جان كوكتو يكتب عن أورسون ويلز
ترجمة: تماضر فاتح
التقيت اورسون ويلز عام 1936 في نهاية رحلتي حول العالم. كان ذلك
في هارلم عند عرض مسرحية ماكبث من قبل فريق أسود من الممثلين، كان
اداءً غريباً ورائعاً وأسرني بفضل اداء غلينوي، ويستكوت ومونرو
ويلير. كان ارسون ويلز في ريعان شبابه. جمعنا ماكبث مرة ثانية في
مهرجان فينيسيا عام 1948. والامر الغريب جداً اني لم اربط بين ذلك
الشاب اليافع الذي لعب دور "ماكبث الاسود" وذلك المخرج المشهور
الذي كان سيريني "ماكبث" آخر (وهو فيلم له) في مسرح صغير على
الليدو، (وهو ملهى ليلي على شاطئ رملي). هو الذي ذكرني، اننا كنا
في بار في فينيسيا عندما كنت قد اشرت اليه في المناسبة الماضية
بأنه عادة بالامكان التمويه على مشهد المشي اثناء النوم على خشبة
المسرح، في حين اعتبر ان يكون ذلك حاسماً.
ان فيلم "ماكبث" لأورسون ويلز هو فيلم موديت
maudit،
ذلك في المعنى النبيل للجملة التي نستخدمها لدعم مهرجان بياريتز.
يترك فيلم "ماكبث" لأورسون ويلز مشاهديه صماً وعمياناً واجزم بان
اولئك الذين يحبون ذلك – بمن فيهم انا شخصياً – هم قلة جداً. لقد
صور ويلز الفيلم بسرعة كبيرة بعد عدد كبير من البروفات – هذا يعني
انه اراد ان يستمر ويبقى مع النمط والنموذج كما هو الامر في
المسرح، محاولاً اثبات ان بامكان صناعة السينما ان تضع أي عمل تحت
"عدستها المكبرة" وتجاهل ما يجب ان يكون نمطاً لصناعة السينما. انا
لا اوافق على المختصر "سينما" بسبب ما يمثله. في فينيسيا انت تسمع
الناس وهم يكررون نفس العبارة بشكل ثابت: "انها سينما جيدة" او
"انها سينما غير جيدة" لقد اعتدنا الضحك على مثل هذا، وكما يمكن ان
تتخيلوا، وعندما اجريت المقابلة معنا نحن الاثنين معاً على
الراديو، اجاب كل من ويلز وانا، انه يجب ان نكون سعداء بمعرفة ماذا
كان يعني فيلم "سينما جديدة" ولم نطلب أي شيء افضل من معرفة الوصفة
حتى نتمكن من متابعتها.
ان فيلم "ماكبث" لاورسون ويلز هو عمل قوة عارضة وحشية. يضعون على
رؤوسهم تيجاناً من الورق المقوى، ويرتدون جلود حيوانات مثل سائقي
سيارات بمحركات قديمة، يتحرك ابطال المسرحية باتجاه ممرات المسرح
وكأنه سكة قطار تحت الارض يشبه الحلم، موجود في الاقبية المخربة
التي تنز منها الرطوبة وعبر مناجم الفحم الحجري المهجورة. لم تترك
لقطة واحدة للصدفة. الكاميرا دائما موجودة في عين المكان، الذي منه
عين القدر تختار ان تتبع ضحاياها. في بعض الاحيان، نتساءل في أي
عصر يظهر هذا الكابوس، وعندما نرى ليدي ماكبث لأول مرة، وذلك قبل
ان تنسحب الكاميرا الى الخلف لكي تكون حيث تكون هي موجودة، نحن
تقريباً نراها سيدة في ثوب عصري وهي مستلقية على اريكة من الفراش
بجانب هاتفها.
يجلب اورسون ويلز موهبة ممثل تراجيدي كبير لدور ماكبث، وفي حين ان
لهجة اسكتلندية يتم تقليدها من قبل اميركي قد لاتطاق لدى الآذان
الناطقة بالانكليزية، يجب ان اعترف ان ذلك لم يعد يزعجني، وبأنني
لن افعل ذلك ولو كنت اجيد الانكليزية بطلاقة، لان ماهو متوقع فقط
هو ان تلك الوحوش الغريبة ستنطق بلغة متوحشة كلمات شكسبير التي
ستظل كلماته.
باختصار انا محكّم متواضع وقاض افضل من الآخرين، أي انه، بدون وجود
أي شيء يعرقل تقديري، كنت قد اشتركت كلياً في المؤامرة ومضايقتي
وعدم راحتي كانت تأتي من ذلك وليس من عيب في اللفظ.
اخرج ويلز الفيلم خارج المنافسة في مهرجان فينيسيا وتم عرضه في
مهرجان "اوبجيكتيف 49" في عام 1949، في "صالة الكيمياء" وكان
الفيلم يلاقي نفس الاعتراض في كل مكان. الفيلم هو خلاصة وصورة عن
اورسون ويلز، شخصية تسخف وتقلل من قيمة التقاليد، وتحرز النجاح من
خلال ضعفه هو. احياناً تكون جرأته ملهمة وولدت تحت مثل هذا النجم
المحظوظ بحيث ان الجمهور يسمح لنفسه ان يكسب – على سبيل المثال في
المشهد من "المواطن كين" حيث يكسر "كين" كل شيء في غرفته، او قاعة
المرايا في فيلم "السيدة من شنغهاي".
ومع ذلك، فان الحقيقة هي انه بعد الايقاع المدغم لفيلم "المواطن
كين"، توقع الجمهور تعاقب سلسلة من الاختزال وخاب ظنه بالجمال
الهادئ لـ (آل أمبرسون الرائعون). لم يكن من السهل متابعة نبرات
الصوت والمداخل والمخارج التي نقلتنا من الصور غير العادية
لمليونير الصغير، مثل لويس الرابع عشر الى الفوران الهستيري لعمته.
الذي صدم جماهير الجاز والمولعين بالرقص كان ويلز الذي كان مهتماً
ببلزاك، وويلز ذلك العالم النفساني، وويلز الذي يعيد بناء بيوت
استعمارية كولونيالية اميركية. لقد اعاد اكتشاف ويلز في فيلمه
المربك "السيدة من شنغهاي"، ولكن اضاعوه ثانية في فيلم "الغريب"،
وهذا الانكفاء اعادنا الى الوراء الى ذلك الزمن عندما غادر اورسون
ويلز روما كي يعيش في باريس.
انه يشبه العملاق صاحب وداعة النظرة الطفولية، شجرة مزدحمة بالطيور
والظل، كلب كسر مقوده وذهب لكي يستريح مضطجعاً في السرير من مفرض
الورد، وهو المهمل النشيط، مجنون حكيم، وهو في خلوة يطوقها حشد من
الناس، طالب نائم في الصف، شخص ستراتيجي يتظاهر انه مخمور عندما
يريد ان يترك لوحده.
افضل من أي شخص آخر يبدو غير مكترث بالقوة الحقيقية، متظاهراً ان
يكون تماماً بانه على غير هدى ويسير منقاداً وعينه نصف مفتوحة. هذه
الطريقة المهملة اثرت عليه في بعض الاحيان ومثل دب في سباته، حماه
من البرد ومن القلقلة الشديدة في عالم السينما. الهمته ان يبحر، ان
يترك هوليوود وان ينجرف نحو رفاق آخرين ومنظورات واتجاهات اخرى.
في الصباح عندما غادرت باريس الى نيويورك، ارسل لي اورسون يولز
لعبة على شكل ساعة آلية، لها شكل ارنب ابيض رائع تلوي اذنيها وتقرع
الطبل. لقد ذكرتني هذه اللعبة بالارنب الطبال الذي ذكره "ابولينير"
في تقدمة "بيكاسو – ماتيس" الى معرض "بول غويوم" والذي بالنسبة له
يقف ممثلاً المفاجأة التي تقدم التحية لنا ونحن على زاوية الطريق.
كانت هذه اللعبة الفخمة الشعار الحقيقي لويلز، وتوقيعه الحقيقي.
وعندما أحصل على اوسكار من اميركا تظهر امرأة تقف على طرف اصابع
قدمها وفي فرنسا عندما تم منحي النصر الصغير لسموثريس، اعتبر
الارنب الابيض من اورسون ويلز هو اوسكار الاوسكارات، وجائزتي
الحقيقية.
اكرر القول ان لغة صناعة السينما، لاتكون في الكلمات. المرة الاولى
التي عرض لي فيها فيلم "الآباء الرهيبون" كانت في سينما سان ماركو
في فينيسيا، على هامش المهرجان الذي منه كنت قد اتبعت نموذج ويلز
الذي استخدمه في ماكبث وكان يجب ان انسحب من "النسر ذو الرأسين"،
كنا جالسين احدنا بجانب الآخر.
هو لايستطيع ان يفهم الحوار بالكامل ولكن عند ادنى فارق بسيط في
الاتجاه، كان يضغط على ذراعي باقصى ما في وسعه. كان العرض متوسط
المستوى لانه لم يكن هناك مايكفي من الطاقة الكهربائية في جهاز
العرض، وبالكاد يستطيع الشخص ان يميز الوجوه التي هي مهمة جداً في
فيلم من هذا النوع. ولما اعتذرت من اجل ذلك، قال لي ان جمال الفيلم
هو شيء ابعد من العين والاذن، ولايكمن في الحوار ولا في جهاز العرض
الذي يمكن ان يكون قد عرض بشكل سيئ وغير مسموع، دون تدمير ايقاعه.
انا اوافق على ذلك. في زمن فيلم "آل أمبرسون الرائعون"، على سبيل
المثال، انه يأخذ الفكرة الى وجهة ايجاد علاج للسحر في تأثيرات
الصور الفوتوغرافية. ولكن بعد مشاهدة "الآباء الرهيبون" في مقهى
فلوريان على ميدان سان ماركو، اتفقنا انه يجب الا يذهب الشخص من
حالة النقيض في السحر والجمال الى اخرى، لان من شأن هذا ان يكون
تماماً مثل رسم المناظر الطبيعية التي اعطت تأثيراً فورياً عن
الشيخوخة.
في الحقيقة لا ويلز ولا انا نحب التحدث عن عملنا. يحصل مشهد الحياة
في الطريق. كان بامكاننا البقاء بدون حراك ولوقت طويل نراقب نشاط
الفندق فيما حولنا. ان مثل هذا الجمود وعدم الحركة كان مقلقاً
للغاية لرجال الاعمال المشغولين، والخبراء المعنيين في صناعة
السينما. كان ذلك مثل تعذيب طائر الجندول عندما كان يجب على رجال
الاعمال المشغولين والخبراء المتلهفين ان يكونوا معاً وان يخضعوا
لايقاعه. بدأ الناس في الشك فينا. واعتبر الهدوء لدينا على انه شكل
من اشكال التجسس. كان صمتنا مرعباً ومادة متفجرة فعلاً. اذا حدث
وضحكنا، كان ذلك يؤخذ على انه ترويع. رأيت رجالاً جديين يستعجلون
الخطى ويتجاوزوننا باقصى سرعة، خائفين من ان يوقع بهم. لقد اتهمنا
بجريمة مهرجان "الاذى"، على اساس تشكيل عصبة.
كان هذا غير واقعي البتة وقريباً جداً من شكل الاختلال العقلي
الجماعي الى حد لم استطع لا انا ولا ويلز ان نرتب لقاء في باريس.
يذهب هو في طريق. انا اذهب في طريق آخر. عندما يدخل المطعم يخبره
المالك بأنني قد تركت للتو، والعكس بالعكس. كلانا نكره الهاتف.
باختصار، اصبحت اجتماعاتنا ما يجب ان يقال عنها: معجزة. وتحصل
المعجزة عندما يجب ان تحصل.
ساترك الامر لبازان لكي يخبركم بالتفصيل حول جسم متعدد الجوانب من
العمل، الذي لاينحصر عمله في صناعة السينما، لكن في الصحافة، نكتة
الهبوط المريخية السريعة وانتاجه لفيلمي "يوليوس قيصر" و "حول
العالم في 80 يوماً" قد لعبت كلها دوراً كبيراً. اردت تقديم رسم
سريع لصديق احب واحترم والذي هو عبارة عن حشو في الكلام حيث يكون
اورسون ويلز معنياً، بما ان صداقتي واعجابي هي نفسها واحدة والشيء
ذاته.
علم جمال السينما..(السينما الصافية) أنموذجاً
علاء مشذوب عبود
إن المرحلة في التنظير الجمالي التي استغرقت قرنين من الزمان قد
انقضت بنا الى أن الخبرة الجمالية والنتاج الجمالي من بعدها ليسا
مجرد إحساس آلي بالموضوع وعكسه بطريقة جامدة، وبالتالي فلم تعد تلك
المعطيات الطبيعية إلا مجرد حوافز ينطلق منها الفنان لخلق صور من
ابتداعه هو نفسه، فالتنظير الجمالي الحديث بمجمله أدى الى رفض
التقليد أو المحاكاة بدعوى أن المهم في الفن هو تلك الرغبة العارمة
في خلق نسق من الصور الحيوية على حدِ تعبير (هربرت ريد).
أما (بيكاسو) فيقول (إن الفن كما هو معروف ليس هو الحقيقة لكنه
كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة أو على الأقل تلك الحقيقة التي كتب لنا
أن نفهمها)، والواقع أن التنظير الجمالي كان مرفوعاً الى هذا
الموقف لا لمجرد التأملات في الفن حسب، ولكن من منطلق الثورة
الصناعية التي غيّرت من نظرتنا كليـاً الى العالم فلم يعد الفكر
البشري على تلك الثقة الراسخة بمفهومها عن الكون، بل أن النظرة
القديمة قد اهتزت من جذورها بعد اكتشاف الذرة كحجر أساس في بناء
الكون ونظريات النسبية والكم التي فتحت الباب على مصراعيه لنظريات
لا يعلم أحد الى أين ستنتهي...إلا أن مهمة الفنان الحديث كما يقول
(جون جبرت) لا تنحصر في محاكاة ما يريد إبداعه فالواقع أن الفنان
لا يقلـِّد الظواهر وإنما الظاهر هي النتيجة التي يتوصل إليها،
فلكي يكون التصوير محاكاة أو تقليداً ينبغي له عندئذ أن يتناسى
الظواهر. ويرى الباحثون أن هذا القول يعبـِّر عن واقعية جديدة
يفسرها (باك): بأن المسألة في الفن لم تكن يوما في الفن التشكيلي
أو الشعراء أو الموسيقى، مسألة تمثيل شيء ما وإنما المهم هو خلق
شيء مؤثر جميل أو دراماتيكي وهذا أمر مختلف كل الاختلاف.
وبهذا المعنى يكون تصوير الطبيعة كما هي خيانة للحقيقة وللطبيعة في
آنٍ معا، بل لابـد من مستوى معين من التجديد يقترب بنا من الحقيقة
وهكذا تذوب الفواصل بين الطبيعة والتجريدية كما تشير مقولة الفنان
التجريدي (بيت موندريان) التي تنص على : أن الفن التجريدي يتعارض
مع التصوير الطبيعي للأشياء ولكنه لا يتعارض مع الطبيعة نفسها كما
وقع في ظن الكثيرين .
وهكذا نرى أن معظم الفنانين المعاصرين يميلون إلى رفض النظرية
التقليدية في الفن وهي تلك النظرية التي تقول بمحاكاة الطبيعة.
ولما بقي حلم الحركة يراود الإنسان منذ اللحظات الأولى التي وصلت
فيه الإنسانية الى مراحل النضج حتى العقد الأخير من القرن التاسع
عشر، برغم محاولاته المستمرة في فن الرسم عن طريق خلق الإيهام
بالحركة عبر لوحات عـدة لنفس الموضوع "ففي مكان ضيق ووحيد واكب
الفنان لحظات متتابعة من اليمين الى اليسار: القديس دنيس واقفاً
أمام النطع، ثم راكعاً وقد حزَّ في عنقه سيف الجلاد، وأخيرا جثته
ممددة وراء النطع وقد تدحرجت الرأس الى المنظر القريب في مقدمة
الرسم، وهناك أذن واحدة تشكيلية كبيرة ... مع وجود تتابع
درامي"القديس ثلاث مرات" وما أن اكتشفت السينما كصناعة حتى حققت
الإبهار من خلال خرق القوانين الفيزيائية عن طريق التلاعب بالزمن
من خلال الخدع السينمائية (التسريع والتبطيء) بالحركة، ومن ثم
قدرتها العجيبة على بناء واقع جديد (الماوراء واقع) من خلال تجسيد
الأحلام والهلوسات والجنس والفوضى والأشباح ...الخ. إن تجسيد
الحركة من خلال واقع مرئي جعل الإنسان في ذلك الوقت يقف أمامها
وعلامة التعجب تدور في ذهنه.
وبرغم أن البعض كان يعـد الكاميرا آلة تسجيل، تشبه في عملها
المسرح، إلا أن الأخوة لوميير الذي صنع سنة 1895 بضعة واثنى عشر
فلماً، قد تميزوا في تسجيل بعض الأفلام من أهمها وصول القطار،
والرشاش المرشوش، اللذان نالا شُهرة حتى أن الفلم (وصول القطار)
أحدث الرعب في قلوب الجمهور عندما تقدم من أقصى الشاشة الى
أمامها... وخلال عمر ناهز الثالثة والسبعين عاماً أخرج ميلييه
(1861- 1938) قرابة خمسمائة فلم، كلها من نوع الأفلام القصيرة لم
يبقَ منها سوى خمسين، أحسنها هو فلم (رحلة الى القمر) عام 1902،
ومثلهما الكثير.
وإذ بدأت السينما تكتمل النضج بعد أن تخصص بعض الفنانين في مجال
الصورة المتحركة (السينماتوغراف) وتركهم للعمل في المسرح، ومن ثم
بدأت تتحول تدريجيا السينما من الارتجال الى اكتشاف جوانبها الفنية
مثل المونتاج، وكتابة النص ومن ثم وجود مخرج وممثلين، عندها حدث
تحول جوهري في هذا الفن الوليد، بعد أن ركزت أغلب أركانه في ذلك
الوقت باستثناء الصوت واللون في هذا الوقت، وراحت السينما بعد أن
شاعت في العالم الغربي بعمومه تدور كاميراتها لتسجل آلاف الأفلام،
فقد سجل "أول فلم كاوبوي حقيقي للمخرج (إدوين إس.بورتر) بعنوان
سرقة القطار الكبرى (1903) ... ومن بين أبطال ذلك الفلم (جلبرت إم.
أندرسون) (1883-1971) ...الذي لعب دور شخصية (برونكو بيلي) في ذلك
الفلم، وهي شخصية ابتدعها بالأصل الروائي (بيتر بي. كاين) لروايته
(برونكو بيلي والفتى) (1908) مستحدثاً بذلك أول بطل كاوبوي سُجلت
مغامراته فيما لا يقل عن 300 فلم قصير " .
وكانت كل تلك الأفلام قد صنعت من أجل التسلية والمتعة، ومن ثم
اعتبارها كسلعة ينتظر من ورائها الربح، وبالتوازي مع ذلك الفهم،
خرجت مجموعة ممن يهتمون بعلم جمال السينما، تطرح مجموعة من
الأسئلة، هل أن غائية السينما هو نسخ الواقع، أسوة بالفنون الأخرى
باعتبارها الفن السابع كما أطلق عليها ذلك (كانودو)، الذي يحتوي
الفنون الستة والتي تنحل من الواقع مادتها أم أن لها القدرة على
تخطي ذلك الواقع الى الحلم؟
"ففي عام 1925 قامت حركة طليعية في فرنسا، معادية للسينما الوصفية،
التي تعتمد على الحكاية والسرد القصصي، وراحت هذه الحركة تشيد
بالصورة على اعتبارها غاية في ذاتها، وبدأت تهتم بالفلم التجريدي
وترعاه، وعُرفت هذه الحركة باسم (السينما البحتة) التي لا تعتمد
على الأدب أو المسرح، وإنما تعتمد ذاتيتها وجوها الخاص، الذي أعطى
مجالا حقيقيا، لانطلاق الخيال السينمائي البحت، وقد عُرفت في بعض
الأحيان باسم (السينما البصرية) لأنها تعتمد على تدرجات الضوء بين
الظل والنور وعلى الإيقاع والشكل، وكلها وسائل بصرية خالصة مثل
(البالية الميكانيكي) للمصور فرناند ليجه
Ballet mecanique par Fernand Leger
و(العودة الى العقل) للمصور
Le Retour a Ia raison par Man Ray.
والسينما الخالصة قريبة الشبه جداً، بما أسماه دزيخا فيرتوف
Dziga Vertov
في التاريخ نفسه تقريبا بعين السينما أو سينما العين. والفلم
المطلق يتضمن رسوما وتشكيلات متحركة، قد لا يعبر الواحد منها عن
معنى أو تعبير، ولكنها في مجموعها تحمل معنى وتعبيراً عن جو نفسي
أو خيال معين، مثل المرحلة الأولى من فلم (فانتازيا) لوالت دزني
عام 1941".
ومن الذين تبنوا هذا المفهوم (السينما الصافية) هم: آبيل غانس،
ومارسيل شووب، وجان أبشتاين، ورينيه كلير، وأيلي فور، وجرمين دولاك
والأخيرة تقول في" كتابها (الأفلام البصرية واللابصرية: إن للسينما
والموسيقى رابطاً مشتركاً: حيث بإمكان الحركة وحدها أن تخلق
التأثير المطلوب عبر إيقاعها وتطورها، تلك هي قناعة جرمان دولاك
الأساسية (أن الحركة في اتساعها هي التي تخلق البُعـد الدرامي) وهي
بهذا تصل الى مفهوم الحركة الصافية، التي تكون، بمعنى ما، متحررة
من كل تجسد مفرط في ماديته يؤدي الى الهبوط بها. (إن التعبير الذي
ينبغي الوصول اليه يجب أن يبزغ وحسب من التناسقات البصرية
الرؤيوية، يجب البحث عن التأثير المطلوب في المعنى البصري وحده" .
وقد انضوت تحت عباءة الموجة الجديدة للسينما الطليعية مجموعة
مدارس، منها المدرسة الدادائية التي انبثقت عن المدرسة التكعيبية
التي طوّرت فكرة التمزق ليس في الرسم والنحت وحدهما ، بل في الأدب
والسينما، وهي في كل تنظيراتها تعـد متطرفة حتى عُدَّ أصحابُها
مجانين، ومن الذين أنتجوا أفلاما تحت المدرسة الدادائية هم: المخرج
(ميل بروكس) وفلمه (السروج الملتهبة) والمخرج (نورمان ماكلارن)
وفلمه (الجيران)، والمخرج (مان راي) وفلمه (العودة الى العقل)،
والمخرج رينيه كلير وفلمه (بين الفصول) والمخرج فلانارد ليجيه
وفلمه (الباليه الميكانيكي)...الخ.
وكذلك المدرسة السريالية التي لا تختلف كثيرا عن المدرسة
الدادائية، في اشتملاها على رسامين وكتـّاب بالإضافة الى صانعي
الأفلام، "وربما كان (أندريه بريتون) هو الشخصية المركزية في
الحركة الجديدة وهو عالم نفسي وشاعر أصدر البيان السريالي (ما بعد
الواقعية) عام 1924" . ومن أهم مخرجي هذه المدرسة هم لويس بويونيل
وسلفادور دالي (الكلب الأندلسي) وجان كوكتو (دم شاعر).
أما رينيه شووب فيلحُ "على واقع أن الجمال ذا الدلالة التي تتمتع
به الصور المتحركة، بإمكانه أن يكون مستقلا عن الموضوع وعن الوصف،
بحيث تكون مهمته إنجاز بُعـد تشكيلي للديمومة الزمنية. إن الأفلام
تحتوي (على شكل حركات، على لا نهاية داخلية في اللغة التي تشكلها
الحركات) ومن الطبيعي أن يكون هذا الكاتب قد وصل الى حـد التفكير
بأنه بدلا من الفلم السائد المنبني على فعل درامي، يفضل فلماً تكون
شخصياته الوحيدة كتلات من الضوء منظوراً إليها على شكل تركيبات
مؤثرة.. دراما خالية من أي تعبير عاطفي، تتطور عبر التعارض بين
الأضواء التي تحل كميتها العجائبية محل كل تعبير" .
لا يزال ينتج أفلاماً ممتازة برغم أنها ليست طليعية متطرفة كما
كانت في العشرينات والثلاثينات" .*إلا
أن هذه التنظيرات كلها كانت عندما كانت السينما بلا صوت وبلا لون،
بالإضافة الى غياب التطور الحقيقي لحياة الإنسان التقنية بكل
تداخلاتها العلمية إبتداءً من التلفزيون وصولا الى الإنترنيت
والقادم أعظم..ومع ذلك استمرت هذه الحركة الطليعية التي منها
السينما الصافية بعد ذلك "فقد بدأ (جان كوكتو) و(هانز ريختر) مثلا
صناعة الأفلام في العشرينات ولم يتوقفا إلا في الستينات، (لويس
بونيويل)
وفي الختام أعتقد أن مثل هذه الموجة الجديدة وبالخصوص (السينما
الصافية) من الصعب أن تلقى لها رواجاً جماهيرياً وأكاديمياً يدفع
أجرة التذكرة ليرى إرهاصات بعض المخرجين ، فمن الصعب اليوم إنتاج
فلم ينضوي تحت عنوان (الفلم المجرد) الذي ليس فيه محتوى حقيقي
وإنما يتكون من أشكال (بحتة)..فقد أصر ريختر على أن الأقرباء
الطبيعيين للفلم ليس الأدب والدراما وإنما الفن التجريدي والرقص
والموسيقى التجريديين، مثلما من الصعب أن يجد له منتجين بعد أن
أصبحت السينما صناعة مُكلفة، ولكن كان لزاما على المتخصصين أن
ينيروا صفحة مهمة من مراحل التحول الذي مرت بها السينما هذا الفن
الكبير، ولا زالت تلك المرحلة من الموجة الجديدة مستمرة برغم إنها
يكاد ينحصر وجودها في أميركا وبعض دول أوروبا.
السينمائي صالح الصحن وحديث عن فيلم "سـر القوارير"
قحطان جاسم جواد
حقق فيلم "سر القوارير" نجاحاً طيباً عند عرضه في صالة المسرح
الوطني بحيث أثنى النقاد عليه على نحو أشادوا به كثيرا. الفيلم من
تأليف وسيناريو وحوار القاص عبدالستار البيضاني واخراج الدكتور علي
حنون وأداء مجموعة من الفنانين منهم آلاء حسين ومازن محمد مصطفى ود
فاضل خليل وسامي قفطان وآسيا كمال وأمير البصري وآخرون.
من بين الذين يحتفظون برأي مهم في الفيلم وتفاصيله الدكتور
الأكاديمي والكاتب صالح الصحن . التقينا به للحديث عن الفيلم في
أكثر من جانب، فبدأ الدكتور صالح الصحن حديثه عن فيلم سر القوارير
للمخرج د. علي حنون فقال:
يستطيع المتذوق المتلقي أن يقيس مساحة حدود رؤية المخرج ودرايته
الحرفية بعمله عبر الثراء الذهني والبصري الواضح في تصميم وتنويع
اللقطات بحجوم متعددة وبتنويعات حركية ذات زوايا واتجاهات تلاحق
وتناغم الحركة والفعل التعبيري بانسجام عالٍ وبما يحقق المشاهد
الكبيرة التي تتطلب رسماً مسبقاً في ادارة وحركة الممثلين
والكاميرا والمكونات ككل.
·
ماذا عن تقنيات الصوت في الفيلم؟
- كان الصوت في سر القوارير حاملا للقوة التعبيرية وعلى وفق
المسامع والذائقة الصوتية المثلى بما في ذلك بناء الموسيقى
التصويرية وحسن التحكم في تدرج وانسجام الفعل الصوري مع المجرى
السمعي المؤثر باختيار موسيقى تحمل شغف الروح ومشاعرها ومعاناتها
ودفقها التعبيري باحساس عالٍ وبانفعال كبير وقد اجاد الموسيقار
دريد فاضل الخفاجي في الحفاظ على البُنية السمعية النابضة في
الفلم.
·
كان الإخراج يتمتع بنظرة شاعرية للأحداث، فكيف ترى ذلك؟
- كان المخرج يمثل دور (الشاعر) الذي صمم الشكل البصري الباهر
وحافظ على تنويعته المتدفقة في منظومة مونتاج بنائية مندفعة في
التيه الذي تختفي فيه ممكنات السرد ومثابات العقدة التي اعلن
المخرج يقظته في وضع الحلول الملائمة لها في التوقيت الدرامي
الحتمي للزمن وبما يعزز تشغيل وحدة الوظائف السردية للمحتوى
الدرامي للقصة جماليا، وهذا ما تحقق في السيطرة على ادارة
المتغيرات السردية وتفرعاتها المتعددة والمنبثقة من العقدة الرئيسة
فضلا عن مشاهد الاسترجاع الحتمية التي تلاحق الفكرة بحثاً عن خيوط
السرد الفلمي ومعطيات الحكاية وعقدتها المتشعبة .
·
هناك تهمة لمخرجي التلفزيون عندما يعملون في السينما بأنهم يظلون
أسيرين لذلك، فكيف وجدت عمل المخرج في الفيلم بهذه القضية بالذات؟
- تخلص المخرج الى حد ما من التهمة الدائمة التي لاحقت أغلب
المخرجين بالوقوع في شرك السمة التلفزيونية لأفلامهم السينمائية
التي عدها البعض انها عيباً لا بد من التخلص منه ,وبرغم ان فكرة
الفلم لم تتبنَّ المنحى الفلسفي والاقتصار على فكرة الدراما
الاجتماعية التي اجاد كتابتها الكاتب عبدالستار البيضاني, فقد عكف
المخرج على رسم وتصميم حكاية سينمائية باشكال وتكوينات باهرة في
اللقطة والمشهد وبتقنيات عالية تجاوزت الحدود التقليدية البسيطة
بفعل دقة التحكم بمسارات السرد وتركيب المشاهد وزمن اللقطة ومقدار
حاجتها من اللون والضوء والحركة التعبيرية ودرجة تفاعلها مع
الموجودات .
·
كيف رأيت أداء الممثلين في الفيلم ؟
- يشكل حضور كادر التمثيل القدير المحترف والمتمكن من الأداء
الفــذ علامة بارزة ومهمة من علامات فلم سر القوارير بما قدمه
الفنان القدير سامي قفطان وخبرته السينمائية والتعامل مع الكاميرا
وبما يقابله بالتوازن الشيخ التاجر الذي جسده الفنان القدير د.
فاضل خليل واحتواء المشهد بدفق تعبيري ثــر، اما أداء الممثل النجم
مازن محمد مصطفى فقد طغى على المشهد البصري في التجسيد والأداء
والثقة بالتوازن بتحريك منظومة المشاعر والعواطف وتأجيج الصراع
بهيبة عالية برغم دنيويته الليلية. وجاء السحر كعادته متمثلا
بالنجمة القديرة المتالقة آلاء حسين بدور مناهل التي تبوَّأت فيه
سلطة المشهد الدرامي وعنفوان تحريكه من خلال بهاء الأداء التعبيري
الدقيق وقوة التفاعل مع الفعل والحدث والشخصيات ما خلق منها ذات
الشخصية النموذجية المستوفية لاشتراطات بنائها المنهجي المتمثل
بالقوة والحكمة والصبر والحب والتوازن والمعرفة والتجرد من الرذائل
والانكسارات والأغراض النفعية. ومما يلفت النظر في سحر الأداء
المتميز وحرفيته المعهودة كان متجسداً لدى الفنانة القديرة آسيا
كمال في دور زوجة المزارع وبحدود لا يتعدى اكثر من مشهدين ولكنها
خلقت من الحميمية الثائرة بفعل الحيف الذي أصابها جراء جشع التاجر
وبخس بضاعتها والتي قدمت طاقات تعبيرية هائلة من الحضور الملفت بما
يدعنا ان نقول إنها حقاً سجلت الدرس الاحترافي المطلوب في التمثيل
والقائم على طبيعة الدور وليس على عدد المشاهد وكثرة اللقطات بحسب
مناهج التمثيل المعروفة.
·
وهل هناك ملاحظات أخرى حول الفيلم؟
هناك بعض الملاحظات التي يمكن الإشارة إليها وهي :
- تجاهل النص الفلمي النموذج والصفة الدينية في مجتمع الأحداث
أفراداً ومؤسسات كجزء من منظومة البنية الاجتماعية آنذاك، وتحفظ
كثيراً من الإشارة الى الصلاة والجامع وما يُشير الى ذلك من
أيقونات باستثناء طرحه شخصية دينية (شكلا) جسدها الممثل طلال هادي
وباطار لا يخلو من الطرفة والبساطة .
- كعادة أغلب الأعمال العراقية الدرامية لم يتخلص الفيلم من
اشكالية ضبط النطق باللهجة المحلية سواء كانت من الشمال او الجنوب
او الغرب او الوسط وهذا ما حصل في بعض الهنات في النطق والتعبير
واختلاف المفردات .
- يبقى زمن الفيلم ( ساعتان وعشرون دقيقة ) بحاجة الى قسطرة
مونتاجية قدر الإمكان لحذف بعض الإطالات التي احتلت أزمنة يمكن
اختصارها بما يحافظ على جسد الفيلم وبنيته الجمالية. |