الزمن الباقي..
عن النكبة واحتفال الفلسطيني "باستقلال إسرائيل"!
طارق أوشن
يأخذ تلاميذ المدرسة أماكنهم في المنصة المعدة للاحتفال، وينطلقون
بالغناء:
في عيد استقلال بلادي غرد الطير الشادي،
وعمّت الفرحة البلدان حتى السهل والوادي،
في عيد بلادي في عيد بلادي،
الشعب يغني فرحان متهني،
يحلى لو الترتيل في عيد إسرائيل،
ودمتي يا بلادي..
هم أطفال فلسطينيون من الناصرة، في مشهد من فيلم "الزمن الباقي"
للمخرج إيليا سليمان، فرض عليهم وجودهم داخل ما يسمى بالخط الأخضر
التغني باستقلال "بلادهم" في يوم نكبة بلادهم ذاته. لا ذنب لهم،
فما هم إلا ضحايا عجز الآباء في الدفاع عن الوطن والعرض والمال.
تسير سيارة بسرعة كبيرة في اتجاه "القلعة" في أعلى التلة وهي تلوح
بالراية البيضاء دليل استسلام وخنوع. ينزل سائقها ويدخل المكان.
كرسي وحيد فارغ يظهر في إحدى الغرف وعليه جلس. في مواجهته عدد من
ضباط جيش الاحتلال. نعتقد للوهلة الأولى أن الأمر بعلاقة مع
مفاوضات ستنطلق، فالسائق لم يكن غير رئيس بلدية الناصرة. لكن
الواقع أن وثيقة الاستسلام معدة ولا مجال إلا للتوقيع.
يلتفت وراءه حيث يجلس ربع من أهل المدينة بلا حراك ليسأل عن
التاريخ. يأتيه الجواب سريعا من أحد الضباط: 16 تموز 1948. وكان لا
بد من صورة لتأريخ "النصر"، وخلاله تستبدل المواقع ليتوسط رئيس
البلدية المستسلم واسطة الصورة في عملية نصب على التاريخ. الوفد
الفلسطيني خارج الصورة .
لكن المخرج، وفي حركة كاريكاتورية، أصر على أن يكونوا هم الصورة
بعد أن انحنى المصور لتبرز مؤخرته في اتجاههم، فكانت ولادة الصورة
التي يستحقون مؤرخة لحقيقة عجزهم واستكانتهم، وليس تلك التي أرادها
المحتلون.
في الصورة رجل دين مسيحي وإمام مسلم، ومعهما عدد من أعيان الناصرة.
هؤلاء هم شهود الزور المذنبون الحقيقيون وليس الموقعون. حدث الموقف
ذاته في باحة البيت الأبيض في شهر سبتمبر 1993 إيذانا بمسلسل
مفاوضات انتهى إلى العدم وكرس توقيعات وتراجعات ومصافحات وثقتها
صور. وفي مصر الثالث من يوليو 2013 شاهدنا الكليشيهات ذاتها،
والنتيجة بادية أمام العيان.
في فيلم "الزمن الباقي" يستعيد إيليا سليمان جزءا من ذاكرة النكبة
متنقلا عبر أكثر من ستين سنة من التيه والشتات الفلسطيني والعربي.
لم يكن الأمر، كما صرح المخرج، رغبة في التقوقع في الهوية بل في
التجربة الإنسانية. فالتاريخ، في نظره، برهن على أن العمل الفني
الذي يستهلك الحدث التاريخي يضمحل تدريجيا ويموت. في الفيلم ظهر
إيليا وكأنه حنظلة السينما الفلسطينية صامتا يراقب الأحداث
والأشخاص بعينين جاحظتين وُفّق كثيرا في نقلها إلى شاشة السينما
بكثير من الكاريكاتورية والعمق على حد سواء.
في مقهى بالناصرة يجلس إيليا شابا مع رفيقيه. يمر بائع جرائد من
أمامهم وهو يصيح : جرايد، جرايد.. الوطن بشيكل وكل العرب ببلاش.
يطلب الشباب الوطن، لكنهم يفاجؤون بنفاذه مقابل كل العرب بلا
مقابل.
يواصل البائع سيره وهو يصيح : جرايد، جرايد. كل العرب ببلاش....
على قارعة المقهى ذاته، كان فؤاد سليمان (والد إيليا) جالسا عام
1948 ومعه عدد من أصدقائه. يمر جندي عربي من أمامهم بحماس.
فؤاد: على فين يا معلم؟
الجندي: أنا من جيش الإنقاذ ورايح على طبرية.
فؤاد: طبرية من الاتجاه المعاكس.
يسير الجندي بالحماسة ذاتها في الاتجاه المعاكس.
فؤاد: على فين يا معلم؟
الجندي: طبرية
فؤاد: لا تتعب نفسك. طبرية تحررت.
الجندي: وماذا في هذا الاتجاه؟
فؤاد: حيفا.
يسير الجندي الحماسة ذاتها في اتجاه حيفا.
شاب: يا أخ، إلى أين؟
يقف الجندي حائرا.
الشاب: مين وين انت؟
الجندي: من العراق
يضيفه الشباب على فنجان قهوة، لينضم إليهم في الانتظار على رصيف
المقهى في الوقت الذي ترمي فيه طائرات العدو بالمنشورات من أعلى،
دليل تفوق وانتصار على الأرض.
لم يكفِ العرب أن زجوا بجنودهم في المعركة بأسلحة فاسدة، بل دخلوا
المعركة دون ترتيب أو قيادة أو حسن تدبير. صحيح أن كل العرب
ببلاش..
لكن جار العائلة السكير، وبعد أن انتهى كل شيء، وصارت الناصرة من
محظيات عصابات الهاجانا، أبدع في نظريات المقاومة والتبشير بالنصر
الموعود.
الجار السكير محييا فؤاد سليمان والكأس بيده: جارنا! عندي نظرية:
لو العرب شريبة كاس مثلي كنا ربحنا الحرب من زمان. اسألني ليش؟ لأن
الواحد بيقعد يمزمز على كاس كاسين عرق بيصير يشوف الطيارة بعيدة
عنو مترين.. بيده يتناولها.. شو رأيك جارنا؟ القصة قصة منطق بدها
الواحد يكون راسو صاحي مع شوية تفكير.
ولأن الكأس صارت ملازمة للجار السكير فقد عاد مرة أخرى للتنظير.
الجار السكير والكأس بيده (مع تخفيف وقع الكلمات النابية): جارنا!
عندي نظرية: أنا أعرف كيف نتخلص من اسرائيل. أليس فرنسا حليفة
لبنان؟ ندفع لبنان لدخول الحرب. ترد إسرائيل بقوة لتدمر لبنان.
تتدخل فرنسا لحماية لبنان فتدمر إسرائيل... شو رأيك جارنا؟ القصة
قصة منطق بدها الواحد يكون راسو صاحي مع شوية تفكير.
لا تختلف نظريات الجار عن كثير من التحليلات التي نسمعها من
المفكرين الاستراتيجيين والمحللين العسكريين الذي ملأوا الشاشات
والإذاعات. لكن العرب صاروا أمة سكيرة، ولم تطل أيديهم طائرات
العدو يوما. كما جربنا أن تدخل لبنان الحرب، ولم نجن غير الخراب
والدمار بعد أن استنكفت فرنسا وبقية دول الغرب عن تقديم الدعم
و"تدمير إسرائيل" حماية للبنان.
وكل ما استطعنا تقديمه طوال هذه العقود بجانب أنهار من الدماء
الزكية التي أسلها الاحتلال، مبادرة سلام عربية غادرنا صاحبها إلى
دار الحق وبقيت هي في رفوف وأدراج الزعماء يستنجدون بها لحظة كل
مؤتمر "قمة" يوفقهم الله إلى عقده بين فينة وأخرى.
يستمع فؤاد سليمان إلى جهاز الراديو الذي يبث نشرة أخبار:
صرح رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر أن العرب
يؤيدون المبادرات الدولية للحل السلمي. لكن ليس هناك من دليل مادي
على رغبة حقيقية من جانب الإسرائيليين في السلام... وتصريحات
قادتهم الأخيرة تعكس إصرارهم على عدم الانسحاب من كافة الأراضي
العربية. كان هذا موجز الأنباء قدمناه لكم من القاهرة.
كان هذا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. أما اليوم فلم يعد
العرب ينتظرون دلائل لا حقيقية ولا وهمية من العدو، فقد رهنوا
حاضرهم ومستقبلهم، بعد أن أنكروا ماضيهم، بمبادرات دولية وإقليمية
على أمل أن تستسلم إسرائيل أمام ضعفنا وهواننا وسلمية مبادراتنا.
لم تعد القاهرة تحتكر الخبر وصار الفضاء مملكة عربية بامتياز
أخبارا وترفيها وأغاني وأفلام. لكن الأرض تشهد أن كثيرا منا غيروا
السلاح بالسبحة والسيجار وطوابع وأقلام للتوقيع على التنازلات
خنوعا وخضوعا.
بعد استسلام المقاومين بمدينة الناصرة، يدخل شاب بلا سلاح إلى باحة
المعتقل منشدا قصيدة "الشهيد " التي نظمها الشاعر الفلسطيني عبد
الرحيم محمود في العام 1939، مخاطبا ضابط الاحتلال القابع أعلى
البناية :
ونفسُ الشريف لها غايتان، ورود المنايا ونيلُ المنى
وما العيشُ؟ لا عشتُ إن لم أكن، مخوف الجناب حرام الحمى
إذا قلتُ أصغى لي العالمون ، ودوّى مقالي بين الورى
سأحمل روحي على راحتي، وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق، وإمّا مماتٌ يغيظ العدى..
وأطلق النار على رأسه من مسدسه.
قبله شاهدنا كيف أن أفراد الجيش العربي سارعوا إلى التجرد من
ملابسهم العسكرية وانطلقوا
هاربين، ليستلمها المحتلون ويتخفون من خلالها للدخول إلى الناصرة
دون مقاومة. ابتهجت سيدة بمقدم الجيش العربي لباسا والصهيوني
أجسادا، وأقبلت عليهم تزغرد وترش الملح قبل أن تواجه بطلقة غادرة
أردتها شهيدة.
ما أشبه اليوم بالبارحة، فشاشات التلفزيون تناقلت يوم دخول القوات
الأمريكية مدينة بغداد مشهد أفراد الجيش العربي الأقوى وقتها وهم
يفرون بملابسهم الداخلية على ضفاف دجلة أو الفرات هربا من القصف
الأمريكي. والنتيجة "نكبة" إضافية كرست فقدان فلسطين وفتحت اللائحة
على العراق وسوريا وأقطار عربية أخرى.
وفي الطريق إلى رام الله، تزدحم سيارة الأجرة بالركاب. ووحدها
امرأة شابة ظلت محتفظة بكوفيتها الفلسطينية بعد أن خلعها الرجال.
أما السائق فقد غابت عن سيارته رموز الثورة وخريطة فلسطين من النهر
إلى البحر، وحضرت صورة امرأة عارية تظهر على وقع كل مطب صناعي في
الطريق.
هذه هي الحياة الجديدة في رام الله الصاخبة، فالشباب صاروا مهتمين
بالديسكو والأغاني الهابطة دون أن تغفلهم عيون الاحتلال ودباباته
التي تراقب السكنات في مشاهد عبثية، ليس أقل منها مشهد المصادمات
بين الجنود وبعض من الشباب يضطرون لإيقافها في انتظار مرور امرأة
تدفع عربة طفلها الصغير، قبل استئناف المواجهات من جديد.
يبدو الأمر كأنه مجرد مشهد تمثيلي لإرضاء الصور النمطية التي
ألفتها العين الخارجية عن المنطقة. قد يقول المتنطعون أنه شكل من
أشكال المقاومة الجديدة أن تستمر الحياة في مواجهة حظر التجوال
الإسرائيلي.
لكن واقع الحال يقول إنه انكفاء على المصالح النفعية وانتفاء لروح
المقاومة تسربت إلى قطاعات كثيرة من الشعب أصابها الوهن وطول
انتظار الآتي المجهول. ولعل في الهروب إلى الأحلام والفنتازيا
لتحقيق أحلام لا مجال لتحققها في الواقع دليلا.
يحمل إيليا سليمان عصا الزانة، ويجري بقوة في اتجاه جدار الفصل
العنصري ليتخطاه في حركة رياضية تذكر بسيرجي بوبكا وبطولاته في
القفز بالزانة. ليس الأمر غريبا لدى إيليا، فقد سبق له في فيلم أن
فجر دبابة بحبة مشمش، بل حقق للراحل عرفات حلم الوصول إلى داخل
فلسطين عبر بالون أحمر رسم عليه صورة الزعيم ليجتاز الحواجز
الإسرائيلية وسط حيرة الجنود في فيلمه (يد إلهية). لكن مشهدا سابقا
في الفيلم لوالده وهو راقد في المستشفى بمحاذاة جندي إسرائيلي
أنقذه من الموت تثبت أن الواقع أمر.
سريران بغرفة بمستشفي يفصل بينها حاجز. يزيح الجندي الإسرائيلي
الحاجز، وكأنه يعبر عن امتنانه لهذا الفلسطيني الذي أنقذه. لم تمر
سوى لحظات صمت حتى أعادت الممرضة الحاجز إلى مكانه، معلنة أن
الحواجز قائمة وصامدة أمام أي شعور إنساني بين صاحب أرض ومغتصبها.
وهو ما ظهر واضحا بعدها بسنوات حين وصلت سيارة إسعاف حاملة مصابا
فلسطينيا تبعتها سيارة عسكرية وجنود. في الممر يتنازع الطاقم الطبي
والفريق العسكري جر النقالة التي تحمل المصاب الفلسطيني، في مشهد
سوريالي، قبل أن يحسم العسكر الأمر بقوة السلاح، وينتصر منطق
الاعتقال على العلاج.
في فيلم (الزمن الباقي) كثير من الغرابة. لكن الثابت أن الواقع
أكثر غرابة من الخيال، ولا شيء مستبعد الحدوث على أرض فلسطين التي
بدت في الفيلم مستكينة، وبدت الحياة في الناصرة رتيبة رتابة
القضية.
لقد سبق الفلسطينيون شعوب المنطقة في الخروج في انتفاضات، والنتيجة
مجرد سجون أكبر تحرسها سلطة لا حول ولا قوة لها كل عمادها مناصب
ووظائف وهمية ورواتب تدفع من دون إنتاج.
داخل البلكونة، تجلس والدة (إيليا سليمان) الطاعنة في السن، وفي
الأفق نرى ألعابا نارية في السماء. إيليا يراقب المشهد في وقت تجري
فيه العاملة الفلبينية لتطلب من الوالدة الاستمتاع بالمشهد في فرحة
طفولية. لم تعرف المسكينة أن الاحتفال هناك يعني للأم نكبة وفقدان
وطن. تشيح الأم بنظرها في اتجاه غرف البيت/ الوطن. يتحول المشهد
إلى صورة كارت بوسكال جميلة للأم ترتشف قهوتها، وعلى خلفيتها ألعاب
نارية رائعة، دون أن يحرك فيها الأمر ساكنا.
هي الصورة التي يريد الاحتلال ترويجها. لكن يا ترى كم باق من الزمن
لنرى تلاميذ مدارس الناصرة
يأخذون أماكنهم في المنصة المعدة للاحتفال، وينطلقون بالغناء:
فدائي فدائي فدائي
يا أرضي يا أرض الجدود
بعصف الرياح ونار السلاح
وإصرار شعبي لخوض الكفاح
فلسطين داري فلسطين ناري
فلسطين ثاري وأرض الصمود
فدائي فدائي فدائي ......... |