أعترف أنني لم أُشغل بمسلسل في حياتي كما شغلت بمسلسل "في حضرة
الغياب" حيث حرصت على مشاهدته في وقته في التاسعة والنصف مساءً بتوقيت
بيروت على قناة تلفزيون الجديد اللبنانية. وكنت حريصاً أيضاً على أن أكتب
ملاحظاتي أثناء المشاهدة حتى لا أنسى أو أكتب أي فكرة يُغيّب تفاصيلها شحوب
بالذاكرة.
وأعترف أن سبب حرصي الشديد على هذا الأمر هو أنني منذ أعلن فراس
إبراهيم، منتج العمل ومنتحل دور الشاعر الفلسطيني محمود درويش، نيته صناعة
مسلسل يتناول السيرة الذاتية للشاعر. أعلنت عن خشيتي الشديدة، لا بل رفضي
القاطع لمثل هذا العمل لأسباب تتعلق بالخوف على صورة الشاعر وعدم ثقتي
بمؤهلات فراس إبراهيم كممثل ليقوم بهذا الدور، ولأن الوقت مازال مبكرا على
تناول سيرة درويش الذاتية درامياً،ولأنني أعتقد ان سوق الإنتاج الدرامي في
البلدان العربية قائم على التنافس القائم بدوره على الدخول في لعبة السوق
الراهنة التي من سماتها الأساسية الأستهلاك، الذي هو هدف بحد ذاته لكل
اللاعبين في هذا القطاع، فصناع المسلسلات مثل صناع المأكولات السريعة،
يتمركز همهم في جعل الناس في حالة اثارة دائمة لاستهلاك منتجاتهم، وعندما
يلمسون كسلاً ما يحرضونهم بالدعاية لمزيد من الأستهلاك، أو يختارون لهم
أطباق جديدة وفي حالة صناع المسلسلات يختارون موضوعات تشد انتباههم
ورغباتهم.
هنا يدخل مسلسل في حضرة الغياب في هذا الاطار الاستهلاكي الوقح. ويصير
محمود درويش، الشاعر القومي للشعب الفلسطيني سلعةً يتم تداولها في سهرات
رمضانية كسولة لمشاهدين يبحثون عن التسلية بعد يوم طويل من الصيام وبعد
افطار شهي يملأ البطون ويغلق على نوافذ التأمل والتعمق في منعرجات الشعر.
عناصر المسلسل
وتفاقمت خشيتي على الشاعر من إصرار فراس إبراهيم على القيام بالدور
على الرغم من أن بعض الجهات المنتجة كما علمت، والتي كانت أبدت استعدادها
للمساهمة في تمويل العمل والتي كانت ستساهم ب 2,500 مليون دولار، عادت
وانسحبت من المشروع بسبب هذا الاصرار، لأن الجميع يعرف بأن قدرات فراس
إبراهيم التمثيلية لا تؤهله للقيام بالدور الأول في أي عمل درامي وخاصة إذا
كان الدور يتعلق بشاعر كبير مثل محمود درويش.
بعد مشاهدة الحلقات الثلاثين من المسلسل، لم تكن المشكلة في هذا
العمل،التمثيل الرديء لفراس إبراهيم وحسب، بل هي في كل العناصر المكونة
للمسلسل- الكتابة الدرامية، والإخراج، والتصوير والمونتاج والموسيقى
والديكور- وفي كل ما أصاب هذه المكونات من إسفاف وأخطاء في التاريخ
والجغرافيا.
بداية لابد من الاشارة إلى بعض القضايا المتعلقة باقتباس السيرة
الذاتية في الأعمال الدرامية أكانت سينما او تلفزيون.
لقد قيل الكثير في تاريخ السينما والتلفزيون عن تعاطي الأعمال
الدرامية مع السيرة الذاتية لشخصيات سياسية أو ثقافية أو غيرها من الشخصيات
المعروفة للعامة.
لو أردنا الكثير من التبسيط في هذا الموضوع، فإن هناك مقاربتين
أساسيتين لموضوع اقتباس السيرة الذاتية في الدراما.
المقاربة الأولى التي تطلب التماهي الكامل للفيلم أو المسلسل مع
الحياة الحقيقية للشخصية موضوع العمل والمحافظة على تفاصيلها من خلال
الكتابة والإنجاز المصور وعدم المساس بتاتا بالأحداث او الشخصيات أو إضافة
أحداث أو شخصيات من وحي خيال الكاتب.
أما المقاربة الثانية فهي الاقتباس الحر للسيرة الذاتية بهدف خلق، من
خلال المسلسل، عمل فني جديد ومختلف له مكوناته وتفاصيله وشخصياته وأحداثه
مع المحافظة على الشخصية الرئيسية وبعض الشخصيات الأساسية حولها باعتبارها
المادة الخام لخلق عمل جديد ومختلف.
وإذا كان نجاح أي عمل ضمن المقاربتين المذكورتين مرتبطاً بمدى الإخلاص
والمعرفة الدقيقة الناتجة من البحث والبحث المعمق في الشخصية ومسيرتها في
المقاربة الأولى أو مدى الإبداع في الكتابة وجمالية الخيال التي تخدم
الشخصية في المقاربة الثانية. فإن النجاح الحقيقي الذي يثير إعجاب المتفرج
وانبهاره لا يكون بكيفية اقتباس السيرة الذاتية ولا بتعويض السيرة الذاتية
برؤية أخرى للكاتب بشكل تقليدي أعمى، وإنما النجاح الحقيقي للعمل إذا كان
هذا المسلسل قطعة فنية قائمة بذاتها تكون قادرة وبشكل تلقائي على إثارة
المتفرج ليذهب بعد كل حلقة من حلقات المسلسل الذي يتعاطى مع شخصية محبوبة
كدرويش، إلى شعره يكتشفه من جديد ويقوم برحلة ممتعة في حياته من خلال هذا
الشعر.
اقتباس تخريبي
إن العمل الناجح في اقتباس شخصية ما على الشاشة هو الذي يجعلك تكتشف
أيضاً وأيضاً مهارات القائمين عليه، الكاتب والمخرج والممثل والمصور
والمونتور في إشعال المواقف المتناظرة ما بين الحياة الحقيقية للشخصية
والحياة التي نراها على الشاشة وإذا فشل هؤلاء في الوصول إلى هذه النتيجة
فإن التعامل أو الاقتباس لابد وأن يكون اقتباساً تخريبياً على رأي أحد
النقاد.
صحيح أن ما يأخذه العمل الدرامي، الفيلم أو المسلسل، من حياة شخصية في
أعمال السيرة الذاتية شئ هام، ولكن الأهم من ذلك هو ما يمكن أن تقدم
الدراما لحياة هذه الشخصية. عندما تقدم للمشاهد، الأحساس بالوفاء والموهبة،
وإذا كنا محظوظين، العبقرية في الإبداع الدرامي، فإن النتيجة تكون إضافة
جمالية كاملة البهاء ليس على مكوناتها وحسب، وإنما على حياة الشخصية نفسها
وذلك من خلال ما يصلنا كمشاهدين.
وبذلك نكون أمام عمل درامي بصري لا يعتبر خيانة ولا نسخة ولا زركشة
ولا افتراق عن حياة الشخصية. نكون أمام عمل فني يتوحد بجمالية حياة وإبداع
الشخصية التي يتحدث عنها وإن كان مستقلاً عن الشخصية، ولكنه يكون بذلك
إنجازاً فنياً مشابهاً بطريقة غامضة لسيرة حياة الشخصية الذي يتناولها
العمل الدرامي. وفي الوقت نفسه مغايراً، ربما عملاً درامياً أقل أهمية من
حياة الشخصية وربما أيضا أكثر أهمية كإبداع فني قائم بذاته.
وإذا كان للعمل الدرامي في هذه الحالة قيمته الابداعية القائمة بذاتها
فسوف يكون من الضروري أن يكون له رؤيته الابداعية التي لابد وأن تكون
بمستوى الشخصية المبدعة التي يتحدث عنها العمل وبأهمية هذه الشخصية.
إن سردية العمل الدرامي نفسه تنقل لنا صوت الكاتب والمخرج أولاً،
وبالتالي ردود أفعالنا حيال العمل وكما أن هذه السردية المحيطة بالحوارات
وتتابع الأحداث بين الشخصية الرئيسية في العمل والشخصيات الأخرى تعتبر لغة
خفية يقصد منها الكاتب والمخرج تحريك استجاباتنا كمشاهدين، فإن الكاميرا
أيضاً تجعلنا نرى ماذا يحدث وتزودنا بطريقة نستطيع من خلالها فهم الشخصية
والإحساس بها وبناء عليه نتعاطف أو ننفر مما نشاهده.
لغة الكاميرا
الكاميرا تصبح عملياً وجوداً قائماً بذاته، عنصراً فعالاً يقدم خطاباً
ووجهة نظر في الكيفية التي تجري خلالها الأحداث.
الكاميرا لغة خفية نحكي بها عن الشخصيات ونرى من خلالها الشخصيات.
والكاميرا ليست اللغة الخفية الوحيدة فلابد لها من الاضاءة التي تدعم
وجودها الفاعل لتضئ العوالم الداخلية للشخصيات وتكشف أحاسيسهم وأدواتهم
والمحيط الخارجي الذي يتحركون خلاله والإضاءة تكشف أيضاً المدى الإبداعي
للمخرج وخياله في تقديم الشخصية وتحرك فينا مشاعر لا حدود لها للتعاطف أو
النفور من هذه الشخصية.
فالإضاءة في الدراما البصرية لا تستخدم قط لإظهار مهارة المصور ومن
وراءه المخرج وإنما تستخدم من أجل المتفرج بطريقة غير مباشرة فتنقله من
مزاج إلى آخر ومن حالة شعورية إلى أخرى.
كل ذلك يضاف إلى عملية التقطيع والتوليف الذي يؤثر في كيفية مشاهدتنا
للعمل، فالمونتاج يستطيع أن يخترق عواطفنا تجاه العمل المرئي بطريقة
تلقائية. والمونتاج هو إخراج ثان للفيلم كما يقول جان لوك جودار.
المشاهد للأعمال الدرامية لا يكون أثناء المشاهدة واعياً لهذه
التأثيرات التي تقوم بها الكاميرا والإضاءة والمونتاج، إضافة إلى كل هذه
العناصر تأتي الموسيقى المرافقة للعمل منذ شارة البداية إلى شارة النهاية.
فعادة تستخدم هذه الموسيقى لترتفع بالعمل الدرامي إلى أعلى درجات التوحد
الوجداني بين المشاهد والعمل نفسه بما يحتوي من شخصيات رئيسية أو ثانوية،
وبما يربط هذه الشخصيات من علاقات بالحدث أو المكان، وبما يخطط له المخرج
لإضافة أبعاد درامية على الحكاية نفسها والموسيقى نفسها تستخدم كتفصيل
موازٍ للتطور الدرامي للأحداث وعليه تكون متناسقة ومتناغمة منذ بدايتها إلى
نهايتها وتشكيل وحدة هارمونية مع الشخصية وسيرورتها والأحداث وتقلباتها،
وتمثل إذا ما قدر لها أن تكون موسيقى ذات جمال وعمق حقيقيين وجوداً قائماً
بذاته.
وفي الوقت نفسه جزء من بنية الشخصية نفسها التي تتمحور حولها الحكاية.
ولهذا السبب هناك موسيقى كتبت لأفلام أو مسلسلات رسخت في أذهان المتفرجين
وصارت جزءاً من المكتبات الموسيقية للجمهور. يتم اقتنائها بصفة مستقلة عن
العمل الدرامي الذي كتبت له وذلك لتأثيرها وقوة بنيتها وتعبيراتها في الروح
الإنسانية.
الكتابة الدرامية
ونحن أمام مسلسل "في حضرة الغياب" قلَّما نجد عنصراً من العناصر
الجمالية التي يجب أن تتوفر في العمل الدرامي، ففي البداية لا بد من محاولة
تحليل الكتابة الدرامية للكاتب السوري حسن م يوسف، هذه الكتابة التي اتضح
جلياً من خلال متابعة الحلقات الثلاثين أن الكاتب لم يبذل فيها ولا لها أي
جهد حقيقي في البحث والتعمق لمعرفة شخصية الشاعر، موضوع كتابته، لا من خلال
شعره ولا من خلال كتاباته النثرية التي كانت سيرته الذاتية منثورة بين
سطورها ولا من خلال الدراسات التي كتبت حوله.
ليس هذا فقط، فإن كتابة سيرة ذاتية لشاعر بقيمة محمود درويش يتطلب
أيضاً معرفة الشخصيات التي كانت جزءً من حياته الاجتماعية والثقافية
والسياسية لتأثيرها في سيرته وتطوره الشعري والإنساني.
وإذا بحثنا في هذا السياق عن أكثر السمات تميزاً من الناحية النوعية
للكتابة الجيدة لاختصر الجواب بكلمة واحدة، السمة البصرية. فلو جردنا
الكتابة من كل الحشو الكامن في عناصرها لوصلنا إلى نتيجة واحدة وهي إيصال
الصوت من خلال الكتابة، وإيصال الصورة من خلال الكتابة، وإيصال الصورة
التي تجعل العقل يرى. إنه تعريف ينطبق على الأدب الجيد والكتابة الدرامية
الجيدة وهو تعريف مثالي للعمل الدرامي الجيد.
ولكن في حالة "في حضرة الغياب" وما أثاره من نقد وهجوم ونعت بأبشع
النعوت عن جدارة ينطبق عليه قول المسرحي الألماني برتولت بريخت في المسرحية
التي ترجمت بعنوان "أوبرا القروش الثلاثة": "إننا نضع أنفسنا في وضعية رجل
أراد أن يغسل ملابسه في مجرور قذر ثم اشتكى من خراب النتيجة".
فماذا فعل حسن .م. يوسف خلال سنتين من العمل على كتابة السيناريو كما
ذكر في مقابلة أخيراً. إذا كانت مهمة الكتابة كما يقول جوزيف كونراد هي: أن
تجعلنا، من خلال قوة الكلمة المكتوبة، نسمع وتجعلنا نشعر وتجعلنا قبل كل
هذا نرى". فإن "في حضرة الغياب" استفز كل المشاعر المنفرة والرافضة لهذا
العمل وكانت الرؤية التي هي هدف الكتابة الأخير ضرباً من ضروب الاشمئزاز
والقرف، ونحن نشاهد كيف وضع الكاتب الشاعر الكبير بكل قيمته الشعرية وبهاء
شخصيته وفروسيته وجلال فلسطينيته، في إطار ضيق من رومانسية ضحلة وضعف
وانهيار دائم وكأننا منذ الحلقة الأولى أمام رجل هش يستجدي العواطف من
النساء والرجال كلما تحدث مع شخصية من شخصيات العمل تنتابه رغبة إعلامهم
أنه ذاهب إلى الموت.
قدم لنا محمود درويش آخر ليس له علاقة بالشاعر الذي عرفناه، إن كان من
خلال شعره أو من خلال حياته. شاعراً يبحث عمن يسمع قصائده في المقهى أو في
الشارع أو يقرأ حتى لطفل رضيع.ٍ.
هل هذه هي شخصية محمود درويش الذي لم نشاهده على مدار ثلاثين حلقة
يقرأ كتاباً إلا في مرة واحدة، وهو الذي كان يفتتح نهاره بساعتين، على ما
نعلم، كل يوم في لسان العرب يبحث عن حرف أو مفردة. أو هل هذا محمود درويش
الذي يمضي معظم وقته في علاقات غرامية ثلاثية الاطراف مع فتاة صغيرة، أو
المفترض أنها صغيرة، تهيم به عشقاً هي رهف المعشوقة من شخص آخر. وفي الوقت
الذي يرفض فيه الشاعر الاستجابة لمشاعرها الجياشة تجاهه، إلا أنه لا يرفضها
تماماً وكأنه يلعب لعبة سادية غريبة بعيدة كل البعد عن سماته الشخصية.
ومثال آخر على تلك العلاقات المرضية علاقته بنجلاء المصرية التي من
المفترض حسب المسلسل أنها أم رهف، لكن المخرج نسي أن يذكر ذلك. لأنه غرق
أيضاً في تلك العلاقة الثلاثية الأطراف مع رشاد أبو النجا.
وهل كان محمود درويش مغنياً شعبياً يغني المواويل ففي مشهد مضحك ومبكي
نرى الشاعر مع الصحفية سيلفي أبو عقل في مطعم على شاطئ البحر في أول لقاء
لهما يخبرها أن تسلم رسالة من والدته ثم يبدأ يغني موالاً عن الغربة
والسفر.
طفولة الشاعر
في حلقات الفلاش باك التي تتحدث عن البروى وطفولة الشاعر، فعلى مدار
ثلاث حلقات متواصلة لم يكلم الطفل درويش أباه ولا مرة واحدة ولا كلمة
واحدة، ولم يكلمه أبوه أيضاً. ألهذا الحد كانت علاقة الطفل بأبيه وهو الذي
كتب له، أبد الصبار، وكم مرة ينتهي أمرنا وإلى آخري وإلى آخره، من ديوان
لماذا تركت الحصان وحيداً. صحيح أن الطفل درويش كان قريباً إلى جده ولكن
ليس إلى هذه الدرجة التي يتطلبها تسويق المسلسل حيث أن الممثل المعروف أسعد
فضة هو الذي قام بدور الجد وكان على المنتج ربما لأسباب تسويقية بحت، أن
يعطي للجد مساحة أكبر من المساحة المعطاة للأب الذي قام بدوره تيسير إدريس.
هذا فيما يخص الشاعر كما قدمته الكتابة الدرامية لحسن. م. يوسف أصلاً،
أما فيما يخص الشخصيات الأخرى نلاحظ التالي:
في المرحلة الأولى من حياة الشاعر في فلسطين 48 أولاً، كل الذين عرفوا
الشاعر من أصدقائه في فلسطين، أكدوا أن ريتا لم يكن لها ذلك التأثير
عاطفياً على الأٌقل في حياة محمود درويش. ولكن الكاتب أصر على أن تأخذ تلك
المساحة الواسعة على مدار الحلقات جميعاً حيث أنهى المسلسل في الحلقة
ثلاثين بمونتاج ساذج للنساء اللواتي عرفهن الشاعر وطبعاً على رأسهن جميعاً
كانت ريتا.
لقد كانت ريتا، حسب الشاعر سميح القاسم في مقابلة يعلق بها على
المسلسل علاقة عابرة في حياة الشاعر وكان عمرها ربما 19 سنة ولم يكن لها
هذا التأثير لولا القصيدة. كما أن القصيدة في سياق تجربة الشاعر الشعرية لم
تكن تمثل مفصلاً او نقطة تحول شعرية في حياته وربما لولا المغني مارسيل
خليفة ما كان لهذه القصيدة أن تعيش في مخيلة الجمهور.
دوافع إنتاجية
وهنا نعود إلى الدوافع الانتاجية والترويجية للمسلسل فالتي قامت بدور
ريتا هي سلاف فواخرجي وهي أصبحت نجمة عربية وبالتالي هي عامل من عوامل
البيع بالنسبة للمنتج فراس إبراهيم، وبالتالي تعتبر مطمطة الدور واحتلاله
مساحة واسعة ضرورة مالية ومكسباً بغض النظر عن الأهمية الدرامية والعاطفية
لريتا في حياة الشاعر.
أما شلومو ابن عم ريتا وغريم الشاعر في هذه العلاقة الثلاثية الأطراف
مرة أخرى، فهو الشخصية التي طرحت سؤالاً في تعليقاتي على صفحتي على
الفيسبوك للذين عاصروا الشاعر في المرحلة الفلسطينية من حياته. هل وُجدت
هذه الشخصية؟ هل كان لريتا ابن عم يدعى شلومو؟ وهل كان هذا الشخص ضابطاً
بالموساد الاسرائيلي كما أظهر المسلسل وأذاق الشاعر من الاضطهاد الكثير؟
وهل قام شلومو شخصياً كما أظهر المسلسل بزرع العبوة الناسفة في سيارة
الشهيد غسان كنفاني وفي بيروت وفي الحازمية في مرآب منزل غسان كنفاني. هل
اعتمد الكاتب حسن .م. يوسف على معلومات استخبارية حول دور شلومو هذا؟ وهل
ذكر درويش في أي من كتاباته أو مقابلاته الصحافية المقروءة أو المرئية
حكاية شلومو؟ أم أن شخصية شلومو هي محض اختلاق من خيال الكاتب القصد منه
التشويه وتضمين ايحاءات مستوحاة بدورها من أفلام التشويق الأمريكية؟
ثم هل من المعقول في المرحلة نفسها وأثناء عمل الشاعر في جريدة
الاتحاد أن يتم تغييب الكاتب اميل حبيبي لنراه في حلقة واحدة لمدة خمس ثوان
فقط، ولولا نطقه لجملة واحدة لما عرفنا أنه إميل حبيبي. هل من الممكن لعمل
درامي يحكي سيرة الشاعر لانرى فيه إميل حبيبي الرفيق والكاتب الصديق
للشاعر؟
عطيات والملوخية
في القاهرة لا أدري لماذا اختار الكاتب من بين كل أصدقاء درويش
كالشاعر أمل دنقل ونجيب محفوظ ويوسف إدريس غير الشاعر عبد الرحمن الأبنودي.
ولو كان الكاتب قرأ درويش فعلاً لاكتشف تلك العلاقة الحميمة بينه وبين أمل
دنقل ولما تم تجاهله. ثم هل من المعقول أن يقدم لنا عطيات الأبنودي زوجة
الشاعر كزوجة لا تجيد سوى اعداد الملوخية فقط ولا تنطق بكلمة واحدة في
المشاهد التي ظهرت بها. وهي السينمائية الكبيرة التي كانت أكثر مخرجة
وثائقية معروفة منذ نهاية الستينيات ؟
لا أدري إذا كان حسن م يوسف قد شاهد صورة من قبل للسيدة ليلى شهيد
ممثلة منظمة التحرير في باريس حين كان الشاعر يعالج في باريس. أو ربما لا
يعرف أنها سيدة في نهاية الخمسينيات على الأقل، عريضة البنية، سمراء،
وتتحدث باللهجة الفلسطينية وليست شابة لم تتجاوز الثلاثين من العمر طويلة
وشقراء وتتحدث باللهجة اللبنانية كالممثلة ماري تيريز معلوف؟
من أشد المشاهد بلاهةً كتابةً وإخراجاً في هذا العمل الردئ على كل
المستويات. العروس الفلسطينية جفرا في ليلة دخلتها تهرب من عريسها الطبيب
الفلسطيني فيلحق بها العريس لتصعقه باعترافها بأنها لاتريد النوم معه لأنها
تحب رجلاً آخر، هو درويش نفسه. فيصاب العريس بإحباط شديد لهذا الخبر.
توقعنا موقفاً اكثر درامية على إثر هذا الاعتراف لكنهما خلال أقل من ثانية
يبتسمان ويعودان إلى غرفة النوم.
المرحلة البيروتية:
في حلقتين أو أكثر قدم لنا الكاتب شخصية شاب اسمه بول، يُعتقد أنه بول
شاوول الشاعر والمترجم والصحافي اللبناني المعروف على أنه شخص تافه ليس
لديه شغل إلا التآمر على محمود درويش من خلال امرأة، يختارها الكاتب،
مسيحية ولعوباً، يطلب منها بول الإيقاع بدرويش وتمريغ أنفه بالوحل لأنه
متعجرف أكثر منه حسب الحوار. هل هو هذا بول شاوول الشاعر والمثقف اللبناني؟
وهل هذه هي صورة الصحافية اللبنانية المسيحية التي توافق على الفور للدخول
بهذه اللعبة؟
ماجد أبو شرار السياسي والكاتب والصحافي والاعلامي الفلسطيني وعضو
اللجنة المركزية لحركة فتح، تم اغتياله في روما عام 1981 أثناء مشاركته في
مؤتمر. لكن عملية اغتياله مرت وكأن شيئاً لم يحدث وكان الشاعر كتب فيه
مرثية من أجمل من قصائده.
أما الشاعر معين بسيسو صديق درويش المناكف ، فلم يظهر إلا في خمسة
مشاهد ضعيفة من حيث الحضور، مرة ليجري مع درويش مقابلة بعد وصوله إلى
القاهرة، ومرة لينقل له خبر اغتيال غسان كنفاني، ومرة لينقل له خبر وفاة
راشد حسين ومرة حين استشهد علي فودة في بيروت والمشهد الأخير وهو يموت في
غرفته في الفندق في لندن. لكن في كل هذه المشاهد لم نر شخصية معين بسيسو
الشاعر مثلاً، ألا يعلم الكاتب أن معين بسيسو كان شاعراً كبيراً؟
شخصية خليل حاوي الذي لم نعرف أنه خليل حاوي إلا بعد أن رأيناه في
أكثر من حلقة بعيدة كل البعد عن الشخصية الحقيقية للشاعر الكبير خليل حاوي،
الذي كان يعاني من حالة اكتئاب قبل انتحاره عشية الاجتياح الاسرائيلي
للبنان عام 1982. وكان حاول الانتحار قبل هذه المرة ولم يكن تلك الشخصية
التي قدمها المسلسل الحيوية المواظبة على لعب الطاولة، ولم يكن شاباً كما
رأيناه في المسلسل بل كان في الثانية والستين من العمر حين انتحر.
شخصية الكاتب والروائي الياس خوري والذي كانت تربطه بالشاعر علاقة
صداقة وعمل وهو الناقد والباحث بالشعر الدرويشي والذي لم يكن (قطروزاً) لدى
الشاعر، يعمل لديه كصبي كما قدمه المسلسل بلا أدنى احترام لشخصيته كمثقف
وكاتب ربما كان له تأثير في مسيرة الشاعر لثقافته ودراساته الاكاديمية.
من بين الشخصيات التي تناولها المسلسل في حياة درويش شخصيتان تحظيان
بأهمية كبرى في حياته على الرغم من تباعدهما واختلافهما وهما ياسر عرفات
وادوارد سعيد.
لقد قدم لنا المسلسل شخصية الرئيس ياسر عرفات بطريقة كاريكاتورية
ضعيفة على مستوى بناء الشخصية والحوار الذي كتب لها وعلى مستوى التشابه
الجسماني بينها وبين الشخصية الأصلية، وهذا أمر لا يتحمل مسؤوليته حسن م
يوسف، إنما المسؤول عنه المخرج والمنتج أو المشرف العام على العمل.
لو كان حسن م يوسف يمتلك قدراً بسيطاً او مثقال ذرة من المسؤولية
والذكاء، الشرطان الأساسيان لكاتب جيد، لعرف أن شخصية مثل ياسر عرفات هي
شخصية درامية بامتياز والعلاقة التي ربطت الشاعر بالزعيم من أكثر العلاقات
درامية. فقد شهد التاريخ القديم والحديث أنماطاً من هذه العلاقات بين
المثقف والزعيم السياسي وكانت موضوعاً للدراسات الأكاديمية والإنتاج
الثقافي والإبداعي في المسرح والسينما.
وليس هناك مثال أسطع من علاقة الكاتب الفرنسي أندريه مالرو مع الجنرال
ديغول. فلطالما كتب عن هذه العلاقة، كما كتب عن علاقة المتنبي وسيف الدولة
في تاريخنا العربي. إن علاقة الشاعر بياسر عرفات تستحق وقفة متأنية عميقة
من كاتب مبدع وصادق ونزيه في عمله ومحب للشخصية التي يكتب عنها سواء أحبها
في الواقع أم كرهها. لأنه حين يكتب الكاتب ويشكل شخصية ما ويكسوها باللحم
والعظم تصبح هذه الشخصية ملكه يحبها ويدللها مثلما يدلل وليده.
لقد انجرف الكاتب وراء رؤية سياسية منحرفة ومريضة في كراهيتها لياسر
عرفات. وفي طريق الانحراف المريض نشر كراهيته للشاعر وحرمه من بعد درامي
عميق كان يمكن أن يضيف إلى الشخصية أو يكتشف مطارح جديدة ومثيرة للاهتمام
في هذه الشخصية.
صورة عرفات
أنا لا أجد دافعاً غير الدافع السياسي وراء التصوير الكاريكاتوري
لياسر عرفات "في حضرة الغياب"، فهذا الزعيم الذي ربطته بالشاعر علاقة
إشكالية ببعدها السياسي والسيكولوجي. كانت تستحق مساحة أعمق وأرحب واكثر
إبداعاً واحتراماً لكليهما للشاعر وللزعيم السياسي.
هل كان ياسر عرفات زعيم عصابة مسلحة ليرسل إلى الشاعر مسلحاً بالكوفية
الفلسطينية يحمل بندقيته الكلاشينكوف بطريقة مخيفة ليصطحب الشاعر إلى مكتب
الرئيس؟ أهكذا كان يتعامل مع محمود درويش؟
ثم ما هذا الانتين المعدني الذي يحمله ياسر عرفات دائماً يؤشر به على
محدثيه ويحك به رأسه المغطى بالكوفية، ماهذا الشنب الستاليني العريض
لعرفات. ألم يشاهد المخرج أو الكاتب أو المشرف على الإنتاج صورة من قبل
لياسر عرفات؟ وماهذه الحوارات السخيفة بينه وبين الشاعر؟ ألم يجد الكاتب
موضوعاً اكثر عمقاً ليكون حواراً يجمع الشاعر القومي الفلسطيني مع الزعيم
السياسي لهذا الشعب؟
إداورد سعيد الذي أعطاه السيناريو مساحة كبيرة في المسلسل، مفكر
فلسطيني كبير يستحق ربما عملاً درامياً ولكن المساحة التي أعطيت له في
العمل الدرامي ولم تعطى لعرفات، تجعلنا نشك بنوايا القائمين على المسلسل
السياسية وذلك بحكم قوة علاقة درويش بعرفات وقربه منه مقارنةً بعلاقة درويش
بسعيد. فنحن في المشاهد المليئة بالأغلاط التاريخية، سمعنا إدوارد سعيد
يوجه النقد "للجماعة" وهو يقصد منظمة التحرير الفلسطينية، ففي مرة يقول عبر
الهاتف لشخص رأيناه في كافة المشاهد التي ظهر بها إداورد سعيد واسمه هادي
ولكن لا نعرف كنية هذا الهادي، إنه ممثل م. ت. ف. في واشنطن، ولم يكن هناك
ممثل للمنظمة في واشنطن، بل كان لها مكتب إعلامي، يقوم بالعمل مع سماسرة
أميركيين للترويج للمنظمة. فمن أين جاء الكاتب بهذه المعلومات ثم نراه
ينتقد المنظمة في مشهد آخر.
ثم إنه قدم إدوارد سعيد على أنه عضو في اللجنة التنفيذية م. ت. ف.
وهذا أمر خاطئ كحقيقة، لأن إدوارد سعيد كان عضواً بالمجلس الوطني الفلسطيني
وليس في اللجنة التنفيذية التي لم يكن من الممكن أن يكون عضواً بها لأن
المنظمة كانت وحتى ذلك الوقت تعتبر منظمة إرهابية حسب القانون الأمريكي،
وإدوارد سعيد مواطن أمريكي لا يمكن أن يكون عضواً بلجنتها التنفيذية. هل
قدَّم الكاتب لإدوارد سعيد كل هذه المساحة لينقد المنظمة من خلال شخصية
محترمة كالمفكر سعيد. ربما!
قد تكون هذه الشخصية لمحة الذكاء الوحيدة للكاتب والقائمين على العمل.
ولكنه ذكاء يرمي الى إظهار موقف قديم في الزمن منذ صعود الرئيس السابق حافظ
الأسد إلى السلطة وحتى لحظة وفاة الرئيس ياسر عرفات، موقف قائم على كراهية
عرفات من قبل النظام السوري.
إن استسهال الكتابة الدرامية او أي كتابة في موضوع جديِّ وبغض النظر
عن أسباب هذا الاستسهال إن كان كسلاً أو ضعفاً مهنياً أو جهلاً بالموضوع أو
كان مقصوداً لوجود نوايا سيئة تجعل الكاتب يقع في مطبات مختلفة الأنواع
والأحجام.
وإذا كان الكاتب بذل أدنى جهد للبحث عند بناء شخصيات مسلسله وهو الذي
يزعم أنه كاتب محترف وأنه أمضى زمناً أطول في كتابة هذا المسلسل من أي
مسلسل آخر كتبه للتلفزيون السوري.
أٌقول لو بذل حسن م يوسف جهداً لنصف ساعة فقط لاكتشف أن ندى اليشرطي
لم تكن تلك السيدة التي قدمها مسلسله تلبس الكوفية والفيلد جاكيت العسكرية
والبوط العسكري، بل كانت سيدة من طبقة ميسورة لم تلبس اللباس العسكري في
حياتها ولم تكن مقاتلة أو تحمل سلاحاً وهي أرملة الراحل المهندس والمقاول
خالد اليشرطي وكانت تؤدي مهمات سياسية معينة بناء على طلب القيادة
الفلسطينية في بيروت.
ولو بذل نصف ساعة أخرى في البحث على
Googleفقط،
لعرف أن الدكتور أنيس صايغ تعرض إلى بتر ثلاثة من أصابع يده وهناك ندوب حول
عينه اليمنى لازمته إلى وفاته أخيراً. ولكن المسلسل قدمه لنا بلا أي آثار
على جسده من جروح محاولة الاغتيال، وقدمه لنا عاجزاً يجلس في منزله طيلة
المسلسل بلباس النوم وفي المكان نفسه يتصيد أخطاء منظمة التحرير وقيادتها.
وإذا كان حسن م يوسف قدم لنا كل تلك الشخصيات ولم يبذل جهداً في معرفة
حقيقتها حتى يأتي عمله قريباُ إلى الواقع، إلا أنه في تقديمه لنا لشخصية
المغني مارسيل خليفة جعل من هذا المغني قديساً أرسله الله إلى الشعب
الفلسطيني كي يساعد الشاعر محمود درويش للانطلاق في سماء النجومية الشعرية
من خلال تلحين قصائده، وأنه قام بهذه المهمة الرسولية لوجه الله تعالى
ورأفة بالشعب الفلسطيني. ففي الحلقات والمشاهد التي ظهر فيها المغني مارسيل
أعلمنا أن ريع حفلاته في لوس انجليس وأبو ظبي وحفلة أخرى في الإمارات
وأجرته كملحن لمغناة أحمد العربي ذهبت إلى أطفال رام الله وأطفال غزة وبيت
الصمود ومعهد ادوارد سعيد.
دور مارسيل خليفة
وكل هذه المزاعم جاءت على لسان المغني مارسيل، وهي ولو كانت صحيحة فمن
غير المفهوم عرضها في المسلسل وإقامة دعاية لها. ولكن القائمين على المسلسل
أرادوا رد الجميل للمغني مرسيل خليفة الذي كان الدينامو وراء إقناع عائلة
محمود درويش ومحاميه جواد بولس وعضو مؤسسة درويش في الداخل، عصام خوري
بالموافقة على إعطاء التصريح لفراس إبراهيم بعمل المسلسل وذلك في اللقاء
الذي جمعهم في عمان قبل التصوير. وقد كانت هذه الوساطة المرسيلية السبب في
أن يخرج هذا المسلسل التشويهي للشاعر وشعبه ورموز هذا الشعب إلى نور
الفضيحة.
كنت قد كتبت على صفحتي في الفيسبوك حول دور المغني مارسيل في هذه
الجريمة، وهو الذي استغل انبهار عائلة درويش ومحاميه وبعض أصدقائه به كمغني
معروف وقربه من الشاعر ليؤثر عليهم بالموافقة. وهو الذي لابد وقرأ
السيناريو التافه والغبي. لا بل ساهم مارسيل في البحث البائس عن حكايات
غرامية عاشها الشاعر بناء على طلب الكاتب والمنتج لضمهاإلى الحكايات
الغرامية السطحية التي ذكرت في المسلسل، وذلك حسب أحد الأصدقاء.
وإلا كيف لمغني وملحن يمكن أن يوافق على بيع موسيقاه وأغنياته من
قصائد الشاعر لتستخدم في المسلسل. إن الثمن الذي تقاضاه مرسيل خليفة مقابل
مساعدته لهذا الكاتب البدائي والممثل الفاشل ليس مقابلا ماديا وحسب من خلال
استخدام الموسيقى في المسلسل، وإنما أيضاً من خلال تقديمه كقديس يقيم
الحفلات الغنائية ليتصدق على أطفال الشعب الفلسطيني بعائدات هذه الحفلات.
لقد تعرض محمود درويش ليس لعدوان ثلاثي فقط كما ذكر الناقد الفلسطيني
حسن خضر، من الكاتب والمنتج والمخرج. وإنما حسب اعتقادي لعدوان رباعي يضاف
إليه المغني مرسيل خليفة الذي ساهم في إنتاج هذا المسلسل الفضيحة.
ما سبق هو استعراض للكتابة الدرامية في مسلسل "في حضرة الغياب" والفشل
الفادح المقصود وغير المقصود الذي وصل إليه الكاتب حسن م يوسف في تعاطيه مع
شخصية محمود درويش والشخصيات الحاضرة والغائبة.
أخطاء تاريخية
يضاف إلى كل هذه اللغوصات والتخبيصات الفادحة الكثير من الأخطاء
التاريخية والجغرافية في الزمن الذي عاشته هذه الشخصيات في المسلسل وهي
الأخطاء التالية:
لقد مرت أحداث السبعين في الأردن بكل نتائجها السلبية على الشعب
الفلسطيني وحركته الوطنية المعاصرة ولم تحرك ساكنا بالشاعر الفلسطيني
الكبير. ليس لأن الشاعر لا يتفاعل مع قضايا شعبه في كل مكان وإنما لأن حسن
.م. يوسف لم يسمع بما حصل في أيلول السبعين في الأردن، أو أن المنتج الممثل
فراس إبراهيم كان يفاوض قناة أو قناتين تلفزيونتين في الأردن ليبيع
المسلسل!!!
في مشاهد البروة "قرية الشاعر" وفي مرحلة الطفولة وتحديداً أثناء حرب
1948 كما قال المسلسل وكان الشاعر في السابعة من العمر (مواليد 1941) يلعب
درويش الصغير بطائرة ورقية في خراج القرية وتتحرك الكاميرا ملاحقة الطفل
لنرى أنه وصل إلى شاطئ البحر يلعب بطائرته الورقية!
كان من السهل جداً أن يعرف الكاتب أن قرية البروة تبعد عن شاطئ عكا 12
كلم بالضبط وهي مسافة من الصعب أن تكون كلها ملعب الطفولة للطفل في ظروف
الحرب.
في مشهد في منزل الشاعر في بيروت وحيدا يستمع إلى أم كلثوم وكان
زمنياً عام 1972 حسب المسلسل، يأتي الياس خوري وصديقان لزيارته ويبدي الياس
امتعاضه من أغنية المغنية المرحومة، كما جاء في الحوار. ناسياً الكاتب أن
أم كلثوم كانت ما تزال حية وأنها ماتت في شباط/ فبراير 1975. المضحك في هذا
المشهد أن درويش يدخل في نقاش مع الياس خوري حول كيف تعيش الأغنيات العظيمة
بعد رحيل أصحابها.
إن المركز الذي عمل فيه محمود درويش في بيروت اسمه الرسمي والمعروف
للعالم حتى لاسرائيل، التي اقتحمته على إثر احتلال بيروت وصادرت الكثير من
أرشيفه. اسمه مركز الأبحاث الفلسطيني وليس مركز البحوث كما جاء على لسان
فراس إبراهيم أكثر من ثلاث مرات في المسلسل.
جفرا الفتاة الفلسطينية أثناء وجود الشاعر في دمشق والتي جاءت لتتعرف
عليه في فندقه، تقدم نفسها على أنها فلسطينية من مخيم اليرموك القريب من
دمشق ولكنها أصلاً من قرية عين الكروم. وفي الحقيقة لا يوجد في فلسطين قرية
تحمل هذا الاسم اطلاقاً، وإنما هو اسم لقرية سورية في محافظة حماه. أما
القرية الفلسطينية التي ربما يقصدها الكاتب فهي قرية مجد الكروم في قضاء
عكا والقريبة من قرية دير الأسد حيث درس الشاعر المرحلة الابتدائية.
كي يزيد المساحة المخصصة لادوارد سعيد في مسلسله، نرى سعيد في مشهد
بعد وفاة الشعر راشد حسين في نيويورك يقول أنه اتصل بمحامي اميركي من أجل
إقناع الاسرائيليين لنقل جثمان راشد حسين إلى فلسطين المحتلة ودفنه في
قريته. والحقيقة أنه ليس إدوارد سعيد من سعى في هذا الأمر، فالذي كان وراء
كل التحرك هو الراحل زهدي الطرزي ممثل م. ت. ف في الأمم المتحدة آنذاك.
والكاتب الاسرائيلي التقدمي الراحل عاموس كينان الذي اقترح المحامي
الأميركي اليهودي الذي قام بدوره بالاتصال بالقنصلية الاسرائيلية في
نيويورك وهددهم بإقامة دعوى عليهم، إن لم يوافقوا على إعادة جثمان راشد
حسين ليدفن في قريته مُصمُص في المثلث الشمالي في فلسطين 1948. ولكن
القائمين على العمل لا يريدون أن يقدموا صورة إيجابية لممثلي منظمة التحرير
الفلسطينية، فتجاهلوا ونسبوها إلى إدوارد سعيد.
حصار مخيم تل الزعتر في لبنان الذي قامت به قوات الكتائب اللبنانية
بدعم من القوات السورية حدث في صيف 1976 وسقوط المخيم كان في 12 أغسطس 76.
أما يوم الأرض في فلسطين 1948 فقد حدث في 30 آذار/ مارس 76، ولكن المسلسل
أظهر لنا أن يوم الأرض حصل بعد حصار المخيم وسقوطه، ولم يظهر أي دور للقوات
السورية في هذه المجزرة ضد سكان المخيم من اللاجئين الفلسطينيين.
عملية النورس لتبادل الأسرى والتي تحرر بها مئات من الأسرى
الفلسطينيين والعرب من سجون اسرائيل ومن بينهم سمير درويش ابن عم الشاعر
والذي جاء إلى بيروت عبر دمشق حدثت في 9 آذار/ مارس 1979. وكتاب الاستشراق
ظهرت طبعته الأولى عام 1978 ولكن المسلسل قدم عملية النورس على ظهور كتاب
الاستشراق زميناً.
بعد استقالته من مركز الأبحاث إثر خلافات مع الرئيس عرفات عام 1979
ذهب الشاعر إلى تونس وليس الى باريس وعمل في الأليكسو ومستشاراً للأمين
العام لجامعة الدول العربية آنذاك، التونسي الشاذلي القليبي، وليس في
اليونسكو كما جاء على لسان فراس إبراهيم وكان السيد محي الدين صابر
السوداني هو مدير الأليكسو وليس الطاهر بن عاشور التونسي الذي هو عالم
وفقيه من علماء وجامعة الزيتونة الاسلامية في تونس وتوفي عام 1972 ولم يعمل
بوظيفة في الأليكسو.
الجريدة اليومية التي صدرت أثناء حصار بيروت عام 1982 وعمل بها الشاعر
ومعظم المثقفين الفلسطينيين والعرب كان اسمها "المعركة" وليس "صوت المعركة"
كما ظهر على جدار مكتب الشاعر في المسلسل.
لقد ساهم إدوارد سعيد في صياغة بيان الاستقلال أثناء دورة المجلس
الوطني الفلسطيني في 15 نوفمبر 1988 في الجزائر وكان هو شخصياً في الجزائر
ولم يكن في نيويورك كما جاء على لسان الممثل عدنان أبو الشامات منتحل شخصية
إدوارد سعيد بالمسلسل. وللعلم فإن إدوارد سعيد كان يدخن الغليون وليس
السيجار الذي أتحفنا به المسلسل.
زمنياً قفز المسلسل في حلقته رقم 24 من عام 1998 إلى عام 2006 دفعة
واحدة، وكما هو معروف فإن الرئيس عرفات استشهد في نوفمبر عام 2004 وكانت
الانتفاضة الثانية بدأت في أيلول عام 2000 فهل من الممكن أن يقفز المسلسل
هذه القفزة الزمنية ولا يتطرق إلى رحيل عرفات ولا إلى الانتفاضة الثانية
بكل ما يحمل هذا الحدثان من معنى وتأثير في شعر درويش ووجدانه.
إن عرفات بالنسبة للكاتب والمخرج والمنتج خط أحمر سياسي يؤكد التعامل
معه درامياً النوايا الخبيثة والكراهية السياسية المرتبطة بموقف النظام
السوري من عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية.
المسلسل ما بعد الكتابة
يقول المخرج بيتر بروك: " بقدر ما تطلب من المشاهد، فإن المشاهد يعطيك
إذا ماقمت بعملك بشكل صحيح".
والعطاء هنا هو التفاعل والاستجابة مع العمل الذي يشاهده الناس أكان
في المسرح أو التلفزيون أو السينما، هذا إذا افترضنا أن المخرج الذي يوقع
عملاً ما باسمه الشخصي كان يمتلك قدراً من النزاهة والصدق والحساسية
والعلاقة الحقيقية بالفن ولو كان يسيراً.
ولكن إذا كان هذا المخرج متوسط الموهبة وأجيراً لدى المنتج يقوم بعمله
ويذهب إلى بيته يتناول عشاءه ويلبس بيجامته وينام قرير العين فلا حيرة
تنتابه ولا قلق يؤرقه عما فعل خلال يومه.
أعتقد أن وصف نجدة أنزور بالمخرج الشاطر هو ضربٌ من ضروب المديح إلا
إذا كانت هذه الشطارة لا تحمل أبعد من معنى الفهلوة والتشبيح والسطو علناً
على حيوات الناس الذين تحولوا إلى شخصيات في مسلسل مثلهم مثل قطع الديكور
والشوارع، بلا أي إحساس ولا عمق ولا عناية من المخرج.
أستطيع أن أتفهم موقف نجدة انزور من هذا العمل بأنه عُرض عليه لإخراجه
بعد أن رفض عدد من المخرجين السوريين والعرب أن يقوموا بهذه المهمة لأسباب
عديدة منها إصرار فراس إبراهيم المنتج انتحال شخصية محمود درويش. وبالتالي
فإن لجوء فراس إبراهيم إليه يُعتبر نوعاً من عدم التقدير ولذلك حتى ولو كان
يمتلك نجدة أنزور بعضاً من المعرفة التقنية بالاخراج والموهبة التي يمكن أن
تضاف إليها فهو لم يضع شيئاً من المعرفة أو الموهبة في هذا العمل وأصابه
مرض الاستسهال الذي ورثه عن الكاتب أصلاً في التعاطي مع السيرة الذاتية
للشاعر.
إن وجهة نظر الكاتب أو خطابه السياسي والإبداعي أو رؤيته لموضوعه
وشخصيات هذا الموضوع تصبح عند بدء التصوير وجهة نظر المخرج وموقفه وخطابه
ورؤيته. وإذا مانجح المخرج في هذا الجهد فسوف ينتج ليس نسخة من السيناريو
وإنما يقدم لنا مشروعاً جديداً به من روحه وحرفيته وإبداعه، وهذا لم يحصل
لدى نجدة أنزور.
فسردية المسلسل الصورية تنقل صوت المخرج وبالتالي تؤثر في تشكيل
استجاباتنا تجاه العمل، وعندما يضيع إيقاع العمل فإن العمل برمته يضيع وهذا
ما حصل "في حضرة الغياب".
منذ اللقطة الاولى أو لنستخدم مفردات المسلسلات منذ شارة البداية
للحلقة الأولى والتي هي شارة البداية للمسلسل برمته إلى شارة النهاية التي
تتكرر أيضاً، ندرك ماهي الحياة التي منحها المخرج لمحمود درويش وهو يسير
على خطى الكاتب. ونستطيع أن نفهم لاحقاً تفاصيل هذه الحياة من نمط الصورة
وشكلها في هذه اللقطة الساذجة الكلاسيكية التي عفا عليها الزمن والتي تم
نسيانها في عالم الإنتاج البصري في السينما او التلفزيون، بغض النظر عن
واقع الحكاية نفسها. فلم يعد مألوفاً أن نستدل على رومانسية الحكاية أو
أبطالها من خلال مشهد الغروب والأطياف الغامضة للشخصيات الذين تم تصويرهم
مقابل الشمس الغاربة.
لقطة البداية والنهاية
هذه هي اللقطة الطويلة للشارة الافتتاحية للمسلسل، شاطئ البحر والشمس
برتقالية توشك على المغيب وعلى هذا الشاطئ طيفان لرجل هو درويش وامرأة هي
ريتا يمشيان متعانقين ليقول لنا المخرج إنهما عاشقان.
وأما لقطة الشارة الختامية للحلقات والمسلسل كاملاً، فهي نفس موقع
الكاميرا الثابت وافتراق العاشقين في لحظات الغروب نفسها. إذن قدم لنا
تلخيصاً واضحاً لما سيرتكبه بحق الشاعر منذ اللقطة الأولى وقبل بداية
الأحداث في حياة كاملة مليئة تتقزم في مشهد رومانسي غبي لم يعد صالحاً في
زمن تطور الرؤية المشهدية للمسلسلات والسينما وفي الوقت نفسه الذي تتناقض
هذه الصورة مع المكونات الشخصية للشاعر التي نستدل عليها من خلال مسيرته
الشعرية الحافلة أو من خلال أصدقائه الذين عرفوه عن قرب.
إن المخرج السينمائي أو التلفزيوني يستطيع أن يخلق شكلاً من أشكال
المجاز من خلال المونتاج، فالصور والمشاهد واللقطات يمكن أن تُربط وتُؤلف
بطريقة لتقدم لنا خطاً درامياً متماسكاً حتى لو كانت الكتابة الدرامية على
الورق مليئة بالأخطاء والركاكة وعدم فهم الشخصية محور الحكاية. إن أجمل
الأوصاف والحكايات المكتوبة أدبياً يتم ابتلاعها من خلال الصورة البائسة
وتصبح الفكرة التي يريد الكاتب إيصالها إذا كانت على قدر كبير من الجمالية
مغلقة وتصير الكلمات بلا معنى ولا فائدة.
حين ترى محمود درويش يقرأ شعراً مباشرة أو من خلال تغطية تلفزيونية أو
حين نراه في مقابلة حوارية أو نراه شخصياً. فإننا نرى شاعراً حقيقياً بكل
بهاء الشعر وسحر الحضور وإشعاع الكلمات، تعرفه من داخله، من داخل عقله
ووجدانه وشغفه وحبه ويأسه وحيرته أمام الحياة وأمام الموت وأسئلة الوجود
الفلسطيني التي عكسها بكل تفاصيل كينونته إلى درجة نشعر من خلالها بالتماثل
معه، ونحس إلى أي مدى يلامس أحاسيسنا وأفكارنا وحيرتنا ويأسنا وشغفنا وبهاء
الألم الفلسطيني.
كل هذه المعاني "في حضرة الغياب" مسخها نجدة أنزور الذي تعوزه
الحساسية، ويجهل شخصية الشاعر كإنسان وكتجربة شعرية وصار التركيز على أسنان
فراس إبراهيم ودموعه ومبالغته المضحكة في الحزن وشعره المستعار وقامته
القصيرة وملابسه السوقية في معظم المشاهد. وسوء استخدام الكاميرا التي
أظهرت جميع شخصيات المسلسل منذ الحلقة الأولى وحتى الحلقة ثلاثين أطول قامة
من الشاعر، ناسياً قامة دوريش ورشاقته.
لقد حرَّك أنزور كاميراه بطريقة جعلتني أحس أنه ينتقم من فراس إبراهيم
وأراد أن يظهره بطريقة كاريكاتورية، فأصاب الشاعر وأدماه.
في الغالبية الساحقة من المشاهد التي تجمع فراس إبراهيم مع شخصيات
أخرى، نساءً ورجالاً، كان ينظر إليهم من تحت لقصر قامته وكان من الممكن
للمخرج أن يتدارك هذا القصر من خلال موقع آخر للكاميرا ليظهره على الأقل
مساوياً بالطول للآخرين. وأما لقطات الكلوز-آب المقربة لوجه فراس إبراهيم
فأظهرته منتفخ الوجنتين بذلك المكياج البدائي والنظرات التائهة مدعية الحزن
واليأس.
إن معرفة الشخصية التي يتناولها أي إنتاج درامي في السينما أو التلفزة
والبحث في تفاصيلها الجسدية والنفسية والاجتماعية والمهنية....الخ. شرط
أساسي لتقديمها بطريقة تجعل المشاهد يتلهف على متابعة المسلسل أو مشاهدة
الفلم.
إن محمود درويش الذي نعرفه بإبداعه الشعري هو نتيجة لإبداع حياة مليئة
وأحاسيس عميقة كالحياة نفسها التي عاشها وعاشته ولا يمكن انتزاعه من هذه
الحياة ليظهر في صورة أقل قيمة من وجوده الحقيقي! إن كان كتابة أو إخراجاً
أو تمثيلاً: ولا يمكن أن يكون هو نفسه الذي نراه في مكان آخر غير بيئته
الراسخة في أذهاننا المتمثلة في ذاكرتنا التي لم يمر عليها زمن النسيان،
ولذا من المستحيل أن نأخذه، نسرقه، نستولي على حياته ونصادر حضوره الذي من
لحم ودم وروح وأن نضعه في مسلسل تحت رحمة كاتب فاشل وممثل ومنتج تاجر ومخرج
لا حساسية لديه تجاه ما يقوم به.
نحن نعرف محمود درويش وهو ما يجعل أي عمل درامي مهما كانت عبقرية الذي
وراءه، صعباً، للوصول إلى جوهر تجربته الإنسانية والشعرية أو التعاطي مع
المعطيات السيكولوجية والذاكرة والمفاهيم المجردة التي هي جزء من حالة
الشاعر و كينونته.
إن تمثيل أو تقديم حياة درويش ليست مجرد حكايات مفككة تدور حوله،
يعوزها البحث والتعمق بالمعرفة والتمثيل المبدع. فالحالات الذهنية والذاكرة
والأحلام والخيال وولادة الفكرة والصورة الشعرية وتكونها هي ما شكل شخصية
الشاعر، وهذه أمور من الصعب تمثيلها أو تقديمها في عمل بصري وخاصة مع فريق
فاشل كفريق " في حضرة الغياب".
إذا كانت الكتابة في هذا العمل واجهت صعوبة لتقديم منعرجات الوعي
وتشكل الشخصية الدرويشية، فإن العمل البصري واجه صعوبات أكثر تعقيداً في
تقديم الحالات الذهنية التي تدرك من خلال غيابها الكامن فيها عادةً في
الأعمال البصرية. فجاءت التعبيرات للممثل سطحية، مدعية ومزيفة في معظم
الحالات، كما جاء كل ما يحيط بالشخصية سوقياً لا يمت إلى عالم درويش بصلة.
أخطاء الإخراج
هناك أخطاء لايمكن أن نستدل من خلالها الاّ على تسرع المخرج واستسهاله
وعدم جديته وعدم حرفيته في هذا العمل. ومنها على سبيل المثال:
من المفترض أن أحداث المسلسل تدور في باريس وبيروت ودمشق وموسكو
والقاهرة وفلسطين 48 ورام الله وعمان وهيوستن ولندن، ولكن أستطيع أن أجزم
أن التصوير لم يذهب خارج سوريا ولبنان. حتى القاهرة لم يذهب إليها فراس
إبراهيم للتصوير، فلم نر من القاهرة إلا مشهدين يدعي المسلسل أنهما في مقهى
على النيل، وهذان المشهدان يمكن تصويرهما في سوريا على شاطئ بحيرة ما.
باريس التي أراد المخرج إقناعنا أنها باريس لم تكن سوى بيروت، فهل
أبنية باريس مبنية من الحجر الأبيض الذي لا نراه إلا في بلدان المشرق
العربي.
إذا كان فراس إبراهيم يدعي أن ميزانية المسلسل بلغت أربعة ملايين
دولار، وأنا لا أشك في كلامه لأن الميزانية الأولية التي علمت بها قبل
التصوير كانت خمسة ملايين دولار. فأين ذهبت هذه الملايين وهو لم يسافر
وفريقه خارج سوريا ولبنان.
وإذا كان إدعاء حسن ميم يوسف أنه تقاضى أقل أجر له على كتابة المسلسل
الذي كما ادعى أيضاً أمضى عامين في كتابته. وإذا كان المسلسل قدَّم لنا
مرسيل خليفة بصورة القديس الذي تذهب عائدات حفلاته صدقة إلى الأطفال
الفلسطينيين وهذا يعني أنه لم يتقاض اجره على استخدام الموسيقى في المسلسل،
فأين ذهبت الملايين فعلاً؟
يلجأ المخرجون إلى تعويض أماكن التصوير بأماكن أخرى عادة لأسباب مالية
وغير مالية، ولكنهم يقنعوا المتفرج بأن باريس هي باريس وموسكو هي موسكو
والقاهرة هي القاهرة، ولكن مخرجاً مثل نجدة انزور ما بتفرق معاه! وهو متعود
على اخراج مسلسلات خارج الزمان والمكان مثل الكواسر والجوارح!
في الحلقة الأولى، نسمع رهف تتحدث مع عاملة المقسم في الفندق الذي
ينزل فيه درويش في باريس وتتحدث بالانكليزية وهي التي تعيش في باريس وتدرس
الدكتوراة المفترض انها ملمة بالفرنسية. وحين تلتقي بالشاعر مباشرة بعد
الهاتف يقول لها لما قال لي عامل المقسم بالفندق ان زوجتك تتصل بك، عرفت
أنك أنت. لم يمر زمن على المحادثة الهاتفية، لكن نسي المخرج أنها عاملة
المقسم وليس عامل المقسم.
لو أجرى المخرج بحثاً بسيطاً وتعرف على الفندق الذي كان ينزل به
الشاعر في الخمسة عشر عاماً الأخيرة قبل وفاته في باريس، لعرف أنه لا يمكن
أن يجلس بهذا الفندق الذي تم التصوير به على أنه أوتيل ماديسون ويحتسي مجرد
قهوة، لأن فندق المسلسل كئيب الألوان، لا حياة فيه فربما هو في سوق ساروجة
في دمشق لنزلاء عابرين!
ولو أجرى هذا البحث وسأل عن الألوان التي كان يحبها الشاعر لما لجأ
إلى هذه المقاعد الجلدية فستقية اللون الصارخة في شقته في رام الله والكوؤس
الزهرية والحمراء والخضراء، ولما استعمل اللون الأخضر الفاقع على حائطه.
في الأمسيات الشعرية للمدعو فراس إبراهيم منتحلاً صورة الشاعر، لم نر
جمهوراً كما هو الحال في أمسيات محمود درويش التي كان يحضرها الآلاف من
الناس. ففي قراءته في فرنسا، هل كان من الممكن أن نرى بضعة اناس لا يتعدون
العشرين شخصاً يستمعون إلى الشاعر، إضافة إلى تحريك الكاميرا على رهف من
بين كل الحضور. وأما في الأمسيات الأخرى، فلولا أن منتجي هذا المسلسل
معروفون أنهم من سوريا لقلت أنهم منتجون أمريكيون لم يسمعوا بالشاعر ولا
رأوا أمسية مسجلة على الفيديو له من قبل. فقاموا واستخدموا الأنماط التي
يستخدمها الغرب عن العرب والفلسطينيين. فأين رأى نجدة أنزور جمهور محمود
درويش كلهم يعتمرون الكوفية الفلسطينية وكأننا في مهرجان فصائلي جماهيري في
مخيم من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين.
في مشهد في مقهى بيروتي في العام 1981 في الحلقة 28 من المسلسل نشاهد
فتاة بتنورة قصيرة تحمل جهاز موبايل وهي على ما يبدو ترسل رسائل قصيرة.
وللعلم أن الموبايل لم يوضع في الخدمة في لبنان وبشكل ضيق إلا في العام
1983، ولم ينتشر إلا في منتصف التعسينيات على نطاق واسع.
في مشاهد القاهرة في عام 1972 وفي شهر تموز/ يوليو، هل من المعقول أن
يلبس درويش والشخصيات الأخرى معاطف شتوية ثقيلة في قيظ القاهرة في هذه
الفترة من الصيف. وكذلك في مشاهد البروة في نيسان/ أبريل 1948، هل كان من
الممكن أن ينام الجد والطفل درويش أمام المنزل في العراء وفي الوقت نفسه
نرى ثلجاً على الطرقات.
لم يحدث في فيلم أو مسلسل حتى في الأعمال الأكثر فقراً في الإنتاج، أن
لا نسمع صوت انفجار أو لا نرى شيئاً يتطاير حتى لو التجأ المخرج إلى أشهر
الأساليب بدائية في إظهار الانفجار في سيارة غسان كنفاني أو انفجار الرسالة
بين يدي انيس صايغ.
في أكثر من مشهد في فترة القاهرة كنا نسمع صوت أحد الشخصيات ولانراه
وواضح أن هذا الحوار قد سُجَّل بعد التصوير وفي استديو لاختلاف الأصوات بين
المتكلم والمتلقي في المشهد.
كثير من الشخصيات منذ مشاهد فلسطين وحتى بيروت وباريس لم نكن نعرف
أسمائها أو في أحسن الأحوال نعرف الاسم الأول. فمن هو حسين في حيفا، ومن هو
هادي الذي ظهر في أكثر من مشهد مع إدوارد سعيد، ومن هو عباس الذي ظهر في
بيروت هل هو عباس بيضون الشاعر اللبناني؟، وسليم وبول وأميغو وأبو خالد
وجواد والمصور القادم من أميركا. هل يكفي أن نذكر الأسماء الأولى لهذه
الشخصيات لنعرف من هم؟
لا أحد يستطيع أن ينكر حب محمود درويش لدمشق لا بل حب جميع
الفلسطينيين لدمشق وسوريا، حتى ولو كان هناك صراع سياسي عاشته منظمة
التحرير الفلسطينية مع النظام السوري تحت حكم حزب البعث الاشتراكي العربي.
وكان الشاعر يتألق في أمسياته الشعرية في دمشق لأن جمهور دمشق أحبه وأحب
شعره والشاعر بادلهم هذا الحب. ولكن أن ينهي نجدة أنزور وفراس إبراهيم وحسن
ميم يوسف المسلسل في الحلقة الأخيرة بقصيدة "طريق دمشق" وصورة واسعة لدمشق
من جبل قاسيون، وقبل ذلك بدقيقتين يعيد مونتاج صور النساء اللواتي مررن
بحياته ليختصر حياة درويش بالنساء ودمشق. فهذا أمر لا يمكن اعتباره إلا
رسالة سياسية حمقاء. لأن الشاعر القومي للشعب الفلسطيني الذي عاش وكتب من
أجل فلسطين كان يستحق أن تكون صورة فلسطين هي الصورة الأخيرة في عمل درامي
يحكي عن سيرته كشاعر فلسطيني وليس كشاعر سوري. أليس محمود درويش هو القائل:
على هذه الأرض ما يستحق الحياة، سيدة الأرض، كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى
فلسطين!
يلجأ المنتجون في كثير من الحالات لصناعة مسلسلات تتبع السيرة الذاتية
لشخصيات تحظى باحترام وحب كبيرين لدى جمهور عريض من الناس وذلك سعياً وراء
الربح المادي من وراء هذا الإنتاج أو سعياً وراء خلق صورة محترمة عن
شخصياتهم وإنتاجهم.
ولكن "في حضرة الغياب" الذي يحكي عن شخصية فريدة في شعبيتها واحترامها
ليس من قبل الشعب الفلسطيني الذي تنتمي إليه، بل من قبل عامة الشعوب
العربية وكثير من الشعوب الأخرى. وضع القائمون على العمل، كاتباً ومخرجاً
ومنتجاً ممثلاً، علامات استفهام كبيرة على سمعتهم لفشلهم في الوصول إلى
القيمة الحقيقة لمحمود درويش كشاعر ورمز من رموز الوطنية الفلسطينية،
وهشاشتهم وخلفياتهم التجارية التي لم يكن همها إلا الربح من وراء استخدام
صورة هذا الشاعر الكبير. إضافة إلى كل هذا استخدامهم الرخيص لمحمود درويش
في رؤية سياسية ضحلة ومتخلفة.
كلمة أخيرة في هذا العمل الفضيحة. فإذا كان المغني مارسيل خليفة
انخرط طوعاً في هذا المشروع ولو زعم ما يخالف ذلك وقام بتزكية المنتحل
شخصية الشاعر، المدعو فراس ابراهيم لدى عائلة درويش التي تتحمل مسؤولية هذا
الاعتداء الواضح على الشاعر بموافقتها على التصريح بصناعة العمل، فان
كثيرين يشاركون هؤلاء في المسؤولية، وأذكر هنا الاعلاميين الذين طبلوا
وزمروا لفراس إبراهيم قبل التصوير مثل الاعلامي زاهي وهبي الذي استقبل في
برنامجه "خليك بالبيت" فراس إبراهيم وهلل له واستضاف ممثلين لبنانيين
يكيلان المديح لمنقذ الشاعر من النسيان فراس ابراهيم. والاعلامي
الفلسطيني رمزي حكيم في برنامجه "نظرة من الداخل" على الفضائية الفلسطينية
الذي خصص حلقة لبناء الثقة بفراس ابراهيم قبل التصوير قادها محامي درويش
جواد بولس.
إضافة الى ذلك كله فإن من فريق المسؤولين عما حدث، الفضائية
الفلسطينية التي لم يكلف القائمون عليها انفسهم مشاهدة المسلسل قبل ارتكاب
عرضه ورفضوا نداءات جمهور عريض من المثقفين الفلسطينيين لوقف هذه المهزلة
منذ الحلقات الاولى تحت شعار الديمقراطية في الوقت الذي يوقفون برنامجاً
فلسطينياً اسمه "وطن على وتر" لأنه تعرض الى الفساد في بعض مؤسسات السلطة.
* مخرج وناقد من فلسطين مقيم في بيروت
عين على السينما في
24/09/2011 |