اكتسبت السينما المصرية ريادتها وتميزها على مدار أكثر من مائة عام
بفضل إبداع عدد كبير من صناعها كتاب وممثلين ومخرجين وإن أردت أن
تدخل أبواب التاريخ السينمائي المصرى،
فعليك أن تبدأ ببابها الأهم وإن لم يكن الأول فيها وهو باب سينما
صلاح أبو سيف رائد سينما الواقعية كما أطلق عليه النقاد فى مصر
والعالم صاحب أحد أهم عشرة أفلام فى قائمة الـ100 فيلم في تاريخ
السينما المصرية، هذه القامة السينمائية صلاح أبو سيف مرت مئوية
ميلاده في 10 مايو، حيث إنه من مواليد 1915، ومن الصعب أن نغفل هذه
الذكرى ولا نقف عند الحاضر فقط لسينما تردى إبداعها، وإنما كان
علينا أن نعود للوراء لنقلب صفحات من تاريخ صلاح أبو سيف وزمنه
الجميل لنكشف عن محطات مهمة في حياته صعدت به للقمة، وكان لنا حوار
مع نجله المخرج المتميز محمد أبوسيف الذي كشف عن جوانب جديدة في
حياة والده بعيداً عن الأشياء المعروفة لأن مدرسة صلاح أبوسيف
مختلفة ومبدعة وخالدة علي مر الزمان، فهو سجل وسطر وجسد تاريخ
واقعه وزمنه علي مدار 50 عاماً خلف الكاميرا وترك لنا أكثر من 40
فيلماً من روائع السينما المصرية!
قبل أن نبدأ الحوار عن رائد الواقعية حدثنا المخرج محمد أبوسيف عن
بداية والده كموظف بسيط في حسابات شركة غزل المحلة واكتشفه نيازي
مصطفي بالمصادفة عندما كان يصور فيلماً تسجيلياً عن شركات طلعت حرب
ورافقه في جولته صلاح أبوسيف ثم توسط نيازي لنقله لاستديو مصر،
وهناك عمل بالمونتاج حتي أصبح رئيس قسم المونتاج وتعرف علي زوجته
هناك وبعدها اكتسب خبرة عظيمة مكنته من الإخراج بعدما قام بدراسته
في إيطاليا وفرنسا.. تربي علي يد والدته بعد طلاقها من والده
العمدة الذي كان يريدها أن تعيش معه في بني سويف لذلك شب وعنده
عقدة نفسية من العمد والمشايخ وهو ما جعله يسخر منهم في كل أفلامه
خاصة «الزوجة الثانية».
·
ما الذي تستحضره في ذهنك عن صلاح أبوسيف في مئويته التي نحتفل بها
الآن؟
-
وحشنا جدا ومفتقدينه ونحن بحاجة لفنه وإبداعه الآن بعدما تردي
الوضع، نحن نفتقد إخلاصه وحبه للسينما وعزاؤنا الوحيد أنه ترك خلفه
تلاميذ وأحفادا يسيرون علي نفس النهج، شباب أبدعوا في السينما
ويقدمون أعمالا جادة وصادقة رغم ما يبدو علي السطح من رغاوي سريعة
الزوال.. وأضاف: أستحضر في ذهني الآن الأب والإنسان الذي عاش ومات
وهو متمسك بهدوئه وابتسامته رغم أنه كان يصنع نجوما ممثلين إلا أنه
ظل كما هو لم يتغير، أستحضر المخرج العظيم الذي بني مجده في
السينما والإخراج من نتاج تنشئته وتربيته وانحيازه للطبقة العاملة
والمهمشين التي عبرت بصدق عن واقعه وعما كان يريد أن يقول، ويكمل
محمد أبوسيف ربما اكتشفت أيضا في والدي أنني كل لحظة عشتها معه
كانت مهمة وكان عنده حق في كل نصيحة يوجهها لي ولأخوتي، ولم أتذكر
أنه قال لي يوما شيئا وتبين أنه خطأ إلا شيء واحد وهو اعتراضه علي
دخولي مجال السينما، وكان مخطئ الظن لأنه اعتقد أنني سوف أستفيد من
اسمه وأثبت أنني ليس لي علاقة به في عملي، أتذكر الإنسان والمخرج
الذي ظل هادئا في المنزل والاستديو وتميز بالبساطة والعقلانية
الشديدة ولم يلجأ للعنف حتي ونحن في قمة شقاوتنا ونحن أطفال إلا
مرة واحدة اضطر لضرب بقال في الاسكندرية شاهده يفتري عليّ وأنا طفل
في الحادية عشرة.
·
هل كنت تري في بدايتك امتدادا لوالدك؟
-
أنا تلميذه بحكم العشرة والتربية في كنفه لكن صعب أصنف نفسي
امتدادا له، لأنه بصراحة لا يوجد أحد امتداد للآخر، لاختلاف البيئة
والنشأة والمناخ والتركيبات الاجتماعية واختلاف الأدوار، ولم تحدث
في التاريخ أن كان أحد امتدادا للآخر حتي لو كان ابنه وبصراحة
أناعشقت هذا المجال بسبب المناح الذي عشته في منزل والدي وإنما كان
لي منهج وشكل مختلف عن صلاح أبوسيف لأن الزمان اختلف، ففي وقتهم
كانوا يحاربون عدوا أجنبيا أما الآن فنحن المصريون نحارب مصريين
أرادوا للأسف «بلع» البلد في بطولتهم وتحولوا لسرطان يجب أن نقضي
عليه وهم المسمون بالإخوان.
·
وما الذي يعلق بذاكرتك عن مواقف غير معروفة عن صلاح أبوسيف.. لا
يعرفها غيرك؟
-
مواقف كثيرة لعل أهمها عندما حضرت معه العرض الأول لفيلم «القضية
68» وكان به نقد ضد التيار الاشتراكي بعد نكسة 67 فأرسل جماعة
الاتحاد الاشتراكي بلطجية لضربه وتصديت لهم أنا والجمهور الذي كان
يعشق أبوسيف وأضاف: هذا يؤكد أن صلاح أبوسيف كان لا يخشي إلا الله
ورغم ما كان بنيه وبين «عبدالناصر» من احترام إلا أنه انتقده..
وأشار محمد أبوسيف لم أر أبي يبكي إلا ثلاث مرات في حياته وهي يوم
وفاة والدته «جدتي» ويوم وفاة «عبدالناصر» ويوم وفاة والدتي «زوجته».
·
وكيف ترصد علاقته برؤساء مصر الثلاثة الذين عاصرهم؟
-
كان بينه وبينهم احترام متبادل وجميعهم كرموه وأعطوه حقه في
التكريم، وبعد وفاته صدر طابع بريد باسمه وهذا أهم تكريم يناله
مبدع، وأضاف لم يصدم مباشرة بأحد منهم رغم أن معظم أفلامه كانت
تحمل طابعا وإسقاطا سياسيا علي الواقع وكان دائما مهموما ومشفقا
علي الراحل جمال عبدالناصر وكان دائما يري أن سلبيات عصره لم تكن
بسبب مباشر منه.
·
في رأيك لماذا اختفت الواقعية بشكل كبير بعد والدك؟
-
اختفت لأن الزمن الجميل البسيط اختفي وأصبحت الحياة أكثر فجاجة
والناس توحشت واختفت الطبقة المتوسطة التي كانت هي مخزن الأخلاق في
المجتمع المصري وقضي الضغط علي هذه الطبقة، وبالتالي انهار مخزون
الأخلاق في المجتمع وأصبحت الأخلاق في طبقة الـنصف في المائة لا
تعنيها ولدي الفقراء رفاهية والدليل ما نراه الآن من كم الفجر
والدعارة والدم الذي غزا السينما والدراما.
·
كان يقدس المرأة لكنه كان يقدمها مقهورة في أفلامه كيف تري ذلك؟
-
صلاح أبوسيف كان يقدس المرأة ويحاول أن يلفت نظر المجتمع الي ما
تتعرض له من قهر من خلال أفلامه أو ربما أدان بالكاميرا والده
العمدة الذي كان يعيش في بني سويف وتزوج أمه وأراد أن يجعلها تعيش
معه عندما رفضت طلقها وتولت هي تربيته، لذلك كان دائما يسخر من
عقلية العمدة في أفلامه مثلما حدث في «الزوجة الثانية». وأضاف محمد
أبوسيف بالمناسبة والدي ندم مثلا علي قتل «شفاعات» في فيلم «شباب
امرأة» وقال: لو قدر لي إعادة تصوير هذا الفيلم لن أحكم علي
«شفاعات» بالموت لأنني ظلمتها كما ظلمها المجتمع.
وأشار بالمناسبة هذا الفيلم قصة حقيقية عاشها و الدي في باريس
عندما تعلقت به سيدة وأرادت أن تستقطبه لعالمها بما لها مقابل
شبابه وربما كان هذا أحد أسباب عودته من باريس، وعندما عاد حكي هذه
القصة ليوسف جوهر صديقه وكتبها الاثنان فيلم وظهر «شباب امرأة»
بشكل مصري.
·
هل ندم والدك علي عمل سينمائي قدمه؟
-
إطلاقا.. فهو لم يتوقف سوي عند فيلم «الحب بهدلة»، وقدمه مجاملة
دون أجر لمنتج صديقه كان يمر بضائقة مالية وهو بطولة كمال الشناوي
وإسماعيل ياسين ولولا صدقي.
·
ولم يندم علي فيلم «حمام الملاطيلي» مثلا رغم ما أثاره من ضجة؟
-
الفيلم رغم أن الكثيرين يرونه من أفلام «البورنو» لكنه كان يحمل
غطاء سياسيا، وكان يرمز لانهيار الجبهة الداخلية لانغماس الناس في
ملذاتها وابتعادهم عند مشاكلهم الحقيقية، وأضاف: الفيلم بالمقارنة
لما يحدث الآن في السينما هو فيلم أراه «مؤدبا جدا» وواقعيا في هذه
الفترة.
·
هل هناك أسماء بعينها لصلاح أبوسيف فضل عليها في السينما؟
-
صلاح أبوسيف كان لا يميل للشلة ولم يختر أحدا في أفلامه إلا بعقله
وكان لا يميل للعاطفة لأن حله الأول والأخير هو السينما وكل فنان
عمل معه اختاره بإحساسه وعقله ولم يجامل أحدا وكان ينصحنا وينصح
تلاميذه بذلك ولم تكن له شلة معروفة سوي فطين عبدالوهاب وعبدالرحيم
الزرقاني ويوسف شاهين وحسن التلمساني وعبدالقادر التلمساني، وأضاف:
لكن منزلنا كان يستقبل نجوم هذا الجيل مثل أحمد مظهر ومديحة يسري،
وكان يحب دائما أن يقدم اكتشافات جديدة، فمثلا اكتشف مصطفي محرم
وكان يحبه ومع ذلك لم يعمل معه و اكتشف محسن زايد وعمل معه وكذلك
لينين الرملي ورأفت الميهي، وكان يحب نور الشريف ويؤمن بموهبته
لكنه لم يعمل معه، وكان «نور» يسأله «امتي هشتغل معاك يا أستاذ؟»
وكان يرد عليه ويضحك ويقول له: في انتظار العمل الذي أراك فيه.
·
وما حقيقة خلافه مع يوسف شاهين؟
-
لم يكن هناك خلاف بينهما وكانوا أصدقاء وإنما كل واحد منهم مدرسة
مختلفة ووالدي كان لا يحب الخلاف ولا يميل له وإنما كان صديقا
للجميع فمثلا عمل دويتو رائعا مع إحسان عبدالقدوس وقدم معه روائع
رومانسيات السينما مثل «لا أنام، أنا حرة، الوسادة الخالية».
وأضاف: صلاح أبوسيف قدم كل ألوان السينما كوميدي مثل «بين السما
والأرض» و«الزوجة الثانية» وسياسي مثل «القاهرة 30» والأكشن في
«الفتوة» والوحش والاجتماعي والاستعراضي في «سنة أولي حب» و«البنات
والصيف» والسياسي في «القضية 68» و«السقا مات» والديني مثل «فجر
الإسلام» و«القادسية» فهو كان مدرسة متنوعة في منهج واقعي.
·
ما الذي تعلمته منه بعد هذه الرحلة؟
-
ورثت عنه حب كتابة السينما مع الإخراج فهو كان يؤمن دائما أن كل
مخرج يقدم اللي بداخله ويخرج شبهة، وقدمت 90٪ من أفلامي في السينما
بالسيناريو والإخراج، وهذا ما اكتسبته من أبي وكان إضافة له كمخرج
وكذلك أنا فهي قدرات، وتعلمت منه أن المخرج لازم يتعلم يسمع حتي لو
من أصغر عامل في الاستديو وكذلك كان يقول دائما لا داعي لاستعراض
عضلاتك لأن الناس تعرف إنك المخرج.
وكان دائما يقول إن البلد الذي لا يقف وراء السينما يخسر سلاحا
استراتيجيا من الدرجة الأولي وصدق كلامه وأصبحنا نعيش حالة غزو
ثقافي لتمحو دور الفن المصري.
·
فيلم «الزوجة الثانية» تحول لمسلسل.. فكيف رأيته؟
-
من أسوأ ما شاهدت في حياتي فهو كان «سبوبة» تافهة من ناس شوهت
واحدا من أهم أفلام السينما وحولته لسلعة رخيصة.. للأسف من أجل
الفلوس وتاريخ من أنتجه معروف.
·
وكيف تري مشوار محمد أبوسيف في السينما؟
-
الحمد لله راضٍ عما قدمته بداية من «التفاحة والجمجمة» و«جحيم تحت
الماء» وفيلم «أولي ثانوي» الذي تم اختياره ضمن قائمة أفضل مائة
فيلم حتي فيلم «بطل من الجنوب» و«النعامة والطاووس» و«خلي الدماغ
صاحي» الذي اكتشف خالد صالح ثم فيلم «خالي من الكوليسترول» الذي
اختصرت فيه رحلتي لمدة 20 عاما في عالم الإعلانات الوهمي حتي فيلم
«هز وسط البلد».
·
لكن هذا الفيلم لم يحقق إيرادات جيدة وانتقده الجمهور؟
-
الفيلم حقق إيرادات مثل باقي الأفلام التي عرضت معه وأثر عليه وجود
فيلم آخر لبطلته إلهام شاهين وهو «ريجاتا» لكن البعض أثني علي
مضمونه والرسالة التي تتضمنه والنقد طبيعي وحق أصيل للجمهور
والنقاد لكن أنا وأبطاله مقتنعون به.
·
وهل تري هناك أملا في عودة السينما للحياة؟
-
أكيد لأن هناك عقولا وقدرات جيدة تستطيع عمل شيء لو توافر لها
المناخ مثل هالة خليل ونادين خان وماجي مرجان ومروان حامد وغيرهم
وهناك تجارب سينمائية جديدة ومهمة وسارت عكس السائد في السينما مثل
«الفيل الأزرق».
·
وما الذي تطلبه الآن من الدولة لحفظ إبداعات الموهوبين مثل صلاح
أبوسيف؟
-
لا أطلب سوي استكمال مشروع أرشيف السينما المصرية «سينماتيك» الذي
يحفظ تاريخ 100 سنة سينما في مصر ولابد من تحديثه باستمرار لأنه
تراث لا يقدر بمال.
·
وأخيرا.. ما الفارق الذي تراه بين جيل صلاح أبوسيف والجيل الحالي؟
-
فارق كبير وهو أن جيل والدي تجد أن لديهم قدرا ونوعا من الجودة لا
يتنازل عنها أما الآن هناك أفلام لا تتحملها لمدة 10 دقائق، رحم
الله والدي وجيله العظام الذي خرَّج كتيبة نجوم من أفلامه مثل
رشدي أباظة وفريد شوقي وأحمد مظهر وسناء جميل وعمرو الشريف وغيرهم. |