تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

مخرجه كان الأصغر في افتتاح مهرجان البندقية

'كفارة': حب تقهره الغيرة فينتصر له الموت

لينا أبو بكر

الزمان: مشارف الحرب العالمية الثانية

المكان: جنوب مدينة لندن

لن تعثر على حقيقة الحب في الحكايا والقصص، لأنه يجب عليك أولا أن تكف عن البحث عن الحب كحقيقة، ليس لأنه كذبة، وإنما كون المستحيل هو من يصنع الأسطورة! قد يتدخل الموت في حياكة الأسطورة بل قل الحقيقة، حينها يكون بمقدورك التعامل مع الحب كدلالة زمنية تفقد ارتباطها بالزمن إذ تمهد للخلود!

'كفارة' عمل سينمائي مقتبس من رواية تحمل نفس الاسم، للكاتب البريطاني 'Ian McEwan' 1948 - والتي كانت ضمن قائمة الأعمال المرشحة لجائزة 'بوكر' للعام 2002، الرواية حازت جائزة أفضل عمل لنفس العام في 'تايم مغازين'، ولم تكن هذه هي الرواية الأولى التي يتم تحويلها إلى عمل سينمائي للكاتب إنما تم اقتباس العديد من كتاباته لبلورتها سينمائيا، علما بأن 'McEwan' حاز جائزة 'بوكر' 1998 عن روايته 'أمستردام' اضافة الى 'جائزة شكسبير' التي تمنحها إحدى المؤسسات الألمانية التي تأسست عام 1931. له العديد من الأعمال المسرحية، والموشحات الدينية، وأدب الأطفال 'الخيالي'، وله آراؤه الساخنة حول المجتمعات الدينية المتطرفة، منها المجتمع الإسلامي، هو عضو زميل في المجمع الملكي للأدب والفن، تزوج مرتين، الزوجة الثانية تعمل محررة لقسم التدقيق اللغوي في 'الغارديان'.

لا شك أن الكاتب ـ وبعيدا عن أية اعتبارات إيديولوجية ـ يعتمد في نصه على خلق تركيبة نفسية مشحونة بالصراعات الداخلية، والمكنونات الشيطانية، التي لا تتجاوز متطلبات الشر الإنساني، وهو إذ يبرع في الإبقاء على جمرة الرواية متقدة في صلب العمل السينمائي فإنه يقبض على وهج الصورة وهي تتسلل من الشاشة إلى النص، وهذه ديناميكية قصوى يلتقي بها الساكنان 'النص الروائي والنص السينمائي' ضمن حراك دائري لا يشكل انغلاقا بقدر ما يعمل على تحويل الدائرة إلى عجلة متحركة.

كتب سيناريو الفيلم: 'Christopher Hampton'، واخرج العمل 'Joe Wright' تم إطلاق الفيلم في المملكة المتحدة وإيرلندا في ايلول/سبتمبر 2007، ثم أطلق في أمريكا الشمالية في كانون الاول/ديسمبر من نفس العام، وبه افتتحت الدورة 64 لمهرجان البندقية للأفلام العالمية، ليجعل من مخرج الفيلم البالغ من العمر 35 عاما أصغر مخرج يفتتح هذا الحدث منذ انطلاقته.

قام بدورالبطولة كل من الممثلين الشابين: 'Keira Knightley Jame McAvoy 'استحق الفيلم جائزة الأوسكار، وكذلك نال جائزة أفضل عمل من الـ ' 80th Academy Awards '، وفي 61st British Academy Film Awords 'نال جائزة أفضل عمل سينمائي للعام 2007، بالإضافة لجوائز عديدة عديدة حازها أوترشح إليها ، وكان قد تم ترشيحه لست جوائز أخرى منها أفضل صورة وأفضل عمل سينمائي روائي، وأفضل ممثلة مساندة : 'Saoirse Ronan'1994 - أمريكية إيرلندية إحدى المرشحين للـ' Academy Awards ,Golden Globe' وتعد الشقراء الصغيرة الممثل الأصغر 'رقم 11 'التي يتم ترشيحها لتلك الجائزة، والممثلة السابعة التي ترشح للممثلة المساندة.

القصة تدور حول مؤامرة تحيكها 'Briony Tallis' والتي تجسدها 'Saoirse Ronan' فتاة تبلغ من العمر 13 عاما، وهي احدى ثلاثة أبناء لعائلة إنكليزية تنتمي إلى الطبقة الارستقراطية، أختها الكبرى 'Cecilia' التي تؤدي دورها 'Keira Knightley' تلقت تعليمها في جامعة كامبردج، إلى جانب 'Robbie Turner' الذي يجسده 'James McAvoy' ابن أحد الخدم في القصر، بحيث تكفل 'أبو سيسيليا 'بتسديد نفقات تعليمه، وهو إذ يتوجه إلى مدرسة طبية خلال أيام السنة، فإنه يكرس عمله خلال فصل الصيف في حديقة القصر، من الواضح أن الأخت الصغرى كانت معجبة بابن الخادم، منذ بداية الفيلم، ومنذ البداية أيضا تستقبل العائلة أبناء العمومة 'لولا 15عاما، وأخويها التوأمين' الذين كانوا يزورون القصر وسط ظروف طلاق أبويهما، وفي نفس الأجواء يتم استقبال الأخ الوحيد في العائلة 'Leon' الذي يأتي بصحبة صديق هو 'Poul' هذا الصديق موسر كما يتضح إذ يمتلك مصنع شوكولاته ويحصل على عقد لتمويل حصة الجيش من الطعام.

تقوم العائلة بترتيب حفل عشاء خاص على شرف الابن 'Leon' وتدعو إليه ابن الخادم الذي يسارع بقبول الدعوة، لا شك أن هنالك أحاديث جانبية تدور بين أفراد العائلة حول انضمام 'Robbie 'إلى حفل العشاء، إلا أن هنالك خيطا سريا يوشج العلاقة بين البطلين، ربما كان حبا او ربما انجذابا، وربما كان في حقيقته زمنا مؤجلا، هذا ما ستعلن عنه الكاميرا خلال التطور الانفعالي في العمل السينمائي، بما ان الحكاية هنا تعتمد على الانفعال المكبوت الذي لا يعلن عن تصاعده سوى ضمن تشظيات نفسية محمومة تندلع فجأة رغم أنها تقبع على رأس فوهة منذ أمد!

تتجه الكاميرا إلى الفتاة الصغرى 'Briony' حيث تكون قد أنهت كتابة مسرحية تتحدث فيها عن العراقيل التي تواجه الحب ، وهي إذ ترمي في روايتها إلى 'انفعالاتها' الخفية، وميلها إلى ابن خادم وهي التي تنتمي إلى عائلة موسرة من طبقة برجوازية، لم تدر أنها ستكون بطلة الحكاية ليس لكونها المعشوقة، بل لأنها المؤامرة التي تضع العراقيل في درب اثنين لم يجمع بين قلبيهما سوى الفراق!

المسرحية، لم تحظ، باستحسان أبناء عمومتها، مما يعكر مزاجها، فتتجه إلى غرفتها، لتشهد وحدها لقطة محددة، تغير مسار الحدوتة 'الرؤية الروائية لدى كاتبة المسرحية' إذ تطل من النافذة، فتلحظ توترا 'أيروتيكيا' بين أختها وبين 'Robbie'، قرب ينبوع صغير في الحديقة، حيث تنزل 'Cecilia' الى البحيرة لتسترد قطعة مكسورة من 'فازة' ثم لتخرج من عين البحيرة مبللة بالماء، والماء لباس شفاف يتكشف عن جسد يضج بالأنوثة، فيضرم أسارير الغواية، هنا تحديدا تخطئ الفتاة الصغرى تقدير العلاقة بين الاثنين، فقد ظنت أن 'Robbie' يتحرش بأختها، طبعا الكاميرا في تلك اللقطة تنقل ما تصورته الفتاة، إلا أن العين الحقيقية ترصد المشهد مرة أخرى ضمن مجريات الفيلم طبقا لما حصل فعلا بينهما، وما حصل كان الشرارة التي وضعت نارها على جمرات محتقنة، يمر الأمر تاركا شحنة مكبوتة في نفس 'Briony'، ومسلطا الضوء على غرفة متواضعة للشاب الذي تأججت في نيرانه حمم واتقدت في روحه غوايات، يجلس أمام الآلة الطابعة ليكتب رسالة اعتذار صغيرة لـ'Cecilia'، يسلم الرسالة للأخت الصغرى التي تعد بتسليمها، إلا انها تفتحها قبل ذلك لتطلع على مضمون شبقي تعتبره تحرشا ـ فتحتفظ بالرسالة بداية، لكنها بعد علمها بدعوة ابن الخادم على العشاء تقوم بتسليمها لاختها كنوع من الحقن ضده ، غير أن ما يحدث هو ان تغتبط الأخت الكبرى للعبارة الإيروتيكية، محاولة إخفاء انفعالها ،لاحظ كم الانفعالات الخفية المكبوتة في الفيلم، وربما كانت تلك هي الشخوص الشبحية للأبطال، الظلال أو الأصداء، والتي لعبت دورها الرئيسي في البناء السينمائي، أما وقد حانت أمسية العشاء، فإن العاشقين يتجهان بعيدا عن أعين الجميع نحو غرفة المكتبة، وهناك يتبادلان حبا أولا وأخيرا، لكنه حب لم يرتو بعد من سحر اللحظة حيث تفتح الأخت الصغرى عليهما الباب مبدية تعجبها واستهجانها لواقع الأمر، مشتعلة بالغيرة والحقد، هنا يتجه الاثنان إلى طاولة العشاء محاولين تجنب النظر للفتاة، وعلى مائدة الطعام يتداعبان بانامل سرية تتسلل من تحت الطاولة لاقتناص عرى الشغاف بين محبوبين لن يلتقيا بعدها أبدا، وهو أيضا انفعال يحاول الخروج من بوتقة المكبوت.

أحد الخدم يعثر على رسالة كتبها التوأمان، يقرّان بهروبهما من القصر للعودة إلى والديهما، وهنا يتفرق الرجال للبحث عنهما في حديقة القصر، وتسلك الفتاة الصغرى طريقها في العتمة مشاركة في البحث عنهما لتتعثر بابنة عمها مع رجل كان ينبطح فوقها، صرخت 'لولا' مدعية طلب النجدة وعدم معرفة الرجل الذي اغتصبها وفر هاربا، في تلك اللحظة تحديدا تنكشف خيوط المؤامرة 'مؤامرة موت' تقتنص الشقراء الماكرة الموقف بخبث، فتسدد انتقامها إلى ابن الخادم حيث تدعي رؤية الرجل الفار ومعرفته، وتدلي بشهادتها امام رجال 'البوليس' الذين تم الاتصال بهم للتحقيق بالأمر بعدما جن جنون العائلة للفعلة المشينة التي ارتكبها الشاب، طبعا 'سيسيليا' لا تصدق الأمر برمته، بل وتهاجم أختها بعنف وتحد، مصرة على بطلان الشهادة، وضمن تلك اللقطات المتوترة يعود ابن الخادم إلى القصر وقد عثر على التوأمين، غير متوقع ما ينتظره، يعتقله رجال الشرطة، وسط تشفي الأخت الصغرى، ونقمة الأخت الكبرى على ماحدث والتي تترك بدورها القصر لتنعزل بعيدا عن عائلتها وتهجرهم سخطا وغضبا وقد شاركوا بالتآمر على عشيقها إذ صدقوا كذبة أختها.

ينتقل المشهد إلى طور زمني آخر حيث تكبر الشقراء، تترك دراستها في كامبردج لتتطوع في العمل ضمن فيلق التمريض في الحرب، التي كانت رحاها مستعرة آنذاك، كنوع من التكفير عن الذنب الذي ارتكبته، يظهر وقتها Robbie وقد خرج من السجن وقد أثبتت عليه التهمة، إذ يتم تجنيده متطوعا في قوات الاستطلاع البريطانية، يختبئ في أحد المنازل الفرنسية مع زميليه الذين انشقا عن وحدتهما خلال الاجتياح الألماني لفرنسا، ورغم أنه سجين سابق غير مؤهل للتكليف الرسمي إلا أنه كان يقود فرقته لما يتمتع به من كفاءة، وقد رقاه رئيسه متجنبا الارتباك تجاه التهمة الموجهة إليه، في لقطة 'فلاش باك' يتم نقل حوار يدور بين العاشقين في لندن بعد خروجه من السجن، وقد تواعدا على اللقاء، وهي لقطة تصورية من ذاكرة المخيلة لا تمت بصلة إلى أية ذاكرة حقيقية، وفي لقطات تبادلية بين الممرضة الشقراء تحاول إسعاف الجنود، وبين 'روبي' إذ يبدو مريضا ومنهكا، وباديا عليه الإعياء، ينتظر الإجلاء إلى منطقة أخرى فيغط بنوم عميق، نرى العائلة تزور مصنع الشوكولا الخاص بذلك الصديق الموسر 'بول' تحضر 'برييوني' حفل زفاف 'لولا' و'بول' وحينها تدرك أنه الرجل ذاته الذي رأته، في لقطة 'فلاش باك' تغادر الحفل مستجمعة شجاعتها لمواجهة أختها بفعلتها والاعتذار لها، وفعلا تعثر على عنوانها في حي شعبي، تسكن منزلا صغيرا متواضعا مع 'روبي'، في هذه الأثناء يخرج 'روبي' من غرفة النوم غاضبا يحاول التهجم على الفتاة، طالبا منها أن تعترف أمام الجميع بفعلتها وأن تكتب رسالة خطية كي يسلمها بدوره إلى المحامية، غير أن Briony، تؤكد له أن لولا أصبحت زوجة بول وأن القانون لن يتخذ بحقه أي إجراء قانوني، تقوم سيسيليا بالتهدئة من روعه، لتغادرهما هي كي تخبر الحقيقة.

وهنا ينتقل الفيلم إلى الطور الزمني الأخير فجأة لعام 1999، حيث الفتاة الصغيرة تمثل أمام إحدى شاشات التلفزة - في حوار تلفزيوني حول آخر أعمالها الأدبية 'كفارة'- عجوزا هرمة، تؤدي دورهاVanea' Redgrave' تكشف عن إصابتها بمرض يضرب الذاكرة ويقتل من يصاب به 'vascular dementia'، وهو ما حدى بها لكتابة رواية هي في واقع الأمر أول رواياتها إذ تعتبرها رواية لسيرتها، وبهذا تعبر عن ندمها تجاه ما اقترفته، معترفة أنها بدلت النهاية التي آل إليها الحب في الواقع، بالطريقة التي تم عرضها في الفيلم حتى تمنح الفرصة لأختها وعاشقها أن يتمتعا بالسعادة التي يستحقانها، والتي تشعر أنها سرقتها منهما، يتم إغلاق المشهد الأخير بلقطة تجمع العاشقين معا أخيرا، الخلفية تم اقتباسها من بطاقة بريدية لمنحدر ساحلي على خاصرة بحر إنكليزي، كانت بعثت بها سيسيليا لروبي كعهد أن يكونا معا يوما ما!

المشهد الواقعي الذي قامت الكاميرا باقتناصه من المشهد التصوري للكاتبة العجوز، هو ما حدث في واقع الحقيقة فـ'روبي' يموت إذ يغط في نومة أبدية لا يصحو بعدها، لحظة كان ينتظر قرار الإجلاء، لتلحق به سيسيليا بعد فترة قصيرة إذ تقضي غرقا في أحد الملاجئ. فهما بعد حفل العشاء لم يلتقيا أبدا!

لا شك أن المراوحة بين المشهدين تم التقاطها بعدسة ماهرة، استطاعت أن توازن بين الانفعال الحقيقي والانفعال البديل، كون الانفعال البديل تجسده الرواية على اعتبارها كفارة عن خطيئة هي الذاكرة، فإذا ما اعتبرنا الزمن عنصرا انفعاليا أيضا فلابد أننا نمارس تلقائيا انفعالا من نوع آخر، يتجلى بردة فعل تتبع سير العمل السينمائي عبر الزمن، لا عبر الحدث!

ليست العملية برمتها سوى اجتزاء ذاكرة رديفة لذاكرة أصلية، تهيل عليها التراب إذ تمضي بها إلى السرير الأخير، دون عودة، تاركة وراءها أثرا انفعاليا يعبر عنه ندم يجتر الذكريات على بوابة الموت.

هل يمكن لنا حينها أن نعتبر الكتابة صكا للغفران؟ هل الكتابة هي الذاكرة أم أنها النسيان؟

وإذا ما كان 'McEwan' هو الماكرة الشقراء التي حبكت 'الكفارة' بهذه الروعة فهل لنا أن نعد الخطيئة نقمة أم أنها نعمة لايستحقها سوى معشر الأدباء منا؟

لا بد أن الفيلم يشحنك بأسئلة لا تتطلب جوابا بقدر ما تثير انفعالا حميما مع الصورة، فالأبطال في هذا العمل السينمائي وجوه سينمائية جديدة تبث الحيوية في عروق الشاشة الهوليوودية، وقد عبرت عن براعة في تقمص الشخوص الروائية، بل لربما كان الأداء التمثيلي الأبرع هو ذلك الذي استجلى الانفعالات الخفية من مكنونات استطاعت عين الكاميرا سبر أغوارها وإدراك أعماقها التي تغلي وتفور بصمت جارف!

الصورة وإن لم تكن صامتة تماما إلا أنها تواطأت مع ذلك الصمت كونها تؤدي وظيفتها التي يمليها عليها النص، وهو تواطؤ فني يشهد له، إذ يستبدل الكلمة بالتعبير عن الكلمة التي لم يتم البوح بها، الكلمة على اعتبارها اللغز لا المفتاح!

'كفارة' إذن عمل سينمائي ضخم تم تصويره بين جنوب لندن وبعض أحياء فرنسا، خلال صيف 2006، وقامت بإنتاجه الـ'Working Title Films' لتترك في خزانة السينما العالمية عملا مبهرا، فنيا وأدبيا، فتثري ذلك المخزون السينمائي الضخم، لتحتفظ ببصمة دامغة هي الخطيئة، الجثة الطازجة لكفارة يانعة.

شاعرة وكاتبة فلسطينية- لندن

القدس العربي في

23/02/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)