هل شاهدت فيلم "عودة الابن الضال" حديثا؟
هل شاهدته بعناية...في نسخة جيدة بدون إعلانات مزعجة، أو بالحد
الأدنى من الاعلانات؟
هناك أفلام تحفر نفسها في ذاكرتك وقلبك وتصبح مثل الجوهرة التي
تزداد قيمتها وبهائها بمرور الزمن...وبالنسبة لي فإن "عودة الابن
الضال" ينتمي لهذه الأفلام.
هو واحد من أجمل أفلام المخرج الراحل يوسف شاهين، بل السينما
العربية، وربما العالمية...ولدي أسبابي التي سأسوقها بعد قليل.
لكن أجبني على السؤال أولا: هل شاهدت الفيلم مؤخرا؟
كانت المرة الأولى التي شاهدت فيها الفيلم عندما عرض على شاشة
التليفزيون المصري بعد عرضه السينمائي بفترة قصيرة. لم أفهم الكثير
منه ولكن سحرتني الأغاني و"المود" العام للفيلم.
النسخة التي عرضت في التليفزيون كانت مشوهة بعد أن حذفت منها بعض
اللقطات التي لا يمكن بدونها أن تفهم النهاية الدموية للفيلم، وعلى
كل حال كانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي عرض فيها. لم يبق
منه على الشاشة سوى أغنيتي ماجدة الرومي "مفترق الطرق" و"يا
مدرستنا" اللتين كانتا تعرضان في برامج الأغاني من حين إلى آخر.
في نهاية الثمانينات أو بداية التسعينات عرض الفيلم في حضور يوسف
شاهين في المركز الثقافي الروسي ، وهو أحد المراكز الأجنبية التي
لديها نادي سينما عريق تخصص في عرض روائع السينما السوفيتية
والروسية والمصرية.
أتذكر جيدا رد فعل الجمهور، الذي يتشكل من شباب مثقفين وسينمائيين،
والذي كان يتأرجح بين الدهشة والصدمة. وقد شعرت بالحزن عندما ضحك
البعض من طريقة الغناء الأوبرالي لماجدة الرومي في أغنية "مفترق
الطرق".
بعد نهاية الفيلم، في ظلام القاعة، خرج شاب غاضبا وهو يهاجم الفيلم
وصاحبه وفي اللحظة التي صاح فيها "دا مخرج حمار" كان يوسف شاهين
يقف في مواجهته مباشرة
عندما أفكر في الواقعة ورد فعل شاهين الهادئ، الذي اعتاد منذ فيلمه
"باب الحديد" على غضب الجمهور وشتائمه، أكرر لنفسي أن الفن ليس
عملا سهلا يجلب المال والشهرة والمديح لصاحبه، وأن الفن العظيم
كثيرا ما تكون نتيجته الوحيدة هي اللعنات.
خلال العقدين الأخيرين، مع ظهور الانترنت والثورة الرقمية الهائلة
ظهرت أجيال جديدة لديها ذوق فني مختلف وأكثر مواكبة للعصر، أعادت
الاعتبار والتقدير لأفلام المجددين الكبار مثل يوسف شاهين وشادي
عبد السلام ويسري نصر الله. لم يعد "عودة الابن الضال" يصدم أحدا،
وإن كان لا يزال قادرا على ادهاش الكثيرين بجماله وكماله الفني.
يبدو "عودة الابن الضال" وكأنه صنع بالأمس فقط، بالرغم من أنه أنتج
وعرض منذ ما يقرب من أربعين عاما، سواء في موضوعه أو لغته
السينمائية وأسلوبه الفني.
يوسف شاهين مشهور بتكثيفه الشديد للأحداث والمواقف، وإيقاعه اللاهث
الذي يتحقق من خلال الحركة الدائمة للكاميرا وللممثلين داخل الكادر
وأسلوب نطقهم للحوار العصبي والسريع، وكذلك التقطيع – المونتاج-
السريع للقطات والانتقالات بين المشاهد. في "العصفور" و"إسكندرية
ليه"، ثم "إسكندرية كمان وكمان"، يصل شاهين إلى لغته وسينماه
الخاصة التي لا تشبه أي سينمائي آخر مصري أو عالمي.
لكن يوسف شاهين يستطيع أيضا أن يروي حكايات ممتعة وحبكات مشوقة وأن
يصنع شخصيات حية تبقى في الذاكرة، كما نجد في "باب الحديد"
و"الناصر صلاح الدين" و"الأرض" مثلا.
المشكلة تحدث أحيانا عندما لا تكون الحكاية والشخصيات على مستوى
الاسلوب، مثل بعض أفلام مرحلتيه الأولى والأخيرة، أو عندما يطغى
الاسلوب على الموضوع والشخصيات، كما في "حدوتة مصرية" أو "وداعا
بونابرت" أو "اليوم السادس".
"عودة الابن الضال" هو الذروة التي يتكامل فيها فن الحكي مع جمال
الاسلوب عند شاهين، والتي تتكامل فيها عناصر الفيلم بحيث لا يوجد
تقريبا- وأكاد أجزم وأقول بالتأكيد- لقطة أو ثانية أو كلمة واحدة
يمكن الاستغناء عنها أو نقلها من مكانها.
الفيلم هو أيضا أكبر إنجاز سينمائي لشاعر العامية ومؤلف الأغاني
ورسام الكاريكاتير والممثل صلاح جاهين، الذي قام بكتابة أغانيه
وشارك يوسف شاهين في كتابة السيناريو والحوار. وقد أطلق الاثنان
على عملهما "مأساة موسيقية"، ولست أعلم هل كانا يقصدان بالفعل
اختراع نوع فني جديد يعارض "الملهاة الموسيقية"، أو "الميوزيكال
كوميدي"، الذي اخترعته هوليوود.
ما أعلمه هو أن الفيلم امتداد سينمائي لفنون السيرة الشعبية
والموسيقى المصرية. الصراع العائلي الميلودرامي الذي يتجسد من
خلاله صراع الخير والشر، والصراعات السياسية، كما نرى في أسطورة
إيزيس وأوزيريس وأخيه الشرير ست، أو في السيرة الهلالية أو في
"أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ أو الأعمال الأولى لأسامة أنور عكاشة
مثل "الشهد والدموع" و"ليالي الحلمية".
إن الصراع الذي يضرب عائلة المدبولي الريفية هنا هو تجسيد للحرب
الأهلية التي ضربت العالم العربي، وخاصة لبنان، عقب هزيمة 1967،
وهي حرب أكثر دموية ووحشية الآن من أي وقت مضى. ورغبة الأجيال
الجديدة في الخروج من المستنقع وتوديع الماضي المثخن بجرائم النظم
القمعية المستبدة هي أقوى من أي وقت مضى.
يزاوج الفيلم بين صراع أفراد آل المدبولي وبين الأوضاع السياسية
التي سبقت وأعقبت الهزيمة السياسية: الفساد، الاستبداد، اغتصاب
الكبار للسلطة والثروة والمرأة وسعيهم لإخصاء الأجيال الصغيرة.
وبعيدا عن الموضوع والشخصيات المكتوبة ببراعة نادرة يصل التمثيل في
هذا الفيلم إلى مستوى غير مسبوق أو ملحوق في السينما العربية. يقدم
شكري سرحان ومحمود المليجي وهدى سلطان ورجاء حسين وسهير المرشدي
أفضل أدوارهم على الاطلاق. أحمد محرز يبدو وكأنه لم يخلق سوى لأداء
شخصية علي في هذا الفيلم، أما هشام سليم وماجدة الرومي فلا أعرف
فيلما مصريا قدم ثنائي شابين مراهقين عاشقين أجمل منهما.
تصوير عبد العزيز فهمي عالمي وسابق للعصر، رغم تواضع الامكانيات
وقتها. وكل من كمال الطويل وبليغ حمدي يبدعان ألحانا تزلزل المشاعر
والوجدان. أما يوسف شاهين فلا يكفي أي كلام لوصف إبداعه الذي يتجلى
في كل "كادر".
هل شاهدت "عودة الابن الضال" مؤخرا؟ |