“الإمبراطور”
عشر سنوات على الرحيل
أفنان فهيد – التقرير
كأننا بالأمس القريب فُجعنا بخبر رحيله. في السابع والعشرين من هذا
الشهر يكون قد مرّ على وفاة جوكر الأفلام عشر سنوات، ما أسرع
الأيام!
ولد “أحمد زكي” في أحد الأحياء الفقيرة بمدينة الزقازيق محافظة
الشرقية، يوم الأربعاء 18 نوفمبر لعام 1949 في أسرة متوسطة الحال.
توفى والده قبل أن يكمل الثانية من العمر، ثم تزوجت أمه، فانتقلت
مسؤولية تربيته إلى جدته.
في طفولته كان يتمنى “أحمد زكي” الالتحاق بكلية الشرطة، إلا أن
أحلامه ذهبت أدراج الرياح؛ ففي المرحلة الإعدادية لم يتمكن من
الحصول على الدرجات التي تؤهله لدخول الثانوية العامة، فاضطر
للتوجه إلى التعليم الثانوي الصناعي. ومن حسن حظه أن مدير المدرسة
وقتها كان “كامل إسماعيل نجم”، الذي كان فنانًا ورسامًا. يعشق
تصميم ديكورات المسرح، فقرر عمل مسرحية بالمدرسة، واختار إحدى
مسرحيات “نجيب الريحاني” و”بديع خيري” ليقوم الطلبة بتمثيلها، ومن
ضمنهم طبعًا الطالب “أحمد زكي”. حضر تلك المسرحية مفتش المسرح
بالشرقية وأعجب بالعمل إعجابًا شديدًا وأشاد بتمثيل الطالب “أحمد
زكي”، وقرر أن تشترك في مسابقة المدارس على مستوى الجمهورية، لتحصل
المسرحية على الكأس، وتذهب جائزة أحسن ممثل لـ “أحمد زكي” لتكون
هذه أول جائزة يحصدها في حياته عن أدائه التمثيلي.
وقع “زكي” في عشق التمثيل، فذهب إلى خاله “عم صقر” الذي يعمل
نجارًا بمسرح القاهرة للعرائس علّه يتوسط له لدخول معهد السينما
بدبلوم الصنايع -المعهد العالي للسينما لا يقبل سوى حملة الشهادة
الثانوية العامة-، فرحب به خاله ترحابًا شديدًا، ووعده بمساعدته،
وذهب به إلى “محمد بركات” الذي أخذه بدوره وقدمه إلى “زكي طليمات”
وطلب منه تمثيل بعض المشاهد فأداها بمنتهى البراعة؛ فوافق على
استثنائه من القاعدة.
في أثناء دراسة “أحمد زكي” بالمعهد، قُدِّم على مسرح البالون،
استعراض القاهرة ألف عام احتفالًا بمرور 1000 عام على إنشاء
القاهرة على يد المعز لدين الله الفاطمي. وتم الاستعانة بطلبة
المعهد العالي للسينما للعب دورالكومبارس. وفي أثناء هذا العرض
تغيب بعض النجوم الكبار، فكان المخرج الألماني “إيرفن لايستر” يسند
دور النجم المتغيب إلى “أحمد زكي” الذي كان يؤديه بمنتهى البراعة
كأنه النجم نفسه، فأطلق عليه “لايستر” لقب الجوكر كناية عن تقمصه
الأدوار بسهولة.
فيما بعد وعندما لعب أحمد زكي دورًا صغيرًا في مسرحية “هاللو
شلبي”، ظهرت قدرته على تقمص الأدوار واستحقاقه للقب الجوكر؛ ففي
المسحرية، لعب دور خادم في أحد الفنادق، يتمنى الانضمام للفرقة
المسرحية المقيمة بالفندق ولكي يبرهن لهم على موهبته تقمص دور
“محمود المليجي” في أحد الأفلام، وما أن تقمص الدور ضج المسرح
بالتصفيق والتحية.
ثم جاءت نقطة التحول الكبرى في حياة “أحمد زكي” في مسرحية “مدرسة
المشاغبين”، التي عرّفته للجمهور المصري والعربي.
وبعد النجاح الساحق للمسرحية؛ تشجع المنتج على تقديم مسرحية جديدة
بنفس النجوم السابقة، إلا أن بعضهم اعتذر. لكن، “العيال كبرت” نجحت
كسابقتها، ولعب فيها “زكي” كوميديا بصورة مبهرة دون افتعال، فطغى
أداؤه على نجوم الكوميديا المشاركين في المسرحية.
أما بدايات “أحمد زكي” في السينما فقد كانت عبر أدوار بسيطة؛ لأن
المخرجين لم يروا فيه نجم شباك أو بطلًا أوحد. فعندما تم ترشيحه
لبطولة فيلم “الكرنك” اعترض عليه “رمسيس نجيب” بسبب مظهره! وأنه من
غير المعقول أن يقف أمام “سعاد حسني” ويطالبها بالوقوع في غرامه!
ظل “أحمد زكي” يلعب الأدوار الصغيرة في أكثر من فيلم إلى أن دارت
الأيام وقام ببطولة أول فيلم أمام “سعاد حسني” وهو فيلم “شفيقة
ومتولي”، والذي رشحه وأصر عليه هو “صلاح جاهين” كاتب سيناريو
الفيلم.
ومن بعدها كانت ولادة “أحمد زكي” كنجم حقيقي لا خلاف عليه.
من بعدها، توالت أدوار البطولة على “أحمد زكي”، ومنها البطولات
التليفزيونية مثل مسلسل “حكايات هو وهي” الذي كتب “صلاح جاهين” له
السيناريو، وقام بدور البطولة أمامه النجمة “سعاد حسني” أيضًا. ذلك
المسلسل الذي حقق نجاحًا مدويًا وسمح لـ “زكي” أن يُقدم مُختلف
الأدوار، بسبب انفصال حلقاته.
وفي خلال مسيرته الفنية، قام “أحمد زكي” بأداء شخصيات عديدة؛
سنسلط الضوء على بعضها في هذا التقرير.
موعد على العشاء..
“شكري” مصفف الشعر الذي وقع في غرام زبونة الصالون “نوال” لا تبتسم
أبدًا وشرعت في البكاء ذات مرة. لتسنح له فرصة التصريح بحبه لها
بعد طلاقها، لتنتهي هذه العلاقة بمقتل “شكري” على يد طليق “نوال”.
وبالرغم من أن شخصية “”شكري” شخصية ثانوية والزوج “عزت” هو
الشخصية الرئيسة في الفيلم، إلا أن نوعًا من الخلط حدث للمشاهد؛
فالكثيرون اعتقدوا أن الفيلم من بطولة “سعاد حسني” و”أحمد زكي”
وليس “حسين فهمي”؛ حيث لم يخلُ بالرغم من صغره من عبقرية لا
محدودة.
البرىء..
وأحمد “سبع الليل” مجند الأمن المركزي الذي تم تلقينه على أن من
يقوم بالمظاهرات أو يعتقل سياسيًا أحد أعداء للوطن، إحدى علامات
السينما المصرية.
فحياة “سبع الليل” كانت تسير كما أراد الكبار، إلى أن جاء اليوم
الذي وجد نفسه يضرب فيه، “حسين أفندي” ابن قريته الذي شجعه على
الانضمام للتجنيد وأفهمه أن ذلك خدمة للوطن. ليبدأ “سبع الليل” في
إدراك أن من داوم الاعتداء عليهم بأمر من رؤسائه، ماهم إلا أبناء
الوطن الشرفاء الذين يملكون رأيًا مخالفًا لرأي الحكومة.
شخصية “سبع الليل” خلقت ليؤديها “أحمد زكي” فلا نستطيع أن نتخيل أن
يحل أحدًا محله. فملامح “زكي” المصرية السمراء الشبيهة جدًا بملامح
جنود الأمن المركزي المجلوبين من الريف المصري أهلته لتأدية هذا
الدور، بالإضافة إلى عبقريته في أداء شخصية الجاهل الذي أدرك فجأة
أنه لم يخدم الوطن قط، بل آذاه وضرب أبناءه، وأن حياته في المعسكر
ماهي إلا كذبة، وأنه مضطر لإكمال الكذبة طوال فترة تجنيده. البريء
الذي دخل المعسكر على سجيته النظيفة، تحول فيه تدريجيًا إلى قاتل،
فأولًا نجده ينحت عود الخيزران ليصنع نايًا، ثم يأمره الضابط أن
يلقي به من أعلى برج المراقبة! ثم في نهاية الفيلم الممنوعة من
العرض، يفتح الرصاص عشوائيًا على الضباط وسيارة الترحيلات التي
جلبت شبابًا ونشطاءً آخرين.
سواق الهانم.. 1994
من الأدوار الخفيفة أو الكوميدية التي قام بها “زكي” كان دور
“حمادة” في فيلم “سواق الهانم”، والذي عمل سواقًا وحلالًا لمشاكل
الأسرة الأرستقراطية. والذي أوشك على الوقوع في أخطائهم التي حاول
أن ينهاهم عنها، قبل أن يتدارك الموقف ويعود لحبيبته السابقة ويترك
ابنة الأسرة الغنية.
اضحك الصورة تطلع حلوة.. 1998
“سيد” مصور الفوتوغرافيا الذي ترك منزله والأستوديو الخاص به في
قرية “هيهيا” ورحل مع والدته وابنته التي التحقت بكلية الطب إلى
القاهرة، ليعمل كمصور متجول، ثم يتعرض لأزمة ابنته التي بدأت في
الخجل من عمله، ثم مشكلتها العاطفية.
جسد “زكي” شخصية الفقير عزيز النفس، الذي لا يخلو من المبادئ، ولا
يتخلى عن شرف المهنة أيًا كان من يأمره بذلك. كما لا يتخلى عن حق
ابنته حتى لو ذهب لأخذه من عرين الأسد نفسه.
معالي الوزير.. 2002
من الجندي البريء إلى الوزير الفاسد. الذي وصف نفسه في أحد مشاهد
الفيلم “ابتديت مظلوم، أصبحت ظالم”؛ ففي البداية تم تجنيده في
الجامعة للإرشاد عن زملائه السياسين، ثم أصبح وزيرًا بسبب تشابه
أسماء بينه وبين شخص آخر كان المفترض أن يتولى الوزارة.
الشخصية التي جسدها “زكي” في الفيلم كانت شخصية الوزير الفاسد الذي
شعر بالذنب. ليس لأن ضميره استيقظ فجأة؛ بل بسبب الكوابيس التي ظلت
تلاحقه كلما سقط نائمًا، هذا الصراع الذي أدّاه “زكي” ببراعة
منقطعة النظير، فالوزير الذي يعاني بسبب أفعاله، لا يتوقف عن
اقتراف المزيد منها؛ بل تطوع له نفسه، قتل مدير مكتبه الذي يعرف
بصراعه الداخلي.
تجسيد الشخصيات الحقيقية..
تفوق “زكي” على نفسه في تقمص شخصية “عبد الناصر” و”أنور السادات”
في فيلمي “ناصر 56″ و”أيام السادات”، وآخر أعماله فيلم “حليم”
والذي توفى قبل أن يكمله. كما برع في تجسيد شخصية الأديب “طه حسين”
في مسلسل “الأيام”. صورته طغت على صورة الشخصيات الحقيقية، وإن دل
ذلك على شيء فإنما يدل على مدى براعته في تقمص الشخصية بكل خلجاتها
وتفاصيلها الصغيرة؛ وذلك بسبب اتباعه لمدرسة الـ
Method Acting،
والتي أسسها المخرج والممثل المسرحي الروسي “قسطنطين
ستانيسلافسكي”؛ فـ”أحمد زكي” هو الممثل الوحيد في مصر والوطن
العربي الذي يتبع هذه المدرسة، سواء بقصد أو بدون قصد. فيحكى أنه
كان يندمج في شخصية الدور الذي يقوم بتقمصه حتى في غير ساعات
التصوير، ولا ينفصل عن الشخصية إلا بعد شهور طويلة من الانتهاء من
الفيلم.
فمثلًا، أثناء تصوير فيلم “زوجة رجل مهم” تقمص شخصية ضابط أمن
الدولة، وصار يصيح في العاملين كما يفعل “هشام” في الفيلم.
أما بعد انتهائه من شخصية “السادات” فظل يتحدث بطريقته مدة طويلة.
يروي “محمود سعد” أنه ذهب في إحدى المرات لزيارة “أحمد زكي”، فوجده
نائمًا على الأريكة مرتديًا بذلته، وبجواره عدد كبير من أكواب
القهوة، فجلس بجانبه حتى يستيقظ. وعندما فعل؛ ألقى عليه السلام
وخرج لإكمال تصوير أحد المشاهد. ثم أدرك “سعد” بعد ذلك أن ما شاهده
لم يكن سوى مشهد في فيلم “ضد الحكومة” وكان “زكي” قد اندمج فيه قبل
تصويره.
كما يُحكى أيضًا أن “زكي” عندما اكشتف حقيقة مرضه أراد أن يزامن
بين موته الحقيقي وموت “حليم” في الفيلم؛ إلا أن الموت حال بينه
وبين ذلك فمات قبل إنهاء الفيلم.
مات “أحمد زكي” وهو يجسد آخر شخصية وهي “عبد الحيلم”؛ إلا أنه إلى
الآن -وبعد مرور عشر سنوات على رحيله- لم يخرج أحد بفكرة إنتاج
-مسلسل أو فيلم- عن حياة الإمبراطور. بالطبع ليس تجاهلًا أو
نسيانًا، ربما فقط لم يتوفر إلى يومنا هذا مَن يؤدي دوره ويكون
بمثل موهبته أو حتى يقاربها.
مسيرة “أحمد زكي” حافلة بالأعمال العظيمة التي لن نستطيع ذكرها في
هذا التقرير، ولن نستطيع أن نغفلها أيضًا. فمثلًا، دوره في “النمر
الأسود”، “كابوريا”، “استاكوزا”، “مستر كاراتيه”، “زوجة رجل مهم”،
“البيه البواب”، “البيضة والحجر”، “الحب فوق هضبة الهرم”، “شادر
السمك”، “ضد الحكومة”، “هيستريا”، “أربعة في مهمة رسمية”، وغيرهم
من الأدوار. وفي الحقيقة فإن أي عمل اشترك فيه “أحمد زكي” -حتى إن
كان الدور بسيطًا- فإنه يُصنّف كعمل قوي؛ فاشتراك “أحمد زكي” به،
يضفي على العمل رونقًا خاصًا كدوره في: “إسكندرية.. ليه” فبالرغم
من أن الدور صغير جدًا؛ إلا أنه كان واضحًا وخصوصًا في مشهده
الأسطوري مع “محمود المليجي”.
وإن مافضلش معاك غير قلبك مش حاتموت حاتعيش..
أصيب “أحمد زكي” في آخر أيامه بالمرض الخبيث؛ إلا أن هذا لم يوقفه
عن تأدية عمله حتى اللحظة الأخيرة، ويمكن أن نرى بوضوح مظاهر
الإعياء البادية عليه في فيلم “حليم”. وبالرغم من أن حالته الصحية
في آخر أيامه كانت قد تدهورت تمامًا؛ إلا أن جمهوره لم يفقد الأمل
في شفائه، ليخرج خبر وفاته صادمًا كما لو أنه كان صحيحًا معافى ولم
يكن يحتضر.
وبالرغم من انقضاء 10 سنوات على رحيله؛ إلا أن “أحمد زكي” لم يغب
عن جمهوره لحظة واحدة؛ بسبب شخصيته المحبوبة، وبسبب أدواره
العظيمة، لينطبق عليه بحق، تعبير الغائب الحاضر في قلوب محبيه.
مصدر معظم المعلومات الشخصية من كتاب “روائع النجوم” |