حوار: الفيلم التسجيلي الأول عن نوال السعداوي
محمد موسى
كان فيلم "الصوت الحر لمصر – نوال السعداوي" للمُخرجة الألمانية
كونستانسه بوركارد أحد الأحداث الكبيرة للدورة الأخيرة لمهرجان
"Movies that Matter "
السينمائي الهولندي، فالشريط التسجيلي هو الأول عن الناشطة
والكاتبة المصرية الشديدة الجدليّة، كما كان المهرجان الهولندي
منصة عرض الفيلم العالمية الأولى وقبل أن يصل بعدها إلى الشاشة
التلفزيونية لقناة
"" arte
الألمانية الفرنسية. إلى ذلك نجح المهرجان في إقناع نوال السعداوي
بحضور عرض الفيلم والمُشاركة في نشاطات شعبية مُوازية، حظيت بدورها
باهتمام كبير أثناء أيام المهرجان، وكحال مُعظم الإطلالات
الإعلامية للكاتبة المصرية.
تعود
المخرجة في فيلمها التسجيلي إلى طفولة وشباب نوال السعداوي،
مُستعيدة لملامح العصر الذي نشأت فيه الكاتبة، والذي لم يتغير
كثيراً عن واقع الحياة في مصر والعالم العربي اليوم، من ناحية
علاقة المجتمع بالمرأة، ومكانة هذه الأخيرة فيه. يوفر الفيلم أيضاً
كوة نادرة على حياة نوال السعداوي التي تبلغ اليوم الرابعة
والثمانين من العمر، محاولاً تقييم تركتها الفكرية في مصر، البلد
الذي شهد مُعظم حروبها الفكرية.
عن
الفيلم، كان هذا الحوار مع مع المخرجة كونستانسه بوركارد:
•
لماذا وقع اختيارك على تقديم قصة وحياة نوال السعداوي؟
تعرفت على أعمال السعداوي أثناء دراستي الجامعية في ألمانيا، على
كتاباتها الروائية وسيرة حياتها التي روتها بنفسها في كتاب،
والأخيرة كانت السبب الرئيسي الذي دفعني لعمل هذا الفيلم التسجيلي،
فبقدر ما كانت قصتها تُعبر عن حال المرأة المصرية والظروف الخاصة
التي تعيش فيها، بقدر ما كانت أيضاً مثال على ما تمرّ به النساء
حول العالم، ويُمكن أن تخبرنا الكثير عنّا نحن كنساء من العالم
الغربي.
ماحاولت أن أفعله في الفيلم، هو التركيز على عنصر التحدي في قصة
السعداوي، واستعادة ماضيها البعيد كفتاة مراهقة ومُتمردة كان عليها
أن تواجه الظروف الصعبة التي تحيطها، وعن تجاربها والمحيط الذي
نشأت فيه. الثلث الأول من الفيلم تعامل مع هذه التفاصيل من حياة
السعداوي، مبتدئاً بها طفلة بعمر الست سنوات والأعوام التي تلتها،
وعلاقتها مع والديها، وكيف حاربت للحصول على حقها في التعليم، ومن
ثم يومياتها كطبيبة للقرية. هناك بالطبع تحديات خاصة واجهتها
السعداوي لها علاقة بالبلد الذي أتت منه. مثلاً لا يوجد في ألمانيا
ختان للبنات كما هو شائع في مصر، لكن من الجهة الأخرى، الخيارات
التي تواجهها المرأة في موضوع التعليم واختيار شريك الحياة، هذه
تفاصيل لا تختلف كثيراً بالنسبة للسعداوي عما تواجهه النساء
الألمانيات مثلاً، صحيح أن النقاش في ألمانيا يأخذ مُستويات
مُختلفة لكن الجوهر واحد.
•
كيف قمتِ بعرض الفكرة عليها؟ وهل وافقت مباشرةً على العمل معك،
بخاصة أنها لم تظهر من قبل في أفلام تسجيلية سابقة؟
القصة بدأت بالثورة المصرية، فأنا ومثلي العديد من النساء
الألمانيات كنت مبهورة بصور النساء المصريات التي كنا نشاهدها في
الشوارع والساحات، وكيف كن يقفن جنباً إلى جنب مع الرجل في تلك
الأيام المُهمة والمفصلية.
كصحفية زرت القاهرة عدة مرات وقتها لتغطية الثورة هناك، كنت أسأل
نفسي إذا كان هناك طريق لتوثيق ما تقوم به النساء هناك، عندها خطرت
لي فكرة عمل فيلم عن السعداوي والثورة المُتواصلة. اتصلت بها وقتها
وقلت لها أنا صانعة أفلام وأريد ان أقابلها لأني كنت أعرف أنه لا
يوجد أفلام تسجيلية أخرى عنها، كان اتصالاً طويلاً وصعباً،
بالنهاية نجحت في إقناعها بمقابلتي على العشاء.
عندما تقابلنا بدا واضحا أن هناك تجارب مُشتركة بيننا رغم اختلاف
خلفياتنا الاجتماعية. كان ذلك في شهر أبريل 2012، كنت قلقة لأن
كُثر حاولوا أن يقوموا بعمل أفلام معها لكنها كانت ترفض. هناك
شيئاً ما ربطنا معا، في النهاية بدأنا هذا الفيلم بما يتضمنه من
رحلة تفاعل فنيّ مشتركة.
•
كيف كانت خطتك الأولية للفيلم؟ هل تناقشتِ مع نوال السعداوي حول
المُعالجة العامة، المسارات التي سوف تأخذينها، كيف ستظهر هي في
الفيلم، أو عن ذهابكما إلى القرية التي ولدت وتربت فيها؟
رغم أن الذهاب إلى القرية حدث بالصدفة، لكني سعدت بالرحلة كثيراً،
ما يُثيرني في نوال السعداوي، أن حياتها المُمتدة لثمانية عقود،
تتضمن الكثير من التفاصيل والمطبّات والتحديات، وهذه أمور واجهت
صعوبة في وضعها داخل إطار ما، أثناء التخطيط للفيلم، وكيف يمكن
تقديم هذه السيدة التي خاضت معارك طويلة جداً وبنفس الحدّة، وتحدّت
من كان على هرم السلطة، فهي ثارت على حكم الملك فاروق وجمال عبد
الناصر والسادات ومبارك، كنت أتساءل من أين كانت تأتي بكل هذه
الطاقة لهذه الصراعات.
لذا كان مُهما لي أن يغطي الفيلم المراحل التاريخية التأسيسية من
حياة السعداوي، ولهذا السبب رجعنا إلى سيرتها الذاتية التي كتبتها
هي نفسها، وعدنا معها إلى الماضي. ليس فقط السنوات القليلة التي
سبقت ثورة عام 2011، بل الماضي البعيد أيضاً. واجهت كمخرجة أسئلة
تتعلق بالأسلوب عما يمكن أن أقوم به مع السعداوي وأين نذهب، خاصة
أن الناشطة المصرية هي شخصية صعبة جدا ولا ترضى أن يُملي عليها أحد
ما أفكاره، أو أن يقوم بتوجيهها كممثلة. هي كانت خائفة من الذهاب
إلى قريتها وبعد سبع سنوات من التوقُّف عن الذهاب إلى هناك، لكنها
شعرت بالأمان في ذلك الوقت لكي تقوم بتلك الزيارة، وهو الأمر الذي
كان غائباً قبل هذه المرة. ذلك أنه تم تهديدها في زياراتها
الأخيرة. الذهاب إلى القرية كان فكرة ارتجالية، اتصّل بها أحد
المعارف من هناك ودعاها لحضور فعالية وهي لبت الدعوة.
•
كانت نوال السعداوي أيقونة نسوية ثورية ضد النظم القائمة ولعقود
طويلة، هل تعتقدين أنها لازالت تحتفظ بنفس المكانة؟
أعتقد أنها لازالت في المكانة نفسها في مجتمعها حتى اليوم، الكل
يعرف من هي نوال السعداوي، لم أقابل شخصاً في مصر لا يعرفها، عندما
تخرج معها للشارع، كان الناس يتعرفون عليها، عندما تسأل النساء
عنها كن يعرفنها، هي بالتأكيد شخصية إشكاليّة استقطابية ومُثيرة
للجدل دائماً، لكنها لازالت مُؤثرة وفعالة في المجتمع.
•
هل كان أمراً صعباً إقناع النساء في القرية بالتحدث للفيلم؟
نعم كان صعباً. نحن ذهبنا إلى القرية في زيارتين، واحدة مع نوال
السعداوي، والأخرى مع الفريق الفنيّ فقط. عندما كنا مع السعداوي
كان من المستحيل الحديث مع أهل القرية أو نساؤها، لأننا كنا
منشغلين بشخصيتنا الرئيسية التي كانت محاطة بالناس دائما، لذلك
قضينا الوقت في تصويرها أثناء الزيارة تلك، والتي طمأنتنا بأننا
سنكون بأمان إذا قمنا بزيارة أخرى إلى القرية، وهذا كان مُهما لنا،
لأننا كفريق فنيّ لنا تجربة سيئة جدا في مصر، إذ تم الاعتداء علينا
قبل أعوام قليلة عندما كنا نصور تغطيات إخبارية عن الثورة المصرية.
في زيارتنا الثانية للقرية قابلنا ابنة عم للسعداوي (السيدة
المُسنّة في الفيلم). أثناء إجراء المقابلة مع السيدة تلك، كشفت أن
السعداوي قامت بما كنا جميعا نتطلع إليه، وهو ترك القرية والنجاح
خارجها، عندها سمع منتج الفيلم امرأة شابة وافقت مع ما كانت تقوله
ابنة عم السعداوي، أي بأنهن جميعا يحلمن بحياة خارج القرية، هذه
كانت المرأة الريفية التي استحوذت على كثير من وقت الفيلم. هي
متزوجة لقريب للسعداوي، في البداية رفضت الحديث معنا، وتذرعت بأن
زوجها لن يسمح لها أبداً بالظهور في الفيلم. حاولنا عندها إقناع
الزوج وأخذ مُوافقته. لقد صورنا حوارنا مع هذه المرأة في الحقل
الزراعي حيث تعمل، بعيداً قليلاً عن زوجها، حتى يُمكنها أن تتحدث
بدون تأثيرات.
•
لماذا لم تقومي بإجراء مُقابلة مُباشرة مع السعداوي داخل الفيلم؟
نعم هذا صحيح، لأن المُقابلة المباشرة لم تكن لتنسجم مع بناء
الفيلم، كذلك كنا نخشى من العواقب الأمنية لهذه المقابلة. وأيضا
فضّلنا أن ننقل كلمات السعداوي التي كتبتها بنفسها عن حياتها
ونشرتها في كتبها. أحسسنا أن هذا الأسلوب ممكن أن يكون أكثر حميمية
للمشاهد، أي إذا استخدمنا بعضاً من كلماتها الشهيرة. إلى ذلك،
الكاتبة هي شخصية عامة ويتم مقابلتها إعلامياً بشكل يومي تقريباً،
حتى في اليوم الذي كنا نخطط أن نصور مشاهد لها في بيتها، عندما
وصلنا هناك وجدنا البيت مليء بالمراسلين الأجانب، وهذا كان أحد
الأسباب التي جعلتنا نرغب في عمل شيء مُختلف بدلا من المُقابلة
المباشرة.
•
كذلك لم نرَ رجالاً في الفيلم؟
هذا غير صحيح فلقد حاورنا ابن أخيها وابنها.
•
أقصد لم يُمنحوا مساحة زمنية طويلة كتلك التي مُنحت لجيهان مثلاً،
المصرية المُثقفة التي ظهرت في الفيلم؟
جيهان شخصية رائعة، هي مُهمة في الفيلم لأنها ناشطة اجتماعية شابة،
على اطلاع بما يجري في الشارع. هي أيضا كاتبة ومحللة نفسية، وجود
جيهان كان أساسيا لبناء الفيلم لأنني أيضا كنت أبحث عن شخص من
جيلي يتحدث عن نوال السعداوي، عن تركتها الفكرية بالتحديد. هي أعطت
فكرة ممتازة عن هذا، وقد اخترنا ألا نقابل أياً من أزواج الكاتبة
السابقين. ربما لأنها قالت يوماً ما بأنها ليست صنيعة الرجال في
حياتها.
•
هناك حادثة في الفيلم عن المكتبة العامة في قرية السعداوي والتي
تخلو من كتب هذه الأخيرة. الفيلم سجل هذه التفصيلة بالصدفة، كيف تم
ذلك؟
نعم أعرف ما تقصد، أتمنى أن ما حدث في أحد المشاهد يكون مفهوماً
للجمهور أيضاً. لا أعرف لماذا كتبها ليست موجودة هناك، ربما هو
النفاق الاجتماعي للعاملين في المكتبة، فمن جهة بدوا وكأنهم يكنون
احتراماً كبيراً لها، لكنهم لازالوا يُحاربونها. لم تكن مُصادفة
على الإطلاق أن كتبها ليست ضمن ما هو مُتوفر هناك. ليست مُصادفة
أبداً. هم لا يرغبون للفتيات الصغيرات في القرية أن يقرأن كتب
السعداوي. هناك حادثة أخرى لها مغزى كبير ودَالّ. في المدرسة
المتوسطة التي درست فيها السعداوي، هناك لوحة للطلاب الذين تفوقوا
في مجالات الحياة، واسمها ليس بين الأسماء أيضاً.
•
التعليق في الفيلم تم باللغة الإنكليزية، هل هناك خططاً لنسخة
عربية من الفيلم؟
نعم نخطط لنسخة بتعليق صوتي عربي، فسيرة نوال السعداوي مُهمة
شاعرية وتستحق أن يتم قراءتها مرة أخرى.
بين "الرئيس والديكتاتور"
ندى الأزهري
لم يكن غرض الفيلم الوثائقي" الرئيس والديكتاتور" الذي عرضته
المحطة الفرنسية الثالثة "فرانس 3" الحديث عن الحرب في ليبيا
وملابساتها، كان هدفه يتجاوز ذلك إلى فك شفرة العلاقة المعقدة بين
العقيد الراحل معمر القذافي والرئيس الفرنسي السابق نيقولا ساركوزي.
علاقة
عبثية جمعت بين اثنين لديهما منافع مشتركة، متذبذبة بين دنو
وابتعاد ومديح و كره، علاقة غريبة جعلت بين ليلة وضحاها عدوا
معلنا للغرب ضيفا مكرما على إحدى أهم العواصم الأوروبية.
المخرج الفرنسي أنطوان فيكتين المختص بليبيا يعود بعد " القذافي
عدونا المفضل" فيلمه الأول الذي حققه عام 2010 و " القذافي حي أم
ميت" فيلمه الثاني، في فيلم ثالث عنوانه " الرئيس والديكتاتور"
ليسرد بذكاء العلاقة الغريبة التي شابهت أحيانا لعبة القط والفأر
بما شابها من تصفية حسابات و التباسات و خيانات بين القذافي و
الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي على مدى سنوات عدة، و ارتكز هذا
الوثائقي على علامات في درب تلك العلاقة كانت بمثابة محطات حاسمة
في مسيرتها.
اعتمد المخرج أسلوب الراوي، فكان صوت نسائي هادئ يسرد حكاية
البطلين بنبرة لا تخلو من السخرية، على وتيرة واحدة تصيب بالضيق
أحيانا، وُدعمت الحكاية بصور من الأرشيف وبلقاءات مع شخصيات معاصرة
للرجلين وعلى علاقة مباشرة معهما مثل أحمد قذاف الدم قريب ومستشار
القذافي وزهرة منصور مستشارته و المسؤولة عن الأمازونيات، وسفير
فرنسا في ليبيا ووزراء ومستشارون لساركوزي.
استُهل السرد بـ "اللقاء"، فالعلاقة بين الزعيمين بدأت في طرابلس
عام 2005 عندما كان ساركوزي وزيرا للداخلية في عهد جاك شيراك،
حينها شعر كل منهما بأهمية الآخر.. له! لقد كان طموح العقيد
بتتويجه على إفريقيا وتصحيح السياسة الفرنسية فيها يتوافق مع سعي
ساركوزي بالوصول للرئاسة الفرنسية في عام 2007.
اجتهد المخرج ليجمع من الأرشيف كل العبارات التي تلفّظ بها الرئيس
السابق قبل أن يصبح رئيسا ليقابلها في ربط متمكن مع تصرفاته
وليُظهر التناقض الصارخ أحيانا بين القول والفعل كتصريحه في حملته
"لا أريد أن أتعاون مع أي ديكتاتور"، كذلك تركيزه على حقوق الإنسان
لدرجة تعيين وزيرة دولة لها. بعد وصول ساركوزي للرئاسة حلّ "شهر
العسل" بين الرجلين. فكان تحرير الممرضات البلغاريات المتهمات في
ليبيا بنقل فيروس السيدا للأطفال على يد سيسيليا زوجة الرئيس
الفرنسي، بداية عهد من الصداقة. هنا، لم يقدم الفيلم جديدا في
تأكيده ما سبق ونشر حول " قطف" ساركوزي لجهود كان يقوم بها الاتحاد
الأوروبي، لكن رأي الجهة الليبية كان أكثر إثارة إذ صرّح مستشار
القذافي قذاف الدم في الفيلم "نحن عرب كما تعرفون، هذا يحسب له
(إرسال زوجته كمفاوضة) كان من الصعب رفض طلب امرأة .." كما أكد
صراحة على رغبة ليبيا آنذاك بمنح ساركوزي " أوراق دعم" كي يدعمهم
بالمقابل "بمشروعهم الإفريقي".
بدأت" الالتباسات" في العلاقة بعد سنتين مع عودة الرئيس الفرنسي
لليبيا وبصحبته وزيرة الدولة لحقوق الإنسان راما ياد. تقدم تلك في
شهادتها للفيلم وصفا للقذافي بعبارات لا نسمعها عادة في نشرت
الأخبار من نوع " شعر لامع مبلل لا أدري بم؟ ربما بالزيت! نظارات
شمسية سوداء وخريطة بلاستيكية لإفريقيا معلقة على صدره..". كذلك
كشفت الوزيرة الشابة خفايا الكلام الذي يدور في الكواليس فأشارت أن
القذافي سألها" أنت وزيرة، كيف وعمرك ثلاثون سنة؟!" فردت على ما
ذكرت " كان عمرك 27 حين قمت بالانقلاب".. لم تُسمع الجملة ولكن
سُمعت ضحكة العقيد وبان امتعاض ساركوزي.
أما "القطيعة" فأتت بعد الزيارة السوريالية للعقيد إلى باريس بما
أثارته من غضب وانتقادات لاذعة في الأوساط السياسية والإعلامية
الفرنسية، كذلك لدى عامة الفرنسيين الذين صدمهم فرد السجادة
الحمراء لزعيم معروف بانتهاكاته لحقوق الإنسان وبدعمه للإرهاب
إضافة إلى ما سببته الزيارة من إجراءات أمنية لاتطاق.
كان الحديث عن تلك الزيارة وخلفياتها من أمتع فقرات الفيلم، من
موعد وصول القذافي في "اليوم العالمي لحقوق الإنسان" إلى حجب
التظاهرات المعارضة له بعيدا عن ناظريه، مرورا بنزواته من تمديد
للزيارة مخالفة للقواعد الدبلوماسية و سياحته في باريس وإعلان
رغبته "المستحيلة التحقيق" بالتجول في قوارب نهر السين لرؤية معالم
المدينة الساحرة مع ما يشكله ذلك من ارتباك أمني، وصولا إلى تصريحه
في محاضرة نظمها في الأونيسكو في باريس "لماذا يزايدون علينا بحقوق
الإنسان؟ قبل أن يتكلموا عنها ليتأكدوا من الإنسان في بلدانهم، هل
لديه حقوق؟". كان هذا التصريح "مسك الختام" الذي أثار ثائرة و
الفرنسيين ما اضطر ساركوزي للقول في مؤتمر صحفي بنبرة ناصحة " لقد
أخبرته ( للقذافي) كم عليه التقدم في درب حقوق الإنسان..". بدأت
بعدها رحلة " الانتقام" المعروفة بين الاثنين، فبحسب قذاف الدم كان
العقيد "واضحا" فيما ساركوزي تعامل معه "بغدر" و" نفاق".
يبين الفيلم ظروف التدخل الفرنسي في ليبيا كاشفا عن المخاطرة
الكبرى التي قام بها ساركوزي أولا باستقبال أعضاء المجلس الانتقالي
دون معرفة خلفياتهم، ثم سعيه للحصول على قرار من الأمم المتحدة
للتدخل العسكري. وهنا يتساءل قذاف الدم عن وجود "مخطط للتخلص من
القذافي"، إذ لم يبعث أحد للتفاوض أو للتوسط
.
الفيلم انتقاد لسياسة ساركوزي أكثر منه لسياسة فرنسا الخارجية، إذ
غابت تماما عنه شخصيات مثل رئيس الحكومة الفرنسية، كما ظهر
المعنيان بالأمر أي وزير الخارجية ووزيرة الدولة لحقوق الإنسان
منتقدين ما جرى وكأن الرئيس قد تجاوزهما.
يبدي الفيلم شخصية العقيد عن قرب سواء عبر سماع بعض من تعليقاته،
أو من خلال أحاديث ضيوفه الذين وصفوا نظراته الضبابية الغائبة
تماما ومواقفه من أحاديثهم كأن يظل صامتا بعد كلام أو لا يرد بعد
سؤال.. أيضا يبدو ذكائه في تعامله مع الآخرين في عدة مواقف تحسب
لصالحه، كإخفائه للغضب كما حصل في مقابلته مع التلفزيون الفرنسي
بعد الزوبعة التي أثارتها زيارته في كافة وسائل الإعلام والهجوم
اللاذع الذي انصبّ عليه وعلى نزواته وانصياع الحكم لها. لقد ظهر
متماسكا مع شيء من الازدراء في ردوده. وفي جواب على سؤال المحاور"
كيف تردون على هذا الجدال الذي أثارته زيارتكم لفرنسا؟" رد ببرود
"لا أطّلع على الصحف وليس لدي تلفزيون!!" أما عن تصريح ساركوزي حول
طلبه من العقيد "التقدم على طريق حقوق الإنسان" فقد كان تكذيب
القذافي قاتلا "لا، لا، نحن لم نشر إلى هذا الموضوع إطلاقا نحن
أصدقاء ومحبون ومتعاونون..!"
في الحقيقة كانت القطيعة قد تمت. لقد ركزت مشاهد ذكية في الفيلم
على التوقيع النهائي للعقود مع فرنسا حيث لم يتبادل الرئيسان أية
نظرة. عقود لم تماطل ليبيا فيها فحسب بل لم تنفذها، ولم تكتف بذلك
فمنذ ذلك اليوم باتت حصة المصالح الفرنسية في ليبيا أقل من الفترة
السابقة لوصول ساركوزي للحكم. لقد اعتقدوا في ليبيا أن ساركوزي أخذ
على محمل الجد مشروعهم الإفريقي ولكنهم عرفوا أنه يريد دورا
تاريخيا هو صانعه.
قصة لم تعط بعد كل أسرارها وما زالت العدالة الفرنسية تحقق في أمر
الأموال التي ادعى "الديكتاتور"، كما وصفه الفيلم طوال الوقت،
منحها لساركوزي من أجل حملته الانتخابية. |