في ذكرى النكبة.. أثر الشتات في السينما الفلسطينية
أفنان فهيد – التقرير
في منتصف الليل، بين يومي 14-15 مايو، أعلنت القيادة العسكرية
الصهيونية قيام دولة إسرائيل، وأعلن الشعب الفلسطيني يوم 15
مايو/آيار بدء شتاته، وبدأت المآساة بصورة رسمية.
الشعب الفلسطيني، كمعظم الشعوب، التي قررت محاربة الهزيمة بالفن
والأدب، وخصوصًا؛ عندما يتعلق الأمر بالهوية، وتصدير رسائل للعالم
تبلغه “أننا لازلنا هنا نقاوم”.
عانت السينما الفلسطينية بالأخص دونًا عن باقي الفنون والآداب
مشاكل عديدة، منها المشكلة الرئيسة وهي البقاء، فاستغرقت بعد
النكسة وقتًا لا بأس به حتى لملمت شتاتها، وعادت للظهور من جديد
عبر الأفلام الوثائقية، التي هدفت من خلالها توثيق المآساة قبل أن
يُحرف التاريخ، ثم بدأت تظهر الأفلام الروائية، ولكن غلب على القصة
العامة، التيمة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفالها؛
الاحتلال، وصراع البقاء.
كما أن وطأة الاحتلال قسّمت المجتمع إلى نصفين، نصف حوصر بالداخل،
وقسم حوصر بالخارج، مَن بالداخل يتوق للخروج –أو معظمه بحثًا عن
حياة أفضل-، ومن بالخارج يحلم بالعودة.
في هذا التقرير نتعرض لشطري المجتمع الفلسطيني باستعراض فيلمي “ملح
هذا البحر”، و”أمريكا”.
ملح هذا البحر 2008..
فيلم “ملح هذا البحر”، سيناريو وإخراج “آن ماري جاسر”، مخرجة
فلسطينية، ولدت في “بيت لحم، بفلسطين” عام 1974، ركزت في أعمالها
على حق العودة، بشكل رئيس، وعلى وضع الشعب الفلسطيني داخل فلسطين
المحتلة.
في نهاية الفيلم، كُتب إهداء لذكرى النكبة وخاصة مذبحة الدوايمة،
وإهداء ثان، للرجال الذين فقدناهم وحبهم للبحر، ليافا..
تدور أحداث الفيلم عن (ثرية – سهير حماد)، الفتاة الفلسطينية التي
ولدت في الشتات، بالولايات المتحدة، بعدما أُخرج جدها عنوة من
منزله بـ”يافا” وتربى والدها بمخيمات لبنان.
“ثرية”… قررت أن تعود لوطنها بأي شكل من الأشكال، فتقدمت بطلب
لاستخراج تأشيرة تسمح لها كمواطنة أمريكية زيارة بلدها الذي تحول
اسمه إلى دولة إسرائيل.
من المشهد الأول؛ توضح لنا “آن ماري جاسر” كيف يعامل الفلسطينيين
بمجرد أن تطأ أقدامهم الأرض المحتلة، والمضايقات التي تمارس ضد من
يعرف بأنهم من أصل عربي، ناهيك عن أصل فلسطيني، لا تتأثر “ثرية”
كثيرًا من هذه المضايقات، وتحاول الاندماج مع فكرة أنها عادت
أخيرًا لوطنها، حتى لو كانت التأشيرة لمدة أسبوعين فقط، ففي كل
الأحوال لم يكن في نيتها العودة إلى نيويورك.
تتعرف “ثرية” على (عماد- صالح بكري)، الشاب الفلسطيني الذي لم
يسافر خارج رام الله منذ سبعة عشر عامًا، ولم يفلح في استخراج
تأشيرة سفر من فلسطين لكندا، بالرغم من حصوله على منحة تعليمية في
كندا، بسبب التضيقات التي تمارسها الحكومة الصهيونية على الشعب
الفلسطيني.
لذا شعر “عماد” بأنه محاصر، مطوق من جميع الجهات، يريد الخروج من
رام الله بأي شكل، وإن لزم الأمر الخروج من فلسطين كلها.
“ليش جيتي هون بالضبط؟ مافيش إيشي هان.
-ولا محل فيه إيشي.
الحياة أحسن في محلات تانية، فليش؟
-كان إلنا إيشي هون، كان إلنا حياة، سرقونا.”
الأمر مختلف بالنسبة لـ”ثرية” التي ولدت وتربت بالخارج، فهي لم تعد
لفلسطين للبقاء برام الله، فهي تريد الذهاب لموطنها الأصلي “يافا”
والحصول على أموال جدها بأي شكل من الأشكال، لذا تقوم بمغامرة مع
“عماد” وصديقهما (مروان- رياض إيديس)، ليلعبوا أدوار ثلاثة
مستوطنين ويذهبوا أخيرًا إلى “يافا” معًا.
“اتفقتوا إذا هما يقرروا إذ أنا فلسطينية ولا لأ؟!“
بعد محاولات لا جدوى منها مع المصرف الفلسطيني للحصول على أموال
جدها المدخرة به، والتي اكتشفت أنه لا أمل في عودتها بسبب استيلاء
الصهاينة عليها، حاولت مرة أخرى أن تحصل على جنسيتها الفلسطينية،
وبالتالي تحصل على إقامة بفلسطين، لتبوء محاولتها تلك بالفشل.
تعثر “ثرية” على منزل جدها الذي تقطنه إحدى المواطنات
الإسرائيليات، التي تبغض العنف وتريد حلًا سلميًا للطرفين، فترحب
بهم وتستضيفهم عدة أيام إلى أن تطلب منها “ثرية” أن تشتري منها
المنزل، وهنا يبدأ الصراع.. فالمرأة لا تستطيع بيعه والحكومة
الإسرائيلية لن تقبل ذلك بأي حال، وبين أن “ثرية” تريد منها اعتراف
شفوي أن جدها تم طرده عنوة من هذا المنزل وأنها أحق به.
تعمدت المخرجة “آن ماري جاسر” أن يظهر الشخص المسيطر على الوضع
بظهره لا بوجهه لتضفي نوعًا من الغموض والرهبة، ولتُركز الكاميرا
على انفعالات البطل، أو البطلة، انفعالات الغضب والقهر.
كما فلعت في مشهد طرد “عماد” من المطعم، فظهر رب العمل بظهره،
وركزت الكاميرا على وجه “عماد”.
الكادرات بصفة عامة تسير في إطار ضيق، كالذي يسير فيه الشعب
الفلسطيني، كادر صغير ومحدود، يركز على ملامح الممثل فقط، ولا يعرض
الكثير مما حوله، وكأنها تقر حقيقة أن لا شيء حوله أصلًا.
وفي المشاهد الخارجية، يكون التصوير من بعيد، حيث يشمل التغيرات
التي حدثت بعد النكبة، من جدار عازل، ومستوطنات، والبحر الذي لا
تتغير ملامحه ولكن تغير روّاده الذين أصبحوا كلهم صهاينة، حيث لا
يستطيع فلسطيني أن يصل إلى هناك إلا هربًا.
ثم تأخذنا الكاميرا في جولة بقرية “الدوايمة” التي تم تطهيرها
عرقيًا في 28 / 10 / 1948، وبقيت خاوية على عروشها كمحمية طبيعية
يأتيها الصهاينة للتعرف على تاريخهم المزور.
النهاية لن تكون سعيدة لكلا الطرفين، ولكنها الواقع الشعب
الفلسطيني منذ 67 عامًا، مهما حققوا من انتصارات كالخروج من رام
الله إلى يافا إلى الدوايمة، لكنها تبقى انتصارات صغيرة، تثير
حفيظة الإحتلال نعم، ولكنها صغيرة، لن تحل الأزمة الحقيقية. الفيلم
إنتاجه مستقل، قامت به “آن ماري جاسر” وعشرة آخرين، والموسيقى قامت
بها “كارمن راستكار” وتنوعت بين الموسيقى الخاصة بالفيلم وأغاني
قديمة وحديثة.
شاهدالفيلم من هنا.
أمريكا 2009..
فيلم “أمريكا” سيناريو وإخراج “شيرين دعيبس”، إنتاج أمريكي-كويتي
مستقل.
تدور أحداث الفيلم حول (منى- نسرين فاعور) أم مطلقة، تعول ابنها
وأمها المسنة، قدمت هي وزوجها قبل أمر انفصالهما على هجرة إلى
أمريكا، وتم قبول طلبها بعد أن انفصلت عن زوجها. شجعها ابنها للمضي
قدمًا في أمر الهجرة.
“– بس بابا مش بالسهولة هاي، نقوم نضب اغراضناـ ونروح ع بلد تاني
كأننا زوار.
-أحسن ما نكون مساجين ببلدنا“
جميع الظروف المحيطة دفعت “منى” لقبول أمر الهجرة، لتبدأ معاناة
جديدة بالخارج، فقد سافرت وابنها لأمريكا في الوقت الذي اجتيحت فيه
العراق، لتبدأ مآساة المواطن العربي بالخارج، من أول النظرات، ثم
المضايقات اللفظية، ثم رسائل التهديد بالقتل، ثم التعدي بالضرب
وخلافه.
مآساة “منى” تختلف؛ فقد فقدت أموالها القليلة في المطار، لتبدأ من
الصفر، أولًا، تبحث عن وظائف خالية تتناسب مع مهنتها السابقة
كموظفة في مصرف، ثم تبدأ البحث عن وظائف أقل، إلى أن ينتهي بها
الحال كعاملة في مطعم.
فوق هذا كله تظل المشكلة الحقيقية مهيمنة على الوضع العام، وهي
الغربة، فمهما كانت البلد الجديدة جميلة، وأناسها لطاف، يبقى شعور
الغربة ملتصقًا بـ”منى” وأختها (رغدة- هيام عباس)، التي سبقتها
وهاجرت من فلسطين منذ خمسة عشر عامًا، لكن الشعور بالغربة لم
يفارقها أبدًا، وتود أن تعود لموطنها في أول فرصة.
عندما تفكر “منى” بأمر العودة، تتصل بوالدتها لتخبرها بأمر اعتقال
أخيها لعدة ساعات، قاموا خلالها بتعذيبه، لتنظر “منى” لابنها
(فادي- ملكار معلم)، وتطرد فكرة العودة من رأسها.
رغدة، وبالرغم من إقامتها بأمريكا لأكثر من خمسة عشر عامًا، وولادة
بناتها الثلاث بالولايات المتحدة وحصولهم جميعًا على الجنسية
الأمريكية؛ إلا أنها لازلت متمسكة بالمبادئ والعادات العربية.
في أحد المشاهد؛ عندما يصل “فادي”، ابن منى، و”سلمى” ابنة رغدة، في
وقت متأخر، تقف الوالدتان في مواجهة أبنائهما، في صورة حصار، ثم
عندما تنقلب موازين القوى في صالح “سلمى” عندما تواجه أمها
بالحقيقة، وهي أنهم يعيشون الآن في أمريكا، وأنهم مواطنون
أمريكيون، لينتقل الكادر من صورة الحصار إلى صعود الفتاة الدرج،
لتبقى أمها بالأسفل تصيح في محاولة يائسة منها “طالما تعيشين بهذا
المنزل فأنتِ تعيشين في فلسطين”، ليظهر المشهد وكأن القوى
الأمريكية بالأعلى، والقوى العربية بالأسفل.
في أحد المشاهد، يذهب مجموعة من الطلاب العنصريين الذين يدرسون مع
“فادي” و”سلمى” بنفس المدرسة للمطعم الذي تعمل به “منى”، ويبدأون
في مضايقتها هي والعامل الآخر ذو المظهر المختلف، فتلاحقهم “منى”
لتسقط على ظهرها نتيجة سكبهم لمشروب على الأرض.
فكرة المشهد لم تنطو فقط على مشاغبة هؤلاء المراهقين، أو على
السقطة المدوية لـ”منى”، بل احتوت رمزية للوضع العام للعرب، حيث
يتم استفزازهم ليردوا بشكل غير مدروس، فيقعون في نفس الخطأ مرة تلو
الأخرى.
الموسيقى التصويرية للفيلم قام بها “كريم رستم” ودمجت نوعين من
الموسيقى، أولًا الموسيقى والأغاني العربية، كأغاني “ماجدة الرومي”
و”مارسيل خليفة”، وثانيًا الأغاني الأمريكية الحديثة.
فيلم أمريكا، عكس فيلم “ملح هذا البحر” انتهى بنهاية جيدة، ولكن
كلاهما استعرضا بشكل مختلف معاناة الشعب الفلسطيني داخل وخارج
بلاده، وأن الأزمة في كل الأحوال ستظل واحدة، وهي الاحتلال.
“لارس
فون ترير” و”بيلا تار”.. خطان متضادان لنهاية العالم
نهاد زكي – التقرير
لم تمر أسطورة حضارة المايا عن نهاية العالم عام 2012 بسلام،
فبدءًا من عام 2011 شاهدنا العديد من الأفلام التي صنعت خصيصًا من
أجل الاستفادة من بروباجندا الحدث.
لكن من بين كل الأعمال التي قُدمت في 2011 /2012 عن النهاية؛ هناك
عملان استثنائيان، هما ملحمتان للنهاية.
ويبدو أن الذي أثار لارس فون ترير في ميلانخوليا، أو بيلا تار في
حصان تورين لم تكون أسطورة المايا ذاتها، بل فلسفة الفناء، فغزل كل
منهم تصوره الخاص جدًّا والمتفرد عنها.
يبدأ لارس فون ترير فيلمه بمشهد ملحمي، يختصر الأحداث كلها، مشهد
يمكنه أن يصنع فيلمًا خاصًّا به، بموسيقى فاجنر بالحركة البطيئة
للممثلين، بالعروس التي تبتلعها البحيرة في مشهد جنائزي، وغصون
الأشجار التي ستكون طوق نجاة أخير في النهاية، وجواد وحيد شاهد على
كل ما حدث، ثم ثلاثة أضلاع المثلث التي ستبقى للنهاية وتعاصرها،
الأم، الابن، العروس. والكوكب الذي يقترب من الأرض ليبتلعها، ثم
الفناء.
لن نتحدث عن تحليل الأحداث بالفيلمين، بل عن ديناميكية العبور إلى
النهاية و إرهاصاتها؛ فلارس فون ترير في ميلانخوليا يلعب على وتر
مغاير تمامًا لما أنتهجه بيلا تار في حصان تورينو.
فنجد البطلة ” كريستن دانست ” في الجزء الأول من الفيلم في مشهد
غاية في الجمال لكابوس متكرر تشاهده، وهو للأغلال الصوفية التي
تكبل قدميها فيصعب عليها جرها، وقد تكون تلك الأغلال الصوفية هي
إنذار من قوتها الخفية والخاصة التي تمتلكها البطلة بالنهاية، لكن
إن تأملته جيدًا بعد المشاهدة الثالثة للفيلم ستجدها أغلال حياتها
الخاصة؛ العمل الذي لا تفضله لكنها تتقبل الترقية من المدير
الانتهازي والمستغل لها حتى في ليلة زفافها بصدر رحب، حفل الزفاف
الأرستقراطي الذي لا تطيقه لكنها تبتسم وتعمل جاهدة على استكماله،
الأخت الأرستقراطية التي نظمت كل هذا الحفل ولا تكف عن التململ
بخصوص النقود التي أنفقتها هي وزوجها على حفل زفاف، وغيرها من
الآغلال الصوفية التي تكبلها والتي ستتخلص منها في محاولة لاستعادة
ذاتها، فتخرج من حجرة زوجها دون أن تدعه يضاجعها في ليلة الزفاف
لتمارس الجنس مع شخص آخر، لكنه ليس إلا تفريغ لشحنة كبت وكآبة،
وربما في محاولة للتحرر من الجسد.
هذا الجسد فلكم، للمشاع، للطبيعة، لكن الروح فهي لها!
وتواجه مديرها بحقيقته، لتتحرر من عبودية العمل، لكن كل هذا ليس من
فراغ أيضًا، فاتصالها القوي بالكون يمكنها من استشعار النهاية، فهي
تمتلك الحاسة التي تمتلكها الأحصنة في استشعار الحوادث الكبرى،
فتتعري على الحشائش لتتصل بالطبيعة بل لتنصهر فيها وتمتزج بها، في
لوحة بديعة تعطيها الحياة حركة جسدها على العشب فتذكرني باحتفاء
Pierre-Auguste Renoir
بجسد المرأة العاري في لوحاته، خاصة لوحة المرأة المستلقية على
العشب، وقد تكون تلك اللوحة البديعة التي رسمها لنا لارس فوت ترير
بجسد كريستن دانست هي امتزاج بالطبيعة لمعرفة مكنونات تلك الدرجة
البالغة من الكآبة، وقد تكون محاولة للتحرر من الجسد المادي للوصول
إلى الروح، روح البطلة وروح الطبيعة أو للبحث عن الخلاص.
ولم تكن تلك هي اللوحة الوحيدة في العمل؛ بل سنجد في مشهد البداية
كادر لعروس تبتلعها البحيرة، والذي يكاد يكون متطابقًا مع لوحة John
Everett Millais
المسماة بـ”زهور أوفيليا” والتي تصورها في اللحظات الأخيرة قبيل
غرقها.
وقد لعب لارس فون ترير وبيلا تار على وتر الأحصنة في استشعار
النهاية، بتغير تصرفاتهم، فيتعثر جواد لارس فون ترير في مشهد
البداية الملحمي من الريح، في حين يمتنع جواد بيلا تار عن الطعام،
لكن ربما هو الخط الرفيع الوحيد المشترك بين نهاية لارس فون ترير
المضيئة ونهاية بيلا تار المظلمة.
وفي النهاية؛ نرصد حركة مقاومة النهاية عند لارس فون ترير، نرصد
إنكارها، ثم انتحار زوج الأخت عند تأكده منها، ونرصدها أكثر في ذلك
المثلث المصنوع من غصون الأشجار التي ستصنعه كريستن دانست لابن
اختها في النهاية كخيمة كانت قد وعدته بها في الجزء الأول من
الفيلم، لكنه في الحقيقة طوق نجاة كانت تأمل أنه سيحميهم، وسيخترق
هذا الضوء الساطع الذي اختار لارس فون ترير أن يكون بصمة النهاية
ليسكن فيه لا ليفنى.
أما في حصان تورينو فبيلا تار يسير في الاتجاه المعاكس تمامًا
لنهاية لارس فون ترير، يفتتح الفيلم بقصة “نيتشه”:
“فيتورينو، 3 يناير 1889 فريديريك نيتشه يخرج من المنزل رقم 6 إلى
كارلو ألبيرتو، ربما ليأخذ نزهة، وربما ليمر على مكتب البريد حتى
يستلم رسائله وفي مكان ليس بعيدًا عنها، وهو بعيد في الحقيقة يعاني
سائق المركبة من حصانه العنيد، ورغم كل إلحاحه إلا أن الحصان يأبى
أن يتحرك؛ وعندئذٍ فإن السائق -جوزيبي، كارلو، إيتوري- يفقد صبره
ويخرج السوط ليجلده. يصل نيتشه إلى هذا المكان ويضع حدًّا لهذا
المشهد الوحشي الذي يقوم به السائق الذي كان يغلي من الغيظ في هذه
الوقت، وفجأة يقفز نيتشه إلى العربة، وبالرغم من مظهره القاسي يحيط
برقبة الحصان بكلتا يديه، ويأخذ بالبكاء، يأخذه جاره إلى المنزل
حيث يستلقي لمدة يوم يجلس على الأريكة صامتًا وهادئًا حتى تمتم
أخيرًا بكلماته الأخيرة: “أمي، أنا أحمق”، وعاش بعدها 10 سنوات،
مخبولاً وهادئًا في رعاية أمه وأخواته. أما الحصان؛ فلا نعلم عنه
شيئًا!“.
ويختتم القصة بسؤال عن الحصان، في حين يفتتح مشهد البداية بحصان لن
نعرف أبدًا هل هو حصان نيتشة أم لا؟ إلا إنه حصان مُتعَب وعنيد،
ولن نعرف أبدًا هل نيتشه دخل في القيامة التي سنراها بعيون بيلا
تار؟
لكننا سنرى رجلاً في رعاية ابنته، ربما كما كان نيتشه في رعاية أمه
وأخواته، سنرى قيامة على مقاس بيلا تار وعلى مقاس قصة بدء الكون في
الكتب السماوية، ستة أيام، هي الحد الفاصل، هي الزمن اللازم لخلق
الكون أو لفنائه؛ لكن نيتشه صاحب فكرة موت الإله؛ الإله الذي سعى
نيتشه لتطهير العالم من بقايا ظله على الأرض، فهل الإله قد عاد من
نومته الأخيرة ليفني ما قد خلقه؟!
فبيلا تار؛ فُتن بقصة نيتشه عندما سمعها أول مرة لدرجة جعلته يقرر
صنع فيلم وقتها؛ لكن ربما الفيلم ليس عن نيتشه، ولا عن رؤيته
الفلسفية للأشياء، ربما هو عن الحصان، فربما بيلا تار قد قرر أن
يصنع أسطورة لهذا الحصان تحتوي نهاية هذا الكون كله، وفناء هذا
الجنس البشري الآلي، غير الرحيم، المتغذي على العنف والحروب منذ
بدء الخليقة، ويجسد ذلك في لوحات بديعة، فكل كادر كان لوحة قائمة
بذاتها، تحتوي على الجمال، البساطة، وتسيطر عليها روح الكآبة.
وعلى عكس لارس فون ترير في ملحمة وداعه؛ فنجد بيلا تار يجسد
الاستسلام للنهاية في أبهى صوره، روتين يومي لا يتغير على الرغم من
الرياح، من صعوبة الخروج، من حالة إعياء الجواد الذي يمتنع عن
الطعام، فالأبطال -وهم: أب وابنته- يعيشان بمفرجدهما، لن نرى
غيرهما تقريبًا طوال الفيلم -إلا بعض عابري سبيل- مازالا يمارسان
طقوسهما اليومية بدءًا من الاستيقاظ في الصباح الباكر، الابنة
تساعد الأب في ارتداء ثيابه، يحتسيان كأس فودكا، تذهب لتجلب المياه
من البئر، وتساعد الأب غير القادر على الحركة بمفرده -فهو نصف
مشلول- في الخروج بالحصان رغم الرياح، تمنعهما العواصف أو امتناع
الحصان عن الحركة، يدخلان المنزل يأكلان حبتين مسلوقتين من
البطاطس، ويتأملان النافذة إلى أن يحل الظلام، لن يغير من روتينهما
اليومي سوى زيارة بعض الغجر لهما، في مشهد مغاير لجو الفيلم القاتم
والرتيب، فها هم مجموعة من البشر يجوبون الأرض بالأغنيات والهمجية
والسُّكْر وكأن الأرض لهم، وكأنهم يحتفلون بالنهاية، ينتقمون من
الحياة، يعبرون من أجل شربة ماء من البئر الخاص بالأب والابنة،
وينطلقون في طريقهم المعاكس بعد أن يعطوا الابنة هدية “كتاب”،
ويستمر الروتين إلى أن ينضب ماء البئر فجأة، فيحاولان الرحيل، ولكن
محاولة رحيلهما ليست مقاومة للنهاية، بل من أجل استمرار الروتين،
وفي النهاية يفشلان حتى في محاولتهما هذه، فيعودان للمنزل يأكان
حبة البطاطس دون سلقها، وفي يوم آخر تنطفئ النيران في إشارة أخرى
ناحية النهاية، لكنهما لن يكفا عن ممارسة الحياة كما اعتاداها حتى
مشهد النهاية.
الأب والابنة وَحَبَّتَي البطاطس والظلام الذي يخيم شيئًا فشيئًا
على العالم، وكأن العالم عند بيلا تار يتجه نحو نفق مظلم، ولا
خلاص، فليس هناك احتياج للمقاومة، للتغيير، فلا أمل في الجنس
البشري، فالعدمية هي سيدة المشهد وبطلته الأولى. وعلى الرغم من أن
لارس فون ترير وبيلا تار يغزلان الثوب نفسه (ثوب القيامة) كآلهة
منمقة إلا إنهم يعزفان سيمفونيتين مختلفتين، فما بين ضوء لارس فون
ترير الساطع، وظلام بيلا تار الدامس، ليس هناك شيء مشترك سوى
اللاَّ خلاص! |