الساعة التي تجعل الزمن يجري على عكس ما يشتهيه الزمن، أي خلافاً لمبدأ السيرة الذاتية الذي يفرض أن يولد البطل طفلاً ويموت عجوزاً. من هنا، لا يمكن إعتبار "الحالة الغريبة لبنجامين باتن" فيلماً تقليدياً كلاسيكياً في جانبه المضموني.

يشيّد فينتشر عالماً غريباً، نشعر فيه بالخواء الرائع وبنوستالجيا تسحق القلب، على رغم أنه عالم عصيّ على اللمس. وتتجلى هذه الروحية في مشاهد اللقاءات المتتالية بين بنجامين وإمرأة أريستوقراطية (تيلدا سوينتون) في فندق شبه خال من الزبائن والزوار. اللافت في قصتهما العابرة القائمة على رومنطيقية حالمة (نعم، حتى فينتشر يؤمن بالرومنطيقية)، ان هذه المرأة التي تدعى اليزابيت تهوى السباحة، لكن خلافاً لبنجامين، لا تسير عكس التيار. مذذاك، يتبدى جلياً لنا أن بنجامين يستمد "مشروعية" حالته الغريبة من حالة الآخرين الطبيعية. لكن الأهم في هذا انه يظهر كم أن بنجامين شخصية رمزية تجمع كل المهمشين في العالم، الذين يسيرون عكس زمنهم.

لافتة ومدهشة أيضاً القصص المحاذية التي يعيشها بنجامين في السنوات الاولى من حياته، شيخاً، في مأوى للمسنّين. من هذا المكان تبدأ قصة بطلنا حيث يرميه والده، بعد انقضاء دقائق على ولادته، اثر اكتشافه بأنه طفل في وجه عجوز يحتضر. من هذا المكان يبدأ كل شيء والى هنا يعود بنجامين، في فصول متعددة من عمره، مرةً رجلاً ناضجاً، ومرةً مراهقاً على وجهه حبّ الشباب، ومرةً طفلاً يحتاج الى رضاعة. يصبح هذا المكان بالنسبة اليه على مر الزمن صدر المرأة الذي يحتاج اليه تماماً كما يحتاج الى التمرد عندما يصبح مراهقاً يجوب مناطق مختلفة من العالم، ومنها الهند. بيد أن لبنجامين أمّاً أخرى، وهي، هذه المرة، من لحم ودم. تدعى كويني. مأوى المسنّين الذي تديره وتحرص عليه كبؤبؤ عينيها، هو صورة مصغرة لهذه الأميركا الكوزموبوليتية، اذ فيه من جميع الألوان والطبائع والميول. فيه أيضاً مغنية الأوبرا والرجل الذي تطارده الصاعقة أينما حلّ (قفشة الفيلم التي تضحك الجميع في الصالات).

ولكون بنجامين يستعيد الشباب تدريجاً، ولا يستطيع تالياً أن يبقى في هذا المكان الى الأبد، فإن نص أريك روث يأخذه من مكان الى آخر، مخيباً آمال المُشاهد بالآتي: لن يعيش بطلنا مغامرات على قياس طموحاته، ولن تكون فتوحاته العاطفية هوليوودية بامتياز. لا يستثمر اريك روث، صاحب نص "فوريست غامب" (1994)، مأوى المسنين كـ"ميكروكوزم" لأميركا في أواسط القرن الماضي، وسيلة لنرى العيوب والميزات في هذه القارة التي يختصرها بلد واحد، بل يضع نصه كله في خدمة نظرة فينتشر الذي يحوّل تجربة بنجامين الملهمة أحلام يقظة. في هذا الجانب نستطيع الاعتماد على فينتشر ليأتينا بفيلم يحلّق، أقله بصرياً، في فضاءات عالية جداً: مشهد التاكسي الذي يستحضر هيتشكوك؛ مشهد وصول بنجامين الى نيويورك ليشاهد أمرأة حياته دايزي (بلانشيت) ترقص على المسرح؛ مشهد اصطحاب والده الى ضفاف البحر ليتأمل الغروب...

أكثر المشاهدين قسوة لا بد أن ينفعلوا ازاء لقطات متقطعة ومختزلة تحكي ما تحكيه عن رجل سرعان ما يتحول، في وجدان كثيرين، رمزاً للتضحية والتحدي. في حياة فقيرة نسبياً، قياساً بما سيكون شاهداً عليه، ستتقاسم حياة بنجامين امرأتان. الاولى، كويني، والدته بالتبني، والثانية ديزي؛ الاولى سيخسرها، لأنه سيتعرف اليها في عمر متقدم لا يسمح له بأن يرضع حليبها، والثانية سيخسرها ـــ بعد ان يلتقيا في منتصف طريق الوجود ـــ لأنه بات في عمر أقرب الى المراهقة منه الى سنّ الرشد. هكذا، من حادث تاريخي الى آخر يدور في خلفية الصورة، يعيش بطلنا المضاد، الكئيب والمقل كلاماً (وما أكثر "الأنتي هيروز" في السينما المعاصرة)، إخفاقاً تلو إخفاق، خيبة فوق خيبة. وعلى رغم كل معاركه الخاسرة والجميلة، ثمة ما يحض على التصديق بأنه كان سارع الى العودة من حيث هو، لو قيل له إن دايزي ستكون في انتظاره، لمرة أخيرة، على رأس هضبة وتحت ضوء قمر نيو أورليانز. لأن الحياة تستحق أن تُعاش على رغم كل شيء وخصوصاً اذا اكتست السعادة المنتظرة وجه امرأة.

()  The curious case of Benjamin Button ـــ يُعرض في "غراند ــ أ ب ث، كونكورد" و"سينماسيتي" و"أمپير ــ صوفيل، اسپاس، غالاكسي".

 

خارج الكادر

كل ما يريده عيّوش

يسحب نبيل عيوش البساط من تحت اقدام الكثيرين من السينمائيين العرب. ويحقق مع "كل ما تريده لولا" (حالياً في صالات "غراند - أ ب ث") ما كان يحلم به سواه من صانعي الأفلام في العالم العربي: أن يتاح لهم تصوير العالم والثقافة العربيين، وهم جالسون في كرسي مخرج أميركي يتبنّون وجهة نظره. لم يتح لكثيرين من العرب أن يأتوا في فيلم لهم بشخصية اميركية تزور عاصمة عربية بغية تحقيق حلم، فيبقون ملتصقين بوجهة نظرها ملغين أنفسهم. يحبط عيّوش ادعاء بعض المتطرفين العرب بأن السينما الغربية لا تقدم صورة سوية للعرب على طول الخط (والادعاء يتحول حقيقة في بعض أفلام الارهاب). يُحبط لأنه يتبدى جلياً أن صورة العربي التي يلتقطها عربي آخر من مسافة، مطابقة الى حدّ كبير للصورة التي يلتقطها الأميركي لهذا العربي من مسافة.

وماذا لو لم تكن المشكلة في الأميركي بل في العربي، أو على الأقل في الصورة التي يعكسها الأخير عن نفسه، كون الصورة تبقى على حالها، سواء تقرّب منها عيوش أو سبيلبرغ. وهي على كل حال ليست صورة سيئة. فالغش والسرقة والحياة المزدوجة التي نراها في "كل ما تريده لولا"، ليست وقفاً على أهل القاهرة التي تزورها لولا (لورا رمسي في تمثيل جدير بالتحية) بغية تعلم الرقص الشرقي على يد راقصة شهيرة تدعى أسمهان (كارمن لبّس). ورأينا الآف الأفلام التي تري حقارة غربيين يسرقون ويقتلون ويبيدون. وما من اعتراض يُذكر. اضافة الى أن لولا ايجابية ازاء الشخصية المصرية. تأتي الى القاهرة ولا تعرف الكثير مما ينتظرها هناك. كل ما في الحكاية أنها تتعرف الى زكريا في بلادها نيويورك وتغرم به، لكنه يتخلى عنها. وحين تسافر من أجله الى القاهرة تجده ابن اريستوقراطية مصرية، لا يريد علاقة بأجنبية تريد الرقص مهنة لها. وعلى رغم ما تتعرض له من إهانة من طرفه، نجدها تساير الجميع وتبتسم لهم، وتقيم علاقات ودّ ولا تكره أحداً في مصر.

ترى، ما سبب امتعاض جهات مصرية من الفيلم؟ ولماذا سحب من الدورة الأخيرة لمهرجان الإسكندرية؟ لا يمكن تصديق الرواية الرسمية التي تفيد "ان الفيلم يسيء الى سمعة مصر". قد تكون هناك خلفيات أخرى لهذا الغضب الذي انهال على الفيلم، لكن ما يهمنا منها هو الحسابات الفنية. الحق، أنه لم تكن في الفيلم اهانة الى مصر. كل ما في الأمر أنه يري "أم الدنيا" مكاناً لتزمت كثير. ثم أين الاستشراق لدى عيّوش في هذا؟ على أي حال، هذا ليس رأي الغرب بالعرب بل أيضاً رأي العرب بأنفسهم. وهذا التزمت الأخلاقي هو ما تتعرض له الراقصة أسمهان، استاذة لورا في الرقص، بعد ان يدينها مجتمعها جراء فضيحة أخلاقية مرّغت صيتها في الوحل. اثر ذلك، اعتزلت الفنانة وتحجبت وجلست في بيتها، لكن يومياً يرميها الأولاد بالحجار عندما تحاول اصطحاب ابنتها الصغيرة الى المدرسة.

قصص كثيرة مطابقة لهذه القصة وردتنا من مصر: فنانة تتحجب اثر شريط فيديو جنسي لها يدور على الانترنت، والى ما هنالك من قصص تأتي من صميم المجتمع المصري. اضافة الى الحرفة العالية لعيّوش التي يستعصي على سائر السينمائيين المصريين بلوغها، شيء آخر قد يكون مسّ الـ"ماتشية" (الذكورية) المصرية، وهو أن النساء في الفيلم ضحايا الرجال. فأسمهان أخفت وجه عشيقها حين التقت الباباراتزي الصورة ــ الفضيحة حرصاً على سمعته. أما لولا فصارت ضحية دون جوان لا يريد لقرار المرأة أن يكون أقوى من قراره. أما الصديق الوحيد لها فهو شاب مصري يهوى الرجال! كل هذه العناصر مجتمعة دغدغت غرائز الشوفينيين في مصر، والمعروف انهم لا يحتاجون الى دفّ كي يبدوأ في الرقص. مع ذلك لا يقطع عيوش الأمل: "يجب أن ننتقد أنفسنا والاّ تحولنا كاريكاتورا في أيدي الآخرين".

هـ. ح.

النهار اللبنانية في

26/02/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)