“فيفيان
ماير” الكنز الذي اكتشف متأخرا
ياسمين عادل – التقرير
أن تأتي الأشياء متأخرة أفضل من ألا تأتي أبدًا، قد لا تبدو تلك
القاعدة صائبة في المطلق، ولكن فيما يتعلق باكتشاف المواهب والفنون
يُمكننا أن نُصَدِّق على ذلك، خاصًة وإن كان صاحب الموهبة نفسه لم
يُحاول أن يتم اكتشافه.
ولعل الفيلم الذي سنتناوله اليوم أفضل عمل يطرح تلك الإشكالية
ويُبرهنها، وهو فيلم وثائقي بعنوانFinding
Vivian Maier،
صدر عام 2013، ترشَّح لأوسكار كأفضل فيلم وثائقي 2015، وجاء مُجمل
الجوائز التي ترشح لها 17 ليفوز منها بـ 8.
الفيلم إخراج وكتابة كل من (John
Maloof
و
Charlie Siskel)،
وبطولة فيفيان ماير نفسها من خلال صورها الشخصية وبعض التسجيلات
الخاصة بها، بعض الأشخاص الذين عملت لديهم في حياتها، والأهم الصور
التي التقطتها طوال عمرها.
القصة بدأت كالتالي..
في 2007 قام “جون مالوف” -كاتب ومخرج الفيلم- بحضور مزاد للخردة
بشيكاغو، بحثًا عن بعض الصور رخيصة الثمن للمنطقة بين الخمسينيات
والسبعينيات، إذ كان يقوم وقتها بتأليف كتاب عن تاريخ الحي الذي
يعيش فيه، وهناك عثر على صندوق ضخم مليء بنيجاتيف لصور قديمة اشتره
ب380 دولارًا.
فور عودته لمنزله اكتشف أن الصندوق به ما يقارب من 30 إلى 40 ألف
صورة تم تصويرهم بين عامي 1950-1970، غير أنه لم يتم تحميضهم، لم
يكن يعرف شيئًا عن صاحبة الصور إلا أن اسمها “فيفيان ماير”، فقام
بالبحث عنها على جوجل إلا أنه لم يجد ولو معلومة واحدة عنها.
كانت الصور تبدو جميلة ومميزة إلا أنها لم تكن ما يبحث عنه وقتها،
لذا تركها ولم يعد لها مرة أخرى إلا في 2009، حيث قام بتحميض
وطباعة بعض الصور وإنشاء مدونة ليتشارك ما يقرب من 200 صورة مع
العالم الافتراضي، إذ لم يكن يعرف وقتها هل تلك الصور جيدة بالنسبة
له فقط أم أنها عبقرية بشكل عام. بعدها وضع رابط للصور على موقع
“فليكر” وبسبب التفاعل من الكثيرين وانبهارهم التام بالصور التي تم
نشرها قرر البحث عمن قام بتصويرها من جديد.
ولكن.. في البداية قام بتتبع كل من اشتروا صناديق النيجاتيف الخاصة
بفيفيان بالمزاد القديم واشتراها منهم، وهنا أصبح كل ما عليه أن
يفُك الشفرات الغامضة ويجمع قطع البازل الكثيرة لتتضح له/ لنا
الصورة الكاملة. لم يكن يعرف أن القدر وضعه في طريق فيفيان ليكون
الشخص الذي استطاع أن يُخرج المارد من المصباح.
قرر جون إعادة البحث عن أي معلومات حول فيفيان ماير على الإنترنت،
فوجد فعلًا نعيًا لها قبل شهور قليلة، فظل يبحث بين أوراقها
ودفاترها حتى وجد أحد العناوين القديمة، قام بالاتصال بأصحابه فإذا
بهم يُخبرونه أن فيفيان ماير كانت المربية التي تعمل لديهم.
وهنا يأتي أول سؤال: لماذا تقوم مُربية بالتقاط هذا الكم الهائل من
الصور!؟
وبالسؤال عنها علم جون أنها كانت وحيدة، لا عائلة لها أو زوج أو
أطفال، ولعب الحظ لعبته للمرة الثانية حين اكتشف أن هؤلاء الأشخاص
لديهم خزينة كاملة مملوءة بمتعلقات فيفيان التي ينوون التخلص منها
فحصل عليها جميعًا، وهالَه ما وجد!
ففيان كانت شخصية تحتفظ بكل الأشياء التي استخدمتها أو مرت بحياتها
يومًا من ملابس، اكسسوار، قبعات، جرائد، فواتير، إيصالات، وحتى
العديد من الشيكات التي تستحق الدفع لها، شرائط كاسيت بصوتها،
أفلام فيديو قامت بتصويرها، وبالطبع العديد والعديد من الصور
والنيجاتيف.
وقد حاول جون التواصل مع بعض المتاحف والمعارض لمساعدته في تحميض
الأفلام وطباعة وعرض الصور غير أن معظم الجهات الرسمية رفضت بسبب
أنهم لا يقومون بطبع أو عرض أي عمل لفنان بعد وفاته طالما أنه لم
يقم بعرض أعماله بحياته، ما جعل المهمة بأكملها تقع على عاتق جون.
بعد البحث الطويل استطاع جون معرفة كيف تبدو فيفيان، إذ يبدو إنها
كانت تُحب التقاط الصور الشخصية لها وهذا يظهر واضحًا بكثرة من
خلال الصور التي تم تحميضها، وهي على عكس المتوقع من مُربية أطفال
لا مأوى أو عائلة لها لم تكن لتبدو بالصور شخصية ضعيفة أو منكسرة
أو أقل من أي أحد.
فيفيان امرأة ذات شعر قصير وملامح دقيقة، لها نظرة صارمة لم تتغير
مع مرور الزمن، ملابسها بسيطة تُشبه ملابس عاملات المصانع قديمًا،
ذات مشية عسكرية، تحمل معها الكاميرا أينما ذهبت كما لو أنها
سلاحها الذي تتحدى به العالم.
وقد أجمع معظم من عرفوها أو عملت لديهم على أنها شخصية غامضة
ومتحفظة، تتسم بالوحدة والصلابة، حادة اللسان، لم تكن تسمح لأحد
بالتدخل بشؤونها أو الاطلاع على محتويات غرفتها، ولا تتواصل مع
مخدوميها أو الغرباء ما يتعارض تمامًا مع مدى الإنسانية والحساسية
المُفرطة الواضحة بصورها.
كل تلك المعلومات أثارت فضول جون أكثر وجعلته يُصمم على أن يجعل
مهمته إدخال فيفيان ماير التاريخ، خاصًة وأنها أثبتت من خلال صورها
كم هي مصورة عظيمة، إذ تألقت صورها نتيجة امتلاك عَينها المصوِّرة
للكثير من المميزات مثل القدرة على الجمع بين حس الدعابة والمأساة،
قدرتها على اقتناص الصورة بالوقت المناسب لتعكس الواقع شديد البؤس
أو شديد السخرية.
تلتقط صورها بعين حساسة يقودها الشغف لتثبر أغوار الآخر فتعرف كيف
تخترق عوالم الغرباء دون أن تخرج من عزلتها أو تنفتح هي على ما
يوجد خارج الحدود التي فرضتها بينها وبين الآخرين، كما يليق بمصوري
الشوارع المحترفين هكذا كانت فيفيان.
لتترك لنا كنزًا هائلًا من الصور التي ترصد الحياة بمختلف أشكالها
من حُب وقسوة، رقة وعُنف، حُزن وسعادة، على هيئة نيجاتيف ظل عمرًا
بأكمله ينتظر من ينفض عنه الغبار ويُريه للعالم أجمع.
وقد قام بعض المصورين الذين تم مقابلتهم من أجل الفيلم بمقارنة عمل
فيفيان بمصوري الشارع المحترفين فوجدوا أنها عبقرية، إذ تحمل في
صورها طابعها الخاص بالإضافة إلى الحس الجمالي العالي واستيعابها
للدور الذي يلعبه الضوء والظل بالصور وكيفية استغلالهما، يزيد على
ما سبق قُدرتها الفائقة على التقاط اللحظة المثالية للتصوير.
وبالطبع أهم أدواتها كانت الكاميرا التي تستخدمها، إذ اعتادت
التصوير بكاميرا
Rollieflex
ذات العدستين وهي مثالية للتصوير بالشارع؛ لأن المصور يستطيع
بواسطتها أن ينظر من مسقط علوي في الكاميرا، ما يوحي للآخرين أنه
معني بأمرٍ آخر غير تصويرهم، ما كان يُمكِّن فيفيان من التقاط
الصور الشخصية عن قُرب دون أن ينتبه من يتم تصويره أو يشعر أنه تم
التلصص والتَطَفُّل عليه.
كما ساعدتها الكاميرا على تصوير بورتريهات شخصية ناتجة عن انعكاس
صورتها على المرايا والأسطح الزجاجية المختلفة وما شابه.
”نوعًا ما أنا جاسوسة”
هكذا اعتادت فيفيان أن تصف نفسها سواء للأطفال الذين تقوم
بتربيتهم، أو لبعض من يحتكون بها في حياتها، كان يظن البعض أنها
تقول ذلك من باب المزاح أو الغموض، ولكن رُبما كانت تقصد ذلك حقًا،
وهي المرأة غريبة الأطوار التي لا يعرف عنها أحد شيئًا، بينما تعرف
هي كل شيء وتُسجِّل كل ما يدور حولها لتوثِّق كل الحياة التي
عاصرتها فتمنحها الخلود.
وعلى الرغم من أن الفيلم جاء يحمل الكثير من الأسئلة والقليل جدًا
من الإجابات، نتيجة انغلاق البطلة أثناء حياتها على ذاتها واختلاف
إجابات من عايشوها، إلا أنه في النهاية استطاع أن يمنحنا صورة عامة
عن تاريخها، تاركًا الكثير والكثير مما لا نعرف عنه شيئًا لتبق
حياة فيفيان ماير تُبطن أكثر مما تُظهر.
هكذا عرفنا أنها ليست امرأة فرنسية كما كانت تَدَّعي مُعتمدةً على
لكنتها، إلا أنها لم تخلُ من جذور فرنسية تعود إلى والدتها، إذ أن
أمها هربت من قرية فرنسية صغيرة وفقيرة على متن باخرة إلى نيويورك،
وهناك تعرَّفَت على والد ماير وأنجبت منه فيفيان في 1926، لتنشأ
ابنتها بين ضواحي نيويورك، وقريتها بفرنسا قبل أن تعود مرة أخرى
إلى نيويورك عام 1951.
ويُقال أن فيفيان عاشت السنوات الأولى من حياتها في شقة صغيرة
تقاسمتها مع صديقة لأمها تعمل مُصورة، ويُتوَقَّع أنها رُبما ساعدت
ماير على تعلم التصوير، وفي عام 1952 قامت فيفيان بشراء الكاميرا
الرولفليكس التي ظلت تستخدمها في التقاط الصور التي تعكس كل تفاصيل
حياتها اليومية.
وفي 1956 انتقلت فيفيان إلى شيكاغو لتعمل كمُربية للأطفال على مدار
40 عامًا، الأمر الذي دفع الكثيرين بعد موتها واكشاف كونها أحد أهم
مصوري فن الشارع في القرن الواحد والعشرين يتسائلون عن سر اختيارها
تلك المهنة المتواضعة على الرغم من قدرتها على الحصول على المال
والشهرة إذا أرادت.
وجاءت الإجابة التخيلية أنها نظرًا لعدم امتلاكها سكنًا خاصًا بها
أو موردًا للرزق، وكذلك عدم وجود عائلة، اختارت العمل كمُربية
لتضمن المأوى، كما أن تلك المهنة كانت تُشبه الإجازة المفتوحة التي
تؤهلها لارتياد الطرقات والحدائق وأي مكان مع الأطفال الذين ترعاهم
فتكتسب ثقة المارة لكونها واحدة منهم من جهة ومن الأخرى يصبح لديها
المتسع من الوقت للتصوير مُنغمسةً في شغفها الحقيقى.
“لقد عشت حرة، وسأموت حرة، لأنني فعلت دائماً ما أريد”
هكذا قالت فيفيان بأحد التسجيلات الصوتية الخاصة بها، هذا ما كانت
تفعله حقًا فعرفت كيف تعيش سعيدة من وجهة نظرها حتى أنها في مرحلة
من حياتها تركت من كانت تعمل لديهم من أجل القيام برحلة حول العالم
بمفردها مُشترطةً عليهم عند رجوعها أن تعود للعمل، هكذا كانت تثق
بنفسها وتعرف أنها كَنز سواء بمجال التصوير أو تربية الأطفال.
فزارت مصر والهند واليابان وأمريكا الجنوبية وإيطاليا والكثير من
البلدان الأخرى، والتقطت العديد من الصور التي لا تُلتقط بعين سائح
بل بعين مُحترف، إذن فيفيان لم تكن تتعامل مع التصوير الفوتوغرافي
أو حتى التصوير الصحفي والتوثيقات التي عُثر عليها بين أغراضها على
أنها هواية، بل أنها كانت تعلم أنها تترك خلفها تُراثًا يستوجب
التوثيق.
ليأتي السؤال الثاني: لماذا لم تقم بنشر أعمالها بحياتها؟ أو لماذا
حتى لم تقُم بتحميض تلك الأفلام ورؤية عملها الشخصي؟
كان ذلك هو العائق الذي وقف أمام جون مع المتاحف التي رفضت عرض
أعمالها بحجة أنها لم تقم بنشرها بحياتها، غير أن ما حدث بعد ذلك
غيَّر الصورة المأخوةذ عن إن صور فيفيان كانت سرها الأكبر وأنها لم
تكن لتوافق أو لترغب مشاركته مع العالم.
إذ عثر جون على خطاب بين أوراقها مكتوب إلى أحد رجال قريتها
البعيدة بفرنسا، والذي قامت بطباعة كروت لبعض صورها لديه، تُخبره
أنها تُريد أن تُرسل إليه جزء من أفلامها ليقوم بتحميضها وطبعها
على هيئة كروت كالتي منحها إياها من قبل، إلا أن هذا الخطاب لم
يُرسل أبدًا وبالطبع لن نعرف السبب.
وهكذا ظلت فيفيان تقوم بالتقاط الصور إلى أن مرت بضائقة مالية وبعض
المشكلات بعملها عام 1980، وفي 1990 توقفت عن التصوير، واحتفظت
بصناديق صورها،أفلامها، والنيجاتيف في صناديق بأحد المخازن، ذلك
المخزن الذي قام ببيع الصناديق في 2007 أي أثناء حياة فيفيان بسبب
عدم قدرتها على دفع الإيجار، على الرعم من أن جون عثر في ممتلكاتها
على شيكات بآلاف الدورلات لم تقم بصرفها.
وهنا يتضح مدى حرص فيفيان على أن تترك عملها للعالم وإلا فلماذا
كانت تدفع له إيجارًا في الوقت الذي لم تكن تملك فيه دخلًا
يَكفيها؟ لماذا لم تقم بحرق النيجاتيف أو التخلص منه؟ فيفيان لم
تكن امرأة ساذجة أو تأتي تصرفاتها اعتباطًا، هي امرأة تعرف جيدًا
ماذا تفعل.
ثم جاءت النهاية تدريجيًا حيث عاشت فيفيان في الأعوام الأخيرة بشقة
بمجمع سكني بشيكاغو يتحمل كل مصاريفها بعض الشباب الذين كانت تعمل
كمربية لهم في طفولتهم، إلا أنها في 2008 سقطت على الجليد وبدأت
صحتها في التدهور فاضطرت للانتقال في يناير 2009 إلى أحد دور
الرعاية، وكل ما كان يعرفه عنها جيرانها هناك أنها السيدة التي
تجلس على الكرسي وحيدة، لترحل بعد شهور قليلة في سلام في أبريل
2009 قبل أن يبدأ مالوف رحلته للبحث عنها في أكتوبر 2009.
تركت فيفيان خلفها ما يُقارب من 150 ألف صورة بالأبيض والأسود،
ومازال هناك الكثير من نيجاتيف الصور الملونة التي لم يتم تحميضها
بعد، وصورها الآن موجودة في مختلف أنحاء العالم، حيث أقيمت
لأعمالها المعارض بأمريكا الشمالية والجنوبية، أوروبا، وآسيا،
لتبلغ قيمة الصورة الواحدة حاليًا ما يقارب من 8 آلاف دولار.
لا أحد يستطيع أن يُنكر أن سيرة فيفيان على غموضها ثرية وجذابة
ومُدهشة، غير أننا أولًا وأخيرًا لا يعنينا حياتها الشخصية قدر ما
يهمنا عملها الفني الذي تركته لنا، ولعل ذلك كان أحد السلبيات التي
أُخذت على جون مالوف الذي جعل فضوله يتخطى كل الحدود، كاسرًا حاجز
الحرية الشخصية، وعاجزًا عن التفرقة بين حياة الفنان الشخصية
ومسيرته الفنية.
وعلى كلٍ لا يمكن إلا أن نُشيد بفيلمه على أية حال، حيث جاء دافئًا
وإنسانيًا على عكس الكثير من الأفلام الوثائقية المعروفة بجمودها
واهتمامها بعرض الحقائق لا أكثر، ليكتب اسم فيفيان ماير بسطور من
ذهب في صندوق التاريخ كما أراد جون مُكتشفها، مُطعمًا بالموسيقى
التصويرية الجميلة وصور فيفيان التي لا يُضاهي إبداعها أي شيء.
وقد قامت قناة
BBC
بإعداد فيلمًا تسجيليًا عن فيفيان تزامن مع فيلم جونمالوف ما جعله
يرفض الظهور بالفيلم التسجيلي، وقد لقَّبت الBBC
فيفيان ب”شاعرة الضواحي”، و”ماري بوبينز الحاملة لكاميرا”.
أما شارلي سيسكل أحد مخرجي الفيلم فقد لقبها بالجاسوسة قائلًا عنها
أنها:
“تسللت للحياة أينما ظهرت الحياة، في الحظائر والأحياء الفقيرة
والضواحي، حيث قبضت على الكثيرين دون علمهم في لحظاتهم الهشة
والإنسانية، وحبستهم في صور ستخلَّد عبر التاريخ“.
لمزيد من صور فيفيان ماير شاهد
هنا |