شيرلي ماكلين تقدم نفسها ممثلة وفيلسوفة في فيلم 'فريد وإلزا'
العرب/ أمير العمري
الفيلم يحمل في طياته الكثير من المشاعر الانسانية التي تدفع المرء
إلى التأمل في مسار حياته ويحثه على عدم التخلي عن رغبته في
الاستمتاع بالحياة مع تقدمه في العمر.
ربما لا يكون الفيلم الأميركي “فريد وإلزا” للمخرج الإنكليزي مايكل
ريدفورد -صاحب الفيلم البديع “البوسطينو” أو “ساعي البريد” 1994-
فيلما عظيما، في مستوى الفيلم الفرنسي “حب” مثلا، الذي أخرجه
النمساوي مايكل هانيكه 2012، فالقاسم المشترك بينهما ينحصر في
كونهما يعتمدان على شخصيتين رئيسيتين من كبار السن: رجل وامرأة،
وهو ما يعد بمقاييس السينما السائدة، مغامرة إنتاجية ما لم يكفل
السيناريو من البداية، أساسا جيدا متينا لإثارة مشاعر الجمهور من
خلال المباراة التي ستنشأ بالضرورة بين الممثلين (الاثنين) اللذين
سيلعبان الدورين، ولا بدّ أن يكونا من المخضرمين الكبار في مجال
التمثيل.
“فريد وإلزا” للمخرج الإنكليزي مايكل ريدفورد هو إعادة إنتاج لفيلم
أرجنتيني أسباني ظهر عام 2005 من إخراج ماركوس كارنيفال، أي أنه
ليس عملا أصليا، لكنه يستمد أصالته من قدرته على الإقناع، وإثارة
المشاعر والفكر، وبما أننا أمام شخصيات حقيقية من لحم ودم، فإنه
يمكن أن نصادفها في حياتنا، بل ويمكن أن نراها إلى جوارنا في
القطار دون أن نلحظها عادة، لأن الاعتقاد السائد هو أن “العجائز″
غير موجودين، أي أنهم أصبحوا خارج منظومة المشاكل الحياتية
اليومية، لأنهم قد “عاشوا بما فيه الكفاية”.
ولذلك يكون من حسنات السينما الأميركية أن تعود إلى تصوير مثل هذه
الشخصيات اليوم في سياق كوميدي خفيف، يحمل داخل طياته الكثير من
المشاعر الإنسانية التي تدفعنا جميعا إلى التأمل في مسار حياتنا،
التي نعرف جميعا أنها ستنتهي حتما بالموت، وأن علينا بالتالي أن
نعيشها ونستمتع بها، كما نحب، بل وكما يجب.
الحياة الحلوة
شخصية إلزا، التي تؤديها ببراعة كبيرة الممثلة الكبيرة شيرلي
ماكلين، هي شخصية فيها من التلقائية بقدر ما فيها من الغرابة، فهي
تعيش وحيدة بعد أن انفصلت عن زوجها، في مسكن مجاور لشقة سيقطنها
رجل متقدم في العمر كثيرا، لكنها تحافظ على علاقتها بولديها،
أولهما، وهو الأصغر، يبحث عن تحقيق نفسه في مجال الفن التشكيلي دون
نجاح يذكر، والثاني، الأكبر، رجل ناجح ومتزوج، يعمل في مجال البنوك
وشركات المال.
وإلزا تحاول، أو بالأحرى، تتحايل، لكي تحصل من الثاني لكي تعطي
الأول، وهي تصنع عالمها الخاص الذي يمنحها السعادة والتفاؤل من
خلال إدمانها اليومي على مشاهدة المشهد الشهير من فيلم “الحياة
الحلوة” (لادولشي فيتا) لفيلليني، الذي تدور تفاصيله في ما يعرف
بـ”نافورة الحظ” وسط روما التاريخية، وهو المشهد الذي نرى فيه
الممثلة أنيتا أكبرغ تسبح في مياه النافورة، وتنادي على مارشيللو
ماستروياني أن يلحق بها، فيسبح الاثنان بملابسهما معا، ويتعانقان
وكأنهما يولدان من جديد.
أما الجار الجديد الذي انتقل إلى الشقة المجاورة لإلزا، فهو فريد
الذي يؤدي دوره الممثل كريستوفر بلامر وهو رجل فظ، عنيد، عازف عن
الحياة، يريد أن يترك في حال سبيله، يفضل الرقاد في الفراش، ويكره
الخروج خصوصا التنزه في الحدائق، كما يقول ردا على كل من يقترحون
عليه الاستمتاع بالطقس البديع في الحديقة المجاورة.
إلزا امرأة تبحث عن تحقيق الحلم، ولو في اللحظات الأخيرة الباقية،
قبل الرحيل الأبدي عن العالم
طعم الحياة
ما يحدث بعد ذلك قد يكون متوقعا ومفهوما، فإلزا تتعرف على فريد،
وتشده إلى عالمها بل إلى العالم الحقيقي الواسع المليء بالصخب، ولو
من خلال اختلاق عشرات القصص الكاذبة عن نفسها، إلى أن تنجح في
إخراجه من عزلته ومن اكتئابه وعزوفه عن الحياة، لكي يشعر أخيرا
ربما للمرة الأولى، بروعة الحياة ويصبح قادرا على الاستمتاع بها،
بل إنه يصل في النهاية إلى حد تدبير رحلة إلى روما صحبة إلزا، لكي
يمنحها الفرصة لاستعادة مشهد النافورة الشهير في فيلم “الحياة
الحلوة” بشكل عملي معه كما أرادت وكأنها تتحدى الزمن نفسه.
ويصل المشهد إلى ذروته ونحن نراهما يسبحان معا في مياه “نافورة
الحظ” في تقاطع مع اللقطات الأصلية من فيلم فيلليني الشهير، في
تحية مباشرة للمخرج الإيطالي العظيم الراحل.
بطبيعة الحال يريد الفيلم أن يقول لنا إننا لا يجب أن نتخلى عن
رغبتنا في الاستمتاع بالحياة مع تقدمنا في العمر، بل ولا يجب أن
نعتبر الوقت قد تأخر على الوقوع في الحب مجددا، واستعادة علاقتنا
بالجنس الآخر رغم كل إحباطات الماضي التي يجب أن نتخلص منها،
فالتجارب لا تعيد إنتاج نفسها بالضرورة، إلاّ إذا سمحنا نحن لها
بالتكرار بسبب كسلنا وتقاعسنا عن البحث عن الجديد الذي يثير الذهن
ويشعل الخيال، حتى لو كان معنى هذا صنع بعض الأكاذيب التي لا تضرّ
أحدا.
كما قلت من قبل، في فيلم كهذا، يصبح الأداء هو الفيلم، خاصة عندما
يكون الحوار مكتوبا بحيث يبدو شديد التلقائية والبساطة، بل ونحن
نستقبله كما لو كان صادرا حقا عن الممثلين اللذين يؤديان الدورين
بعبقرية تستحق الإشادة.
كريستوفر بلامر (85 سنة) صاحب الأدوار المشهودة في عالم السينما،
بدأ التمثيل في 1958، ولعب أدوار الكثير من الشخصيات التاريخية
أشهرها دور الكاتب الروسي تولستوي في فيلم “المحطة الأخيرة”
(2009)، لكن لعل أشهرها لدى الجمهور العريض وأكثرها بقاء في
الذاكرة، هو دور الضابط المتزمت والد البنات السبع في فيلم “صوت
الموسيقى” (1965) أمام جولي أندروز.
بلامر يقوم هنا بدور فريد، منتقلا ببراعة من التزمت الجاف إلى
التفكير والتشكك في ما يفعله، ثم إلى التسامح مع العالم، بل وزيارة
قبر زوجته التي لم يمض على وفاتها سوى بضعة أشهر، ويطلب منها
المغفرة على ما شاب علاقتهما من مشاجرات، وبعد هذا المشهد مباشرة،
نراه يترك العنان لمشاعره أن تنطلق، ويفتح أبواب قلبه الموصدة
للحب؛ فالــوقت لم يفــت بعدُ رغـــم تراكم سنـين العمر.
فريد يتنقل ببراعة من التزمت الجاف إلى التفكير والتشكك في ما
يفعله، ثم إلى التسامح مع العالم
أما شيرلي ماكلين (إلزا) فهي المعجزة الحقيقية في الفيلم، ماكلين
التي تجاوزت الآن الثمانين من عمرها، تؤدي دور عمرها هنا، دور إلزا
المشاغبة التي تبدو حينا كما لو كانت شبه مختلة، أو متآمرة، أو
كاذبة محترفة، ثم كامرأة صاحبة فلسفة خاصة في الحياة، لا تعترف
بفوات الوقت، ولا بما يتراكم على الجسد من هموم وأمراض عضوية ستؤدي
كما يحدث في النهاية إلى الموت، بل تبحث عن تحقيق الحلم ولو في
اللحظات الأخيرة الباقية، قبل الرحيل الأبدي عن العالم.
صاحبة الفلسفة
شيرلي ماكلين المتفلسفة، تكاد تعبر أيضا عن شخصيتها الحقيقية في
الفيلم، أي شخصية الإنسانة صاحبة الفلسفة الخاصة، فهي صاحبة الكتاب
الشهير “ماذا لو..” الذي صدر عام 2013، وأثار ضجة هائلة في
الولايات المتحدة، وفيه تعترف بأنها على قناعة بأنها ولدت وعاشت في
الماضي السحيق، في “أطلانطا” تلك القارة “المفقودة”.
وتؤمن بوجود الأجسام الغريبة القادمة من الفضاء، بل وتصل في كتابها
المثير للجدل، إلى حدّ مسّ “عقيدة الهولوكوست” عندما تتساءل “أليس
من الممكن أن يكون ضحايا الهولوكوست من اليهود يدفعون ثمن جرائم
ارتكبوها في الماضي، عندما كانوا جنودا رومانيين يقتلون المسيحيين،
أو صليبيين يقتلون الملايين باسم المسيحية، أو جنودا في جيش
هانيبال، أو غزاة للشرق في جيش الإسكندر؟”.
وبلغت تساؤلاتها الغريبة أيضا حدّ التساؤل عمّا إذا كان عالم الفلك
البريطاني ستيفن هوكنغ، قد سبب لنفسه دون أن يدري، الإصابة بمرض
الأعصاب الذي تسبب في شلل عضلات جسمه، لكي يجعل عقله متحررا من
الجسد، بحيث يضمن تركيزا كاملا عقلانيا في الأمور الكونية؟
ماكلين التي تجاوزت الثمانين من عمرها، مازالت نشطة، تظهر في
المناسبات الرسمية، تصرح لأجهزة الإعلام، تمثل في السينما
والتلفزيون (ثلاثة أفلام جديدة من بطولتها قيد الإنجاز).
وقد منحت كتابها “ماذا لو..” عنوانا فرعيا يعكس حيرتها، بل وجرأتها
هو “حياة كاملة من التساؤلات، التكهنات، التخمينات المعقولة، وبعض
ما أعرفه عن يقين”.
'نساء خارج القانون' يزاوج بين قساوة الكاميرا ورهافة الكائن
العرب/ محمد أشويكة
فيلم يميط اللثام عن أوجاع الأمهات العازبات جراء رفض المجتمع
التعاطف معهن والتسامح مع أخطائهن مما يقود بعضهن إلى الارتماء في
أحضان الإدمان.
ينطلق الفيلم الوثائقي “نساء خارج القانون” للمخرج المغربي محمد
العبودي بخطاب مكتوب على خلفية سوداء، مفاده أن بعض المجتمعات تنعت
المرأة بالبغية إذا لم تفقد بكارتها من قبل زوجها، ترفضها عائلتها
والمجتمع معا، وتعيش متخفية مجهولة الاسم.
الوثائقي “نساء خارج القانون” لمحمد العبودي رصد تقلبات ومواجع
الشابة هند ذات الأصول القروية، والتي تعرضت للاغتصاب في الخامسة
عشرة من عمرها، هددتها أسرتها بالقتل وطردتها خارج البيت، فحاولت
أن تكسب قوت يومها كراقصة في الأعراس، رغم أن مثل هذا النوع من
المهن لا يدرّ دخلا كبيرا على ممتهنيه، فضلا عن الرؤية الدونية
والاحتقارية التي يضمرها لها أفراد المجتمع، وفي المقابل يبدو ذلك
أقل خطورة من ممارسة الدعارة، التي لن تجد مفرّا إلى اللجوء إليها
في بعض الأحيان.
لم تستطع هند أن تحصل على الأوراق الضرورية لإثبات هويتها الإدارية
والقانونية، لأن الأسرة ترفض منحها كنش الحالة المدنية متنكرة
لعملها الشنيع، والمرفوض جملة وتفصيلا.
الكاميرا مرآة
تمّ تصوير الفيلم بمدينة وزان المغربية التي تقع على الشريط
الجنوبي لجبال الريف، وذلك بداية فصل الربيع من سنة 2010، حيث
تنتقل الكاميرا من لقطات كبيرة تبرز الفتاة أثناء مزاولتها للرقص
على إيقاع أغنية شعبية، تتحدث كلماتها عن ذئبويّة الأصدقاء، وكأننا
أمام خطاب فلسفي يعلن انتماءه إلى النزعة المتشائمة التي أعلنها
توماس هوبز معتبرا أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان.
ثم تسلط الكاميرا الضوء على تفاصيل حياة الشابة، وترصد أسلوب عيشها
البسيط، حيث تقطن في بيت شبه خرب رفقة صديقها الشاب وبرفقتهما قط
وكلب.
تتأمل الفتاة حال بيتها والمطر يتساقط وكأنها تطهّر نفسها من القلق
وثقل الوجود، الذي ينتابها وهي المرفوضة والمهمشة، وسرعان ما تنخرط
في الحكي عن قلة ذات اليد في مثل هذه الظروف المناخية الصعبة، إذ
تضطرّ للتحايل بغرض الحصول على حاجياتها اليومية المتمثلة في
قارورة مشروب غازي، وما تحتاجه لإعداد “طاجين” بسيط، وجلب ما تدخنه
من نبات القنب الهندي، وهي مرتاحة رفقة معاشرها بلال الذي يتقاسم
معها ما يحصل عليه، ويرغب في مساعدتها للعودة إلى بيت أسرتها.
المجتمعات التقليدية تتستر على الظواهر المنبوذة وتتركها تنتعش في
الظل، فالكل يعرفها، والجميع يتواطأ ضدها
يطرح الفيلم مشكلة بعض الفتيات اللائي يتحولن مع مرور الوقت، إلى
أمهات عازبات أو في وضعيات صعبة، إذ يمقت المجتمع إدماجهن، ويرفض
التعاطف معهن والتسامح مع أخطائهن مما يقود بعضهن إلى الارتماء في
أحضان الإدمان، والعيش على هامش المجتمع، والاشتغال في ظل ظروف
استغلالية حَاطَّة من الكرامة الإنسانية. وهي ظواهر ذات طابع
إنساني خالص، إلاّ أن المجتمعات التقليدية المنغلقة على ذاتها
تتستر على مثل هذه الظواهر وتتركها تنتعش في الظل، فالكل يعرفها،
والجميع يتواطأ ضدّها.
ومن هنا تكون السينما وما شابهها من فنون وإبداعات قادرة على إخراج
تلك الأصوات إلى العلن، مع كل ما يتطلبه ذلك من جرأة الطرفين:
المخرج والفاعل (المعني بالأمر- الممثل)، وما عليهما إلاّ أن يصمدا
في وجه الرافضين لمثل هذه الاعترافات الجسورة، وهذا التعرّي الذي
يفضح هشاشة المدافعين عن طهرانية المجتمع، ورهافة الكائن.
تتحوّل الكاميرا في هذا الفيلم إلى مرآة تجلو حقيقة بعض الهوامش:
هامش فردي، جماعي، حضري، إنساني، جنسي، نوعي، والغرض من ذلك الكشف
عمّا يقع في الأطراف والضواحي، كي يخرج إلى بعض المراكز: عاصمة،
مقام، قرار، برلمان، حكومة، سلطة، خاصة وأن بعض جمعيات المجتمع
المدني قد دقت ناقوس الخطر منذ مدة، وظلت تحتضن ما استطاعت من
الحالات وتساهم في التوعية كي يتحمل الجميع مسؤولياته.
تسافر الشابة بمعية أنيسها، حيث تقطن أسرتها، المطر يبلل الأرض
ويغسل القلوب، تعانق حكيمة -اسمها الحقيقي إلى أن يظهر العكس-
أفراد عائلتها بشوق عفوي عميق، تحكي حكايتها بتلقائية ساذجة وأمها
تراقب أقوالها- اعترافاتها بعينين دامعتين، في حين يترصدها الأخ
بمكر، وهي تتحدث عن ابنتها بقلب أمومي مبتهج.
ستحدث مواجهة كلامية بين أفراد العائلة حول أحقية مغادرتها للمنزل
وعودتها، وفجأة ينقطع التيار الكهربائي؛ ويا لها من وضعية!
تعود الفتاة إلى مدينة وزان رفقة أليفها الذي قدمته لأسرتها كخطيب
لها، ستلتقي رفيقاتها الراقصات في الفرقة الغنائية اللواتي سيلتئم
شملهن للحديث بإحدى المقاهي بعد اقتناء أحزمة جديدة للرقص، وهناك
ستعترف لهنّ ولنا بأن الإقامة مع الأسرة ستحرمها من تناول الشراب
وتدخين النبتة العجيبة، كما تقرّ بعدم قدرتها على الاعتراف لذويها
بابنها الأول، الذي تجهل ما فعله به الأب الذي تبخر هو الآخر، وهنا
نستحضر حكاية فيلم “الطفل” (2005) للأخوين داردين، حيث يضطرّ الأب
لبيع صغيره قصد الحصول على المال؛ ويا لها من قساوة!
تضاعف الهموم
تزداد المأساة حين ترفض المرأة التي ربّت طفلتها تسليمها إياها،
وذلك بدعوى أداء ثمن سنوات العناية والتربية. وستتضاعف الهموم حين
يختفي خلّها في غياهب السجن بعد أن حرق بعض محتويات إحدى غرف أسرته
بما فيها أثاث نديمته، لأنه أحس باستصغار شقيقته له، وهو في حالة
سكر، لأنها رفضت أن تقدّم له بعض المال أسوة بإخوته الآخرين؛ ويا
لها من أخوة!
من ضمن أعضاء الفرقة الموسيقية سنكتشف الاعترافات الصادمة لراقصة
أخرى، وهي تتحدث بنبرة حزينة ورافضة لوضعها وتصب “الويسكي” في
كأسها، ستطلعنا الكاميرا التي حققت مع ألفة خاصة ومع أعضاء الفرقة
رغم بعض التصنع، على تعدّد أشكال العنف اللفظي والضعف الإنساني،
ستُجرح الأنا الفردية المتعالية، ستنحط العواطف وتتخشب الأفئدة.
وستتضاعف المأساة حينما نلاحظ أن نقطة دم البكارة الحمراء المفتضّة
ليلة العرس تواري خلفها سوأة مجتمع بدوي نجهل عنه الشيء الكثير،
وقد يتطلب منا الأمر سنوات مضاعفة لفك كافة أشكال العزلة عنه: عزلة
الجهل، عزلة التوعية، عزلة المرأة، عزلة الطفولة، عزلة الطبيعة،
عزلة التاريخ…
ترافق مربية البنت الأم الحقيقية هند أو حكيمة للعودة إلى القرية،
حيث سينتقل الأبوان لتسليمهما شهادة الميلاد، وتسلم الأم
البيولوجية للأم المربية شهادة التزام واعتراف قصد التكفل بابنتها،
ولعل الموقف البريء والصادم هو ذاك الذي ستعبر عنه الصبية الصغيرة،
حين تعترف بأمها التي ربتها عوض أمها الحقيقية.
تنقلات الكاميرا في الفيلم حيوية إلى درجة مفارقة، حيث تطرح سؤال:
كيف نبحث عن جمالية الفن أمام مثل هذه القسوة؟
تريد حنان حسب الوثيقة الرسمية التي تسلمها لمالك معصرة الزيتون أن
تغير مسارها وتندمج في عمل مختلف عما كانت تقوم به من قبل، وهنا
سنكتشف محنة نساء يشتغلن في ظروف قاسية، إذ سيحل فصل الشتاء من سنة
2011، وسنرى بأن البطلة حامل من جديد.
يدخل فصل الربيع من نفس السنة، وتضع الأم ابنة جديدة وستلتحق
بأميْن عزباوين، إلاّ أنه مع توالي الحديث ستصرح هند أو حنان بأن
جشع أمها وطمعها في الهجرة إلى أسبانيا، كانا من بين أسباب تبدّلات
حياتها التراجيدية.
بعد إجراء طقوس التسمية سينتهي الفيلم على وقع انتظار خروج الأب
المفترض للبنت سوسن من السجن، وهو المحكوم بعشرين سنة. رغم ذلك،
تواجه الأم الحياة بكل شجاعة وأمل وضعف أيضا، إذ سنرى بأنها تسير
حاملة رضيعتها ضمن المتظاهرين المطالبين بإنهاء الفساد، وإقرار
العدالة والمساواة، والتقليص من الفقر والفوارق الطبقية، والعمل
على تنمية المدن المهمشة؛ وهي أمور أظهرها الفيلم الذي غطى فيه
الطابع المأساوي عن كل الجماليات المتعلقة بالكتابة والإخراج
والتصوير، وكانت فيه تنقلات الكاميرا أكثر حيوية إلى درجة مفارقة:
كيف نبحث عن جمالية الفن أمام مثل هذه القسوة؟
نتذكر من خلال بطلة هذا الفيلم عدة مغربيات جسدن أدوارا جريئة
لصالح السينما، وبهذا يكون الفن السابع مدينا لجرأتهن. وهنا لا بد
من ذكر الشابة رجاء بنسالم التي لعبت بطولة فيلم “رجاء” (2003)
للفرنسي جاك دوايون، ونساء فيلم “العيون الجافة” (2003) لنرجس
النجار، وصوفيا عصامي التي جسدت بطولة فيلم “على الحافة” (2011)
لليلى كيلاني.
وكل هذه البطلات اختلفت آلامهنّ في الحياة وعلى الشاشة، لكن قوتهنّ
على قول الحقيقة وتقمصها لا تضاهيها قوة، رغم كل النعوت التي
طالتهنّ من قبل دعاة التستر وإن بدرجات مختلفة.
فمهما كان ثمن ظهورهنّ على الشاشة، لن يكون إلاّ بخسا أمام
إحراجهنّ الإنساني لنا، وتقديرا لمدى قدرتهنّ على الإفصاح
والإحراج، والتذكير بالمأساة الإنسانية المتجددة في مجتمعاتنا.
إماراتية تبتكر نمط عيش جديد للنساء في 'سماء قريبة'
فيلم إماراتي يرصد حياة فاطمة بنت علي الهاملي وهي أول إماراتية
تقتحم عالم مزاينة الإبل ميدانيا ويبهر الجمهور العالمي بما حمله
من احترافية عالية.
العرب/ أبوظبي - عرض في مهرجان هونغ كونغ السينمائي الدولي في
دورته الـ39، الفيلم الوثائقي الطويل “سماء قريبة” للمخرجة
الإماراتية نجوم الغانم، والذي فاز العام الماضي بجائزة أفضل فيلم
غير روائي في مهرجان دبي السينمائي، حيث كان من المتوقع بالنسبة
إلى النقاد والسينمائيين تأهله إلى المحافل العالمية، نظرا للحرفية
الشديدة التي طالت عملية إنجازه.
في فليم “سماء قريبة” للإماراتية نجوم الغانم حاولت مخرجته عبر
الدراما أن توثق سيرة شخصية إنسانية تمتلك من الخصوصية والتميز ما
جعلها بطلة رئيسية فيه. لقد تناولت حياة فاطمة بنت علي الهاملي “أم
محمد”، وهي أول إماراتية تحضر بشكل ميداني في مزادات وسباقات
مزاينة الإبل، ما جعلها تحظى بصيت ذائع على الصعيد المحلي
والإقليمي أي بين دول الخليج العربي، في فترة زمنية وجيزة، وتنال
أهمية كبيرة بين المهتمين بالمزاينات والقائمين عليها لدورها
وريادتها.
ويعرف عن نجوم الغانم سعيها الــدائم نحو الشخصيات ذات الشخصية
الإشكالية، أو بمعنى آخر تلك التي تعيش حالة من الصراع الذاتي أو
الاجتماعي، من موقعـها الذي يؤهلــها لتكون شخصية فاعلة ومتميزة
بين شريحة واسعة من الأفــراد، وكل هذا ينطبق فعـــلا على الشخصية
البطلة في الفيلم.
ركزت الغانم على الصعوبات التي واجهت فاطمة بنت علي الهاملي في
بداية طريقها نحو هذه الهواية -إن استطعنا تسميتها هكذا- على
المستوى القبلي. لكنها لم تتراجع عن قرارها أبدا ورفضت التخلي عن
حلمها وتقديم أية تنازلات في مجتمع لا يعترف إلاّ بقوة وتحكم
الرجال.
وبالتالي ومن خلال إصرارها على المضي قدما في أن تكون أول إماراتية
تقتحم عالم مزاينة الإبل عن كثب وبقوة.
ولعل هذا يفسر عنوان الفيلم الذي يدل على إمكانية تحقيق الحلم مهما
كان بعيدا وصعب المنال.
استوطنت مشاهد “سماء قريبة” في الصحراء الإماراتية، فبرز سحرها
الخاص ضمن مجموعة من العناصر الرئيسية في هذه البيئة، والتي تخدم
فكرة الفيلم المهتم برصد تفاصيل حياة امرأة “أم محمد” لديها شغف
عال بالإبل ذات المواصفات الجميلة على وجه الخصوص، وكأنها تبتكر
وسيلة جديدة للنمط المعيشي للنساء في مجتمعاتنا العربية، تختلف عن
تلك التي طالما اعتدناها بشكل يومي.
كما أسفرت المشاهد عن لقطات جميلة مذهلة وباهرة، ساعدت على تفعيلها
بشكلها الذي وصلت إلينا فيه؛ المواقع والمناظر الطبيعية المختارة
أثناء التصوير، من جهة، وتقنية الصورة العالية إلى جانب الاختيار
الصحيح للكوادر من جهة أخرى.
وللقطات الفيلم قدرة واضحة على أن تكون كل واحدة منها لوحة تشكيلية
أو صورة فوتوغرافية فنية في حدّ ذاتها. الأمر الذي قدم لنا العمل
ضمن صيغة تقنية احترافية وجمالية أيضا في الوقت نفسه.
وإن إطلالة “سماء قريبة” على الجمهور العالمي بما يحمله من تفاصيل
تبرز التراث الإماراتي وترسم ملامح هوية دولة الإمارات بعادات
شعبها وتقاليدهم ولباسهم. هو أمر هام فعلا ينبغي أن يؤخذ بعين
الاعتبار، حيث أنه يؤكد حالة التنامي الحاصلة التي تشهدها صناعة
السينما الإماراتية. |