غدا الجمعة تمر 10 سنوات على رحيل أسطورة السينما المصرية النجم
والإنسان والصديق (أحمد زكى - 27 مارس 2005)، والذى جعل من اسمه
عنوانا كبيرا فى عالم التشخيص، فأصبحت له مكانته الدائمة فى قلوب
ووجدان الجماهير قبل صناع الفن السابع، بفضل أدائه الاستثنائى
واختياراته المتميزة.
10 سنوات ومازال يعيش داخلى بحبه وحكايته وشخوصه ووطنيته ومواقفه
الراسخة، ونقاء قلبه "أنا خاويتك". هكذا قال لى، وصارت تلك الجملة
من أجمل وأرقى وأرق الكلمات التى كان قالها لي، ورغم مرور تلك
السنوات مازلت أفتقد الأخ والصديق، وسأظل اليوم وغدا أشعر باعتزاز
أننى كنت قريبا منه، بل كنت محظوظا بهذا القرب الذى امتد حتى
أنفاسه الأخيرة، وأيضا شاهدا على كثير من التفاصيل والأحداث التى
مر بها، آلامه. أفراحه. همومه الفنية، حتى رحله مرضه ورحيله.
خلال سنوات عمره استمتع المقربون منه بالعديد من الحكايات والمواقف
التى تؤكد مكانته الفنية والفكرية، وجعلت منه فنانا وطنيا يتمتع
بقدرة خاصة على اختيار موضوعات لامست قضايا أمته، إنسانية كانت
غارقة فى الواقعية، ورومانسية حالمة، وحياتية مفعمة بالأسى والحنين
للجذور، ومن ثم قدم خلال مشواره أفلاما تناولت جميع الفئات والمهن،
وزيرا وبوابا، رئيسا وضباطا، عاملا وجنديا، باختصار: كان مواطنا
بدرجة إنسان.
عبر سنوات قربى منه شاهدت أحداثا كثيرة، وتحديدا آخر 10 سنوات من
حياته، ومن حسن حظى آن كنت شاهدا أيضا على حكايات طريفة ومواقف
مؤلمة، أحداث كثيرة أتذكر بعضها عن ظهر قلب، ونسيت بعضها فى زحمة
التفاصيل، لكن لا أنسى يوم أن ودعته قبل ساعات من رحيله، خاصة لحظة
أن دخلت غرفة العناية المركزة وهو فى كامل الغيبوبة، دخلت عليه وهو
لا يملك فى هذه الدنيا إلا أن يتنفس بصعوبة، أتذكر تلك اللحظة التى
لم تغب يوما عن ذاكرتى، فهى الأشد قسوة فى سنواتى الاخيرة.
نعم هى كذلك وأكثر، فهل هناك قسوة وألم من أن تعرف أن صديق بحجمه
عبقريته الفنية سيرحل بعد ساعات، لقد رحل أحمد زكى بعد رحلة
معاناة، استراح للأبد تاركا ميراثا سينمائيا رائعا للشاشة، وخلف
لأهله ومحبيه قيم فنية كبيرة، وعلى قدر عذابه كان إنسانا الكرم
عنوانه والبحث عن الصدق غايته وإسعاد الآخرين أسمى غاياته.
والمتابع لمشوار أحمد زكى لابد أن يلمس أنه أحد الفنانين القلائل
الذى استطاع أن يوازن بين النوعية التجارية والفنية، وبحسب قوله لى
فى حواراته الممتدة معى فإنه كان يقصد هذا التنوع: "أنا عندما
أوافق على فيلم أدرك تماما قيمته، فعندما قدمت "الراعى والنساء"
كنت أعرف أنه لا يحقق نفس النجاح الجماهيرى الذى يحققه "كابوريا"
أو "الأمبراطور"، وعندما قدمت "زوجة رجل مهم" و"البرئ" كنت أدرك
أنهما لا يحققان نفس النجاح الجماهيرى لأفلام مثل "شادر السمك"
و"البيه البواب". أحيانا اشعر بأن هذا العمل أو غيره "هيعجب"
الناس، وأضاف: ولهذا كنت أحرص أن يكون العمل الذى يليه لابد أن "
يعجب " الفنان الموجود داخلي، ولذل سعدت دوما بكل أعمالى التى حققت
النجاح الجماهيري، وحتى تلك الأفلام التى حققت النجاح البسيط لأنها
أسعدتنى كفنان.
ببساطة لأن هذه الأفلام عملت لى تاريخ، وأما الأخرى التى حققت
النجاح الكبير فقد صنعت نجوميتى".
تفرد "زكي" كممثل مجد ومجتهد بأنه كان صاحب مشروع سينمائى وطنى،
ويتأكد ذلك من خلال فيلمى (ناصر 56 وأيام السادات) وعنهما قال:
إننى تشرفت وقدمت هذين العملين وأعتبرهما خطوة كبيرة، لأننا فتحنا
من خلالهما للمرة الأولى الحديث عن الزعماء والرؤساء بالأسماء
الحقيقية، ونجحنا فى إظهار الحقائق للأجيال، بعيدا عن الدخول فى
طوفان المهاترات السياسية، لقد قدمت (ناصر والسادات) كى استمتع
وأمتع الجمهور بسيرة أبطالنا من زعماء مصر وبناة نهضتها، وعندما
تصديت لهذه النوعية من الأفلام الوطنية، لم أكن أسعى لتمجيد نفسي،
وإنما هدفى آن تعرف الأجيال الشابة الحقائق الراسخة فى سجل
الوطنية.
- فى الأهرام:
نجاح فيلم "أيام السادات" الجماهيرى والنقدى وما به من أحداث
وحقائق وقيم وطنية كان وراء قيام الرئيس الأسبق حسنى مبارك بتكريم
أحمد زكى وأبطال الفيلم "مرفت أمين ومنى زكى وأحمد السقا، ومؤلفه
الكاتب الراحل أحمد بهجت، ومخرجه محمد خان"، وذلك فى سابقة تاريخية
بأن يقوم رئيس الدولة بمنح الأوسمة لهم، تقديرا لدورهم فى تقديم
عمل فنى له قيمته التاريخية للأجيال القادمة.
ويوم توسيمه عبر أحمد زكى عن سعادته بالتكريم فى معظم وسائل
الإعلام، ولكن يبدو أنه وبعد أن ارتاح من التعبير عبر كلمات فورية
يوم تكريمه أراد أن يشكر "مبارك" بطريقته الخاصة، ولذلك فوجئت به
يتصل بى هاتفيا يوم 3 يوليو 2001 ويطلب حضورى للأهرام، ويومها كانت
انتخابات نقابه الصحفيين ونفس يوم افتتاح المبنى الحالى للنقابة،
وسألنى عن مكاني، فقلت له فى الانتخابات، فقال لى إنه فى طريقة
للأهرام، وطلب منى طلبا غريبا، وهو مقابله مسئولى الاعلانات
بالجريدة، ليطلب بدوره عمل "إعلان مدفوع" على نفقته وفى الصفحة
الاولى نظير مبلغ مالى كبير، ويومها قال لي: أردت أن اقول للرئيس،
كلمة حب من قلبي، عبر إعلان بالأهرام، وبالفعل نشر الإعلان فى
الصفحة الأولى يوم 4 يوليو 2001، تحت عنوان "تلغراف" قائلا فى نصه:
السيد الرئيس محمد حسنى مبارك، شعرت فى اللحظة التى منحتنى فيها
الوسام أننى حصلت على أجرى عن عمرى الفنى كله، حصلت عليه فى لحظة
واحدة، أشكرك وأؤيدك وأحبك".
- أول فنان يجسد رئيسين:
أتذكر يوما عندما سألته عن إصراره على تقديم فيلمى "ناصر 56 وأيام
السادات" فقال لى: "أنا مواطن أولا، ومهموم بوطنى ومهنتى التمثيل،
وإذا كنت قد تعرضت فى كثير من أعمالى لمشاكل الرجل والإنسان
البسيط، وألقينا الضوء على ما كبر وصغر شأنه، فما بالك بأصحاب
القرار من الزعماء، وأنا أحمد الله اننى تشرفت وقدمت هذين العملين،
وأعتبرهما خطوة كبيرة، لأننا فتحنا من خلالهما لأول مرة الحديث عن
الزعماء والرؤساء بالأسماء الحقيقية، ونجحنا فى إظهار حقائق فى
تاريخنا تبقى زادا للأجيال على اختلافها.
- رسالة من بريده الخاص:
قبل وفاته بأيام قليلة اتصل بى فى الصباح الباكر الفنان التشكيلى
ابن خاله سمير عبدالمنعم - رحمه الله عليهما جميعا - والذى كان
يرافقه طوال رحله مرضه، وقال لى الأستاذ يريدك، فذهبت إلى
المستشفى، وجلست يومها معه ساعات طويلة، وأثناء وجودى معه طلب من
سمير أن يعطينى بعض الرسائل التى جاءت له من محبيه، شباب وكبار،
والتى كانت تحمل دعوات بالشفاء، يومها داعبنى بقوله: "يا سمير خد
100 جنيه من محمود لأننى سأعطيه سبق صحفي، وضحكنا، وبعد ذلك طلب
منى قراءة رسالة بالتحديد، وقرأتها كاملة، وكلما انتهيت منها يطلب
منى إعادة القراءة نحو 3 مرات، وبعدها طلب منى نشر تلك الرسالة فى
الأهرام، وتلك الرسالة كانت من فتاة عمرها وقتها 20 عاما تقول:
"الأستاذ أحمد زكى. إننى وجيلى لم نعاصر زعماء مصر السابقين، ولم
نعرف الكثير عنهم، ولكن ببراعتك الشديدة جعلتنا نعرفهم، بل ونحبهم،
وأكثر من ذلك إننى شعرت وكأننى عاصرتهم"، مع هذه الجمله معها شعرت
أن احمد زكى فى حالة انتصار رغم الألم الذى يحاصره.
كان فى حالة رضا وسعادة. شعرت ولمست ما به من نشوة، وكأنه حصل على
جائزة كبيرة، وهو على فراش المرض ووسط آلامه.
ويبدو بريق هاص فى عينيه يعكس أن حقق ما أراد، فهذا هو ما راهن
عليه عندما قدم ناصر والسادات، لقد راهن على الأجيال الشابة فى كل
عصر وزمن، أولئك الذين لم يعاصروا أمجاد الزعماء. شعرت يومها أن
احمد زكى - رحمة الله عليه - يريد أن يقول " أنا انتصرت على الذين
هاجموني، وانتصرت للأجيال التى انتصرت لي".
- ممنوع الحضور بالأفكار المسبقة:
تذهب بى الذكريات إلى محطة أخرى، ففى أثناء التجهيز للعرض الخاص
لفيلم "أيام السادات" قال لى: كان نفسى أكتب على الدعوة "ممنوع
الحضور بالأفكار المسبقة" على شاكلة: "مؤامرة ضد السادات، وصفقة
حذف القدس عربية"، فما لا يعرفة كثيرون أن أحمد زكى عانى ماديا
جراء تصديه لإنتاج هذا الفيلم، فقد واجه ضغوطا كبيرة من جانب بعض
الشركات، بهدف عدم إنتاج الفيلم، لكنه أصر ونجح وحقق ما أراد، ومن
المفارقات أيضا أنه بعد عرضه تعرض الفيلم للسرقة، ويومها أتذكر أنه
أعلن اعتزاله إرضاء لمافيا الفيديو والـDVD،
وقال لي: أنا قعدت بجوار الفيلم 4 سنوات، ورفضت العديد من الأفلام،
وعندما نجح الفيلم بدأت الحرب ضدي، بهدف إحراجى وعدم قدرتى على
تسديد ديونى التى اقترضتها من البنوك لإنتاجه، وهذا سيدفعنى للهروب
بعيدا عن الفن.
وعلى الرغم من حاجة أحمد زكى للأموال لتغطيه ما قام به من تكاليف
ضخمة فقد كشف لى مرة عن رفضه بإيمان خالص لرسالته لعرض مادى مغر من
إحدى شركات التوزيع، شرط حذف جزء من خطاب الرئيس السادات فى
الكنيست الإسرائيلي، وذلك نظير مبلغ طائل كان كفيلا بإعادة التوازن
المادى له، واكتفى بالقول:
أشرف لى أن أخسر من أن أبيع واشوه بلدى، أو أغير تاريخ بلدي، وبغضب
وانفعال قال: انهم يريدون حذف الخطاب الذى أكد فيه الرئيس الراحل
أنور السادات على أن مصر لم تقوم بعمل سلام منفرد، وأيضا أرادوا
حذف الجزء الخاص من خطابه الذى أكد فيه أن القدس عربية، وكل ما جاء
فى الخطاب من كلمات تؤكد أن مصر دائما مع السلام، وتقف مع الشعب
الفلسطينى.
هذا الموقف وغيره من المواقف يؤكد أن أحمد زكى فنان وطنى بامتياز،
ولعله بموقفه هذا أعطى درسا للأجيال فى معنى وقيمة الوطن،
والمحافظة على رموزنا، والتأكيد على الدور الكبير الذى لعبته مصر
دائما لمصلحة الشعوب العربية.
- الناصريون والسادات:
بعد الحروب الكثيرة التى تعرض لها للنيل من "أيام السادات" وتسريب
نسخته قبل العرض، وغيرها من المحاولات اللا إنسانية، جاء موعد
مسابقة المهرجان القومى للسينما، وفى سنة مشاركة الفيلم فى
المسابقة كان معظم لجنة التحكيم من أصحاب الاتجاه الناصرى برئاسة
المخرج توفيق صالح، ويومها كتبت موضوعا بعنوان "الناصريون حرموا
السادات من الجوائز"، وبعدها بفترة طلبنى للذهاب إلى منزله وأخذ
يعدد لى كم الجوائز التى حصل عليها، والتى تزيد على 50 جائزة دولية
ومحلية، وقال لى "أنا مش محتاج جوائز أنا " محتاج العدل"، وعلى
الفور قفز لذهنى قوله لى قبل العرض الخاص للفيلم " كان نفسى أكتب
على الدعوة ممنوع الحضور بالأفكار المسبقة".
- أكرة الشفقة:
لقد تربيت فى بيوت الأسرة من الأخوال والأعمام، ومنذ صغرى ولدى
عقدة آن يقول أحد انى يتيم - هكذا يقول أحمد زكى الفلاح البسيط عن
نفسه - مضيفا: كما أكره أن أعبر عن ألمى بعد عملية جراحية هنا -
وأشار إلى ذراعه - وقال: "هذه حقنة بلهارسيا وأنا عيل، الراجل
أعطانى حقنة فى الوحدة الصحية، وهو بيكلم صاحبة ضرب الحقنة فخرجت
من الناحية التانية، لذلك ذراعى بقه كده، وكان الألم شديدا لا
تتخيله، ومش عايز أقول آه، عشان محدش يقول لى: معلهش يا حبيبي، أنا
بأكره الشفقة، كنت أحب اقعد مع أصحابى عشان مكنوش بيتكلموا فى حتة
اليتم، أكره الكلام اللى من بره، أنا بحب كل حاجة بجد، وصدق اللى
يقولى مبروك، أو اللى يوجهنى، ومن هنا كرهت الشفقة وبدأت أغرق فى
تأملاتى مع نفسى وذاتى".
- إسعاد الآخرين:
أشياء كثيرة لا تجد طريقها إلى أوراق الصحف لأنها خاصة ولا يعرفها
إلا المقربون منه، فحياته كانت مليئة بالأشياء الجميلة، بل إنه من
أولئك النادرين الذين يعطون دائما، فيداه دائما كانت تدخل جيوبه
وتخرج أموالا للبسطاء ممن يرى أنهم فى حاجة إلى مساعدة ويقول: أنا
لا أعطى من عندي. إنما يأمرنى الله أن أعطى فأعطي، فهذه أموال
الله، الله سبحانه وتعالى أعطانى موهبة وفلوسها"، وكل أصدقائه
يعرفون الحقيبة الصغيرة التى كانت تلازمه، وأتذكر اثناء أيام مرضه
الأولى فى يناير 2004، وكان عيد الاضحى على الأبواب، قال لى بسعادة
متجاوزا الأزمة وأيامه: "تعرف أنا ارسلت العيدية لكل البلد، عشان
الناس تعرف تفرح بالعيد، وعلى فكرة محدش يعرف إنى هنا فى
المستشفي"، وليس ذلك سوى درس وقدوة ومثل فى التراحم، فكان وسط
آلامه لا ينسى مسئولياته، يسعى دائما لإسعاد الآخرين.
- هو وسعاد حسنى:
يوم 19 فبراير 2003 كشف لى أن هناك 5 حلقات من مسلسل "هو وهى" الذى
قدمه مع سعاد حسنى لم يتم تصويرها، وأتذكر يومها انه اتصل بالكاتبة
الكبيرة "سناء البيسي" وقام بتذكيرها بالحلقات والمسلسل الذى وصفه
أنه من أجمل الأعمال التى قدمها.
وبمناسبة الحديث عن "هو وهي" اختم بواحدة من أجمل حكاياتى معه وكان
ذلك وقت رحيل الفنانة الرائعة سعاد حسنى فى يونيو2001، وفى تلك
الفترة اختفى تماما ولم يدل بأى كلمات عن سعاد حسني، وهى المواضيع
التقليدية التى نقوم بها بعد وفاة فنان، وظل لا يرد على تليفونه
لمدة عشرة أيام حتى عصر الأول من يوليو2001 اتصل بى وطلب ضرورة آن
نلتقى بالفندق، وكان يومها يرتدى جلبابا أبيض وأخرج ورقة مكتوبة
بخط يده، وطلب منى قراءتها، ولأنى صحفى اعتبرت ذلك سبقا خاصا بى
للنشر، يعبر فيه عن حبه لسعاد حسني، ولكن كانت المفاجأة أن ما
قرأته كانت كلمات المشاطرة المدفوعة التى أراد ان يقولها فى وداع
سعاد حسنى وبالفعل ذهبت للأهرام وتم نشر الاعلان.
وكان كالتالي: "(إليها هى). إلى الفنانة سعاد حسنى، يا أكثر
الموهوبين اتقانا، وأكثر العباقرة تواضعا، وأكثر المتواضعين
عبقرية، بوجودك ملأت قلوب البشر بهجة، وبغيابك ملأتها بالحزن،
استريحى الآن. إهدئى، يا من لم تعرفى الراحة من قبل، لك الرحمة وكل
الحب والتقدير، أسكنك الله فسيح جناته، يا من جعلت حياة الناس أكثر
جمالاً.
- وجيهان السادات وهيكل:
لم يكن أحمد زكى فى يوم قريبا من سلطة أو نظام، ولم يسع أبدا
للتقرب من أحد، بل كان كل هدفه أن يقدم فنا للأجيال، فنا يعيش
ويحمل اسمه الكبير، ولهذا عندما ضربه المرض لم يصدق أنه محبوب إلى
هذه الدرجة من جمهوره العريض، ومن القيادة السياسية بقيادة الرئيس
مبارك التى وقفت بجانبه بكل حب، وخلال فترة مرضه أتذكر أن الجميع
زاره، وزراء وفنانون وصحفيون ورجال دين.
وكان أحمد زكى حريصا أن احضر كثيرا من الزيارات، وكان يتصل بى
قبلها، ومنها زيارة الكاتب "محمد حسنين هيكل" وكشف يومها الأستاذ
هيكل وفى حضور الكاتب "عادل حمودة" ربما للمرة الاولى عن تجربته
الشخصية المريرة مع مرض السرطان، والذى شفى منه وفى اعتقادى ان سبب
كشفه عن اصابته وشفائه من السرطان كان نوعا من الذكاء الهيكلى على
سبيل الدعم المعنوى لأحمد زكي، ورفع حالته المعنوية، أما زيارة
السيدة "جيهان السادات" له فلم تكن يومها بمفردها، وإنما كان
بصحبتها عدد من أفراد أسرتها وحفيداتها، وكان استقباله لهم مليئا
بالود والحب وعلى طريقة أدائه فى فيلم "أيام السادات".
- حكايات من أيام المرض والألم:
كنت من أوائل من عرفوا بخبر مرضه، ويومها طلب منى ألا يعرف أحد
التزمت بذلك، ولكن بعد أن علمت القيادة السياسية بخبر مرض أحمد
زكي اضطررت للنشر، وكان قبلها بأيام وتحديدا في 22 يناير
2004، طلب منى أن أكتب رحلة مرضه على لسانه، وقال لى يومها
بالحرف الواحد "أحسست بثقل فى صدرى وخشونة وطلبت إجراء أشعة على
الصدر والرجلين، ثم بعد ذلك اكتشفت أنه التهاب رئوى حاد وماء فى
الغشاء البلوري، وقال لى الدكاترة لازم أدخل المستشفي، فقلت:
لا أقعد فى البيت وآخذ الأدوية، وقعدت فى البيت 5 أيام ولكن
تعبت، وذهبت إلى دار الفؤاد. وبعد الفحوصات والأشعة، عملوا بزل
للماء فى أول مرة لتر ونصف لتر على الرئة ثم لترين، إلى أن وصل
إلي 6 أو7 لترات، يضحك: أنا طول عمرى كنت أسمع أن الماء على
الرئة معلقة أو أكثر قليلا، وإنما 6 لترات شيء لا يصدق".
ثم وجدته يأخذنى إلى حديث فلسفى ويحمل الكثير من نقائه الذى استمر
حتى وفاته، وقال: أنا مشغول بقضية الإنسان، فكنت أتناقش مع نفسى
فى هذا الأمر، وقلت عندما يكون الإنسان يطلب حقا أو شيئا من إنسان
آخر، لماذا لا يضع نفسه مكان الآخر؟، ووجدت أن الإنسان لو وضع
نفسه مكان أخيه الإنسان وجدت أن الزعل منه يخف لأن كل واحد عنده
ظروف.
فأنا أتمنى أن كل إنسان زعلان يضع نفسه مكان الآخر وهذا على مستوى
الأشخاص والدول، وقلت أعملها على مستوى المرض، أنا عيان وساعات
كثيرة، ممكن يكون لى زميل مريض أو عنده ظروف وأكون مسافرا أو عنده
تصوير، وعلشان يزور واحد مريض يقعد يبحث عن وقت علشان يزورنى
مثلا، وإذا فات يوم ولم يأت هيزعل أكثر من نفسه. لكى يقوم
بالواجب، ولهذا قلت أخفى خبر مرضى حتى لا أزعج الناس، أنا عارفهم
فهم بيحبونى وأنا أحبهم والحمد لله.
- لماذا حرق خطابات جمهوره:
كشف لى مرة وقبل وفاته بقليل انه قام بحرق خطابات جمهوره ومحبيه
التى بها كلمات حب، عندما شعر أن موته اقترب حتى لا يضار أحد بعد
موته.
- آخر عيد ميلاد:
كنت واحدا من خمسة أشخاص مقربين فقط حضروا آخر عيد ميلاد له، وهم
الفنان التشكيلى وابن خاله الراحل "سمير عبدالمنعم والمخرج عصام
المغربى ومدير أعمالة محمد وطنى وشخصية أخرى"، وكان ذلك يوم 18
نوفمبر 2004، ويومها تلقى العديد من باقات الورود والتى حرص
أصحابها على كتابة أرق وأجمل الكلمات والتى حملت أيضا - وقتها -
الدعاء بالشفاء.
وبرغم خجله الشديد ورفضه القاطع لعلنية عيد ميلاده، إلا أننا
أصدقاؤه المقربون حرصنا على الاحتفال بعيد ميلاده. فاجتمعنا نحن
الخمسة واحتفلنا به بطريقة بسيطة، وأتذكر أنه تخلل الساعة التى
حضرتها معه قام بتقديم مفاجأة لنا حيث عرض (50 ثانية) من البروفة
المصورة التى أجراها لآخر أفلامه، وهو يتقمص شخصية حليم، وقدم فيها
مطلع أغنية للعندليب عبدالحليم حافظ، وبدا من المشهد الذى عرض على
شريط فيديو وكأنه "حليم" شكلا وأداء وحركة، ومع انتهاء الخمسين
ثانية ارتسمت على وجهه السعادة والرضا.
هذه بعض حكاياتى مع أحمد زكى التى لا تنتهي، والتى تؤكد أنه فنان
وإنسان يحمل من القيم الإنسانية ما جعل منه فنانا كبيرا بأفلامه
ومواقفه، أو كما قال فى نهايه فيلم حليم: "ميهمنيش أموت دلوقتي.
ميهمنيش أموت بعد ميت سنه. أنا يهمنى لما أموت افضل محافظا على
مكانتى".
-------
احمد زكى:
جذب انتباهى بشدة عندما شاهدته فى دور صغير فى مسرحية ألفريد فرج"
النار والزيتون" التى قدمها المسرح القومى فى بداية السبعينات.
اختاره المخرج سعد أردش ليلعب دورا صغيرا، كان طالبا فى السنة
الأولى بمعهد الفنون المسرحية ولعب دور ضابط إسرائيلى متهم بإطلاق
النار على عرب من سكان كفر قاسم.
كان يدلى بأقواله أمام أحد المحققين، فى هذا المشهد أجاب بكلمة نعم
أكثر من عشر مرات، وكل نعم فيها كان ينطقها بانفعال مختلف.
والتحق بفرقة المتحدين المسرحية، كان من السهل فى ذلك الوقت حتى من
خلال أدواره الثانوية إدراك أن هذا الشاب الأسمر سيكون له شأن فى
عالم التمثيل. ثم اشترك فى عرض مسرحية مدرسة المشاغبين، ربما تظن
أن علاقتى به قد توطدت من خلال المسرح، الواقع أن الألفة بيننا
كانت نتيجة لزمالتنا فى محل "لاباس" بوسط البلد.
كان مكانا جميلا تعودنا قضاء وقت طيب فيه، كتاب وصحفيون وممثلون
ونجوم ومنهم عادل إمام، هذا المحل مازال موجودا فى مكانه بعد أن
تحول إلى خرابة.
وبدا أحمد يشق طريقه بثبات صاعدا طريق الفن، مستعينا بموهبته الفذة
كممثل، وغريزته الدرامية وكأنها البوصلة التى يهتدى بها فى رحلته
الإبداعية الطويلة. أستطيع أن أشهد وأن يشهد معى كل عرفه عن قرب أن
الغرور لم يعرف طريقه إليه بأى درجة من الدرجات.
فقد كان منشغلا طول الوقت بالبحث عما هو الأفضل ولذلك كان عندما
يشاهد عملا قام ببطولته أو حتى المشاركة فيه، يشعر بالضيق لأنه
يكتشف أخطاء أو ما يظنها أخطاء فى أدائه.
هو باحث عن كمال ربما لا تساعده البيئة الفنية المحيطة على الوصول
إليه فتكون النتيجة أن يفقد أعصابه ويثور فى البلاتوه. فى فيلم
البيه البواب قال له مساعد المخرج: المشهد اللى جاى فى نفس
الديكور. اللى هو غرفة البواب.
فقال له أحمد برقة: ما ينفعش نفس الديكور. البواب فى المشهد ده عرف
الفلوس. بدأت تجرى فى إديه. من الطبيعى أن تتغير ملامح الغرفة
والإكسسوار كمان. دهان جديد. ثلاجة. سرير مختلف، لابد ان يعكس
الديكور هذا التغيّر فى حاله.
فقال المساعد فى ضيق: عاوزين نخلص يا أستاذ أحمد.
أزعجته الجملة، هو لا يتصور وجود فنان يرفض الإتقان لأنه يريد أن
ينتهى بسرعة من تصوير الفيلم ولكنه تمسك بهدوئه وقال: ما ينفعش.
المطلوب تعديلات بسيطة فى الديكور لن تستغرق وقتا.
مرة أخرى قال المساعد: عاوزين نخلص يا أستاذ أحمد.
انفجر أحمد كالقنبلة وترك البلاتوه وعاد إلى الفندق. الطريف أن
الديكوريست قال: كل التغييرات دى ما تاخدش وقتا أكتر من ساعتين.
كان على وعى بأن أعظم أداء تمثيلى لا أهمية له فى غياب إطار صحيح
يوفره الديكور وبقية عناصر العمل الفنى.
كل خلافاته مع الآخرين، كل الأوقات التى انفجر فيها غاضبا، كانت
لأسباب فنية. وليس لأسباب ذاتية. هو لا يفقد اعصابه ويثور لأسباب
ذاتية بل بسبب المهنة، هو لا يتصور وجود أحد العاملين فى الفن
يفتقر إلى الإحساس بحتمية الإجادة.
أحيانا يتصور الإنسان أنه أقوى مما عليه بالفعل، ثم يكتشف فى لحظة
أنه ضعيف لدرجة معيبة، حدث ذلك فى برنامج تليفزيونى عندما سألنى
عماد أديب، هل تفتقد أحمد زكى؟
فانهرت باكيا كطفل فقد كل أحبائه فجأة فى حادث مؤلم.
رحمه الله. رحمنا الله جميعا.
--------
- من حواراته للأهرام:
اجريت مع احمد زكى خلال مشواره عددا كبيرا من الحوارات وفى مناسبة
ذكرى رحيله اخترت أن انشر مما سألته لأنها تظهر قيمة احمد زكى
الفنان والإنسان وهذا نص بعض الاسئلة والأجوبة.
·
متى يتوقف الابداع؟
إذا فقد الفنان أو المبدع عموما سواء كان كاتبا أو مخرجا أو ممثلا
أو موسيقيا القدرة على الدهشة وإحداث شىء فى النفس البشرية يتوقف
ولكن لا يوجد فنان يبعد. الفنان لا يبعد الا بالمرض أو الموت.
الفنان تحكمه اختياراته فهى التى تحكم وجوده ولهذا لابد ان يسبب
الدهشة فى كل عمل يقدمه من أجل ضمان الاستمرارية.
·
كيف ننظر الى التنافس بين النجوم؟
- الفنان وحده لا يعيش وإذا شعر بأنه الأوحد فإنه لا يمكن ان يقدم
فنا لأن حماسته ستقل. والفنان يعيش بالفنانين الموجودين حوله فأنا
أحب كثيرا أن أرى زملائى يقدمون أفلاما جميلة ساعتها أشعر بأنه
يحفزنى للتنافس الحلو وأقول أنا نفسى أعمل فيلم زى فلان، فالتنافس
يجعل عندى هذا الدافع للإبداع لكى أجود ادائى واختياراتي.
·
هل الزمن يمثل أزمة للفنان؟
طبعا. لاننى لما كنت فى سن صغيرة فى سن الشباب الموجودين حاليا
كنت اعمل ادوارا تليق بعمري، فعملت الحب فوق هضبة الهرم شاب يبحث
عن فرصه عمل. وعملت البريء عسكرى فى الامن المركزي. والنمر
الاسود. ولد سافر بره علشان يشوف حظه فى الحياة. وبعدين اعمل انا
لا اكذب ولكنى اتجمل يعنى كنت اعمل افلاما تليق للعمر ده وتناقش
هموم الشباب فى هذه الفترة.
وكان المنتجون لا يطلبونى فى أدوار أكبر سنا لأن سنى صغيرة. فأنا
فى تلك الفترة كنت اعبر عن شريحة كبيرة تطابق السن، وبعد ذلك
انتقلت الى مرحلة عمرية أخري، وكنت محروما وأنا صغير من مثل هذه
الادوار وهى ادوار الرجل وقدمتها فى زوجة رجل مهم والإمبراطور
والهروب وضد الحكومة والراعى والنساء وبعد ذلك قدمت الرجل الناضج،
ومع كل مرحلة اصبح فيها وجها جديدا أيضا اقدم ما يليق لسنى وعمرى
ومشاكل عصري. وقدمت ارض الخوف واضحك ومعالى الوزير وعبدالناصر
والسادات.
وأضاف أنا فى كل مرحلة اكون وجها جديدا فيها وعملت بانوراما من
الادوار الشعبية مثلا فى أحلام هند وكاميليا وكابوريا وكمان أدوار
فيها سياسة زى زوجة رجل مهم وادوار اجتماعية مثل نزوة والراعى
والنساء. والبيه البواب وشادر السمك. وقدمت فى كل مرحلة عمرية
ما بها من افلام شعبية وسياسية واجتماعية. ولهذا عندما يأتى لى
موضوع لا يتناسب مع المرحلة العمرية لازم انصرف عنه. لاننى مع كل
مرحلة احتاج فيها لعمل يغطى جموع الناس التى تكون على شاكلة هذا
العمر.
وممكن يكون معايا مجموعة من الشباب لكى يحدثها رمونى وانسجام لاننا
نعبر عن الشارع والبيت وده فيه الرجل والشاب والشيخ. فانا راجل
عملت افلاما كثيرة وزملائى ايضا عملوا افلاما وأثروا السينما
بأعمال عظيمة ولهم تاريخهم. وأتمنى من الشباب أن يعملوا تاريخا
فنيا.
·
لماذا أنت متواضع؟
لو وضعت فى دماغك حكاية نجم النجوم. مش هتفن ثم يعنى أيه نجم.
انا فى النهاية فنان. ومهنتى أن أقدم شخصيات. فلماذا أتغر. ثم
أتغر على ايه وليه. دا الحياة فيها من الرصد الانسانى فى الشارع
المصرى من شخوص وشخصيات وكل يوم تصرفات الناس وأسلوبهم. وكل ده
محتاج رصد، والفنان يترك الدنيا وناقصة ادوار كثيرة.
يبقى ايه لازمة الغرور هنا. الفنان عايز يمسك الشمس ومستحيل
يمسكها. وأضاف: "الفنان يقعد طول حياته يلهث ويجرى وراء الشخصيات
ووراء الحياة لغاية لما يموت. ويموت وهو بيحلم بشخصيات جديدة
يضحك. لماذا الغرور؟ ومن يصيبهم الغرور عليهم ان يقعدوا فى
بيوتهم. لان الغرور نوع من انواع القتل والموت للفنان.
فالغرور يجعل الانسان ذاتى قوي، وغرقان فى نفسه. طيب كيف سيقدم
الفن. الفنان لازم يكون بره نفسه قوى علشان يلتقط الاشياء من
الحياة ويقدر يبثها طول الوقت". |