“ماء
الورد”.. حين تعجز الأنظمة الديكتاتورية عن امتلاك حس النكتة
ياسمين عادل – التقرير
في كل عام، تنهال علينا مجموعة من أفلام السير الذاتية التي تستحق
التوثيق واحتفاء الجماهير بها، وبالأخص مع اقتراب موسم الأوسكار؛
حيث تلقى تلك النوعية من الأفلام اهتمامًا كبيرًا، وغالبًا ما
يُحالفها الحظ للترشُّح لمختلف الجوائز وتسليط الأضواء عليها،
خاصًة إذا كان أبطالها مروا ببعض المشكلات النفسية أو المرضية أو
المجتمعية الشديدة.
“ماء الورد”، أحد أفلام السير الذاتية التي تندرج تحت تلك النوعية؛
إذ يتناول القمع والبَطش الذي تعرَّض له البطل على يد الحكومة
الإيرانية، وقصة اعتقاله عام 2009. وهو مأخوذ عن كتاب لـ “مازيار
بهاري” بعنوان “ثم جاؤوا إليَّ”، أو “Then
they come for me”،
والذي تم نشره في 2011 وإنتاجه للسينما عام 2014.
ويُعَد “Rosewater”
الإخراج الأول لجون ستيوارت، مُقدِّم برنامج “The
Daily Show”،
وبطولة كل من:
Gael García Bernal
في دور مازيار بهاري،
Kim Bodnia
في دور جافادي/ ماء الورد،
Haluk Bilginer
في دور بابا أكبر، وآخرين.
يبدأ الفيلم بجهات أمنية تقتحم منزل والدة مازيار، الصحفي الإيراني
(الكندي الجنسية)، ليتم القبض عليه دون معرفة الأسباب، ومع توالي
الأحداث؛ يتم الرجوع بالفلاش باك لنعرف كيف وصلت الأمور إلى ذلك.
يحكي الفيلم قصة مازيار، مراسل مجلة نيوزويك، والذي يعود لإيران
لتغطية انتخابات 2009 تاركًا خلفه زوجته الحامل بانتظاره؛ إلا أنه
مع تفاقم الأحداث يجد نفسه أصبح جزءًا مما يجري؛ فيبقى هناك لتصوير
وتسجيل ردود الأفعال الشعبية التي تَلَتْ النتيجة حيال فوز أحمدي
نجاد، رغم التوقعات بفوز المعارضة؛ ما تسبب في اندلاع مظاهرات
هائلة انتشرت في الكثير من المناطق، على رأسها العاصمة طهران.
عُرفت تلك المظاهرات وقتها بالثورة الخضراء، وبسبب نزاهة مازيار
ومُحاولة نقله للأحداث بشفافية -ما يُظهر إيران بمظهر القامع
والمُستبد-؛ يتم القبض عليه من الجهات الأمنية الإيرانية واتهامه
بالعمل كجاسوس لجهات أجنبية عامة وأمريكية خاصة، ليبدأ رحلته داخل
السجن.
داخل السجن، يستحضر مازيار شبحي والده وأخته، يُخاطبهما طوال الوقت
ويُحاول أن يستدل منهما على ما عليه فعله؛ لنكتشف أن مازيار هو ابن
لـ “بابا أكبر”، الرجل الشيوعي الذي تم سجنه بسبب أفكاره ومعتقداته
السياسية في عهد الشاه، وأخ لـ “مريم”، الفتاة التي تم القبض عليها
هي الأخرى بعد ثورة 1979، لذا؛ لم تكن مسألة الاعتقال بأمر جديد
على عائلته، إلا أن الاختلاف الوحيد أنه لم يكن مُدانًا -كوالده
وأخته- بالتهم الموجَّهة إليه بالفعل.
فالجهات الأمنية اتهمته بأنه جاسوسٌ واستخدمت دليلًا على ذلك: حلقة
تم تصويرها بإيران في برنامج “ذا دايلي شو”، حين استضافه مُقدم
البرنامج والذي تظاهر -أثناء الحلقة- بأنه جاسوسٌ وأن مازيار يمده
بمعلومات؛ تلك المزحة التي لم تستوعبها الأنظمة الإيرانية والتي
كانت إجابة مازيار على تصديقهم لها: ما الذي يجعل جاسوسًا يُقدم
برنامجًا تليفزيونيًا على الملأ؟!
لم يكن مازيار الشخص الوحيد الذي تم القبض عليه ظُلمًا؛ حيث كل
تُهمته أنه شَهد على/ شاهد ما يجري وقام بتوثيقه. إلا أن عمله
كصحفي خَدَمه كثيرًا؛ لأن الجهات الأمنية كانت تُريد منه اعترافًا
إعلاميًا يقول فيه إنه جاسوس وإن الجهات الأجنبية هي التي دفعته
لتهويل الأمور وتصوير الانتفاضات أكبر مما هي عليها على أرض
الواقع؛ ما دفعهم إلى اللجوء في معظم الأحيان، أو على الأقل في
البدايات، لتعذيبه نفسيًا وليس بدنيًا.
تنوعت أساليب التعذيب النفسية بين ترك البطل وحيدًا تمامًا لفترات
طويلة كما لو كان منسيًا، وإخباره أن لا أحد يهتم لأمره حتى أُمه
لم تطلب مقابلته ولو مرة. وبين تهديده بإيذاء من ساعدوه أثناء
قيامه بعمله الصحفي في إيران بعد أن تم القبض عليهم بالفعل، أو حتى
تقديم الأطعمة الملوثة والمليئة بالحشرات كوجبات له.
كان الأمر مُرهقًا للبطل، خاصة وأنه يعرف أن زوجته تنتظره وأن هناك
مولودًا قادمٌ له ويستحق أن يختبر معه/ معها الحياة، لذا؛ كانت
مسألة وقت قبل أن يُقرر مازيار منح المسؤولين الاعتراف الذي
يريدونه، والذي لم يُصدقه أحد.
بعد الاعتراف، لم يتغير شيء؛ بل ازداد الأمر سوءًا؛ فها هو
الاعتراف قد أخذوه ليبدأ الإيذاء الجسدي في التزايد، في الوقت نفسه
تضاعفت هلاوس مازيار وأصبح على وشك الجنون إلى أن أخبرته أخته في
إحداها أن عليه اللعب على نقاط ضَعْف خصمه إذا أراد الانتصار بتلك
المعركة، فهو ليس الطرف الأضعف؛ بل هم الضعفاء، من يخافون هؤلاء
الذين شَهدوا جرائمهم.
لذا؛ يبدأ البطل في تضليل من يُحقق معه بطريقة ساخرة للغاية استغل
فيها كَبته الجنسي، وتزامن هذا زيادة ضغط الرأي العام الأمريكي
والأجنبي فيما يخُص قضية مازيار؛ ليتم الإفراج عنه بعد 118 يومًا،
وينتهي الفيلم بعودته لزوجته.
مازيار بهاري
جاءت تسمية الفيلم “ماء الورد” بسبب العطر الذي كان يضعه الضابط
الذي اعتاد استجواب مازيار وهو مُغمض العينين؛ حيث كانت تلك
الرائحة هي الشيء الوحيد الذي يستدل به البطل على وجود المُحقق
بالغرفة. ولأن مازيار لم يعرف له اسمًا؛ فـ “ماء الورد” هو الاسم
الذي اختاره له حتى في كتابه، لتظل تلك الرائحة -حتى الآن-
تُذكِّره بالسجن وتجربة اعتقاله.
وكما ذكرنا مُسبقًا، هذا الفيلم هو الإخراج الأول لجون ستيورات،
والذي شعر أنه مسؤول إلى حد ما عما حدث لمازيار؛ حيث كان برنامجه
أحد أدلة الإدانة التي تم استخدامها ضد البطل؛ ما تسبب في اعتقاله.
لذا؛ بعد الإفراج عن البطل، أصبح صديقًا له، وما إن أصدر كتابه؛
حتى قرر جون تحويله لفيلم والقيام بإخراجه والاشتراك في إنتاجه،
حتى إنه قرر أيضًا كتابة السيناريو والحوار بنفسه؛ فكان يُقابل
مازيار صباحًا ليتحدثا معًا حول رؤية جون للأمر، ثم يقوم بالكتابة
ليلًا بعد موعد عرض برنامجه الشهير.
لذا؛ لم يكن غريبًا أن تأتي بعض المواقف مُطَعَّمة بخفة الدم
والسخرية المعروف بها جون، حتى إنه في أحد مشاهد التعذيب نرى البطل
مُصابًا بهيستريا من كثرة الضحك! ولعل تلك المواقف هي التي قللت من
قسوة الوقائع وصعوبة بعض المشاهد.
أما عن الإخراج نفسه، فكان جيدًا جدًا؛ باعتبار أن تلك هي تجربة
المخرج الأولى، حتى إنه استخدم بعض التقنيات الحديثة في بعض
المشاهد؛ ما جعل الأمر مفاجأة للجمهور والنُقاد. كما جاء اختياره
للأبطال موفقًا، على الرغم من أن أغلب الأبطال غير إيرانيين؛ حيث
لعب دور مازيار الفنان المكسيكي “غاييل غارسيا برنال”؛ ما كان
اختيارًا صائبًا، سواء على مستوى الشكل أو اللكنة الإنجليزية
المختلفة الخاصة، وقد أجاد دوره بشكل كبير.
أما “كيم بودنيا” الدنماركي الأصل، والذي لعب دور رجل الأمن
الإيراني الذي يستجوب مازيار؛ فقد أدى دوره بحرفية شديدة وطريقة
السهل الممتنع. حيث استطاع، على الرغم من طبيعة عمله القاسية، أن
يجعل المُشاهد يراه كرجل ضعيف يحتمي خلف قسوته من الضياع الوظيفي
أو حاجاته الحياتية العادية التي يفتقدها؛ ليبدو كمسجون أكثر منه
كسَجَّان.
وقد تم تصوير الأحداث في الأردن، والاستعانة بكثير من أهلها في
العمل بالفيلم، سواء كعاملين وراء الكاميرا أو المجموعات التي تظهر
على الشاشة، وبلغت تكلفة الفيلم 5 ملايين دولار؛ الفيلم الذي على
إثره تم منع أبطاله من دخول إيران.
على كل حال، مُخطئ من يظن أن جون ستيوارت بصفته رجلٌ كوميديٌ؛ فهذا
يعني أن ما سيُقدمه للسينما سيكون مادة خفيفة أو طريفة، أو حتى
طريقة تناوله للأفكار ستأتي اعتباطية وساذجة.
على العكس، كان جون ذكيًا جدًا في اختياره، على الرغم من زعمه بأن
توقيت عرض فيلمه جاء مُصادفًة بالتزامن مع ذلك الوقت الحساس فيما
يتعلق بالعلاقات الأمريكية الإيرانية؛ حيث عُرِض بأمريكا في 14 من
نوفمبر الماضي، أي قبل 10 أيام فقط من الموعد النهائي لعقد الاتفاق
النووي الشامل، ما بمقدوره أن يُغير خارطة العالم كله.
أما عما دفعه لتقديم ذلك الفيلم، فبالطبع لم يكن شعوره بالتورط في
قضية مازيار هو السبب الوحيد؛ إذ إنه اهتم أيضًا بالقضايا التي
يطرحها الفيلم، سواء فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان وأساليب
القمع الوحشية التي يتعرض لها معارضو الأنظمة الديكتاتورية
المختلفة والمُتخلفة، أو عدم السماح بحرية التعبير سواء للمواطنين
العاديين أو الإعلاميين، ومُحاولة التعتيم على ما يدور حقيقة.
وبسؤال المُخرج في أحد الحوارات عما إذا كان يخشى أن يتخذ البعض
فيلمه ذريعةً لتخريب الاتفاقات الأمريكية- الإيرانية؛ قال إن أي
شخص يرفض عقد الاتفاق سيفعل ذلك بالطبع، فمن المستحيل أن تتم
السيطرة على ما يقوم به البعض من تحويل كل شيء إلى سلاح يستخدمونه
في وجه من/ ما يختلفوا معه. لذا؛ من الخطأ أن يقف كل شخص مَحَلّه
أو يفرض على نفسه الرقابة مُحجّما أفكاره بسبب جهل أو غباء هؤلاء
الأشخاص.
كما ذكر أن فيلمه لا يدور حول الأساليب الوحشية والانتهاكات أو
القّمع الإعلامي الذي يقوم به نظام فردي واحد تجاه أفراد مجتمعه أو
الغرباء؛ فإيران هنا مجرد مثال. لأن ما حَدث للبطل في طهران يتكرر
بكل أنحاء العالم؛ فحتى الولايات المتحدة الأمريكية تحتجز الأشخاص
بالحبس الانفرادي وتلجأ للتعتيم والخداع حين يصُب ذلك في مصلحتها.
وعلى الرغم من حساسية القضية التي يتناولها الفيلم؛ إلا أن أهميته
جاءت بسبب مُخرجه أكثر من القصة نفسها، خاصة مع ميوله السياسية أو
طبيعة المواد التي يتناولها في برنامجه. فرُبما لو أن مخرجًا
عاديًا هو من أخرج الحكاية أو أن الأحداث كانت تدور بمكان آخر غير
(إيران!) أو على أقل تقدير جاء وقت العرض نفسه مُختلفًا؛ لم يكن
ليتم الالتفات للفيلم وتسليط الضوء عليه كل هذا القَدر. فحتى
القضايا الإنسانية قد تخضع لبعض المعايير المُجحفة عند الحُكم
عليها! |