كواليس "ذي شاينينغ" في فيلم وثائقي..
غموضات دراما الرعب النفسية لستانلي كوبريك
ترجمة: عباس المفرجي
المشاهدون الأصليون لفيلم " شاينينغ " جلسوا ليتابعوا فيلم رعب
نفسي حول رجل يعتزل داخل فندق محاصر بالثلج، يفقد قواه العقلية
ويحاول قتل أسرته. بعد ثلاثة عقود صاروا محل هزء؛ كانوا قرأوا
العمل كله على نحو خاطئ. " شاينينغ " هو في الحقيقة فيلم هولوكوست
متنكّر. خربشْ هذه العبارة: " شاينينغ " هو، في الواقع، نسخة
ستانلي كوبريك من ثيسيوس [ بطل إغريقي أسطوري ] والمتاهة. لا،
مهلا: إنه إعتذاره المبطـَّن عن مساعدة (ناسا) في تزييف الهبوط على
القمر، أو إنه درس تاريخ شامل في الشرّ البشري، منذ فجر الإنسان
حتى نهاية الزمن. إن كان يوما ثمة فيلم أثار جنون المشاهد، فإن "
شاينينغ " يفي بهذا الغرض.
صرّح المخرج رودني آشر بأنه إستخدم فقط 10% من المقابلات التي
أدارها من أجل فيلمه " الغرفة 237 "، فيلمه الوثائقي الملفت
للإنتباه، الذي يدور حول فيلم كوبريك " ذي شاينينغ " وشيخوخته،
أغلب الظن خوفاً من الضياع في المتاهة،لكن تلك المقابلات التي
تبقّت هي مخيفة بما يكفي. أصوات محررة من الجسد، تعبّر عن الغضب في
الشريط الصوتي، كل صوت له نظريته المفضلة الخاصة به، له مؤامرته
الرهيبة الخاصة به. هؤلاء يفهمون فيلم كوبريك بالمقلوب. إنهم
يريدون أن يرووا لنا عن (النافذة السرية ) في مكتب أولمان،عن مغزى
الغرفة رقم 42، وعن ( بيل واتسون الغامض )، مستخدم الفندق المتواضع
الذي هو ربما من (لسي آي أي) بعد فترة، وهو الشيء الأكثر رعباً،
تبدأ الأصوات بالتعبير عن شيء من المنطق.
رقع آشر أجزاء " الغرفة 237 " معا بميزانية مقترة، مجريا عملية
المونتاج في البيت، ليلا، بعد أن يضع طفله في فراش النوم. ( قطعت
الفيلم بين الساعة الثامنة مساءً والساعة الثالثة صباحا) وتلك
الساعات ملائمة جدا لإحداث جنون إرتياب معين. كان عليّ الإستماع
لكل تلك التفسيرات وأفكِّر، ’ حسنا نعم، لكن لا، لكن ربما. ‘ كان
الأمر يشبه فتح كتاب نيكرونوميكون أو السقوط في رمال متحركة.
محكوم بمجرد قيمته الإسمية، كان " شاينينغ " إقتباسا لكوبريك عن
الرواية البستسيليرز لستيفن كنغ. قام ببطولته جاك نيكلسون بدور جاك
تورانس، كاتب مكافح وكحولي سابق، يتخذ وظيفة ناظر شتائي في فندق
مسكون. في عرضه الأولي، أثار الفيلم الحيرة. كان " شاينينغ " فنيا
أكثر مما يجب بالنسبة لهواة أفلام الرعب وتافه أكثر مما يجب
بالنسبة لمعجبي كوبريك.
سيكون أمراً مريحاً لو رفضنا شخصيات آشر بإعتبارها مجموعة من
فانبويز [ هواة ] بلهاء، سريعي الإهتياج، في متناولهم الكثير جدا
من الوقت،لكن الأمر بشكل مضايق، لن يكون على هذا النحو. جفري كوكس،
الذي يرى في الفيلم حكاية رمزية عن الهولوكوست، هو بروفيسور في
التاريخ في كلية ميشيغان. بيل بلاكمور، الذي قرر أن الفيلم يدور
حول التطهير العرقي لسكان أميركا الأصليين، بعد ظهور علبة من صودا
الخَبْز في خلفية أحد المشاهد، هو مراسل رئيسي في محطة الأخبار أي
بي سي. هؤلاء الناس هم متعلمون، متحدثون لبقون، وغالبا جديرون
بالتصديق. مع هذا بطريقة ما كان " شاينينغ " أثّر عليهم. قهري،
خانق ومسنَد ترافقيا في كل بوصة منه، يصف " الغرفة 237 " فيلم
كوبريك بنوع من صحفة بتري [ صحن زجاجي رقيق يستعمل في المختبرات ]
سينمائية. تبرز نظريات المؤامرة على نحو غير متوقع مثل نبات الفطر
في الظلام.
أطلق البي أف آي [ معهد الفيلم البريطاني ] جزءاً مرمما وموسعا من"
شاينينغ "، فذهبت الى مشاهدته قبل عرضه على الجمهور. على نحو مضايق
الى حد ما، يستوقفني الفيلم بطريقة ما أغنى، أغرب واعمق أكثر مما
فعل في الماضي. جزء من هذا هو ببساطة فائدة مشاهدته على شاشة
كبيرة. جزء، كما أخشى، مسؤول عنه فيلم " الغرفة 237 ". بالكاد 10
دقائق منه بدأت أفهم من أين جاءت هذه النظريات، حين يركب داني
الصغير ( داني لويد ) دراجته مارّا بالغرفة المحظورة رقم 237،
والشبح القديم للفتاة يدعوه الى ( اللعب معنا الى الأبد والأبد ).
المشكلة في فيلم كوبريك هي انه، على نحو موسوس، مؤلف بشكل جيد. له
ذلك العمق السخيف من التركيز. ينتاب المرء شعورا بأن كل شيء في هذه
الكوادر المحتشدة ( الصور المعلّقة على الجدران، علب الكرتونلا على
الرفوف ) هو هناك لسبب ما، نابض بمغزى معين. مشاهدة " شاينينغ "
تشبه إنعام النظر في لوحة لريتشارد داد، إن حدّقت بها مطوّلا ستفقد
موضوعها، لكن كم عددا مثل هذه المشاهد النزوية التي وضعت بقصد؟
عندما يرتكب مخرج عادي أخطاءً متواصلة، فهذا يعتبر برهانا على قلة
الكفاءة. عندما يفعل الشيء نفسه مخرج عبقري مبجّل، فنحن نتساءل
ماذا كانت تعني. يصبح الفيلم ملغزا بالقطع غير المتقن وبديكوره
المتنافر. كرسي يتلاشى من مكانه قرب الجدار، بينما تختفي الرقعة
اللاصقة على باب غرفة النوم، وفي منتصف الطريق، تغيّر ألالة
الكاتبة ألوان حروفها.
يتحزّر آشر أن كوبريك ربما كان يجد بعض المتعة في مضايقة جمهوره،
رغم انه يسلم بأن بعض الأجزاء ربما تكون مجرد خاطئة. أنه مأسور
بشكل خاص بسجاد الفندق الذي يتغيّر نمطه من لقطة الى لقطة تالية.
لك هو الأكثر خداعا، لأنه يعني تحريك الكاميرا من طرف لموقع الى
آخر. تلك هي عملية كبيرة. إنها تشتمل على قصدية حقيقية بلا شك،
يمكن للعديد من التفسيرات الأكثر غرابة أن تكون ببساطة مؤكدة من
خلال الحديث مع اولئك الذين عملوا في الفيلم. مع هذا، يحجم آشر
بعمد عن سلوك هذا الطريق. ( حتى إذا عرفت نوايا المخرج، فهذا
بالضرورة لا يجعل كل شيء مفهوما. ) اللاوعي، ربما، هو البطل غير
المتغنى به في أي عمل من أعمال الفن. غير آبه بالعوائق، إتصلت بجان
هرلان، أخ زوجة كوبريك والمنتج المنفذ في " شاينينغ ". لا، قال لي،
أن الفيلم هو ليس إعتذارا عن تزييف الهبوط على القمر. تلك الشائعة،
جزئيا، كان منشأها فيلم تلفزيوني وثائقي فرنسي، تمّ بثه بعد وفاة
المخرج عام 1999، ويبدو إنها إنتشرت على نطاق واسع منذ ذلك الحين.
إستهجن هارلان ذلك بغضب. ( إنه لم يفعل، بالطبع. لكن القصة لا زالت
دائرة) كوبريك، كما يشرح قائلا، كان منكبّا دائما على الشغل بهذا
الشكل، إذ يترك العمل مفتوحا أمام تفسيرات متعددة، مثله مثل
الإنطباعيين الفرنسيين أو رسامي المدرسة التكعيبية. ( فيلم رعب
صريح، لم يكن ما يهتم به) يصرّ هارلان قائلا( كان يبغي إلتباسا
أكثر. لو كان يريد صنع فيلم عن الأشباح، لكن جعله فيلم اشباح من
البداية حتى النهاية. كان موقع الفيلم أُنشأ عن قصد ليكون غريب
الأطوار ونائي، بحيث أن قاعة الرقص الضخمة ما كانت في الواقع
ملائمة في داخله. جمهور المشاهدين جُعِلوا بعمد لا يعرفون الي أين
هم ذاهبون. يقول الناس أن " شاينينغ " لم يكن مفهوما. بوسمه على
هذا النحو، هو فيلم أشباح. إذن ليس من المفروض أن يكون مفهوما هل
سيمدّ هذا آشر بالإرتياح؟ ذلك هو ما نخمنه جميعا. أثناء تجميع فيلم
" الغرفة 237 "، وجد المخرج نفسه يتابع " شاينينغ " المرة تلو
المرة، بدماغ يطنّ، وأحاسيس تصطخب. بشكل لا سبيل الى إجتنابه، جاء
هو بنظرية خاصة به. ( هناك مشهد، يقول فيه اولمان أن غريدي يكّدس
الجثث في الجناح الغربي من الفندق ) يقول آشر ( فكّرت، ’ الجناح
الغربي ‘؟ ذلك يبدو أشبه بـ ’ البيت الأبيض ‘. إغتيال كندي. كل تلك
الأمور) كان عليه المضي قدما؛ كان يجب أن يفلت. في ذهني صورة عنه
وهو لم يزل منتظرا داخل ذلك الفندق المسكون، لم يزل تائها في
الأنماط المتغيرة لسجاد المدخل، معرَّضا لخطر اللعب الى الأبد
والأبد.
خليل شوقي وأيام بغداد الجميلة
د. عباس العلي
لم يتسن للمشاهد العراقي أن ينسى "الذئب وعيون المدينة" ولا يمكنه
مع مرور أكثر من ثلاثة عقود مرت أن ينسى عبد القادر بيك, بغداد في
ظل التحول الأكبر بين عصرين, بغداد التي انتقلت ومعها قدوري إلى
عالمها الجديد بمظهر جديد وشخصية جيدة وإن كانت متسترة أو مزيفة
وتركت "غفوري ورحومي" في خانات بالية هي بقايا العهد القديم.
كان الفنان القدير شيخ وعميد الفنانين العراقيين الجميل في كل شيء،
خليل شوقي نقطة التألق في هذا العمل الدرامي الضخم الذي لم تنتج
الدراما العراقية عملا أصيلا شد المشاهد العراقي له كما فعل الذئب
وعيون المدينة.
الشخصية الدرامية الناجحة لا يمكن أن ترسم ملامح تألقها بدون أن
تكون هي بذاتها قادرة على التحسس والتفاعل معها بكل جدية وصدق
وإيمان برسالة الفن.
خليل شوقي المبدع أقنع الكثيرين أنه هو فعلا "عبد القادر بيك" ومرة
التقيته في بغداد في بداية التسعينات لم يخطر ببالي وأنا المتابع
والواعي أن أكون إلا بحضرة السيد عبد القادر بيك لكنني اكتشفت شيئا
غريبا عن قدوري الحقيقي أنه كان يمتلك ابتسامة ساحرة وضحكة عريضة
لم أشاهدها من قبل في كل حلقات المسلسل, هذا التجسيد المشخصن لا
يمكن أن يتوافر عليه كل من مارس التمثيل إلا أن يكون فعلا ممتلكا
الحس الإبداعي في أعلى الدرجات وفي أرقى صور التفاعل الحي.
الفنان الشيخ المبدع خليل شوقي وهو يعبر التسعين من عمره المديد
سجل طوال حياته الفنية العديد من البصمات الفنية التي لا يمكن أن
ينساه الفن وجمهوره وناقدوه على أن ثلة من المبدعين رسموا صورة
الإخلاص لفنهم دون أن يفرطوا بالرسالة تجاه المغريات أو الخضوع
لقوانين السوق المتهافت, كانوا أكاديميين ومحترفين وببراءة الإبداع
الفطري انجزوا لهم قامات فنية عصية على التقليد أو التكرار مرة
أخرى, أخص منهم، إضافة له الفنان يوسف العاني, سامي عبد الحميد,
قاسم محمد, وإبراهيم جلال وبدري حسون فريد وأخيرا طه سالم, هذه
الطليعة التي وحدها لها احتكار جمال الإبداع العراقي وتأسيس قيمه
الوطنية، إضافة للفنية.
لقد قدّم خليل شوقي في مجمل أعماله، كاتبا ومخرجا وممثلا، نموذجا
صادقا وأمينا وكاشفا للشخصية العراقية بكل ما تنطوي عليه من قيم
وأبعاد نفسية وسلوكية داخلية بما تتوافر عليه من أسباب ومعطيات
وركائز من قوة وضعف في ظل ما تعرضت له من خيبات وانفعالات من بيئة
تتعرض يوميا لهزات اجتماعية واقتصادية وتحولات سياسية ودينية،
إضافة لما تعانيه من متاعب الحياة بالكثير من التفصيلات التي جسدها
فنيا وبصدق وبتلقائية قريبة من روح المشاهد وأجوائه الطبيعية.
فهو كفنان وإنسان امتلك ناصية الإبداع وأتقن من ممارسة أدواته
الاحترافية شغوفاً بتفاصيل الحياة الشعبية وتنوعاتها وطرح النماذج
الأصيلة الصادقة التي تكشف زيف واقعنا ليضعنا في الصورة الجميلة،
حريصا علي أداء مهمته الاجتماعية من خلال الفن، بحرص واضح علي
الكمال تجاوز بعض ثغرات ضعف البناء الدرامي أحيانا وأحيانا اخرى
ضعف التقنيات أو الجهد الفني، لقد ظلتا في كل أعماله رصينة جادة
يمكن لنا أن نشاهد جزءا منها لنعرف أننا أمام خليل شوقي الفنان
البغدادي الأصيل ونأي بنفسه عن الانزلاق في شرك الأعمال التجارية
في زمن الحصار الجائر الذي تعرض له العراق، وقد اثر الانسحاب من
الساحة واختار حياة المنفي القسري في هولندة، تاركا بصمات إبداعه
علي ما خلّفه من ارث درامي، ليظل اسما متألقا في ذاكرة الثقافة
العراقية.
بعيداً عن الخشبة، بعيداً عن الوطن...
زهير الجزائري
في كل صباح أنزل من الغرفة العليا في بيتنا بلندن فأجد خليل شوقي
يدخن سيكارته الأولى عند باب الحديقة ،أصبحه بالخير فيبدأ حكايته
الأولى، او يستكمل حكاية انقطعت أمس.. هكذا عاش خليل شوقي سنواته
الأخيرة في المنفى، راوي حكايات، وكانت بغداد حكايته الأزلية.
يأخذني معه في أزقة بغداد القديمة زقاقا زقاقا ، وفي تضاريس
تاريخها منذ أن شطر شارع الرشيد دروبها المتجهة الى النهر. بأصابعه
وقد نبتت السيكارة بينها يرسم لي معمار بيوتها ، يدخلني في الباحة
ويأخذني ندور بين مسقط الضوء ونتسرب الى الغرف ، نصعد الى الطابق
العلوي درجة ، درجة لنطل من هناك على امتداد الزقاق.
يتلبس خليل شخصيات الحرفيين ويرسم حركاتهم : العرضحالجي في باب
المحكمة، القهوجي وهو يدور بصينية الشاي بين الجلاس ، خادم العتبة
وهو يقود زائرا ، وقارئ الجريدة في المقهى. لقد حفظ حركاتهم بتعمد
وقصد واستعادهم مع نفسه. ( هذه كانت مدرستي الأولى في التمثيل).
علمني كيف يقتصد البخيل في حركاته وفي جمله عند الكلام، وكيف يسير
الشقاوة البغدادي في فضوة المحلة وكيف يتنحنح الروزخون ليجلو أوتار
صوته قبل أن يبدأ الحديث....كنت وأنا أصغي إليه أعبر المكان في
بيتنا بلندن فأراه على المسرح يستكمل دور مصطفى الدلال في مسرحية
النخلة والجيران التي نبتت في مخيلتي.
حتى وهو لوحده أراه منحنيا وأمام وجهه خيط نحيل من دخان السيكارة،
يستعيد ماضيه ويجسر الفجوات فيه ليرويه لنفسه أو لغيره حكاية
متسقة. صار هذا الماضي حاضر خليل ومستقبله، يقبض عليه في ذاكرته
ويؤطره في الأمكنة حتى لا تفلت خرزاته.
لطالما طالبته بأن يكتب هذا التاريخ بدلا من أن يبدده بالحديث، لكن
تاريخه والزمن الذي عاشه كان موضوع استئناف دائم بينه وبين نفسه،
وقد كان الكمال هاجسه المعرقل للكتابة. في بيته الصغير في لاهاي
بهولندا كنت أنزل معه الى غرفته في الطابق الأسفل، أحثه على أن
يجلس خلف طاولة الكتابة ويبدأ السيره:
-المهم
أن تبدأ، وسيأتي الكمال لاحقا.
تزدحم الأحداث وهو يرويها لينظم أفكاره . من أين يبدأ.؟من المكان
الحالي ثم يعود، من وقفة على المسرح، أم من مكان الولادة؟ أراد أن
يهيئ الخشبة أولا ، ثم يدخل في سيرته. وكنت أرى في هذه السيرة
تاريخا للحداثة في العراق، تاريخ بلد بدأ يعي نفسه. بدلا من السيرة
كان خليل يقرأ لي قصصا كتبها في منفاه. لم يكن مؤمنا بقدرته كقاص
واعتبرها نوعا من اللهو بغياب المسرح ، لكني وجدت في قصصه مهارة
المسرحي الذي يعرف سلوك الشخصية وأسلوبها في الحوار.لا تنقطع
أحاديثنا خلال تناول الطعام. يترك الملعقة وترتفع أصابعه بيننا
فأحثه للطعام، وكان جوابه الدائم ( هذه عادتي: أذل الطعام ثم
آكله). لكثرة ما تحدثنا توهمت أني مثل أولاده وبناته، عرفنا كل
حكاياته، لكنني مع صديقي السينمائي قتيبه الجنابي قررنا أن نستعيد
خزينه من الحكايات في أطول لقاء دام اكثر من عشرين ساعة على مدى
أسبوع. عبرنا البحر مع الكاميرات ونحن نفكر بمدخل للفلم. المنفى
كان هاجسي. فكرت برجل عاش في بلاده نجما وقدوة. كيف سيتقبل المنفى
هذا الرجل الذي يلخص سيرته ( أنا كردي، بغدادي الهوى وطني
العراق)؟. بدا لي هذا الزقاق الذي يحمل اسم موسيقي نسيته في مدينة
لاهاي بهولندا محض خيال: ما الذي جاء به الى هذا المكان؟ لا يغادر
خليل هذا البيت الى المدينة الكبيرة إلا نادرا، يريد أن يحصر نفسه
في قشرة جوز ليرى الرحاب هناك. لذلك عاش ازدواجية كونه هنا وهناك
في نفس الوقت. واقعيا، وهو يرفض هذا الواقع، هو هنا في هذا المجمع
السكني الذي يضم بعض عائلته ، ولكن كل صوره الشخصية وكل ذكرياته
هناك. المنفى بدوره كان ينفيه. خرجنا من باب بيته لنرافق جولته
اليومية مع زوجته. الجيران من نوافذهم راقبوا باستغراب:لم نفعل ذلك
، لم نصوره، ما حقيقة جارهم العجوز؟ المنفى يُصفر المنفيين ويحيلهم
الى كائنات بلا سمات خاصة
غير كونهم ( لا جئين ). أوقفنا خليل في المحطة يراقب القطارات
المسرعة وهي تمر به دون أن تتوقف . أردنا أن نجسد اختلال المكان
وعدميته . لن أنسى أبدا القامة المنحنية التي تعصفها القطارات
الذاهبة الآتية ولا سحنة الرجل الذاهل الذي يسأل نفسه: أين أنا،
وإلى أين ذاهب.؟كأن كل سياق المنطق انقطع لمجرد أنه انقطع عن
مدينته ومسرحه وجمهوره.
في عودة قصيرة الى بغداد أخذته الى المسرح الذي مثل فيه أجمل
أدواره. فتحنا باب المسرح بصعوبة. تسللنا عبر الحطام وركام الحجارة
الى خشبة المسرح. تركته على الخشبة ونزلت الى الجمهور الغائب. نفضت
التراب المتراكم على الكرسي الأول. وحين جلست بعث الكرسي صريرا
حادا مثل صرخة ذبيح. أما خليل فقد وقف يتصفح الوجوه أمامه على
الخشبة: زينب ، يوسف ، ناهدة ، ابراهيم ، قاسم ... ثم التفت الى
الجمهور ، مد أصابعه عبر حاجز الوهم ، دار بعينيه ، انتظرت ... لكن
لم تخرج الكلمة.
خليل شوقي.. سيرة مطرزة بالتألق والإبداع
إعداد: عراقيون
توفي في الغربة فنان الشعب خليل شوقي، عن عمر 91 عاما في احد
مستشفيات هولاندا التي يقيم فيها منذ 19 عاما مع أسرته.ورحل شوقي
عن الدنيا يوم التاسع من نيسان 2015 بعد صراع مع الشيخوخة والمرض،
ورحل في غربته أيضا.ويعد الفنان خليل شوقي من أعظم فناني العراق
وقامة عالية من قامات الفن العربي، وصاحب مسيرة فنية استثنائية،
قدم للمسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة أعمالا ظلت راسخة في
الذاكرة الشعبية للناس ومن ثم الذاكرة الفنية للعراق.
ولد خليل شوقي عام 1924م في العاصمة بغداد.
-
ارتبط بالفن بتشجيع من أخيه الأكبر، دخل قسم التمثيل في معهد
الفنون الجميلة ببغداد مع بداية تأسيس هذا القسم.
-
هجر الدراسة فيه بعد أربع سنوات، وما لبث أن عاد إليه ليكمل دراسته
ويتخرج منه حاملاً معه شهادةً دبلوم في فن التمثيل عام 1954.
-
عمل موظفًا في دائرة السكك الحديد لفترة من الوقت.
-
أشرف على وحدة الأفلام فيها وأخرج لها العديد من الأفلام الوثائقية
والإخبارية، وعُرضت في تلفزيون بغداد بين عامي 1959 و 1964.
-
يعد الفنان القدير خليل شوقي فنانًا شاملاً، فقد جمع بين التأليف
والإخراج والتمثيل وغطى نشاطه الفني مجالات المسرح والتلفزيون
والسينما والإذاعة.
-
كانت بدايته مع المسرح وكان من مؤسسي "الفرقة الشعبية للتمثيل" في
عام 1947، ولم تقدم الفرقة المذكورة آنذاك سوى مسرحية واحدة شارك
فيها الفنان خليل شوقي ممثلاً وكانت تحمل عنوان "شهداء الوطنية"
وأخرجها الفنان الراحل إبراهيم جلال.
-
في عام 1964 شكّل فرقة مسرحية بعنوان "جماعة المسرح الفني" بعد أن
كانت اجازات الفرق المسرحية "ومنها الفرقة المسرحية المشهورة فرقة
المسرح الحديث التي كان ينتمي إليها" قد ألغيت في عام 1963، وقد
اقتصر نشاط الفرقة المذكورة على الإذاعة والتلفزيون.
-
كان أيضا ضمن الهيئة المؤسسة التي أعادت في عام 1965 تأسيس "فرقة
المسرح الحديث" تحت مسمى "فرقة المسرح الفني الحديث" وانتُخب
سكرتيرًا لهيئتها الإدارية، وعمل في الفرقة ممثلا ومخرجا وإداريا
وظل مرتبطا بها إلى أن توقفت الفرقة المذكورة عن العمل.
-
أخرج للفرقة مسرحية "الحلم" عام 1965، وهي من اعداد الفنان الراحل
قاسم محمد.
-
من أشهر أدواره المسرحية التي قدمها ممثلا دور (مصطفى الدلال) في
مسرحية "النخلة والجيران" وكان تناغم أدائه مع أداء الفنانة
الراحلة زينب مثيرا للإعجاب، ودور البخيل في مسرحية "بغداد الأزل
بين الجد والهزل"، ودور الراوية في مسرحية "كان يا ما كان"، وهذه
المسرحيات الثلاث من إعداد الفنان الراحل قاسم محمد.
-
قدّم خليل شوقي في مجمل أعماله، كاتبا ومخرجا وممثلا، نموذجا
للشخصية العراقية بكل ما تنطوي عليه من قيم وتتوافرعليه من قوة
وضعف في ظل ما تتعرض له من جور وما تعانيه من متاعب الحياة.
-
مثل دور المختار في مسرحية "خيط البريسم" التي أعدها وأخرجها
للمسرح الفنان فاضل خليل.
-
اشترك في مسرحية "الينبوع".
-
مثل في مسرحية "الانسان الطيب" التي أخرجها الراحل عوني كرومي،
وشارك فيها ممثلون من فرقتي "المسرح الفني الحديث" و"فرقة المسرح
الشعبي".
-
اشترك في مسرحية "السيد والعبد" إخراج الراحل: عوني كرومي
من أعماله السينمائية التي قدمها:
-
فيلم "من المسؤول ؟" للمخرج: عبد الجبار ولي 1956م.
-
فيلم "أبو هيلة" للمخرج محمد شكري جميل وجرجيس يوسف حمد 1962م.
-
فيلم "الظامئون" للمخرج محمد شكري جميل 1972م.
-
فيلم "يوم آخر" للمخرج الراحل صاحب حداد 1979م.
-
فيلم (شيء من القوة) للمخرج كارلو هارتيون.
-
فيلم "العاشق" للمخرج محمد منير فنري.
-
فيلم "الفارس والجبل" للمخرج محمد شكري جميل.
-
أما في مجال الإخراج السينمائي فقد تهيأت له في عام 1967 فرصة
إخراج فيلم "الحارس" الذي كتب قصته الفنان قاسم حول، ومثلت فيه
الفنانة الراحلة زينب ومكي البدري وسليمة خضير وقاسم حول ونخبة
آخرون، وقد شارك في عدد من المهرجانات السينمائية، ففاز بالجائزة
الفضية في مهرجان قرطاج السينمائي عام 1968 كما فاز بجائزتين
تقديريتين في مهرجاني طاشقند وكارلو فيفاري السينمائي.
-
وفي مجال التأليف السينمائي كتب سيناريو فيلم "البيت" الذي أخرجه
عبد الهادي الراوي في عام 1988 والذي قال عنه الفنان يوسف العاني:
"إنني وأنا أشاهد الفيلم لم أتصور أحدا منا يستطيع كتابة السيناريو
صدقا وواقعا قدر خليل شوقي".
من مساهماته في التلفزيون:
عمل في تلفزيون بغداد منذ عام 1956 وهو عام تأسيسه، عمل مخرجا
وممثلا بعد أن مر بفترة تدريب فيه، وذكر انه كتب أول تمثيلية
عراقية للتلفزيون، وهي ثاني تمثيلية تقدم من تلفزيون بغداد ولكنها
أول تمثيلية تكتب خصيصا للتلفزيون.
من أبرز مشاركاته التلفزيونية
-
مسلسل "الذئب وعيون المدينة" تأليف عادل كاظم - اخراج ابراهيم عبد
الجليل.
-
مسلسل "النسر وعيون المدينة" تأليف عادل كاظم - اخراج ابراهيم عبد
الجليل.
-
مسلسل "الاحفاد وعيون المدينة" تأليف عادل كاظم - اخراج الراحل حسن
الجنابي.
-
مسلسل "جذور وأغصان" الذي كتبه عبد الوهاب الدايني وأخرجه عبد
الهادي مبارك.
-
مسلسل "صابر" تأليف: عبد الباري العبودي - وإخراج: حسين التكريتي.
-
مسلسل "الكنز" تأليف: عبد الباري العبودي - وإخراج: حسين التكريتي.
-
مسلسل ( بيت الحبايب) تأليف : عبد الباري العبودي - وإخراج حسن
حسني.
-
مسلسل "الواهمون" تأليف علي صبري - وإخراج عادل طاهر.
-
مسلسل "دائما نحب" الذي أعده وأخرجه صلاح كرم عن مسلسل كتبه قاسم
جابر للإذاعة.
-
مسلسل " ايمان " تأليف معاذ يوسف - ومن إخراج حسين التكريتي.
-
مسلسل "بيت العنكبوت" من تأليف عبد الوهاب عبد الرحمن "في أول عمل
درامي نراه له على الشاشة الصغيرة" - وإخراج بسام الوردي.
-
تمثيلية "المغنية والراعي" التي كتبها معاذ يوسف وأخرجها حسن حسني.
أبرز مساهماته الاخراجية في التلفزيون: حيث كان لخليل شوقي حضوره
الواضح في مجال الاخراج التلفزيوني لاسيما الدراما التي قدّم عددا
من أعمالها المتميزة التي اتسمت بالرصانة
-
وشهد عام 1973 ذروة نشاطه في اخراج الدراما. فقد عرض تلفزيون بغداد
من أعماله تمثيليات: "طيور البنجاب" و "كنز السلطان"، و"لجنة
محترمة"، و"الافول"، إلى جانب مسلسل "من كل بيت قصة" الذي جاء في
ثماني حلقات، ومن أعماله الاخراجية تمثيليات : "زقاق في العالم
الثالث" لزهير الدجيلي، و"السهم" لمعاذ يوسف، و"الهجرة إلى الداخل"
لعبد الوهاب الدايني.
-
وكانت تمثيلية "الهجرة إلى الداخل" التي أخرجها خليل شوقي والتي
كتبها عبد الوهاب الدايني. قد شارك العراق بها، ضمن خمس وأربعين
دولة عربية وأجنبية، في مهرجان براغ للأعمال التلفزيونية عام 1985
وحصلت على استحسان واسع ونال الفنان الراحل جعفر السعدي جائزة احسن
أداء عن دوره فيها.
-
ومن أعماله أيضاً تمثيلية "شروق شمس تغيب" لصباح عطوان.
-
تمثيلية "العمارة" التي كتبها الفنان القدير بدري حسون فريد.
-
مسلسل "الاضبارة" لطه سالم.
-
وقد آثر الانسحاب من الساحة واختار حياة المنفى القسري في هولندا،
تاركا بصمات ابداعه على ما خلّفه من ارث درامي، ليظل اسماً متألقاً
في ذاكرة الثقافة العراقية. |