وصلنا، فى عمود سابق، إلى أن «النبطشى»، ليس مهنة الرجل المهياص فى
حفلات الزواج وحسب، بل أسلوب حياة يعتمد على الضجيج والمغالاة،
والواضح أن النزعة النبطشية انتقلت إلى الأفلام السينمائية، فبعد
الظهور اللافت، الخلاب، لماجد الكدوانى، مجسدا تلك الشخصية، فى
«الفرح»، أعاد محمود عبدالمغنى، بمهارة، تقديمها فى «النبطشى»، حيث
أصبح بطلاً مطلقاً.. ومع «كرم الكنج»، بدا واضحا أن النبطشية باتت
تهيمن على لغة الفيلم، جملة وتفصيلاً.
مع اللحظات الأولى، حتى النهاية، ينطلق علينا وابل من الموسيقى
الصاخبة العالية، وضعها، أو اختارها إن شئت الدقة، صاحب اسم جديد
ــ غاندى ــ لا علاقة له بخصال الزعيم الهندى الكبير، المهاتما،
المشهود له بالتقشف، والهدوء، فهنا، طوفان الموسيقى يغرق صالة
العرض، تمتزج بالصراخ والعويل، تصاحب بدقات طبولها اللكمات
والشلاليت، ترتفع مع راقصات الشوارع والملاهى الليلية، وهى فى هذا
تستلهم دور «النبطشى»، المنوط به تسخين أجواء الأفراح، وعدم ترك
فرصة التقاط الأنفاس عند الحاضرين.
يأتى أداء معظم الممثلين، مشابها لتورم الموسيقى، فبعد عدة لقطات
جيدة، تستقبل فيها الكاميرا، من موقع منخفض، بطلنا، محمود
عبدالمغنى، بوجهه الشعبى، طويلا، نحيلا، أقرب للفهد، يندلع الصراع
بينه وتاجر المخدرات العتيد، منذر رياحنة، بسبب التنافس على فاتنة
الحارة، ريهام حجاج.. فى فرح سوقى، من النوع الذى أصبحت أفلامنا
تهيم به، وفى حضور رياحنة، يعتلى عبدالمغنى خشبة المسرح البدائية،
بين العازفين، والمغنى الشعبى والراقصات، ليطلق عقيدته بموجات
متلاحقة من الكلام، ولا تفوته بعض الحنجلة، كأنه يذكرنا بدور «النبطشى»،
فى الفيلم المسمى بذات الوصف، ويتعمد توجيه إهانات مبطنة لغريمه
الذى تصله الرسالة، ينهض، يعتلى خشبة المسرح ليقوم بدور النبطشى
الضد، والطريف، أن مخرجنا، حازم فودة، المستسلم لتقاليد «الفيديو
كليب»، يدفع بطلته، مع قريبتها، للرقص فى الشرفة، باندماج كامل، لا
يقطعه إلا عندما يقع نظر عبدالمغنى عليها، بين الحين، والحين.
الغريمان، فى مدخل الحارة، تدور بينهما معركة بدنية، كأنها بين فيل
ونمر، يكاد ينتصر فيها الفيل، الأضخم، والأثقل، رياحنة، لكن النمر،
الأسرع، يعاجله بضربة مدوية، فى وجهه، تلقيه جريحا، وليس قتيلا،
وها هو المضروب، فى موقف غير مسبوق، يقوم بخياطة خده المشقوق،
بنفسه.
منذر رياحنة، صاحب حضور قوى، بوجهه المحدد القسمات، الأميل إلى
البياض، وشعره الناعم، وصوته الواضح النبرات.. شاء فى هذه المرة،
مع صناع الفيلم، أن يجسد شخصية شديدة المحلية: صعيدى، لم يغير
لهجته، برغم حياته الطويلة فى المدينة.. لكن المشكلة تكمن فى
التناقض بين إيغال لهجته فى جنوبيتها، وملامحه التى تؤكد أنه من
أبناء المدن.
فيما يشبه الحلقات المتصلة، المنفصلة، يتابع كاتب السيناريو، ياسر
عبدالباسط، جولات المطاردات بين القطبين، منذر وعبدالمغنى، وفى كل
حلقة، تدخل عناصر جديدة: الصداقة الحميمة بين عبدالمغنى واثنين من
خلصائه، عمله فى ملهى ليلى، وهى فرصة تقديم رقصة مع أغنية شعبية،
ولأنه أصلاً خبير مخدرات حشيش، يعرف من شمة واحدة وقضمة فتفوتة ما
هى مكوناتها، ومن أين جاءت، لذا يصبح مستشارا لمدير الملهى، بعد أن
كان الذواقة عند منذر رياحنة.. وفى حلقة أخرى، أو جزء تالٍ يستدعيه
ضابط مباحث نزيه طالبا التعامل معه، ثم يعثر على أوراق خطيرة لأحد
المسئولين الكبار، يطلب مليون جنيه مقابل تسليمها. وبرغم انغماسه
فى هذه الشرور، يثأر منذر رياحنة لطهارته، ويظل على بكارته من أجل
حبيبته، ريهام حجاج، الرافضة، وبينما الجثة مطروحة أرضا، ينطلق
بطلنا فى وصلة نبطشية يعاتب ويؤنب أهل الحارة على الخصال السلبية،
الذين عليهم أن يقفوا فى وجه الأشرار. وبينما ينضم البعض له، يواصل
ملء الأجواء بالكلام لينتهى الفيلم.. «كرم الكنج» ينتمى لمدرسة
«النبطشية».
احترس من النبطشى
كمال رمزي
الثلاثاء 21 أبريل 2015 - 9:20 ص
النبطشى، هو ذلك الرجل المهياص، الممسك بميكرفون الفرج، ليملأ
الأجواء بضجيج الصهللة. يرفع عقيدته مقدما تحياته الحارة لأهل
الحارة، معددا مناقب العروسين، وأسرتيها، وأحبائهما، مرحبا
بالوافدين من أول الشارع، مقدما التحية للجدعان، ولا يفوته التنديد
بالأندال، الذين لا أخلاق لهم، ولا يحبون الخير للآخرين.. يقاس
نجاح النبطشى بمدى قدرته على قتل الصمت والقضاء على الهدوء، مرهون
بمواصلة الكلام، بحماس، مهما كان الكلام فازعا، فالمهم، إبقاء
الإيهام بأن الليلة تشتعل بصدق حرارة العواطف.
أحيانا، ينتابن الإحساس بأن «النبطشى» ليس مجرد مهنة، بل أسلوب
حياة، تسلل إلى واقفا، فأصبحنا نراه ونعايشه.. يبدو واضحا فى
برامجنا التليفزيونية، حين يهلل المذيع ــ أحيانا بوقار ــ
للمتحدثين له، تليفونيا، من غرفة مجاورة، متظاهرا أن المكالمة آتية
من السودان أو كندا، وتصل إلى قمتها المبتذلة فى قنوات قائمة على
التسابق من أجل معرفة الفروق بين صورتين لفنان واحد، والرابح سينال
عشرات الآلاف من الجنيهات.. وها هو المذيع ــ أو المذيعة ــ يحض
المشاهدين على الاتصال فورا، بالأرقام المكتوبة على الشاشة
الصغيرة.. يمتد النشاط «النبطشى» ليشمل الإعلانات الحماسية
للعقاقير المقوية للذكورة، حيث يؤكد المروج أن الدواء به طاقة
الحصان.
واقعيا، نرى «النبطشجية»، فيمن يلتفون حول المسئول الكبير الذى
يزور موقعا، أو كى يفتتح مشروعا، يؤدون دورا، يعتبر، على نحو ما،
امتدادا لوظيفة المطيباتى أيام زمان، الذين يستحنون أداء المطرب،
ويتظاهرون بأن الوجد قد أخذ منهم مأخذه، فيصيحون «الله.. تانى
والنبى».. فى هذه المرة، يتظاهرون بزنهم يسخسخون من الضحك، إذا
أقدم المسئول على دعابة غليظة، أو قال نكتة سخيفة. يغضبون أشد
الغضب حين يبدى المسئول ضيقه بأمر ما.. أما عن المشروع، حتى لو كان
إعادة افتتاح كوبرى، أو وضع حجر أساس مدرسة صغيرة، أو رصف شارع،
فإنها، عند النبطشى، أطواق نجاح ستنتشل البلاد من غرق محتمل.
إحدى أدوار النبطشى، تجميل كل ما هو دميم، والترويج للبضاعة أيا
كان فسادها، وإغداق الأوصاف المحببة على ما هو جديدر بالزراية،
فإذا كانت العروس متواصغة الجمال، هى عنده ليست أقل من القمر،
وبينما العريس عاطل عن العمل، من خريجى السجون، يمسى رجل أعمال،
مشهود له بالنزاهة.. لو أقيم الفرح فى منطقة بلطجية، لابد أن يوصف
أهاليها بالشرفاء.. أما عن الراقصة، التى لا علاقة لها بالرقص،
والمطرب، صاحب الصوت الردىء، فإنهما، عند النبطشى، من فنانى
السينما والتلفاز والإذاعة.
الصخب، من شروط النبطشى، أو هو الأساس فى الأجواء الاحتفالية،
فالأصوات العالية تشتت الانتباه من ناحية، وتزج بالمتواجدين إلى
حالة أقرب للغيبوبة، وربما لا يتواجد النبطشى، لكن لابد من حضور
المؤثرات السمعية، ذلك أنها تصهر الجميع فى بوتقة واحدة.. فى حفلة
حرق الكتب بفناء إحدى مدارس الجيزة، تعمد أصحاب العرس الكئيب،
إطلاق أناشيد وطنية متوالية، لزوم صهللة الأجواء.. «النبطشى»، ليس
مجرد مهنة، بل محنة، وأسلوب للتزييف، يتزايد فى حياتنا، عواقبه
وخيمة، خاصة أن الانتخابات قادمة، غدا، أو بعد الغد، حيث سينشط
النبطشجية، فعليا أن ننتبه.
كابتن مصر
كمال رمزي
السبت 18 أبريل 2015 - 8:35 ص
الفيلم بسيط، حكايته تروى فى سطرين، تخلو من المفاجآت، واسلوبه
مألوف، يبتعد عن استعراض المهارات، متواضع التكاليف، لا يستعين
بكبار النجوم، ولا تصحبه ضجة إعلامية أو إعلانية.. ومع هذا، لم
يحقق رواجا تجاريا وحسب، بل تجاوب الجمهور معه تماما، وبدا ذلك
واضحا على الملامح المنشرحة، لرواد دار العرض.
تفسير النجاح، فى تقديرى، يرجع إلى أمرين، أحدهما، تحاشى الانزلاق
فى استعراض رقصات الشوارع، بضجيج المطربين، وصخب الإيقاعات
العالية، فضلا عن عدم الانغماس فى معارك البلطجية، فى الأزقة، حيث
يستخدمون المطاوى والسنج والخراطيش أحيانا، علما بأن الفرصة كانت
متاحة أمام صناع الفيلم، بأبطاله، ومعظمهم من المساجين، أرباب
السوابق.
أما السبب الثانى، والأهم فى ظنى، فإنه يتمثل فى طاقته الإيحائية،
والتى وصلت معانيها، بدرجات متفاوتة، إلى الجمهور الذى أدرك، على
نحو ما، أن «كابتن مصر»، أكبر وأعمق من مجرد حدوتة شائقة، قدمتها
أفلام أخرى، تتابع، محاولات فريق كرة قدم، لتحقيق الفوز، وإثبات
الجدارة.
كاتب السيناريو، عمر طاهر، من المهتمين بالشأن السياسى، مقالاته،
فى الصحف، تتسم بالوعى وصفاء الروح الوطنية، وهما، يتوفران فى
«كابتن مصر»: محمد عادل إمام، لاعب كرة ينتظره مستقبل كبير، لكن،
أثناء قيادته لسيارته، يصدم أمين شرطة.
يحكم عليه بالسجن ثلاثة أعوام.. فى الأروقة، والفناء، وداخل
الزنازين، يختار المخرج، معتز التونى، مجموعة ملائمة تماما
للنزلاء، متباينة الوجوه، مختلفة الأحجام، مما يعطى تفردا لكل
سجين، وفى ذات الوقت، يعبر كل منهم عن قطاع من الناس، فثمة الثرى،
صاحب الشركة الكبيرة «إدوارد»، المحكوم عليه فى قضية تشهير بامرأة
أحبها وخانته.. وطبيب النساء المزواج «بيومى فؤاد»، المعاقب على
تعدد زوجاته.. والصعيدى، ضخم الجثة، الذى فشل فى قتل أحد بلدياته
أخذا بالثأر.. والشرس، قوى البنية، الغاضب «خالد سرحان».. والمثقف
النحيل، المهاتر، صاحب الصوت المنخفض «على ربيع».. انه مجتمع
يتشابه، إلى حد ما، دون أن يتطابق مع المجتمع، خارج السجن.
السلطة، فى السجن، تتمثل فى المأمور «حسن حسنى» ــ، وبلمساته
الكوميدية، المذعور من نوبة هياج الشرس، إلى درجة ابتلال بنطاله،
وملامح الانتشار الطفولى حين يحدثه محمد عادل عن احتمال ترقيته..
المأمور، الصارم فى مكتبه، بالغ الأدب والتهذيب، أمام وزير
الداخلية المنهك عصبيا «ياسر على ماهر».. ميزة مخرجنا، معتز
التونى، اهتمامه بالتغيرات النفسية إلى جانب الحركة المادية، مما
يمنح الفيلم مزيدا من الحيوية.
لاعب الكرة، يعمل بكل جدية، لتكوين فريق من زملائه، ولا يفوت
الكاتب، عمر طاهر، أن يشير إلى سبب موافقة المأمور والوزير على هذا
النشاط: الرد على جمعيات حقوق الإنسان التى لا تتوقف عن إدانة
الممارسات القمعية للنظام.
«الفلاش
باكات» أو العودة للماضى، الموجزة، تلخص تاريخ وطباع معظم
الشخصيات، ومن بينها سائق الأتوبيس السياحى، الملتحى، الطيب، الذى
يأتيه، عبر الهاتف النقال، خبر ينتظره بفارغ الصبر، يتعلق بحمل
زوجته، وما أن يصيح بفرح «الله أكبر»، حتى يصاب السياح بالرعب.
يقبض عليه، فالواضح أن ذلك النداء الجميل، أصبح، بسبب ترديده عقب
عمليات الذبح والتفجير، مثيرا، على الأقل، للريبة والتوجس. إنه
موقف منسوج بمهارة، ينتمى إلى الكوميديا السوداء.
تعاطف الجمهور مع الفريق يصل لذروته فى المباراة أمام الفريق
الألمانى، كما لو أن المصريين يتشوقون لأى انتصار، حتى لو جاء على
الشاشة.. والأهم، تأكيد فكرة بطولية الجماعة، فالانتصار لن يتحقق
إلا بانصهار الجميع فى فريق واحد، لا يُبعد أحد، ولا يُقصى الملتحى
الطيب.. وهذه الفكرة، ذات الطابع الإيحائى، السياسى، تفسر ذلك
القبول الواسع، العفوى، لكابتن مصر.
فزاع
كمال رمزي
الثلاثاء 14 أبريل 2015 - 10:00 ص
هشام إسماعيل، ممثل موهوب، صاحب طاقة، يملك قدرات تمكنه من التعبير
الموفق عن شخصيات متباينة الطباع، بملامح وجهه، وحركة جسمه، وألوان
ودرجات صوته.. فى مسلسل «ذات» ــ على سبيل المثال ــ قدم، بنجاح،
نموذج الرجل الذى يوغل فى الشراسة كلما زاد فساده، بعد أن كان
وديعا، رقيقا، مع جيرانه. حانيا، على زوجته، يغدو بعد خروجه من
السجن، عنيفا، ضد أصدقاء الأمس، جلادا لزوجته.. هذا التحول المنطقى
يجسده هشام بتلك الابتسامة العذبة، والنظرات المطمئنة، الودود،
والصوت الحنون، الدافئ.. وذلك فى المرحلة الأولى.. ثم، فى المرحلة
الثانية، يصبح كائنا متحفزا، يوحى، بحركته، وسلوكه، أنه أقرب
للنمر، من الممكن ان ينقض على أى فريسة، فى أى لحظة.
من ناحية ثانية، شارك فناننا فى مسلسل «الكبير أوى»، حيث قدم نمطا
ثابتا ينتمى إلى «الكاريكاتور»، شكلا وموضوعا: جلباب ريفى، حول
الرقبة شال، لاسة وطاقية فوق الرأس. أنف ضخم يعلو شارب كثيف الشعر،
غير مبروم الطرفين، يكاد يغطى الشفة. حواجب غليظة، متباعدة عن
العينين، تساعد على التعبير عن الدهشة التى تلازمه عادة، ممتزجة
بدرجة ما من الذهول، الأمر الذى مهد له السبيل كى يقوم بالدعاية
لنوع من الشاى. يرتشف منه شفطة، فيضيف للدهشة والذهول، قدرا كبيرا
من الانتشاء.
بهذه المواصفات، دخل هشام إسماعيل عالم الشاشة الفضية، وكان من
الممكن ان يكون التوفيق حليفه، فالشخصية الموحدة الأبعاد، تستطيع
الانتقال، بنجاح، من عمل لآخر، مثل شارلى شابلن، ولوريل وهاردى
عالميا، ونجيب الريحانى وعلى الكسار محليا.. لكن ثمة بعض الشروط
الضرورية، فى مقدمتها، إلى جانب الإخراج، السيناريو الذى يجرى
تنفيذه. انه الأساس الذى يبنى عليه الفيلم، بما فى ذلك القضية التى
يحملها، ومدى جدوى الهدف منه، وطريقة تقديمه لبقية الشخصيات، وهى
استفسارات تطرح بالضرورة على «فزاع».
الإجابات تأتيك فى مجمل الفيلم وتفاصيله: خلط، ارتباك شديد، تخبط،
وعشوائية.. كاتب السيناريو ــ وهو هشام إسماعيل ــ قرر استخدام
فكرة الانتقال إلى العاصمة، أو ذهاب بطله، الريفى، إلى القاهرة،
وهى الفكرة التى لا تقاوم، والتى اعتمد عليها يوسف شاهين فى «ابن
النيل»، وصلاح أبوسيف فى «الفتوة»، وحسين كمال فى «النداهة»،
وغيرهم.. كل منهم، فى سياق متماسك، رأى المدينة، خلال ما حدث
لبطله.. هنا، فى «فزاع»، بعد تلكؤ طويل، تستغرقه مقالب بلا ضرورة،
تقوم بها والدة بطلنا «إنعام سالوسة»، المتأثرة ببرامج الكاميرا
الخفية، يشد الابن، المتأنق بطريقته، الرحال إلى القاهرة، كى يسترد
مبلغ خمسة آلاف جنيه، من قريبته الشابة، تمهيدا لشراء بيت مهجور فى
القرية، رأى فى المنام «حمدى الوزير»، يؤكد له وجود كنز مدفون تحت
أرضيته.
«فزاع»،
لا يعرف عنوان قريبته. فقط يعلم أنها عاملة نظافة، مما يتيح للفيلم
الذهاب من مكان لآخر، لا ليكشف لنا معلومة، أو يقدم لنا موقفا له
معنى، أو يرصد تطورات تحدث للبطل، فالواضح أن هشام إسماعيل، الممثل
المتمكن، لا علاقة له بكتابة السيناريو، فما نراه على الشاشة مجرد
«إفيهات» بليدة، مع مجموعة من المواقف المبعثرة، وشخصيات عابرة، من
الممكن حذفها، تظهر وتختفى بلا ضرورة.. مثلا، فزاع معه علبة كحك،
المفروض توصيلها لقريبته. وفى كل مكان، مثل المدرسة، المستشفى، دار
الأوبرا، تجد من يلتهم قطعة أو قطعتين، من دون تردد، ويقوم المخرج،
ياسر زايد، مع المصور، سامى المغربى ــ سامحهما الله ــ بالتركيز
على الأفواه المليئة بقضمات الكحك، يتطاير نثرها أثناء الكلام، فى
لقطات خالية من الذوق.
الفيلم مفكك، لا اسلوب له، أقرب إلى «النمر» أو «الاسكتشات»،
وكلها، تسير عكس مقولة طفلة، تقول لفزاع، بحكمة الشيوخ، ان بداخل
كل إنسان كنز، عليه بالبحث عنه، بينما ينتقل البطل من ضربة حظ
لأخرى. يربح، فى المدرسة، جائزة أفضل ملابس تنكرية، ثم فى أحد
البرامج التليفزيونية، ينال جنيها ذهبيا بسبب فطنته العفوية،
والأدهى أنه يفوز بجائزة أحسن ممثل فى مسابقة للهواة.. هكذا.
طوال الفيلم، الذى بدا كما لو أنه لا يريد أن ينتهى، لن تجد لمسة
إبداع هنا أو هناك.. حتى ممثلتنا التى انتظرناها طويلا «سيمون»،
تعود هنا باهتة، لتقدم استعراضا فقيرا، وتختفى فورا.. فى جملة
واحدة: «فزاع».. مفزع فعلا.
زنقة ستات
كمال رمزي
السبت 11 أبريل 2015 - 8:10 ص
الضحك، دليل صحة نفسية، وعلاج فى ذات الوقت.. غالبا، تنتعش
الكوميديا مع بوادر الأمل، حين ينتشى الإحساس بأن المسالب والمتاعب
ليس من الممكن التغلب عليها وحسب، بل السخرية منها، لذا، تأتى موجة
الأفلام الكوميدية لتبدد شيئا من أجواء القتامة التى حطت على
حياتنا منذ فترة، ولتؤكد أننا أقوياء، فالضعفاء لا يضحكون.
هذا الكلام النظرى، العام، من خارج الأفلام، لا يعنى التصفيق لها،
جملة وتفصيلا، فالعمل الفنى، مفردة قائمة بذاتها، حتى إن جاء وسط
موجة.. «زنقة ستات»، الرائج جماهيريا، بتوقيع مخرج جديد، متمكن
وواعد، خالد الحلفاوى، يعتمد على سيناريو كتبه الثنائى هشام ماجد
وكريم فهمى، يتجهان فيه نحو كوميديا «التخفى»، اللعبة المعروفة،
عالميا ومحليا، حيث تقوم الشخصية، متعمدة، بتقمص شخصيات أخرى،
فتغير من ملبسها وسلوكها وطريقة كلامها، وهى فرصة ذهبية للممثل كى
يثبت موهبته وقدراته، ولعلك تذكر عبدالمنعم إبراهيم فى «سكر هانم»،
وصلاح ذو الفقار فى «عفريت مراتى».
حسن الرداد، النجم، صاحب الوجه المتسق التقاطيع، الجذاب، الأقرب
إلى الفتى المدلل، الارستقراطى، يوحى أنه لم يجرب حياة ضنينة، يعيش
متنقلا من نجاح لنجاح.. هنا، يطالعنا كدون جوان، ورث عشق النساء من
والده، الزائغ العينين، الطبيب النفسانى، الذى يسيل لعابه على
مريضاته! وهو أمر جارح من الفيلم، وإن كان من حسن الحظ يأتى كإشارة
عابرة، وكمجرد مدخل يمهد لقيام الابن بمحاولة إيقاع ثلاث فتيات فى
حبائله، كنوع من الثأر لمريض فقد القدرة على الكلام، بسبب رفض
الثلاث له، وأنه، حسب ظن الطبيب، سيشفى، حين يعلم بأنهن خدعن..
ويضيف السيناريو دافعا آخر لقيام الابن بهذه المهمة، يتمثل فى
تنازل الأب عن مصنع كانت تملكه زوجته الراحلة.
بعيدا عن تلك المقدمات المتهالكة، يدخل «زنقة» فى منطقته الأساسية:
حسن الرداد، واسمه فى الفيلم «على منير الجحش»، يبدأ مشوار تقمص
ثلاثة نماذج تتواءم مع ميول ضحياته، تساعده، سكرتيرة والده، كوكو،
بأداء خفيفة الظل، إيمى سمير، حيث تكرر دورها، فى مسلسل «هبة رجل
الغراب».
ثمة خيوط من ذهب، تلتمع تحت ركام الفيلم، تتجسد فيما تتمناه كل بنت
فى شريك حياتها.. أمنيات إنسانية، منطقية ومشروعة، تبين بجلاء نضج
البنت المصرية، احتياجاتها المتواضعة، البسيطة، التى تنتمى،
جوهريا، لحقوق المرأة أو الإنسان.. ويحاول «على منير الجحش»
بالثلاثة نماذج التى ينتحلها، أن يظهر بالصورة التى تحلم بها كل
بنت.
آيتن عامر، اسمها فى الفيلم «سهام بدر»، فتاة رقيقة، محجبة،
متدينة، مهذبة، يخفق قلبها بعد تردد، بحب الفارس المزيف، يرتدى
الجلباب الأبيض، يمسك بالسواك، يضع طاقية على رأسه، فوقها شال
خفيف، يلصق زبيبة على جبهته، لا يصافح، يبتسم ابتسامة الورع، يسبق
كلامه بكلمة «الأخت.. سهام».. وهى، ترى فيه طاقة حنان وجدية
والتزام، وإن أخذت عليه ذلك التزمت والمغالاة.
الثانية، شكرية ــ بأداء مى سليم ــ فتاة منسحقة، تحاول التخلص من
براثن زوج والدتها، الشرير، الذى يجبرها على ممارسة أشياء لا
تحبها، وتفشل فى تحقيق استقلالها إلى أن يظهر الفارس، فى هيئة
الطبال، ويعلمها الرقص، على طريقة أحمد زكى ونبيلة عبيد فى
«الراقصة والطبال»، وفى لفتة جميلة، يشير حسن الرداد إلى القدير
أحمد زكى، مبتعدا عن تقليده، وينجح مخرجنا الجديد، خالد الحلفاوى،
فى إضفاء لمسات كوميدية، كالخوف والتردد، وعدم التمكن من ضبط إيقاع
الطبلة، عند المتنكر.. وأخيرا، يتحقق استقلال «شكرية».
ثالث البنات، سميحة العو، بأداء ممثلة أعترف أنى مفتون بقدراتها،
منذ شاهدتها فى مسلسل «سجن النساء».. هنا، تنهض بالمشاهد التى
تشارك فيها، تمنحها مذاقا واقعيا، طبيعيا إن شئت توحى أنها عاشت فى
أدغال مناطق وحشية، صارعت، بدنيا، المرة تلو المرة، وثمة آثار
«بشلة»، شقت خدها الأيسر، وتعلمت ضرب المطواة التى لا تفارقها
أبدا.. الممثلة التى سيصبح لها شأن كبير، هى نسرين أمين.. يدرك
بطلنا أن التسلل إلى قلب «العو»، لن يتحقق إلا عن طريق احترامها..
وها هو، بذوق وكياسة، يعاملها كما لو أنها «ليدى»، مما يجعلها تهيم
به.
بعيدا عن النهايات المرتبكة، المتوالية، شأنها شأن البدايات، يبقى
للفيلم ذلك التصور الناضج، المأمول، الذى تحتاجه البنت المصرية فى
فارسها، أن يكون متدينا بلا مغالاة، يعترف ويساعد على استقلالها،
وأن يعاملها باحترام.. إنه فيلم قابل للمشاهدة، يستحق نجاحه،
جماهيريا.
قصى صالح الدرويش
كمال رمزي
الثلاثاء 7 أبريل 2015 - 3:10 م
عرفته صوتا قبل أن أراه، وسمعته ضحكة قبل أن أتبادل معه كلمة واحدة..
منذ أكثر من ثلاثة عقود.. فى مدينة بغداد، التى كانت ــ أيامها ــ
عامرة بالمشاريع والنشاطات والآمال، عُقد «مهرجان السينما
التسجيلية»، بحضور العشرات من المهتمين بهذا الشأن، كنت أقف مع بعض
الأصدقاء فى الدور الثانى بالفندق.. فجأة، انطلقت قهقهة عالية،
نابعة من القلب، آتية من البهو فى الدور الأرضى، أعقبتها شهقة
ممتزجة بما يشبه الصفارة.. ابتسم الجميع، وفيما يببدو أن زميلى،
الناقد اللبنانى المرموق، محمد رضا، لاحظ دهشتى. قال لى «إنه قصى
درويش».
بعد قليل، كنا، جميعا، نجلس مع بعضنا، هى المرة الأولى التى التقى
فيها مع قصى، وجها لوجه، كنت أعرفه من قبل، خلال مقالاته السياسية
والسينمائية، المتسمة بالذكاء وإتساع الأفق، فضلا عن أسلوبها
المشرق، بلغتها الجميلة، المحددة، الدقيقة، وقدرتها على التعبير،
بوضوح، عن الجوانب المتعددة للقضية التى يتعرض لها.. ومن الناحية
الإنسانية، عرفته، عن طريق مشاعر دافئة، يكنها له أصدقاء مشتركون،
فى مقدمتهم رأفت الميهى وسمير فريد وعلى أبوشادى.
فى اللقاء الأول، لا يحتاج المرء لجهد كى يدرك أنه إزاء شاب ــ
أيامها ــ يختلف عن السائد والمألوف، فهو، الوحيد الذى استبدل
رابطة العنق ببابيون، وارتدى قميصا كاروهات وبنطالا واسعا وجاكت،
كلها، بألوان ذاهية، قد تبدو، نظريا، متنافرة، لكنها، معه،
متجانسة، متسقة، على نحو لافت للنظر.
برغم بدانته الملحوظة، تمتع بحيوية دافقة، سواء فى الحركة أو
العينين الملتمعين باليقظة والذكاء. إنه منتبه دائما، لا تفوته
جزئية أو تفصيلة، ردود الأفعال، عنده، سريعة، ساخنة، فضلا عن عقل
بالغ النشاط، فلا يمكن أن تمر عدة دقائق فى صمت، فعادة، يبادر إلى
طرح قضية خلامية، سياسية أو فنية أو أخلاقية، مثيرة للجدل. حينها،
يصل قصى إلى أفضل حالات الألق الفكرى.. لذلك، ليست مصادفة أن يغدو
قصى من أمهر، وأعمق، المحاورين، فى الصحافة العربية، ولعل محاوراته
الضافية مع يوسف شاهين، هند صبرى، حسين فهمى، أن تكون خير دليل،
طبعا، بالإضافة إلى حواراته مع المفكر، القطب، راشد الغنوشى، التى
أصدرها فى كتاب مهم، جرى منعه فى العديد من الدول العربية.
توالت لقاءاتنا، فى مهرجانات الجزائر، حيث عاش طفولته وشطرا من
شبابه هناك، مع والده، مدرس اللغة العربية الذى أورث ابنه ثروة
لغوية ظهرت واضحة فى كتاباته، ومهرجانات المغرب، ذات التوجهات
الثقافية الطموح، بالإضافة لمهرجانات فرنسا، ما بين معهد العالم
العربى، الذى اهتم بالسينما العربية لفترة، و«كان» بمهرجانها
العريق.
فى فرنسا، حيث استقر قصى، تعمقت صداقتنا، خاصة أنه، بصدق وحماس،
اعتبر نفسه، ليس مسئولا عن راحتنا، بل عى سعادتنا، وسريعا تكشفت
طباعه الأصيلة، وميوله الخاصة، وأولوياته، فى مقدمتها، عشق الحياة،
بكل ما تحمله كلمة «الحياة» من معنى، فإذا كنت «عملا»، فإنه ينغمس
فيه بدأت وجدية تبلغ حد الصرامة، وإذا كانت بهجة، فإنه ينهل منها
بكامل طاقته، وإذا كانت مغامرة، فإنه يقدم عليها بلا تردد، يتقبل
نتيجتها بروح لا تعرف الندم.. وهو، فى هذا كله، لابد أن يكون معه
أصدقاء، قد يختلف معهم فى الكثير من الأمور، وربما تصل إلى حد
القطيعة، لكنها قطيعة مؤقتة، فسرعان ما تتلاشى المسافات ويذوب
الجليد وتعود العلاقات أقوى مما كانت عليه».
قصى، لا يمكن أن تراه وحيدا، يشاهد الأفلام مع أصدقائه، المغربى
مصطفى المسناوى، اللبنانى غسان عبدالخالق، السورى محمد الأحمد،
المصرى سمير فريد، وبعدها، يحتدم النقاش، وغالبا، لا ينتهى الحوار
بنتطابق وجهات النظر، لكن قيمته تتمثل فى ذلك التنوير الذى يضيئ
جوانب العمل الفنى.. لذا، تتميز مقالات قصى درويش السينمائية، التى
صدرت فى كتاب «قراءة نقدية فى أفلام التسعينيات»، ــ ضمن سلسلة
«آفاق السينما» بتنوع تفسير الفيلم الواحد، وتحليله فنيا وسياسيا
واجتماعيا، الأمر الذى يمنح هذه المقالات قيمة مضاعفة.
لسنوات طويلة، أشرف قصى درويش على صفحة السينما فى جريدة «الشرق
الأوسط»، جعلها نابضة بالحيوية، يلاحق فيها المهرجانات والأفلام
والأحداث، بعد خروج صديقه الحميم، عثمان العمير، من رئاسة تحريرها،
غادرها، وأقدم على إنشاء مؤسسة «درويش بريس»، وأصدر مجلة «الحدث»
السياسية، ثم «سينما»، وهما مجلتان رفيعتان، فى إخراجهما،
وتحريرهما، مستعينا بأصدقائه، فضلا عن أصحاب الأقلام النزيهة،
إبراهيم العريس، وائل عبدالفتاح، سمير فريد، مصطفى المسناوى، فريدة
النقاش، فاروق عبدالقادر، وآخرين.. لكن «الحدث» بنزعتها الانتقادية،
لم تتحملها الدول العربية، فتوالت مصادرتها هنا وهناك، ولم تستطع
«سينما» تغطية تكاليفها، وترنحت المؤسسة إلى أن انهارت.
قصى درويش، أحب مصر، بأماكنها، وناسها.. لكنه عشق «الحسين»،
بدروبه، وشعبيته، ومقاهيه تلتمع نظراته بالإشراق والانتشاء حين
يتابع نشاط الناس فيه، بعد منتصف الليل، يلفت انتباهنا إلى أن هذا
المكان، هو الوحيد فى العالم، الذى يظل نابضا بالحياة والحيوية
طوال الأربع والعشرين ساعة.. كما ربطته صداقات عميقة مع فنانيها
ومثقفيها.. فى إحدى زياراته، ذهب لمشاهدة «الزعيم» من دون معرفة
بطلها، وعندما جلجلت ضحكته الشهيرة، بشهقة الصفارة، التفت عادل
إمام إلى الصالة، ليقول، بأريحية «الله.. ده قصى هنا.. جه امتى؟»..
كانت تحية جديرة للراحل قصى درويش الذى سيعيش مضيئا، فى ضمير
الصحافة العربية.. وفى قلوب أصدقائه.
البطل الضد.. «خارج الخدمة»
كمال رمزي
السبت 4 أبريل 2015 - 2:40 م
لفترات طويلة، وحتى الآن، بقيت بطولة الأفلام حكرا على الأخيار،
الأسوياء، الناجحين، الأذكياء، مفتولى العضلات، المتمتعين بجمال
الشكل والروح.. لكن، فى النصف الأخير من القرن الماضى، ظهر، على
استحياء، ما أطلق عليه «البطل الضد»، وهو، الإنسان الخاسر، الفاشل،
الضعيف، المفتقر للوسامة، الضائع، المنتقل من هزيمة إلى أخرى، لأنه
لا يمتلك وسائل الصراع، فى ظل عالم لا يعترف إلا بالأقوياء،
وسينما، تكرارا، لا تحتفى إلا بالمنتصرين. أن تعقد البطولة
لـ«البطل الضد»، مغامرة، تتطب شجاعة من صناع الفيلم.. وهذا ما أقدم
عليه، بجرأة، كاتب سيناريو ماهر، جديد، اسمه عمر سامى، وأخرجه
محمود كامل، صاحب عدة أعمال سابقة، كان ـ فى تقديرى ـ يبحث فيها عن
أسلوب، وجده وبلوره، فى «خارج الخدمة»، المتسم بدرجة عالية من
الاستقلال، ابتداء من اختيار ممثليه، وطريقة إدارتهم، إلى رصد
انفعالاتهم، والاحتفاظ بالإيقاع السريع، الساخن للفيلم، سواء فى
الأماكن المفتوحة أو المغلقة التى تجرى فيها الأحداث والمواقف،
وأحسب أن إسناد التصوير للبريطانى، الفنزويلى أصلا، أرتورو سميث،
منح الفيلم عبقا من «الواقعية الخشنة» التى تتسم بها سينما أمريكا
اللاتينية.
يعتمد «خارج الخدمة» على شخصيتين أساسيتين: سعيد، بأداء بارع لأحمد
الفيشاوى، لا يراهن على موهبته فقط، لكن الواضح أنه أخضع الدور
لدراسة تفصيلية معمقة. كاتب السيناريو لم يكترث بماضيه أو تاريخه،
مكتفيا برصد ما أصبح عليه. نموذج للبطل الضد.. هو ابن الشارع،
الموغل فى الإدمان، منذ زمن بعيد، هزيل، نفسيا وبدنيا، رعديد،
مقترض للمال، لص، لا يسعى إلا لتوفير جرعة مخدرات، وبالتالى، لا
يتمكن من مواصلة حديثه، عباراته بطيئة، متقطعة، يفترق للتركيز،
الخمول والنعاس يسيطران عليه، العالم الاخرجى لا يعنى شيئا عنده،
يرتدى بنطالا كالحا من الجينز، مهترئا، وسويتر عفى عليه الدهر،
متربا، حتى أنه حين يرتب أحدهم على كتفه، يتصاعد الغبار.. لا يتوقف
عن التدخين، بشراهة، حيث يندفع الدخان، كالصواريخ، من فمه
ومنخاريه. أحمد الفيشاوى، يجسد بصدق وبلاغة، حالة الإنسان الذى
يفقد إنسانيته، فيعيش بلا وعى ولا كرامة، ولا تقدير لعواقب الأمور.
إلى جانب سعيد، ثمة هدى، تقوم بدورها، على نحو متفهم، شيرين رضا.
امرأة وحيدة، غامضة نوعا، ما، تدمن العزلة، تتعاطى المخدرات، فى
حياتها أسرار لا نعرفها، يتستر عليها كاتب السيناريو، اللهم إلا ما
تدعيه من أن زوجها توفى منذ ثمانية أعوام.. ذهب شبابها وبدأ الزمن
يحفر تجاعيده حول العينين. ذات مزاج عصبى، علمتها الحياة، والوحدة،
أن يكون لها مخالب وأنياب.. شيرين، تتحرك فى شقتها، مسرح الوقائع،
كما لو أنها عاشت طوال عمرها، فى هذا المكان.
يبدأ الفيلم فى الشارع. اللون الرمادى يصبغ الصورة، معركة تتصاعد
فيا الصرخات ممتزجة بالتهديدات وشتائم جارحة يغطى عليها صناع
الفيلم بصفارة «تيت». الخناقة، هى «علقة» لسعيد، من مروج المخدرات
ممدوح ـ محمد فاروق ـ لأن المدمن لم يدفع ما عليه.
يخدعنا كاتب السيناريو، خدعة جميلة، حين يوحى أنه سيتجه بفيلمه
اتجاها بوليسيا، مشبع بالإثارة. «سعيد»، فى شقة «هدى»، كى يسرقها.
يحمل بعض التماثيل، مع «فلاشة» مسجل عليها مالا يعرفه ولا نعلمه.
يبيع التحف إلى عاديات اسمه فى الفيلم «عمهم» ــ بأداء محمد صالح
ــ الذى نجح فى تعميق حضور هذه الشخصية بإضفاء نوع من العصبية
عليها.. ويكتشف «سعيد» أن الفلاشة تصور صاحبة الشقة وهى تقتل طفلة،
خنقا.. وكما هو متوقع، يذهب المدمن إلى القاتلة كى يبتزها.. بنظرة
واحدة، تدرك المرأة أن صاحبنا أضعف، وأجبن، من أن يكون مبتزا..
أحمد الفيشاوى، فى لمسات متمكنة، يحاول استجماع شجاعته المبعثرة،
وأن يقنعها، بوهن، أنه سيبلغ الشرطة، الأمر الذى سيضرها تماما.
«هدى»،
تستضيف «سعيد»، يجمع بينهما عشق المخدرات، ويتعمد الفيلم أن ينحى
مسألة قتل الطفلة جانبا، ربما تأكيدا على أن ثمة جرائم بلا قصاص،
وربما إبرازا لمدى لا مبالاة المدمن، الأمر الذى يمتد، طوال «خارج
الخدمة»، فبينما التلفاز يذيع أخبار الثورة، وتظهر ريم ماجد ويوسف
الحسينى، يتابع المسطولان ما يجرى بعيون لا ترى.. يزداد انغماسهما
فى المخدرات، فمن الحشيش، إلى استنشاق الأبخرة إلى الحقن بالإبر فى
الوريد.. يلخص المخرج، محمود كامل، الإيغال فى الإدمان بزيادة
البقع الداكنة، المتخلفة عن الحقن، فى الأذرع، بالإضافة لميلهما
المتنامى للنوم، بالإضافة لتلك الكوابيس التى تنتاب «سعيد»، التى
يستدرجنا المخرج معها، على نحو يجعلنا نظن أنها واقعية، والفيلم فى
هذا يبدو كما أنه مرثية ممتزجة بالهجاء، لأناس يعيشون بيننا،
كالموتى، أو على الأقل، خارج الخدمة. |