«ما نموتش» للمخرج نوري بوزيد..
يستهل عروض أسبوع الفيلم التونسي
عمان - ناجح حسن
تنظم مؤسسة عبد الحميد شومان بالتعاون مع وزارة الثقافة التونسية
أسبوع الفيلم التونسي، الذي يضم جملة من الأفلام التسجيلية
والروائية بشقيها الطويل والقصير، وذلك بحضور صانعيها، جميعها تسرد
وقائع وتفاصيل في الحياة اليومية، مثلما تحكي أيضا عن هموم وتطلعات
شرائح إجتماعية متعددة، أنجزها مخرجون مكرسون وشباب بأساليب ورؤى
بليغة الأفكار والجماليات في سنوات ما بعد التحولات السياسية التي
شهدتها تونس في الأعوام الأربعة الأخيرة.
تنطلق عروض الأسبوع الساعة السابعة مساء اليوم في صالة سينما
الرينبو بجبل عمان بالفيلم الروائي الطويل المعنون (ما نموتش)،
وذلك بحضور مخرجه الشهير نوري بوزيد، الذي سيجري حوارا مع الحضور
عقب العرض يديره الناقد والباحث السينمائي التونسي عبدالكريم
قابوس.
بلاغة جمالية
شكلت مجموعة أفلام المخرج التونسي نوري بوزيد: (ريح السد، صفائح من
ذهب، بزنيس، بنت فاميليا، عرائس من طين، آخر الفيلم، وما نموتش)،
التي حققها طيلة الخمسة والعشرين عاماً الماضية، تحولاً جذرياً في
مسار السينما التونسية والسينما العربية الجديدة عموما، فضلاً عما
أثارته من أصداء الإعجاب والجدل في أدبيات النقد السينمائي.
بدأت مسيرة اعمال بو زيد السينمائية العام 1985، وذلك بفيلمه
المعنون (ريح السد)، وكان بمثابة الصدمة لدى صناع السينما العربية،
وأنقسمت حوله الأراء والتعليقات النقدية، عندما قدم صورة غير نمطية
للشخصية اليهودية.
صوّر بوزيد الذي درس السنيما في بروكسل (بلجيكا)، فيلمه الأول (ريح
السد) الحائز على جائزة النقاد الخاصة في مهرحان (كان) السنيمائي
الدولي العام 1986، وفيه حاكى موضوعاً من داخل البيئة التونسية،
شارحاً الكثير من الوقائع والتفاصيل بأسلوبية متمكنة من عناصرها
الجمالية والدرامية، ويضج بالشخصيات الملتبسة في انكساراتها
اليومية، من بينها شخصية عجوز تونسي يجيد العزف على العود ولا يجد
بطل الفيلم الشاب الذي واجه تحديات اجتماعية قاسية ذاته الا ازاء
هذا الشخصية،التي آثرت ان تقضي باقي ايام حياتها في تونس، وهو ما
حدا بالنقاد الى طرح قضايا واسئلة فكرية تتعلق برؤية المخرج تجاه
الدين والعديد من المفاهيم المتعلقة بالآخر وبالضعف الانساني
والتسلط والقمع والاستبداد، معاناة المرأة، الشعوذة، التبعية،
التربية، مفهوم النصر والهزيمة والتمسك بالموروث القديم.
اكثر ما يلفت في هذا الفيلم وعموم افلام بوزيد ذلك القدر الفائض من
حجج الإقناع التي تنهض على واقعية وثيقة الصلة بحميمية المكان
وهموم وتطلعات الافراد والجماعات ولا تغفل تلك المفردات البصرية في
تكوينات وزوايا مناظر اللقطات التي تنفذ الى دواخل المتلقي بسلاسة
وشفافية وهي محملة بالافكار المتباينة المشرعة على فضاءات التأويل
الرحبة في الخطاب السينمائي العربي.
صفائح من ذهب
يستخدم بوزيد الجسد الانساني في اكثر من موضع بافلامه الذي يرى فيه
متنا للتعبير عن تطاحن الانسان مع الواقع الصعب، كاشفا من خلال
فيلمه المعنون (صفائح من ذهب) 1989 عن أجساد انهكها العذاب وانتهكت
حقوقها بفعل حجم العذاب والقمع الذي تتعرض له شخصية الفيلم الر
ئيسية.
ويعالج نوري بوزيد بفيلمه التالي (بزنيس) الذي عرض للمرة الاولى في
مهرجان كان العام 1992 وهو يحتشد بمضامين متعددة قدمت باسلوبية
سينمائية وجدت الصد من النقاد العرب نظرا للأشكال والأنماط التي
اتبعها بوزيد ليتلافى عقبة تمويل افلامه، حيث اختار موضوعا سياحيا
يقترب من الفجاجة لرغبة المخرج في نيل موافقة الممول والموزع
الأوروبي.
لكن بوزيد يمضي في مسيرته السينمائية متجاوزا سقطة فيلمه (بزنيس)
1998 ليعالج بفيلمه المسمى (عرائس الطين) 2002 هموم اولئك المهمشين
والفقراء من بين قاطني الأحياء الواقعة في اطراف المدن الكبيرة.
في السنوات التالية تصدى بوزيد الذي مارس الكتابة السينمائية
والعمل في غرف المونتاج قبل ان يقف وراء الكاميرا، بكل جرأة إلى
مواضيع حساسة في المجتمع التونسي، قلما حاكتها موضوعات نظرائه من
بين المخرجين التونسيين والعرب حيث طرح بفيلميه الاخيرين تداعيات
الحرب على الارهاب عقب أحداث الحادي عشر من ايلول 2001، وجاءت
رؤيته الفطنة لشخصية بطله في فيلم (اخر الفيلم) 2010 الشاب الاتي
من عائلة مترفهة ويرغب في ممارسة احد الوان الترفيه الغربي في
الموسيقى والرقص الذي يواجه بالرفض من مجتمعه، مما يجعله يصاب
بالنكوص ويقع بالتالي في احدى حلقات الجماعات الأصولية التي عملت
على تسخيره في نشاطاتها.
آخر الفيلم
التقط بوزيد احداث فيلمه (آخر الفيلم) عن قصة تبدو تقليدية وإن لم
تخل من مسحة في الجرأة، فهناك بطله الشاب البائس الممزق والذي
يتطلع إلى الهجرة ويعمل راقصا في الشوارع ويمارس حياة الإحباط
والبطالة وسط ظروف فقر صعبة وعدم شعور بالأمان الاجتماعي، ولكن نمط
حياته اليومية يتغير بعد أن انجرف إلى عالم الانتهازيين السياسيين
وقوى التطرف والتعصب، بيد انه يرفض الاستمرار في حياته الجديدة
ويقرر التراجع والانتقام ممن أوصلوه إلى هذه النهاية المحتومة.
يلجأ بوزيد الذي امضى في السجن ابان حقبة بن علي خمسة اعوام في
السجن لاسباب سياسية، إلى أكثر من حيلة بصرية في توظيف شخصيته
الحقيقية كمخرج للعمل بين مشاهد الفيلم، حيث يخلط أمام المشاهد بين
الكواليس التي تدور فيها الأحداث وبين تلك التعليمات والتوجيهات
إلى ممثله البارع لطفي العبدلي الذي استطاع أن يظفر بجائزة
المهرجان لأفضل ممثل في اكثر من مهرجان، وكثيرا ما ظهر الجدل بين
الممثل والمخرج على الشاشة حين يرفض الممثل في جدل حقيقي لم يكن
معدا له في سيناريو الفيلم الاستمرار في أداء دوره المرسوم بحسب
السيناريو الموضوع للفيلم، وغالبا ما يكون الجدل واحتدامه في أمور
الدين وفيما إذا كانت قادرة على وضع الحلول المناسبة لمشاكل
الإنسان في الزمن المعاصر.
في آخر أفلامه (ما نموتش) 2012 يتعرض بوزيد الى ما آلت إليه الحالة
الاجتماعية في تونس ويصوغها بمعالجة درامية فيها الكثير من المواقف
السوداوية والمفارقات في التفكير والرؤى التي ينتهجها ابناء الاسرة
الواحدة على خلفية موضوعات السفور والحجاب وعمل المرأة والسجن
والمعارضة السياسية والخضوع لممارسات تيارات فكرية متشددة تهيمن
على الشارع التونسي اليوم.
ادى بوزيد في الفيلم دور عازف أكورديون اعمى، يسقط أرضا مصابا
بجروح وكدمات فى إحدى المصادمات بين الشرطة والمتظاهرين عشية
الثورة التونسية، ويتبدل الخوف من وجهه حين يلتقط الناس
الأوكورديون من الأرض ويسلمونه إياه ثم يتسلمه بسعادة وحنين لكن
قبل نهاية الفيلم يكون الرجل قد مات لتتالى صورته وهو جثة مسجاة
يجري غسيلها وتكفينها كفواصل تجمع بين اجزاء الفيلم.
تمحور الفيلم حول قصة فتاتين صديقتين تعملان فى مطعم، إحداهما
متمسكة بزي الحجاب، والاخرى تواكب الموضة الحديثة الدارجة، تتبخر
آمالهما بعد رهانهما الفاشل على قدرة الثورة التي شهدتها تونس
حديثا من تخليصهما من مشاكلهما أو في تحقيق تطلعاتهما في الأمل
والحرية والعمل والكرامة.
نتاجات جديدة
ويضم الاسبوع جملة من احدث نتاجات السينما التونسية كان احتفى بها
الكثير من النقاد وعشاق الفن السابع لدى عرضها في العديد من
مهرجانات السينما العربية والدولية ونالت فيها جوائز رفيعة.
وتختتم العروض التي تشتمل على الفيلم التسجيلي الطويل (شلاط تونس )
للمخرجة كوثر بن هنية، يوم الخميس المقبل مع اقامة حفل غنائي
للفنان التونسي الشاب ياسر الجرادي الذي صار يشكّل ظاهرة في الحياة
الفنية لتونس.
يشار إلى أن فعاليات أسبوع الفيلم التونسي تأتي بمناسبة الإحتفال
بمرور خمسة وعشرين عاماً على برنامج (السينما) في مؤسسة عبد الحميد
شومان، الهادف إلى نشر الثقافة السينمائية من خلال التعريف بأهم
إتجاهات وأساليب السينما العربية والعالمية.
عبدالكريم قابوس.. ذاكرة الثقافة السينمائية التونسية
عمان - الرأي
يحتل الناقد والباحث السينمائي التونسي عبد الكريم قابوس مكانة
مرموقة في حقل تأريخ وتنشيط الثقافة السينمائية العربية، حيث اسهم
مع اقرانه من رواد النقد في بلورة تيار «السينما البديلة» التي
كانت اشبه بتمرد على انماط وقوالب السينما العربية السائدة.
جال قابوس الذي يرافق عروض اسبوع الفيلم التونسي، محللا ومحاضرا
حول اتجاهات السينما التونسية الجديدة بالكثير من الملتقيات
والمناسبات والمهرجانات السينمائية العربية الموزعة بين مدن وعواصم
عربية وعالمية تونس، باريس، كان، بيروت، دمشق، القاهرة، الرباط،
بغداد، الجزائر واليوم في العاصمة عمان، قدّم من خلال قلمه المدعّم
بثقافة التنوير رؤى جمالية وافكار بليغة اثرى فيها ثقافة عشاق
السينما من بين رواد النوادي والاحتفاليات السينمائية بالوان بديعة
مما تنطوي عليه السينما المهمشة الاتية من بلدان العالم الثالث
وسينما الشباب من عناصر ومفردات الخطاب السينمائي.
تعتبر كتابات ومؤلفات الناقد قابوس-من بينها (السينما العربية
1984) و(الصمت.. الكاميرا تدور)-والموزعة منذ عقد السبعينات من
القرن الفائت في الكثير من الصحف والمجلات والاصدارات العربية
والاجنبية وهي تغطي جزءا لا يستهان به في الموروث الابداعي التونسي
فضلا عن كونها ذاكرة للسينما التونسية والعربية عموما.
اسهمت اشتغالات قابوس مع نفر قليل من زملائه مثل المؤرخ السينمائي
الراحل الطاهر الشريعة احد ابرز مؤسسي مهرجان ايام قرطاج السينمائي
في استمرارية حالة النهوض بالسينما العربية الجديدة، وامتدت الى
السينما في القارات الثلاث افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية
والعالم الثالث، كانت غايتهم الاساسية تنشيط البيئة السينمائية
خاصة كجزء لا يتجزأ وظاهرة لا يجوز أن تتوارى عن الظواهر الاخرى من
البيئة الفنية والفكرية عموما وذلك بتمكينها من الانجاز والتجديد
والابتكار، وتبدى ذلك خلال فترة انعقاد أيام قرطاج السينمائية الذي
مثل جسرا حيويا لطاقات الابداع السينمائي في الثقافتين العربية
والافريقية.
في اكثر من مقال وندوة برع قابوس في قراءة وسرد تاريخ السينما وظلت
رؤيته وشهادته تشكل مرجعا موثوقا غنيا بالوقائع والاحداث والتفاصيل
المتعلقة بروادها واجيالها الجديدة من مخرجين وممثلين وتقنيين
وظروف الانتاج والتوزيع فيها وتنوع اساليبها التي طالما استفاد
منها نقاد وباحثون ودارسون مهتمون بهذا الحقل الابداعي.
اتسمت كتابة قابوس النقدية بذلك الاعتناء الادبي الذي يقترب من
شاعرية النص وهو يفيض باناقة الاسلوب والبلاغة وصراحة التعبير
ودقته حول واقع وأسئلة وآفاق السينما في تونس منذ فجر السينما،
مرورا بالحركة السينمائية قبل الاستقلال ودور الجاليات الاجنبية في
تاسيس الصالات وشركات الانتاج والتوزيع، وصولا الى الحياة
السينمائية وقدرتها على الانجاز امام تحديات التمويل.
لا يدعي قابوس ان شغفه بالسينما وممارسته في الكتابة عنها باللغتين
العربية والفرنسية يأتي لمتعة شخصية وانما لقدرة تأثير الفيلم في
محاكاة المتفرج وقدرته على طرح اسئلة العيش اليومي والغوص في
فضاءات رحبة. |