كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

أسئلة الوثائقي العشرة: الحقيقة والواقع والدعاية (1 من 3)

قيس الزبيدي 

 

(هذه الدراسة سبق نشرها في موقع "الجزيرة الوثائقية وتنشر هنا باتفاق)

تقديم

فرانسوا نيني فيلسوف ومحاضر معهد عالي وناقد سينمائي ومخرج افلام وثائقية عمل  في مجلة دفاتر السينما ومدرسة علم الجمال واستديو- فيلم وثائقي في جامعة السوربون نوفيله في باريس وكتابه الاخير الذي صدر 2009 حول "الفيلم الوثائقي وحججه" صدرت ترجمته الى الالمانية في دار نشر شيرين العام الماضي تحت عنوان: "واقعية الفيلم الوثائقي- خمسون سؤال حول نظرية وممارسة الوثائقية".

وكما سبق وأن أشرنا حينما تم نشر الأشئلة العشرة المنتقاة فرادا خلال شهور في مجلة الجزيرة الوثائقية، فإننا نأمل في أن  تكون محاولتنا "ترجمة" اجوبة المؤلف "بتصرف" تجيب أيضا على الاسئلة التي نختارها بأسلوب لا يخلو من البساطة والعمق في آنٍ واحد.  على امل أن تقدم الاجوبة لهواة السينما ومحترفيها ونقادها رؤية مُلهمة في كشف طبيعة الفيلم الوثائقي ، آفاقه وحدوده وبعض قضاياه التاريخية الراهنة الملحة.

يشير قاموس تأريخ اللغة الفرنسية، الصادر عن دار Le Robertإلى أنّ مفردة "وثائقي" مشتقة من كلمة وثيقة وقد انحدرت عام 1214 من اللاتينية documentumبمعنى "مثال، نموذج/ موديل، عبرة، تدريس، برهان  وان الاسم منحوت من الفعل docere"يُعلّم، يُدرّس" ويفيد المعنى مدرسي الطاعة، واشتق منه كلمة  Doktor  ومذهب أو عقيدة Doktrin.

تُحيلُ مفردات المصطلحات – مدرسي، مطيع، دكتور، عقيدة – إلى قضية جوهرية طُرِحت على الفيلم الوثائقي لاحقاً : قضية الدعاية " بروباغاندا". لقد ظهرَت هذه المفردة لأول مرة في التاريخ، في سياق مناهضة الإصلاح اللوثري للكنيسة الكاثوليكية . كانت كمفردة تعني  عام 1622" إشاعة الإيمان" أستخدمها البابا غريغور الخامس عشر. وفي سنوات "الكآبة الكبرى" و"تزايد مخاطر الحرب" 1930-1940، استُخدِمَ مصطلح البروباغاندا إيجابياً، بمعنىً تعليمي، كدعاية سياسية كما عند الشيوعيين وكما فعل أيضا جون غريرسون- رائد و(أب) الفيلم الوثائقي البريطاني، الذي أشاع مصطلح  وثائقي. لكن المصطلح استُخدم بشكلٍ سلبي بعد انتهاء الحرب العالمية، لأن توظيفه جرى بما يخدم  "الدعاية" للحرب، للمعسكر، للقنبلة الذرية أو للستالينية. ولننظر في الوقت عينه إلى تعبير "صناعة الثقافة"، الذي اتخذَ منحىً مُضادّاً، اعتبره أدورنو وهوركهايمر سلبياً، بشكل مطلق، ذلك أنهما رأيا فيه - في مؤلفهما "ديالكتيك التنوير" (1944/1947)- شكلاً جديداً للبربرية التجارية، يتمثّلُ اليوم  في الإنصهار بين الوزراء ورجال أعمال أو  صحفيي وسائل الإعلام الجماهيرية (السمع/ بصرية والرقمية)!

ويشير القاموس الفرنسي أيضاً إلى أن"وثائقي" تعني نصاً خطيّاً يُعتمدُ دليلاً (برهاناً) أو منوالا للإرشاد. فاستخدام المفردة يشير إلى أنها مصطلحٌ قضائي، جرى تداوله بهذا المعنى في (1690). وفي القرن التاسع عشر فقط اكتسبت المفردة معناها المستقل الخاص. ويحيلنا معناها الجديد الذي اكتسبته، إلى قضية حاسمة في الفيلم الوثائقي، ألا وهي "البرهان" من خلال الصورة. فهل يوجد مثل هذا البرهان حقاً؟ وما "الدليل" على أن لقطة معينة تحمل قيمة بذاتها؟ وهو ما يطرح أسئلة أخرى مرتبطة بعملية إنتاج الوثائقي مثل: معنى مونتاج؟ "أو معنى ما يسمى مصداقية شاهدٍ ما أو متحدث؟

تسرّب مفهوم الوثائقي استنادا إلى القاموس نفسه إلى لغة الفيلم عام 1906 عبر مصطلح Scene documetaire، ولم يستقر إلاّ عام 1915 للتدليل على فيلم بدون معالجة خيالية. وعموما أُطلق على أفلام  قصيرة او متوسطة الطول وصاحَبَ هذه التسمية مصطلح  docu، ثم اكتسبت في عام1967  جانباً سلبياً تأتى من اللغة الإنجليزية في  تسمية "المكتب القومي الكندي لإنتاج الأفلام  الوثائقية" الذي أسسه  جون غريرسون، الذي يعود له الفضل في إدخال المصطلح الإنجليزيdocumentaryالذي أطلقه على فلم روبرت فلاهرتي Moana  (1926وعرف الفيلم الوثائقي آنذاك بأنه: "معالجة خلاّقة للواقع".

يتحدث المُوالونَ للطريقة الإنجليزية في البلاغة (امتداح الشيء بضدّه) عن فيلم "خال من الخيال". فهل الوثائقي وفق هذا التعريف السلبي السابق هو  (جنس فيلم) يخلو من السيناريو والممثلين والديكورات والكواليس؟ ولكن ألا يكون مناسباً الحديث عن سينماتوغرافيا "حقيقية" كما نشأت من عدسة المصور لوميير: الحياة  كما هي أو الحياة كما في لحظتها المباشرة كما في فيلم  دزيغا فيرتوف (الرجل والكاميرا /1929)؟ أليس من الأجدى الحديث عن سحرِ اللقطةٍ، التي تُشكلُ انعكاسا مباشراً، مُستلاًّ من الزمن للحظة فريدة من العالم تسجل الزمن المنقضي وتعيد انتاجه في الزمن الحاضر؟

هناك من يؤكد، من أجل انصاف غريرسون، أنه، وحتى قبل أن يصبح مُنتجاً كبيراً، شجَّع ودعم مخرجي الأفلام الوثائقية من الشباب، وعرَّفهم خاصة على مموليه في (المكتب التجاري لصاحبة الجلالة) وحثَّ الصناعيين على إعطاء تكليفات بالإنتاج لمخرجي الأفلام الوثائقية الشبان. وكان قبل ذلك قد أخرج فيلمه "قوارب الصيد/Drifter"(1930، عن صيادي سمك الرنجة في بحر الشمال، وقام حينذاك بتثوير مبدأ الوثائقي انطلاقا من تعاليم فلاهرتي الواقعية/ الطبيعية وطريقة مونتاج إيزنشتين وفيرتوف الفنية البنائية وصاغ فيه ما عرف بـ"ملحمة البخار والحديد الصُلب" وجعله بمنزلة  تحية وإطراء لعمال البحر، وفضح  أساليب استغلالهم من قبل السوق العالمية، ذلك أنَّ حصادَ البحر يصل إلى كل  نهايات الأرض ويُجبرُ العمال، نتيجة  للمكننة، على الانصياع لمبدأ كفاءة الإنتاج الذي يسلبهم  ثمار عملهم.

أنتج غريرسون لاحقاً عدداً من الأفلام المُفعمة بالحيوية والمبتكرة،  لكنها كانت أقلُّ تأثراً بالصبغة الماركسية. واستمر يثمّن العمل الشاق ويعتبر أن العامل هو أساس الأمة والثروة الاجتماعية (خصوصا في الفيلم المشهور "بريد الليل" لبازل رايت وهاري وات 1936 ونصه الشعري لأودن وموسيقاه لبنجامين بريتن). بعد ذلك لم ينشغل في الافلام التي أشرف على انتاجها بأوضاع العمال إلاّ  لُماماً. فـ"تزايد المخاطر" في الثلاثينيات، حوّلت  اهتمامه نحو  الأمة  ونحو المجهود الحربي، أكثر من اهتمامه، اجتماعياً،  بالصراع الطبقي. ومن هنا جاء شعاره من أجل "هداية" مجموعته الصاخبة والمضطربة من الوثائقيين اليساريين: "أولاً تأتي الدعاية [بروباغندا] وثانياً يأتي الفن".

جنس سينمائي أم خاصية سينمائية؟

يزداد استخدام أداة التعريف (الألف واللام) في "الفيلم الوثائقي"، بصورةٍ عامة، ويتمظهرُ توصيف شكلٍ محدّدٍ، معترف به، يعبّرُ عن خصائصَ مُتعارف عليها لنوعٍ من الأفلام. استنادا إلى خبرتنا الحياتية، يمكننا ـ دونَ كبير عناء ـ التمييز بين فيلم وثائقي وآخر روائي/ خيالي. ولكن إنْ تعلّقَ الأمرُ بالفيلم الوثائقي فإنه فيلم يقوم قبل كل شيءٍ على تتابع الصور وموقعها وعلى تسجيلات الصوت إن امكن، كما يحصل عادةً في أي فيلم روائي.

إن أي دراسة توثيقية، هي أداةٌ  مرجعية  تُوثِّق لكتابة تأريخية : فالصفة "توثيقي" تُحيلُ إلى أن كل شيءٍ يتعلّقُ بفكرة وموضوع  الفيلم يجب أن يكون مدعوماً بالوثائق. وبمعنى الاشتقاق الاصطلاحي، فإنَّ "التوثيق" يعني ضبطَ توصيفَ نوعٍ محدّدٍ من الوثيقة أو عملية توثيقها صورياً أو صوتياً: وعليه فإن الفيلم الوثائقي هو فيلم (أو فيديو) يُميز نفسه عن الفيلم الروائي/ الخيالي كما تُميّزُ الرواية نفسها عن المقالة الأدبية ( Essay)

تنحو غالبية قواميس اللغة الفرنسية والمعاجم لمقاربة الفيلم الوثائقي وتعريفه في ضوء عنصرين أساسيين جوهريين: طابعه التعليمي، ومعارضته للفيلم الخيالي. وكما يتبدى واضحاً، فإن استخدام مصطلح الفيلم الوثائقي يرمي بضبابه على التباعد والفارق  بين مقولتي "واقعي" و"مُتصوَّر" من ناحية و"حقيقي" و"خيالي" من ناحية أخرى، وهذا ما يستبطنُ كماً هائلاً من المعضلات المعرفية (الأبستمولوجية). فالقاموس الفرنسي المتخصص والمعتمد يسميه "فيلم تعليمي يعرض حقائقَ واقعية هي (على خلاف الفيلم الخيالي) ليست من بنات  المخيّلة". وهكذا يقدم القاموس مئتي مصطلح أساسي لنظرية الفيلم "استنادا إلى ما هو متداولٌ ومتعارف عليه، فإن الفيلم الوثائقي ـ وهو فارقٌ نوعي يتعلق بالنوع ـ يتعارض مع الفيلم الخيالي . ذلك أن الأول يحيلنا إلى الواقع، في حين أن الثاني يحيلنا إلى المُختَلَق والمستنبط، أي إلى عالم وهمي".

وإذا عدنا إلى الحاضر سنرى أن غالبية الأفلام الوثائقية، خلافاً  للعصر، كما رآها الكاتب الفرنسي ريمون كينو  (Queneau)لم تكن، بل لم تعد تعليمية . ذلك أن نمط "الفيلم التعليمي" قد تقادم ولم يعد راهنا، بل تراجع لصالح الريبورتاجات الراهنة، ولصالح ما سُمّي بالفيلم الوثائقي " الخلاّق ".

فإذا كان المقصود بـ "التعليمي" أنه ينقلُ إلينا شيئاً عن العالم وسكانه، فإن هذه الصفة تنطبق كذلك على الفيلم الخيالي أيضاً. وفي هذه الحال  سيكون الفيلم الوثائقي بالتالي، فيلماً روائيا مُمِلاً - مصحوباً بتعليق!    

يرى البعض في التعليقِ خاصية حاسمة، يتميز بها الفيلم الوثائقي. وإذا عاينّا الأمرَ بجدٍّ، سنرى أن المعضلة تكمن في المفاهيم أي في "تقديم الحقائق الواقعية" و"الإحالة إلى الواقع والرجوع إليه". ومنَ السهل فَهمُ  أنَّ كثرةً من القصص الخيالية والروايات "تُحيلُ" إلى الواقع . لكن من المؤكد أنها لا تُشيرُ ولا تُحيلُ بنفس الطريقة.

في حين أن جوهر الوثائقي لا يتحدّد بالمحتوى (المعلومة)، بل بالشكل (تفاعل الكاميرا/العالم) وطريقة المخاطبة (الجادة وغير المُفتعلَة) والقدرات المطلوبة من المُشاهد. ويبدو أن مفهوم (عرض الوقائع الحقيقية) أكثرُ مناسبة في هذا المجال، إذا كان المقصود به: أن ممثلاً  يؤدي حواراً داخلياً (مونولوج)، هو في الوقت نفسه حاملٌ لما يمثله (دور شخصية درامية) وكذلك فإنه  كـ"حقيقة فعلية" (ممثلٌ فاعل- بمعنى يقوم بفعلٍ) لذا يمكننا القول بأن "كلّ فيلم خيالي يوثّقُ ما يؤديه ممثلوه".

إن لقطةً تصور كلباً لا يعُضّ، تعني بأن الفيلم يحوِّلُ الواقع (حتى المُختَلَقَ) إلى صورٍ، وبمعنىً ما، يسلبه واقعيته. فحتى وإن كانت الصورة (حقاً) لكلبٍ حقيقيٍّ، لا يمكننا القول أنه كلبٌ حقيقي. أنها إعادة إنتاج/ تمثيل. ففي اللغة اليومية المتداولة، الصورة هي صورة، ولا يجري التفريق بين "صورة حقيقية" و" صورة  مُتَخيّلة".

الفارقُ الوحيد الواضح هو بين" اللقطة الواقعية " وبين لقطة مُركّبَة (مُصنَّعة).  والصعوبة تكمن في أنّ "الواقعي" يشمل في الوقت ذاته المُختَلَق والمُتخيَّل،وفي الحقيقة أننا عندما نسرِدُ قصصاً، فإننا نحلم . ذلك أنّ أحلامنا وخيالاتنا هي جزءٌ من واقعنا، حتى وإنْ أردنا ألاّ نخلط  بين الحلم والواقع. وكانت أول مقاربة معروفة للحلم، رأت "أن الواقع متضمنٌ في الحلم، والحلم متضمنٌ في الواقع". وعلى العكس من  ذلك، تُعتبر المُخيّلَة – سواء في الفن أم السياسة-  قوةً خلاّقة، بإمكانها تغيير الواقع. لنتذكر بعض الشعارات، التي رُفِعت عام 1968 " السلطة للمخيّلة!" و" خذوا أحلامكم إلى الواقع".

وكما يرى المؤرخ الفرنسي  Paul Veyne  فإنه لا توجد حقائق جاهزة، بل حقائق علينا أن نخلقها. وهي مقولة / خُلاصة، يُفهم منها أن الحقائق يجب  أَنْ تُستَلّ (تُنتزعَ) من سياقاتها وتُعادُ موضوعاتها، كي تكتسب معنىً جديداً. من ناحية  أخرى فإنّ "الوقائع" تعكس درجات متفاوتة من الواقع وأشكالٍ مختلفة من الوجود. فمجزرة "تيميشورا"، التي شاعَ عرِضها في قنوات التلفزيون العالمية، بعد سقوط دكتاتور رومانيا (تشاوسيسكو) كانت "واقعة حقيقية" بغض النظر عن  كون الجثث، التي عُرِضت، كما قيلَ، لم تكن جثثَ ضحايا تعذيب، بل كانت، حسب المؤلف نيني، جثثاً صُوِّرتْ في مشرَحَة للطب الشرعي لأناسٍ جرى تشريحهم. وكي نتحدث بصدقٍ عن "واقعة حقيقية"، يجب أن يتوفّر تفسير مُقنعٌ  ووجيه  بعيداً عن التشويه. ونحن نلاحظ  من هذا  المثال  كيف أن "الواقعة الحقيقية" جرى تَشويهها، وكيف تداخل مفهوم "الحقيقي" و"الواقعي" وبالتالي أدّى إلى حدوث بلبلةٍ. لذلك من الخطأ القول إن "مجزرة  تيميشورا"  لم  يكن لها وجود أصلاً، كما أن من الخطأ أيضاً القول بأن الجثث المُقطّعة كانت من اختراع الإعلام . فالجثث كانت موجودة  فعلاً وأمكن تصويرها، ولكنها لم تكن "تمثّلُ" ما قيلَ عنها.

إن التعريف المستنبط من المثال السابق لا يستوي لأنه قصّر الفارق بين الفيلم الوثائقي والخيالي على المحتوى، سيان إن كان هذا المحتوى حقيقياً أم افتراضيا (وهمياً). في حين أن القضية أكثر تعقيداً. إنها تتعلِّقٌ بطريقة الاختلاف التي تميز الفيلم الوثائقي عن الفيلم التمثيلي، دون أن نغفل أحياناً التداخل بينهما. فما يُقرّر هوية الفيلم، وثائقياً كان أم خيالياً، ليس فقط طبيعة ما يجري تصويره (افتراضيا كان أم مُتخيّلاً) . إنما ما يميز العلاقة بين مَن يقف وراء الكاميرا ومن يقف أمامها، أي ما يميز خطة الميزان- سين، وطريقة التوجه إلى المُشاهد ومخاطبته، وجعله يستكشف عالمه (أو يكتشف) عالما جديداً من خلال الصور.

يؤكد بول فين في كتابه "كتابة التاريخ" أن الوقائع لا تُشكِّلُ ظواهرَ موضوعية، لأنه لا توجد وقائع  دون تأويل: لكن هذا لا يعني  أبداً وجودَ "تأويلات" دون وقائع، كما خَلُصَ إليه التفكيكيون ودُعاةُ ما بعد الحداثة .لذا يرى المؤلف طبقا لهذا التحليل ،بتحفُّظ، أن الفارق بين الوثائقي والروائي، هو ذات الفارق بين "الحقيقي" و"الخيالي الخطأ":أنه لا يفي لمعرفة وتفسير لقطةٍ وما تُمثله، بل أن من الضروري أيضاً معرفةُ الظروف، التي تمَّ فيها التصوير، والطريقة التي يتوجه بها الفيلم نحو جمهور المشاهدين .

عين على السينما في

13.12.2013

 
 

أسئلة الوثائقي العشرة: الحقيقة والواقع والدعاية (2-3)

هل الفيلم الوثائقي سينما؟

قيس الزبيدي 

بغض النظر عما اذا كان الدافع من وراء السؤال او التأكيد بشكل ساذج او ساخر جمالي او مُنصف، فان المرء يتوقع من مثل هذا السؤال أن يشير الى مبدأين مختلفين. الاول يشكك في انتماء الوثائقي الى فن السينما: هل للوثائقي نصيب في السينما وهل له دور فيها؟ والثاني يعتبر فقط الفيلم الروائي هو فن سابع رغم ان الكينماتوغرافيا رأت النور مع صور العالم الوثائقية "افلام الأخوة لوميير".

وعلى العكس من ذلك فان مقياس التقدم الجوهري المألوف يتألف من كون الفيلم الوثائقي أصبح ايضا سينما Kinoلكن من ينطلق من معنى المُختلق والخيالي والخطأ والتَصور، فانه يصدق بسهولة كما لو ان الوثائقي هو مجرد تسجيل واقعي بينما هو بالتأكيد سينما. وإذا ما تذكرنا البداية فان السينما كانت تُعَد مجرد تسلية لعامة الناس او ايضا مجرد عروض ميلييه الإضافية التي تعارضت مع الجريدة السينمائية ذائعة الصيت لكنها لم تتردد في اقناع الزبائن العاديين بأن اعادة انتاج الفيلم في الاستديو هي اكثر واقعية من الواقع.

لهذا فان الفيلم الوثائقي قلما حَظيَ باحترامنا لأنه مرة ليس سينما Kino وبالتالي ليس فنا، ولأنه إذا ما كان مرة اخرى Kino فإنه ليس الواقع بعينه. يفهم المرء مثل هذا الصحيح المزدوج ان لا يقود في الواقع الى أي انتقاد لأنه ينشغل بالطريقة نفسها لكنه في الحالتين يستند حتما إلى استنتاج خاطئ. ففي الحالة الاولى يتعرض الفيلم الوثائقي للشك لأنه لا يصل الى مستوى الفن فهو لا ينظم مشاهده عبر ممثلين وسيناريو انما يقتصر على تفليم الاشياء والناس كما هم وهذا يعني وفق صيغة لبيلا بالاج مجرد ريبورتاج لأشياء حقيقية. وفي الحالة الثانية فان تقليد المسرح والأفلام الكلاسيكية هي كلها تمثيلية! باختصار يبدو الامر في الحالة الاولى كما لو ان الفيلم الوثائقي لا يعرف كيف تسير الامور بينما يجعل الفيلم الروائي في الحالة الثانية الامر عسيرا للغاية؟

وفي الواقع ينشا الخطأ في الحالة الاولى من الاعتقاد بان الوثائقي لا يفعل سوى تشغيل الكاميرا دون الاعتماد على التمثيل والممثلين وهو امر لا يمت للفن بأي صلة وينشا الخطأ في الحالة الثانية من الاعتقاد بان تنظيم كل شيء ليُمثَل في مشهد هو كله حالة تلاعب وبهذا لا ينتمي الى الحقيقة بصلة. وان على الفيلم ليكون وثائقيا حقا ان لا يسمح بإعادة تمثيل الواقع الحقيقي.

ولكي يتم تجاوز مثل هذا اللبس علينا ان نوضح ماذا يُفهم من (الميزه- ين- سين) أي من تنظيم المشهد في الفيلم. اولا يدل الميزان سين بالمعنى الضيق على (1) كل ما يوضع امام الكاميرا: ديكور اشياء حيوانات اناس وكيف يجهز للتصوير ويمثل. ومن المعروف ان عمل المخرج لا يقتصر على ذلك لان عليه (2) أن يقوم بتأطير احجام لقطاته وتصوير ما يجهزه ليعبر عن رؤيته. فاللقطة هي اساس وحدة الفيلم، كما انها مقطع مكاني-زماني يسجل محتوى اللقطة سمعيا- بصريا ويبدأ من تشغيل الكاميرا الى توقفها- وبعد التصوير يتم (3) مشاهدة كل اللقطات المصورة سمعيا بصريا من قبل المخرج ليفصل بعضها عن البعض وليعيد تركيبها في عملية المونتاج وليقوم بعدئذ بمزج الاصوات العديدة في عملية المِكساج.

ونتيجة لذلك فان المخرج، حتى بالمعنى الضيق، حتى لو لم يستعين بأي ممثل انما يصور في يوم ماطر في امستردام كما فعل يوري إيفنز في فيلم مطر 1929 فانه سيمارس مع ذلك عمله الابداعي بشكل اقل او اكثر عبر عملية تأطير احجام لقطاته في عملية التصوير ومن ثم توليفها في عملية المونتاج. وبهذا المعنى يمكن لنا ان نقول ان صنع أي فيلم يعني دائما عملية تنظيم لان الفيلم يعني على الاقل اختيار وجهة نظر وجوانب ولحظات تصوير لقطات هي بمنزلة شظايا من الواقع ويعني ذلك ايضا مونتاج هذه الشظايا المعزولة عن الواقع وترتيبها في نظام دلالات (تأويلها) لكي يخرج الفيلم ويعرض. وبغض النظر عن وهم الواقع التام الذي ينشأ من العرض فان الفيلم الوثائقي "يُقَوَّم" وفقا لأحكام ومزايا جمالية.

التفليم لا يعني ببساطة تشغيل الكاميرا انه اكثر ما يعني بحكم الضرورة تنظيم المشاهد والتعبير عن وجهة نظر يتحمل صانع الفيلم مسؤوليتها. وحتى مثلا في السينما المباشرة التي يصور صانع الفيلم الموقف الحقيقي مباشرة من الواقع ولا حتى يعقب عليه فأن عليه أنْ يتكفل ايضا بكيف يصوره ولماذا يعرضه بهذه الكيفية لأنه يبقى من الناحية الاخلاقية مسؤولا عن ما يظهر على الشاشة حتى عن عدد اللقطات وتتابعها.

اذا ما كان الفيلم روائيا او وثائقيا فان الامر يتعلق حتما بإدارة الاخراج والمسؤولية التي تقع على عاتق المخرج لأن ميزانسين الفيلم بدرجة اكبر هو المونتاج وحركة الكاميرا- او ان حركة الكاميرا والمونتاج هما ما يحددان على الاقل طريقة تمثيل الممثلين، فلا يوجد أي فيلم دون صنعة او دون تدخلات فنية لان التصوير بوساطة الكاميرا يستوجب دائما مَلَكة الحرفة ويستوجب بشكل امثل- فطنة تامة.

ربما تسنى للفيلم الوثائقي من جهة ان يحتل موقعه في الفن السينمائي ولم يعد السؤال يتوقف من جهة اخرى عند ما يمكن ان يكون حقا الفيلم الوثائقي دون اخراج إنما كيف يتناول (وفقا لأي شكل ميزان سين) هذا الواقع او غيره على أحسن وجه.

إعادة البنـاء: وثائقياً أَمْ خيالياً ؟

في بداية السبعينيات ظهر في نشرات الأخبار بقنوات التلفاز الأمريكية– تعليقاً وتفسيراً لصور عن مختلف الجرائم – تحت عنوان مُبهَم < إعادة بناء في موقع الحدث الأصلي > فبدت هذه التسمية المستحدثة ( إعادة بناء وتمثيل الحدث الراهن ) وفق ميلييه منافقة و(أقل سحرية) عن الأصل لأنها لا تُفصحُ شيئاً عما يُعاد بناؤه ولا عمّا يطابق الاصل. أين تنتهي الوقائع وأين تبدأ ( إعادة ) تمثيلها؟

تستند هذه الحالة في إعادة البناء، بشكلٍ مُلفِتٍ، إلى الجريمة، فما تأخذه بنظر الإعتبار ليس الحركة كشكلٍ للتفكير والحياة، وإنما كحدث مثيرٍ كما هو الحال في افلام الاثارة. . فبدلاً من حقيقة الوقائع ، التي تُبيّن السلوك المعتاد والتصرفات اليومية – أو تظهر عكس ذلك اللا مألوف والغرائبي (الذي يُخدِّشُ المألوفَ والمعتاد) تقلب إعاد البناء المعادلة وتحولها من الأنثروبولوجي إلى التأريخي وتحولها من< إكتشاف العالم > إلى < مسرح الجريمة > من شعريٍّ إلى دراماتيكي، وبالتالي من منطق سبر الأغوار ( هل يعيش الناس هكذا فعلاً ؟) إلى منطق التوتُّر (كيف حدثَ ذلك ؟) . فالجريمة كحدثٍ تأريخي، غالباً ما تكون حدثا لجريمة قتل أو كارثة طبيعية تؤدي إلى صدمةٍ نفسية تثير الدَهشة لأنها تُغيِّرُ نظامَ الأشياء < بصورة بشعة > لما تمتلكه من قوةٍ خارقة في زعزعة مصائر كثرة من البشر، الذين تصيبهم مصادفةً . لذلك يتعين التمييز تحت نفس  فعل < إعادة البناء > بين نوعين من الإخراج:

1- نوعٌ يعيدُ تمثيل المعتاد اليومي، 2- وآخر يعيدُ تقديم الحدث الاستثنائي .فإعادة تصوير صيد فقمة نانوك من كاميرا فلاهيرتي تختلف جذرياً عن إعادة بناء قضائي لجريمة حقيرة وبشعة. من هنا يتعين التفريق بين ما هو أصيل أُعيدَ بناؤه "تمثيله"، وبين ما أُعيدَ بناء وترتيب "وقائعه" الاصلية . فالمكونات المختلفة للعناصر الداخلة في عملية إعادة البناء هي: الشخوص، مسرح الحدث، مجرى الحدث وتعبيرات ابطاله المتصارعين . هنا لا بُدَّ لإعادة البناء أَنْ تبدو أصيلةً  فيما لو كانت كل هذه العناصر، مُجتمعةً، أصلية . لكن، حتى في حال كهذه، ليس هناكَ ما يضمن أَنْ تكون عملية  إعادة البناء مطابقة للأصل.

فكل فرد يمكن له أَنْ ينخدع، أنْ ينسى وقائعَ أو حركاتٍ ويفسّرَ إيماءاتٍ.. وهنا تنطبق مَقولةُ لا يمكن للمرء أَنْ يسبح في ذاتِ النهرِ مرتين . ذلك أنَّ الإعادة (المكرورة المتكررة ؟) تختلف عن (واقعة) وحيدة، يختلف حدثها الأصليُّ عمّا أُعيد َ أفلمتُه راهناً، فضلاً عن ذلك لا يوجد منظورٌ أُحاديٌّ للحدث . ليكون من المفيد في هذا الموضوع، مشاهدة الفيلم الوثائقي "الذاكرة الثالثة/ 1999" للمخرج Pierr Huyghe: فإعادة بناء واقعته، التي ألهمَت سيدني لوميه في فيلمه (يوم بعد ظهر كلب 1975) تمثيل إلباتشينو، أُعيدَ إنتاجها مع اللص الحقيقي، يوم سَطا على البنك بعد خروجه من السجن ولم يكن راضياً عن إخراج لوميه، ووافق على الوقوف أمام الكاميرا لإعادة تمثيل الواقعة.

وهذا يعني أن المرء يتعرف على التدرج الممكن للوثائقي: فالأشخاص المعنيون يعيدون المشهد من جديد في مسرح الحدث الاصلي ( كما في اعادة بناء لمحكمة او كما يقومون بروايته مثلا في افلام ريشارد ديندو).. حتى أقصى درجات التخيل: ممثلون " يمثلون " أمام كواليس وقائع فعلية، بدرامية تستند إلى حوار، مروراً بمنتجة مقابلات شهود < الخيال الوثائقي أو الموثَّق > وهو ما يجعل الدعاية تحلُّ محل الواقع . بعبارة أخرى يمكن القول أن إعادة البناء في الوثائقي وحتى الخيالي يمكن أن تتخذ طيفاً مكوناً من ستة أشكالٍ رئيسية : مقابلة مع شهود يروون شفاهاً ما حدث، مسرحَةُ درامية لشهود عيان < التعليق على الأماكن >، أو مع الابطال انفسهم، إعادة السرد من خلال الوثائق (التغريب البريشتي)، الخيال الموثّق من خلال المحاكاة (كما لو إنهم كانوا هناك)، وأخيراً الخيال (كما يجري في فيلم الكوستيم- الازياء والأكسسوارات). وتظهر لدينا في واقع الأمر طريقتان اضافيتان رئيسيتان في الوصول إلى: إعادة بناء اصيلة وتأريخية، مقارنة مع المحاكاة والإنعكاس.

تستند المحاكاةإلى الإحتمال (أو الظاهرالكاذب- الخطأ) في إعادة تمثيل الحدث (كما لو أنهم كانوا هناك فعلاً). وبذلك يجري سَكبُ الماضي على حاضر الحدث، بما يتلاءم مع قصة لفيلم مغامرات، حيث التأثير والتوتر، الذي يقرّره السيناريو مسبقاً. وإستنادا لهذا المنطق يلعب التأليف الدرامي وتفسير سلوك الناس، المُعبّر عنه بمشاهد، الدور الأساس حول صدق التأريخ مثلا في فيلم ستانلي كوبريك "سبارتاكوس/ 1975". إن الدقة في رسم العواطف والدوافع والمواقف المثالية والتركيز على التفسير، تعد اهم من التفاصيل (الحقيقية ). وبما أنه تجري التضحية بجانب لصالح آخر، فأن الخيال الموثّق يخسرُ على صعيدين، فمن ناحية الإدعاء بعرض < الكيفية، التي جرى فيها الحدث > وعندها يُقلِّص التأريخ إلى حكاية ( حدَثَ في ما مضى .. - أو كان يا ما كان - .. ) ويُهملُ من ناحية أخرى قوة التعبير وغنى الإكتشاف، الذي يكمن في التفسير. وبهذا يفقد الخيال الموثق الحقيقة التأريخية وكذلك الحقيقة الدرامية . في حين أنّ المحاكاة < الأمينة للحقيقة > تجد حضورها في الأفلام الوثائقية، إذْ تستخدمُ شهود العصر بمشاهد ممثَّلَة لتبيان الماضي وتسليط الضوء عليه .

من المؤكّد أنّ من بين أساليب التوثيق، إعادة البناء، التي هي أقربُ ما تكون إلى محاكاة الخيال . لأن الفرق يكاد يكون طفيفاً بين التأرَخَة والخيال . فقد يلبسُ أحدهما لبوس الآخر ويظهر بشكل مغرٍ وحتى مخادعٍ ( نفس الشيء ينطبق على الرواية التأريخية ). فالحدث < الخيالي > يتميز بكونه مُصَنَّعٌ " مُفبرَكٌ " تماماً بطريقة فنية مقبولة، إلاّ أنها تتضمن بداخلها الفني، الظاهر والمخادع.

إن فيلما خياليا هو ترجمة فيلمية لسيناريو يجزأ إلى لقطات ويقدم حواره ممثلون في لوازم ديكورات مصنعة. وحتى لو كان الموضوع تم اعداده عن حوادث حصلت حقيقة وحتى إن كانت مشاهده تصور خارج نطاق الإستديو. فأن الموضوع يكون قد حضر ضمن خطة مسبقة الصنع وتم التدريب عليه لكي يُختلق مسبقا عالم يشبه عالم المشاهدين الذين يشاهدونه. رغم أنه يقال احيانا عن مثل هذه الافلام انها صورت من حقائق او انها صورت عن حكاية حقيقية.

ولا يرى المؤلف نيني في نقاشه لهذه المسألة مصداقية الاحداث وحقيقيتها او مسالة ان نتنازل عن شكل إعادة تمثيلها ليتسنى لنا مشاهدتها ثانية ولنتأثر بأحداثها انما يناقش شكل تقديمها الخاص ويرى أن علينا ان نعرف ان المسالة هي في الوقت نفسه مسالة ذات طبيعة جمالية وتاريخية. كما ان معناها لا يرتبط بمعرفة الواقعة فقط انما يرتبط بإعادة تقديمها وبطريقة الأسلوب الذي تتوجه فيه الى المتفرج.

وكما يقال فان "الطريق الى جهنم معبد بنيات حسنة" وأن "الشيطان يختفي في التفاصيل" لكن ايضا نتذكر ما قاله الناقد بيلا بيلاج ان إن تقديم " تفاصيل حقيقية لا تعفينا من رؤية كل يكون خاطئا".

أين يبدأ الإخراج، وأين ينتهي التوثيق؟

عين على السينما في

04.01.2014

 
 

أسئلة الوثائقي العشرة: الحقيقة والواقع والدعاية (3 من 3)

كيف نتعرَّفُ  على  الفيلم  الوثائقي؟

قيس الزبيدي 

تقول القاعدة أنه يمكننا التمييز بين والفيلم الروائي دونَ أن نُسائل أنفسنا لماذا. بل يمكننا معرفة التزييف، الذي قد نسخرُ منه، إلى جانب ملاحظة التوظيف المتعمّد للتزييف. على أَنَّ البلبلةَ والحيرة  تظلان إستثناءً، رغم أن بعض الأفلام  يتلاعب على ذلك  لزرع الشك  وزعزعة نظام الأشياء من حولنا أو ليبيعنا "خردوات رخيصة".

الجوابُ على هذا السؤال البسيط، مُعقّدٌ لأنَّ كل ما يدخلُ ضمن نطاقِ عاداتنا (ومنه اللغة) وكل ما هو يقيني (ومنه المرئي) قد طوَّرَ منظومات مركبة ومعقدة للإدراك والتفريق والحُكم، نمارسها بلا وعي. لنبدأ بما يسمّى عملية صياغة السياق. غالباً ما نعرف أننا سنشاهد فيلماً وثائقياً، سواء في السينما أو في التلفزيون. فنحن قلّما نشاهد فيلماً لا نعرف عنه شيئاً، ومن النادر أن نتابع فيلما في التلفزيون نعثر عليه، مصادفة،أثناء البحث بالريموت كونترول، دون الرجوع إلى مجلة البرامج  لمعرفة شيءٍ ما عنه وعمّا يدور موضوعه.

إذاً ما هو معيار التمييز الذي يعمل لدينا تلقائياً ؟ يبدو أن عنوان الفيلم والاسماء في ختام الفيلم والسيناريو والممثلين والأدوار التي يؤديها بعض الممثلين... أي كلّ ما لا نجده إلا في النادر في الفيلم الوثائقي. فعبارات الشكر وبعض الإحالات الخطيّة تؤكد أحياناً نوعية التمازج بين العالم الواقعي والعالم المُصوَّر المُؤفلَم. وبهذا يمكن للنص المكتوب الذي يقدمه الفيلم أن يشي باشياء، لكن تحصل في مجرى عملية صياغة السياق اشياء غير واضحة المعالم بالنسبة لنا تماما تتعلق من ناحية بما نعرفه عن الحياة والعالم وما نعرفه من ناحية أخرى عن السينما. 

ويبقى السؤال الجوهري هنا: أيٌّ من العلامات نلتقطها في مجرى سياق الفيلم، تُمكِّننا من التمييز بين الفيلم الوثائقي (الواقعي) والفيلم الروائي (الخيالي) ؟ ويبدو من غير المعقول البحثُ عن خصائص إسلوبية مُطلقة (وحصرها بالتعليق أوالمقابلة، أو حتى بزاوية نظر الكاميرا كما في الفيلم الوثائقي.. إضافة الى ذلك فنحن لا نخلط (إلاّ في النادر) بين الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي.

لنتفحّص إستعداد المشاهد لإبداء الثقة المطلوبة منه. كأن نقولُ هذا فيلم روائي ضعيف < أي لا يبدو مقنعاً>، إن هذا القول لا يعني أنه بعيدٌ عن الواقع، بل أننا لا نصدقه، لأنه لا يدخلنا الى عالم حكايته. ولا يُقنعنا بأن العالم، الذي أضافه، يضيفُ شيئاً لواقعنا المُعاش. على العكس من ذلك عندما نقول أن فيلماً وثائقياً ما غير متماسك، فأننا لا نعني بذلك أنه فيلم روائي مموَّه، بل أنه يتضمن عدداً من أكليشيهات تصوّر أناساً وحالاتٍ بشكل مخطط مسبقا وأن شخصياته يُصدرون ردودَ أفعال آليّة محسوبة مسبقاً.

قد يُراودنا الشك عندما نشاهد فيلماً وثائقياً... شكٌّ لا ينسحب على كل شيءٍ، إنما يتعلّقُ بمظاهر وحالاتٍ محددة، ننتظر منها إيضاحاتٍ عن ( ماذا وكيف ) تترابط "خيوط" الصلة. فالشك مرتبطٌ فعليّاً بكيفية تلقّي الفيلم الوثائقي. السؤال: هل أن ما يُعرضُ أمامنا هو واقع حقيقي، أو أن ما يجري سرده هو واقع صادقٌ ؟ مع أن مثل هذه الأسئلة ليست ذات معنىً في حالة الفيلم الروائي، لأننا لا نحاكمه وفق هذا المعيار. فعندما نعقب عن فيلمٍ وثائقي < لا أُصدِّقُ هذا > فأننا نقصد بذلك سلوكاً خاطئاً أو كذبة أو حتى تزويراً. وهذا يعني أننا نشكك بمصداقية  شخوصه وأحداثه، او حتى بمصداقية المخرج نفسه  وبمصداقية ما يعرض أمامنا.

من هنا يمكن للمرء أن يستنتج بأن آفاق التوقع في الفيلم الوثائقي ترتفع بشدة إلى مصافِّ منطق علم ذي طبيعة تاريخية، يشكل فيها الشك حجر الزاوية. وإستناداً لهذا التوقع، تنشأ الحاجة إلى الإستخدام المتزايد للشهود والمقابلات وما يقوله الإختصاصيون والتعليق. ويتضح عبر ذلك الجانب التعليمي للفيلم الوثائقي، رغم أن غالبية المعاجم والقواميس تُهمل نوعيته الشاعرية. في حين أن الفيلم الروائي يستخدم معايير فهم السلوك الإنساني بصيغة دراماتيكية أو ملحمية كحجر زاوية للمصداقية. بينما يمكن للفيلم الوثائقي أن يتضمن مشاهدَ من فيلم روائي  أو صوراً من الأرشيف كما يمكن للفيلم الروائي ان يتضمن ايضا مشاهد وثائقية وأخبار تلفزيونية ومشاهد تُصوَّر في شوارع...

يمكن أيضا للمشاهد أن يُضلَّل أو ينخدع، ينشرح أو يُصاب بالدهشة عندما لا يعرف أيَّ نمطٍ من الحكاية يُعرض عليه : تحديداً أكان إستعارة، أمثولة ام  مفارقة. أكان توثيقاً أم من صنع الخيال، أي فيما إذا كان تشويهاً غير مفهومٍ وغير واضح لقواعد الإخراج والتمثيل. ويكمن الفارق بين التمثيل والتشويه، بين المزحة والتمثيل الرديء في أنه في الحالة الأولى يكون التشويه ملحوظاً ومُتضمناً أفكاراً غزيرة (كما هو الحال في الفكاهة والمرح الذي قد يرافقهما تعليقُ غني فكرياً ).. أما في الحالة الثانية فأن الأمر يتعلّقُ بطريقة غير فاضحةٍ لخداع المشاهد بتقديم موضوع (قصة) خيالية وإلباسها لَبوس  الفيلم الوثائقي ( وهو ما يحصل غالباً في افلام الريبورتاجات) أي تقديم شيءٍ مُصنَّعٍ أو أُعيد بناؤه وإختلاقه على انه الواقع، أو ما تمَّ تصويره مجدداً على أنه صورة من الأرشيف، أو ما يتم تصنيعه رقمياً ( ديجيتال ) وتقديمه على أن تصويره جرى في مسرح الحدث ! وعليه فأن أساس الثقة المطلوبة في هذا المجال لا يعود ينسجم مع طريقة إنتاج الفيلم : وهذا ما يسمى بالتعريف الوظيفي للجانب المغلوط والمُخادع في الفيلم الوثائقي.

فلكل فيلم، وثائقياً كان أم روائياً/خيالياً، أَعرافٌ ( تقاليد) وإبتكارات متضمنة في مستويات بنائه المتنوعة، ويضم في ثناياه عدداً من الإحالات الخفيّة، التي تهمس للمشاهد كيفية الفهم  في أي مستوىً.. فالفكاهة  والسخرية أم تَعدُّد المعاني تنطوي على تضارب بين ما يُعرض ويقال مباشرة وبين ما يتوجب فهمه ورؤيته.

وفي الوقت نفسه تُتيحُ هذه الطريقة في التعامل، بكسرِها حواجز التقاليد المألوفة، إيضاحَ السبب في إختراق هذا الحاجز ولماذا يتم التلاعب فنيا في عملية زعزعة أركانه. وغالباً ما يسلط الضوء في الفيلم الوثائقي على تعدُّد معنى الحقيقي والمزيَّف ويختلق معنى مزدوجاً للصورة كما في إعادة بناء أمينة للواقع وتمثيل يستند إلى الوهم في آنٍ،  البرهان المخادع للمونتاج والايمان الحقيقي للمشاهد.  وبفضل ادراك المشاهد المختلف تنشأ مؤثرات هزلية وفكرية : فالمشاهد<يحقّقُ>  فعلياً شيئاً ما. ويبدأ التضليل وإستغلال الثقة والتزوير بحيث لا يجد المشاهد قرينة، تمكِّنه من الإستمتاع بالإختلاف. فتحوُّل التغريب المُصنَّع إلى إغترابٍ سيءٍ، يبداُ عندما يريد الفيلم أنْ يكون ما ليس فيه، عندما يُخفي الطريقةَ المُراد بها مشاهدته ويتستَّر على التصوير والمونتاج.

في النهاية يتعلق ألأمر أصلا ب(جهاز/وسيط) يصور الحياة لكي يعيد انتاجها في الاشكال التي يتطور نفسه فيها،، سواء كان خَبَبُ حصان، او رقصة شرقية سواء كان سباق سيارات او إستقالةُ وزيرٍ، سواء كان إرضاعُ رضيع او تمثيل سارة بيرنار سواء كان موت زرافة او تأبيدُ إبتسامة  لأنغريد بيرغمان..؟

هل توجد اسلوبية شديد الوضوح في الفيلم الوثائقي؟

يتأتى علينا ان نتخلى عن البحث في لغة السينما نفسها عن اساليب وأنماط  ذات طبيعة وثائقية تضمن لنا ان المُؤفْلَم هو حقيقي؟ لان الفيلم الخيالي  كما رأينا هو بحد ذاته كالفيلم الوثائقي ينطلق من أن ليس هناك أي صورة  تستطيع في النهاية ان تنتمي الى مرجع موضوعها. لكن هذا لا يمنع على الاقل من جهة من فحص وجود اساليب أصيلة او مُهيمِنة في الفيلم الوثائقي او من أن انماط التعبير من جهة اخرى هي التي تستحوذ عموما على كل تجليات اللغة السينمائية ولا تقتصر أهميتها المتنوعة على الفيلم الوثائقي او الفيلم الروائي.

يميز علماء اللغة، حسب اميلي بينيفيست، بين فئتين واسعتين من التعبير الشفاهي: الحكاية التي هي محاكاة تُروى فيها احداث تتوالى بعينها، والخطاب الذي هو فعل انعكاس يتضمن علامة اللفظ. وبوسع المرء ان يساوي بين الحكاية (الخيال) والخطاب (الوثائقي) لكن مع ان الأمر لا يخلو من صحة إلا أنَّ فهمه لا يخلو من تعقيد، لأن الخيال يضع نفسه كليا في خدمة صيغة الملفوظ الخطابي. لنلقي نظرة على فيلمي ستانلي كوبريك "القتل" و"البرتقالة الآلية " ففي الاول يتحدث البطل بشكل مفصل (من خارج الصورة) إلى المتفرج حول ملابسات واقعة جريمة القتل التي حصلت في شقته والتهديد الغامض الذي يتعرض له وفي الثاني يقدم الراوي (ضمير المخاطب أنا) خطاباً صريحا يتوجه به الى المشاهد عن طريقته وأصحابه في حصولهم على المتعة دون مراعاة الضرر الذي يسببونه للآخرين. 

بوسع الفيلم الوثائقي ان يرجع في الحكاية  إلى شهود العيان او إلى الابطال أنفَسَهم أو حتى إلى إعادة بناء مماثلة للحكاية. ويظهر للعيان من وراء التعليق على الشاشة أنَّ بوسع الكلمة أنْ تنطق من اجساد مُتحدثين وفاعلين كما في المسرح. لكن الابطال في الفيلم لا يجوز أنْ يكونوا ممثلين يَتْلون نصاً انما اشخاصا يجسدون انفسهم ويتحدثون بأسمائهم. و تُمكِّنُ وتُمكِّن القدرة الوحيدة الفيلم الوثائقي من أنْ يعرض تاريخاً لشهود عيان مَرئيَّا، على عكس المؤرخين، وأبطالا احياءً كما يحصل في تصوير المقابلات أو في شهادة ناس حقيقيين في مكان واقعي أصلي. كما انه يستطيع حتى انْ يصور الحكاية كما تحصل مباشرة استناداً الى أحداثها الكبيرة المحفوفة بالمخاطر.

لنقارن مثلا فيلم "موت يوغسلافيا" للمخرج انغوس مكويين أو فيلم "راقب السلاح" للمخرج مارسيل اوفولُس حول حصار ساراييفو. لكن الوثائقي يستطيع أيضاً انْ يُصور اناساً في حياتهم اليومية وفي مرافقهم الاجتماعية: سينما مباشرة. وبهذا يَفتح الوثائقي طريقاً ثالثاً بين محاكاة درامية يؤديها مُمثلون وبين خطاب يُقدمه تعليق. فالسينما الوثائقية تسمح من جهة بتسجيل الكلمات أثناء حديث قائليها في موقع الحدث وتسمح من جهة اخرى بتسجيل الحديث أي بتسجيل حكاية وخطاب للناس المعنيين انفسهم وذلك عبر كل وسائل المحاكاة السمعية البصرية من صوت وحساسية وتًكلُّف أو طلاقة أو قناعة أو تسوِّغ، أي بكل ذلك التعارض المُحتمل بين الكلمة التي تُقال والإيماءة التي تصاحبها.

تكتب كيته هامبورغر في دراستها "منطق الشعر" أنَّ ما هو خيالي مثل ما هو غير خيالي  يَستعمل أقصى درجة من التبئير ( وصف من وجهة نظر شخص ثالث: ضمير الغائب) لكنها تَعتبر أنَّ صفة الخيال المميزة تكون تعبيراً لذاتية شخص اخر (تبئير داخلي). وفي الواقع يستطيع المؤرخ او الوثائقي بصعوبة، بعكس كاتب الرواية أو كاتب السيناريو، أنْ يَنفذ إلى داخل رأس ابطاله ويقرأ أفكارهم أو يجعلهم ينطقون بلسانه.

يتطابق الخيال مع خيالية السرد اكثر مما يتطابق مع الحكاية فهو يتأسس على صعيد اللافُظ (فعل التعبير الفردي عن طريق تشغيل اللسان) بدرجة اكبر مما يتأسس على صعيد المَلْفوظ نفسه (أي صعيد التعابير).    

إنَّ القسم الاعظم من الحكايات التي تَحكي روايات لا تصنع وفق ملفوظية خيالية إنما وفق ملفوظية واقعية مما يجعلها رغم ذلك ليست بمنزلة كتبَ التاريخ. إنَّ واقع الخيال ينشأ في الواقع  ليس من التساؤل حول وجود الخيال إنما من تَنقلِّه بين أنْ يكون موجوداً فعلا او لا يكون. ويرى الفيلسوف الفرنسي جان سيرل الفرق الحقيقي بين اللفظ المًتصور (الخيالي) واللفظ الجدي (الوثائقي).       

ان كل خيال ليس فقط في الرواية التي تسرد في صيغة ضمير المتكلم (الشخص الأول) هو ليس محاكاة مؤكدة جادة أو برهاناً حقيقياً، إنما هو حسب هامبورغر قرينة خيالية مع الاخذ بنظر الاعتبار إنَّ اغلب الاشياء التي تُنْتَج من وجهة الخيال مَصدرَها عالمنا الواقعي العيني الملموس، وان التعبير الملفوظ الذي ينشأ عنها له نفس معنى المرجعية المُتَخَيَّلة كما في الحياة اليومية. لكنه يوجد في شكل استثنائي خاص وتكون مرجعية الشيء الوحيد دائما مرجعية الحياة التي نحياها والتي لأسباب مختلفة نعرف أنها من صنع الخيال كما نفهمها كحالة خاصة على نحو مُغاير.

تُكسَر اعراف المعنى والتخيِّل المألوف بشكل جَلي لأن الخيال يسمح بالتناقض أثناء ما يتحدث عن عالمنا لكنه يتحدث في حالة غير مباشرة ولعوب ويسعى لأنْ يُغري المتفرج ويريه إنَّ استحواذ عالمنا يتخذ اشكالاً متنوعة. فالنص الخيالي يعرض عالما لكن ليس كعالم منعزل يختلف عن عالمنا كما لو انه يُلغيه انما يزوده بمظهر العالم المُعتاد عبر تقنية خيال بحيث نَكون مُطالبين بأن نتركه يلعب بهذه الطريقة أو الأخرى دوره.

اما العالم الحقيقي فهو دائما نص قبلي للِنص الخيالي - يقودنا الخيال فيه إلى العودة إليه عبر طرق التفاتية. فالعلاقة بالخيال  هي بالضرورة علاقة بممارسة الحرية لأنَّ مجال  المُتخيَّل هو مَجال الحُرية: حُرية إبتكار إمكانات وبدائل لقواعد لعب وتمثيل مختلفة اخرى. لهذا فإنَّ الخيال هو أخ لحرية الفعل، سواء أكان المبدأ يتعلق بالأمل أو بالوهم المحفوف بالمخاطر: دون كيخوت و سانشو بانزا؟   

لماذا المونتاج؟

في بداية اكتشاف السينما كان يتم تصوير كل المشاهد في ديكور واحد.  ويتم تقسيم الفيلم حسب وحدات المسرح وطريقته في تقسيم الفصول والمناظر. وتقوم آلة التصوير بتسجيل هذه الفصول والمناظر المبنية وفقا لنظام شبه مسرحي، يدرس فيه المخرج ويرتب حركات وانتقالات دخول وخروج الممثلين. وكان طول المشهد يرتبط بطول مادة الفيلم الخام التي كانت تسعها علبة الفيلم. وكان التقطيع يحصل فقط، عند تغيير مكان التصوير، وعند ربط المشاهد المصورة، بينما كان موقع آلة التصوير يحدد ويماثل المكان، الذي كان المخرج يدير منه المسرحية. وقد حافظت آلة التصوير على تسجيل المنظر- المشهد من بعد ثابت لا يتغير مدة 15 سنة، وقاد تقسيم المشهد -المنظر- إلى عدة لقطات: لقطة قريبة أو لقطة كبيرة،عن طريق تغيير مكان آلة التصويرإلى ثورة في المرئيات السينمائية، وبدأ هذا التغيير أولا، لأسباب مادية عند بورتر، ومن ثم لأسباب درامية عند غرِفث.

وأصبحت وسيلة التعبير تتم عن طريق تتابع لقطات، مئات اللقطات، مما قاد في نفس الوقت إلى التفكير في أسلوب وكيفية وصل تلك اللقطات بشكل مترابط بحيث ينتج استمرارية سردية. وجاء تحرير موقع – مكان آلة التصوير أثناء تصوير اللقطة الواحدة، بداية، في عام 1925، أي بعد عشرة سنوات من بداية تغيير موقع آلة التصوير وجرى وقتها الحصول على صورة يتغير فيها موقع الكاميرا في اللقطة الواحدة المستمرة. واصبح بناء المشاهد من لقطات عديدة مع استخدام حركة آلة التصوير داخل اللقطة الواحدة قضية جمالية - درامية على درجة عالية من الأهمية في السرد السينمائي.

ان هذا التطور الذي احرزه المونتاج كأسلوب وكطريقة تعبير فيلمية سينمائية كمنهج لغة سينمائية كتقنية اعادة بناء لصور متحركة مَكن عندئذ سحر الصور المتحركة ليحولها تدريجياً الى سرد فيلمي مركب.

خضع اكتشاف المونتاج الى مقولتين حاسمتين:

1. لا توجد على الشاشة خشبة مسرح، الخشبة هي العالم نفسه، العالم في حركة حتى في الفيلم الروائي حتى في استديو يُعاد فيه بناء ديكورات مختلفة: قاطرات وسيارات وبيوت

2. كل لقطة هي ذاتيا جزء ونصير لمقطع او لمنظر مصورا. فالتفليم هو جعل الشيء مرئياً ويعني اكثر توجيه النظر الى ما هو مرئي في المشهد حتى في الفيلم الوثائقي وكما كان هتشكوك يسميه "قيادة الجمهور".

ان السينما كفن تسعى بفضل المونتاج إلى تنفيذ التناوب بين هاتين المقولتين. فمن جهة ينفذ التناوب الراهن عبر تسجيل/ توثيق الصورة الفيلمية: حتى في الفيلم الروائي، ومن جهة اخرى ينفذ التناوب بين ما هو خيالي/ متصور بين تناوب علاقة المكان والزمان، عبر تدخل مخرج الفيلم الذاتي في تنفيذ اللقطة: حتى في الفيلم الوثائقي.

ان ثنائية واقعي/ خيالي تشكل بؤرة التعبير في تنفيذ أي فيلم  فمن جهة يتم جعل المُتصور ماديا ومن جهة اخرى يُحوَّل العالم المادي الى صور. وهذا ما يجعل السينما تهز نظام تصوراتنا المرئية عبر جعل الصورة المادية تتداخل مع الصورة الافتراضية وتلتحم معها. ومن هنا يبدأ تطور المونتاج في خلق حركة كل تلك العلاقات المكانية/ الزمانية.

 ساعدت ممارسة السينماتوغرافيا على استعمال وصلات استمرارية فيلمية وجعلت اولا المقاطع المتقطعة وغير المستمرة في تشكيل سلسلة متتابعة تحولت الى  سرد ماضي وحاضر ومستقبلي للحكاية الفيلمية. وكما كان يقول بازوليني فأن كل لقطة هي وصلة سمعية - بصرية، زمكانية وكل وصل (مونتاج) هو مجرد وصلة. ويصل المرء من كينماتوغراف الى سينماتوغراف عبر الربط المونتاجي: من المعاينة نصل الى اللقطة ومن الرسم المخطط نصل إلى السيكوينس (المقطع الفيلمي) ومن بكرة الفيلم الواحدة نصل إلى الفيلم الكامل ومن الحادثة نصل إلى الحكاية، ومن حركية-الفيلم الى زمانية-الفيلم. (حركية عنصر التغيّر عبر الزمن) ليصبح ماديا من جهة ما يتصور المرء، وبذلك يتحول العالم المادي من جهة اخرى الى صور. وكما يؤكد اندريه مالرو إن تجزئة المشاهد في لقطات، بغض النظر عن الكاميرا والمصور والمخرج، هي ما تجعل الفيلم يولد كفن من المشاهد نفسها التي تصور وفقا لطبيعة التعبير الفيلمي.

مع ظهور تقنيات جديدة، ساعدت بوقت مبكر أو متأخر على اكتشاف وسائل تعبير سردية، تطابقت في مجال مستويات عديدة ومختلفة في تسجيل الصورة والصوت أو تعارضت  في مجال مستويات عديدة ومختلفة  مع إمكانات التعبير المبتكرة المناسبة التي كانت تكتشف في سرد الأفلام.

يوضح البحث في انتصار الفيلم هذه الحالة لكننا لن نتوقف عندها، بل سنركز بالدرجة الاولى على اكتشافات وإسهامات المونتاج الشكلية في التعبير الفيلمي: جاء دور الحذف والتركيب المونتاجي في بسط التوتر الدرامي فبدل تقديم احداث بعينها يتم ايقافها لصالح المونتاج المتوازي او المتناوب ليجعل من حدثين دراميين يلتقيان او يتقاربان كما هو الحال في مشاهد ما اصبح يسمى الانقاذ في اخر  لحظة او في مشاهد المطاردة. وأخيرا وقبل كل شيء تتضح بنية تركيب خارج الحقل، خارج ميدان الاطار كخلفية قبل ان تنشا أي لقطة أخيرا وقبل كل شيء جعل صور اللقطات كخلفية لحقل الاشياء المرئية او كخلفية لصوت من حقل الاشياء اللا مرئية. وهي طريقةHors-champ بالفرنسيhors de cadre (خارج الاطار خارج اللقطة ومعنى المصطلح هو كل صوت تسمعه الاذن اكان حوارا او مؤثرا او موسيقا لا تجد العين مصدره في الصورة المرئية) لهذا جاء التعبير الشهير من اندريه بازان الاطار هو قناع هو حجاب والفيلم هو ليس اكثر من لعب مع الكادرات والاقنعة ولم يعد الفعل يستقل بنفسه ولم تعد معاينته وفق استمرارية حاضر مستقلة بذاتها.

لم يعد الحدث حياً ولم يعد حضور زمنه الواقعي مستمراً، بل يصور بشكل متبادل ومستمر بين ما يشاهد في حقل الاشياء المرئية وبين ما لا يشاهد خارج حقل اشياء مرئية   Hors-champ ليظهر بعدئذ على الشاشة او لا يظهر. لهذا تظهر الصور غير مكتملة قابلة لعلاقات استبدالية (من وجهة نظر مختارة بشكل معين) او يمكن حتى أنْ تُدحض من قبل وجهة نظر اخرى.

 رغم ان المونتاج هو الذي جعل من السينما لغة وفنا مستقلا لكن البعض يجدون ان هذه اللغة بسبب المونتاج هي لغة خداع وتلاعب في توليد الدلالات. لكن اليس بإمكان أي لغة طبيعية كلغة علامات ان تعبر من حالة الى حالة عن حقائق وأكاذيب اوعن معنى مُصَنَّع او صادق؟ وبغض النظر عن حقيقة كون المونتاج جعل من الفيلم لغة تعبير إلا ان بوسع المرء ان يجيب بأن المونتاج جعل منها لغة تلاعب، حتى وان كان هذا التلاعب ينشا من علامات ومعاني او ينشأ من مؤثرات مُفبركة لكي يضلل الجمهور مع ان الامر يختلف من حالة الى اخرى وذلك الى الدرجة التي تتمكن فيها اللغة من قول الحقيقة او الكذب، قول الملفق او الصادق، قول المعنى او الهراء بحيث لا يعني الامر بان المونتاج هو ايضا لعب مخادع. إن أي لغة فن من الفنون هي طريقة لفعل وكلام عن علاقتنا بالعالم بطريقة حسنة او رديئة. اما اولئك الذين لا يجدون في المونتاج إلا فنا للتلاعب فهم يفهمون المونتاج انه نتاج مُصنع وانه لعبة خداع يمكن ويجب تحاشيها.

وإذا ما بدا انه من السهل اعتبار المونتاج كطريقة تزييف يبقى علينا ان نمتحن الى مدى وباي اسلوب يمكن للمونتاج ان يكون طريقة للتزييف. فحسب بول فاليري فان الفنان يحول ما هو واقعي الى ضرورة. وهو تقريبا ما يفسر مفهوم المونتاجٍ: تحويل ما هو مُجزأ الى كل مُجمّع. ويعني ذلك ظهور دلالات بشكل غير متوقع من تركيب عناصر منفردة لا تتضمن، منعزلة، هذه الدلالات.

عين على السينما في

04.01.2014

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)