يطرح فيلم "المسافر" الذى عُرض أخيراً بعد عامين من إنتاجه فى عدد
محدود فى الصالات المصرية، عدّة قضايا هامة تستحق الإشارة والتسجيل قبل أن
نتطرق الى الفيلم نفسه وهو هدف المقال وسبب كتابته.
القضية الأولى هى أن ما نشر حول الفيلم وظروف إنتاجه وميزانيته
والمهرجانات التى عُرض فيها يفوق بمراحل ما نشرمن دراسات عن الفيلم نفسه،
وحتى ما معظم ما نشر من مقالات وسجالات كان يتعلق بفيلم لم يره الجمهور فى
الصالات المصرية.
ليس من الغريب أن تتصدر كواليس الفيلم الصورة باعتباره يمثل عودة
وزارة الثقافة المصرية الى الإنتاج بعد أكثر من ثلاثة عقود من التوقف، ولا
أستغرب أن تجد الصحف فى زيادة ميزانية الفيلم الى 20 أو22 مليون جنيه (فى
قول آخر)، بعد أن كانت الميزانية خمسة أو سبعة ملايين جنيه (فى رواية أخرى)
مادة دسمة لطرح علامات الإستفهام، ومن المفهوم أيضاً أن يثير غضب بطل
الفيلم عمر الشريف على الفيلم كل هذه الضجة، وأن يفتح رزقاً واسعاً لصحافة
النميمة والقيل والقال.
ولكن تظل القضية الإساسية بالنسبة لى هى أن ما حول الفيلم وظروف
إنتاجه يهم الناقد بقدر اتصاله بالصورة التى ظهر عليها العمل، كما أن ما
سيبقى من "المسافر" هو الفيلم نفسه وقيمته الفنية، وفى ميزان الدفاع أو
الهجوم فإن أفضل من يدافع عن الفيلم هو الفيلم نفسه وليس أى أحد آخر.
موضوع التأثر
القضية الثانية التى يجب أن نتفق عليها هى أن صانع الفيلم حرّ تماما
فى التعبير عن المضمون بالشكل والأسلوب الذى يريده، من حقه أن يتأثر بهذا
المخرج أو ذاك، ومن حقه أن يختار أن يكسر منطق الواقع التقليدى، ولكن ذلك
لا يعفيه من أن يصنع منطقاً موازياً وبناء متماسكاً وانسجاماً داخلياً
مُقنعاً وإلا أصبحنا أمام أزمة تتمثل فى عدم النضج أو ضعف القدرة على
استخدام الأدوات.
القضية الثالثة هى أن الأفكار فى الدراما لا تنتقل مباشرة الى
المتلقى، ولكنها تتسلل إليه عبر الأحداث والشخصيات والمواقف والتفاصيل وكل
عناصر العمل الفنى، وبالتالى فإن أى خلل فى هذه العناصر سيخصم حتماً من
رصيد الأفكار، بل إنه قد يجعلها لا تصل من الأساس، وبالتالى فإن أكبر خدمة
يمكن أن يقدمها الفنان لأفكاره هى أن يتقن فنه وصنعته.
من هذه الزوايا الواسعة، نستطيع أن نضع عنواناً شاملاً لمأزق فيلم
"المسافر". من الناحية الفنية بعيداً عن الضجيج الصاخب الذى رافق عملية
إنتاجه وتأجيله ثم عرضه.
تناقض
يبدو لى الفيلم بعد أن شاهدتُه نموذجاً للتناقض بين ضخامة الطموح
(وهو أمر رائع وجيد ومطلوب) وعدم التمكن من الأدوات التى تُحقق هذا الطموح،
إنه شئ أقرب الى خطيب لديه أفكار كثيرة وحماس لا حدود له، ولكن ما أن يُمسك
بالميكروفون حتى يضطرب منه السياق، وتختلط العبارات، ويجتمع العميق
والسطحى، ويعلو ويهبط الإيقاع، فتبذل جهداً مُضنياً لكى تفهم ما يقول.
اختار أحمد ماهر، مؤلف ومخرج الفيلم، شكلاً غير تقليدى بالنسبة للفيلم
المصرى، سيناريو أقرب الى رحلة الإكتشاف، رجل يكتشف ذاته عبر اكتشافه
لأولاده وأحفاده، إنسان يسافر فى الزمن عبر ثلاثة أيام فقط مازالت راسخة فى
الذاكرة بعد أن نسى كل ما عداها، الرحلة نفسية فى المقام الأول، كما انها
ذاتية ومن خلال ذاكرة رجل عجوز، وبالتالى فإن هناك فرصة رائعة للتعبير الحر
الذى يمتزج فيه الواقع بالخيال، والحلم بالحقيقة، والمأساة بالملهاة، وما
حدث بالفعل مع ما كنا نحلم أن يحدث.
هنا فكرة جيدة وبرّاقة، وهنا أيضا ما يسمح للمخرج الذى يعشق عالم
فيللينى أن يستوحى إبداعه الحرّ، ولكن هذا الطموح ستواجهة مدى قدرة المخرج/
الكاتب على تحويله الى دراما غير تقليدية لا تفتقد التماسك، وهى قدرة لم
تصل بعد الى مرحلتى النضوج أو الإتقان.
وراء عالم فيللينى الساحر دراسة نفسية عميقة للشخصيات التى يقدّمها،
وإتقانٌ حرفى يلملم شتات الذاكرة ويعطيها بصمة خاصة متماسكة، قد لا تكون
هناك حدوتة تقليدية فى أفلام مثل ثمانية ونصف، والحياة اللذيذة ، وجوليتا
والأرواح، لكنك تخرج منها وفى ذهنك لوحات لا تُنسى من فرط القوة التى رسمت
بها الشخصيات، تستطيع أن تفهم أزمة المخرج فى الفيلم الأول، وأسباب ضياع
الصحفى فى الفيلم الثانى، ومصدر هواجس الزوجة فى الفيلم الثالث.
أما فى "المسافر" فإن أكثر الشخصيات غموضاً واضطراباً وتشوشاً هو
بطلنا حسن الذى لعب دوره خالد النبوى ثم عمر الشريف، مع أن الفيلم فى جوهره
رحلة فى داخله لا فى خارجه كما قد يعتقد البعض، اكتشاف الآخرين (أولاده
وأحفاده)، واكتشاف العالم مع تغير الزمن، هو وسيلته الوحيدة للتخلص من
أزمته بمواجهة نفسه فى مشهد أخير.
فيلم الرحلة
أقرب نموذج لفيلم الرحلة عبر اكتشاف الآخر والعالم تجده فى فيلم داود
عبد السيد الهام "البحث عن سيد مرزوق"، بل إن هذا الفيلم يكسر مثل فيلم
"المسافر" طرق السرد التقليدية، ويتشابه بطله نور الشريف مع حسن بطل
المسافر فى هاجس الخوف الذى يطاردهما طوال الأحداث.
ولكنك تستطيع بالكاد فى فيلم "المسافر" أن تتبين أن وراء هذه الرحلة
المتلاحقة والمشاهد المتتالية بعض الأفكار الباهتة حول الخوف، والعلاقة
بالآخر، والمفهوم الشرقى الساذج عن الرجولة الذى يكاد يكون مرادفاً لمعنى
الفحولة والتهور، وينحاز الفيلم بعد اضطراب وتلعثم وتهتهة ولجلجة الى مفهوم
آخر هو أن الشجاعة الحقيقية تكون فى مواجهة الآخر أو بمعنى أدق فى مواجهة
النفس من خلال الآخر.
ضعف القدرة
فكرة كهذه ممتزجة بخيال واسع وسرد مفتوح على كل مدارس السينما
واتجاهاتها مع فريق عمل كبير وإنتاج ضخم كانت كفيلة بأن تسفر عن تُحفة
فنية، ولكن ضعف القدرة فى مقابل ارتفاع سقف الطموح جعل الفيلم معلقاً مثل
بطله بين السماء والأرض، لا هو فيلم شديد الرداءة الى درجة تجعله غير مستحق
للمشاهدة، ولا هو فيلم عظيم رغم تجديده الشكلى ووجود مشاهد جميلة مستقلة،
لا هو فيلم يخلو من المعنى، ولا هو فيلم ينجح فى أن يوصّل أفكاره، أنت
تقريباً أمام فيلم يحاول أن يقول شيئاً ولكنه يتعثّر فى الحديث فلا يعرف
كيف يقول.
سنحاول أن نختبر هذا الحكم بالتحليل التفصيلى للفيلم. من حيث البناء
لدينا ثلاثة أيام فقط فى حياة أحد موظفى هيئة البريد اسمه حسن، وهو لا
يتذكّر سواها، ونسمع صوته أحياناً وهو يحكى عنها، اليوم الأول فى خريف 1948
ومكانه مدينة بورسعيد، واليوم الثانى فى خريف 1973 ومكانه مدينة
الإسكندرية، واليوم الثالث فى خريف 2011 ومكانه مدينة القاهرة، هناك إذن
ثلاثة أقسام فى رحلة الإكتشاف والسفر فى الزمان والمكان والبشر، وهو تقسيم
جيد ومتوازن مع استخدام صوت السارد/ البطل فى لحظات مختلفة، وبطريقة كان
يمكن أن تكون أفضل كما سنوضّح.
يبدأ الفيلم فى قسمه الأول بمشهد أراه رائعاً ودالاً: تستعرض الكاميرا
بعض الأشخاص على شاطئ بورسعيد، ثم يخترق الكادر مجموعة من الجنود الإنجليز
يحملون العلم البريطانى، فجأة تنسحب الكاميرا الى الخلف فنجد أنها تنقل
إلينا المشهد من نافذة قطار يجلس فيه بطلنا حسن (خالد النبوى) وحيداً وسط
الظلام على حين تظهر فى عمق الكادر اللافتة الخشبية التى تحمل اسم محطة
بورسعيد.
الواقع الخيال
فى لقطة واحدة ممتدة قالت الصورة إننا فى مدينة بورسعيد فى
الأربعينيات حيث مازال الوجود الإنجليزى قائماً، وقالت أيضاً ما هو أهم بأن
بطلنا القادم الى بورسعيد مدينة البحر المفتوحة يبدو وحيداً مغلقاً على
نفسه لا يرى البحر إلا من خلال نافذة، وقالت الصورة شيئاً آخر أكثر أهمية
هو أنه ستكون هناك حرية فى المزج بين الواقع والخيال إذ لا يوجد فى الحقيقة
محطة قطار تقترب من شاطئ البحر بهذه الدرجة.
لن يسير الفيلم على هذا المستوى من التكثيف البصرى المدهش، ولكنه
سيعلو ويهبط ويرتفع وينخفض، ولكن الثغرة الخطيرة التى ستؤثر على مسار
الفيلم كله أننا تقريبا لن نعرف شيئاً عن حسن هذا قبل ظهوره الأول، لا توجد
عنه طوال الفيلم إلا معلومة يتيمة عن حياته السابقة هى أنه كان يحلم فى
طفولته أن يكون رجلاً للمطافى، وعليك أنت أن تخمّن أنه كان جباناً مثلا
فانتهى الى العمل كرجل للبريد.
نعم نحن نتحدث عن ثلاثة أيام فقط فى ذاكرة رجل، ولكن من المستحيل أن
تفهم موقف الرجل وتصرفاته فى هذه الأيام الثلاثة دون أن ترسم ملامح الرجل
النفسية والإجتماعية، وقد أدت هذه الثغرة الخطيرة فى السيناريو الى أن
المشاهد لن يستطيع إلا بالتخمين وضرب الودع أن يفهم سرّ أزمة حسن، وسرّ
تقلباته الغريبة فى تعامله مع النساء.
كسْر المنطق التقليدى فى السرد بنفى العلاقات السببية لا يعنى ألا
يكون هناك منطق بديل متسق، ومن المستحيل أن يحدث ذلك دون بناء الشخصية
وتقديم المعلومات الكافية عنها، أرجو أن تعود من جديد الى أفلام فيللينى
لتكتشف أن قوتها الكبرى ليست فى الخيال والسرد الحر كما يعتقد الكثيرون
ولكن بالأساس فى القدرة على رسم شخصياتها المحورية بكل أبعادها الجسدية
والنفسية والإجتماعية والجنسية.
بسبب هذه الثغرة الخطيرة لن تعرف مشكلة حسن وأسباب اضطراب علاقته مع
الآخرين صعوداً وهبوطاً طوال مدة الفيلم، ولن تعرف لماذا هو خائف أحياناً
ومغامر فى أحيان أخري، ولماذا كان مفهومه عن الرجولة والشجاعة على هذا
النحو ثم تغيّر بعد ذلك.
انشغل أحمد ماهر بالتقليد الشكلى لعالم فيللينى الساحر ونسى حجر
الاساس فى عالمه وهو البناء الفذّ لشخصياته المحورية الذى تلعب فيه مشاهد
الطفولة دوراً جوهرياً (راجع مثلا فيلم إنى أتذكر).
كان لدى أحمد ماهر نقطة انطلاق رائعة: شاب مُغلق خائف فى مدينة مفتوحة
كوزموبوليتانية، ولكن بطله سيقوم بمجموعة من التصرفات التى لاتدلّ إلا على
خلل نفسى واضطراب داخلى عميق لاتجد تبريرا له لأنك ببساطة لا تعرف أى شئ عن
ماضى الشخصية وملامحها الداخلية.
صورة مشتركة
سينتهز حسن معرفته بأن الفاتنة الأرمنيّة نورا (سيرين عبد النور) قد
أرسلت تلغرافاً الى حبيب قديم يدعى فؤاد سليم (عمرو واكد)، فيقوم بطلنا مثل
أى مراهق فى الخامسة عشرة مثلاً بانتحال شخصية فؤاد، يرمى نفسه فى مياه
القناة، يرقص مع الفتاة التى قضت حياتها السابقة فى بورسعيد ثم سافرت
لتعود، وفجأة ودون أى مقدمات يقوم باغتصاب نورا على سطح السفينة، يعتذر لها
بأنه أراد فقط أن يظهر جسارته، ينسحب أخيراً مع ظهور فؤاد الأصلى الذى
يتزوج من نورا، وتبقى للثلاثة صورة مشتركة تربط أحداث القسمين التاليين.
من المستحيل أن تفهم تذبذب حسن بين الرقة والعنف دون معلومات سابقة عن
علاقته بالمرأة أو بالجنس، لايكفى أبداً أن يكون قد استمع الى تأوهات
العاهرات اللاتى تقدمن المتعة للجنود الإنجليز فى بورسعيد، بل إننا لا
نستطيع أن نفهم سر مغامرة حسن باختطاف فتاة لا تعرفه فى مدينة لا يعرفها،
كل ما شاهدناه مجرد إنسان غريب يريد أن يعمل موظفاً، ويبدو على هيئته داخل
القطار أنه شخص منعزل لا يستطيع أن يكلّم رجلاً دون أن يضطرب فما بالك
بامرأة جميلة غريبة؟
ليس فى ذهن أحمد ماهر أن يجيبك عن هذه الأسئلة، إنه مهموم بفكرتين
تُلمّح إليها المشاهد والحوارات الركيكة دون أن تفلح فى إيضاحهما،
والفكرتان الباهتتان ستستمران معنا وسط طوفان من اللجلجة والإستطراد
واضطراب الإيقاع دون أن يُفلح الكاتب فى وضعهما فى البرواز اللائق.
أفكار غامضة
الفكرة الأولى هى مفهوم الشرقى عن الشجاعة والخوف والرجولة، يريد ماهر
أن يقول أن بطله حسن ورث المفهوم الشرقى عن الرجولة والذى لا يزيد عن
الفحولة الجنسية، وان هذا هو ما دفعه لاغتصاب نورا رغم حبه لها، ولكنه ينسى
أن وراثة الأفكار ينتقل بالسلوك والتربية وليس بالجينات، وهو أمر لم نره فى
أى لقطة، ويريد أيضاً أن يقول إن الشجاعة تقترب عندنا من التهوّر مثلما فعل
حسن بإلقاء نفسه فى ماء القناة لاختطاف خطيبة غيره.
لكن ماهر لم يكلف نفسه أن يشرح لمشاهده لماذا آمن حسن بهذه الأفكار؟
وهل تتسق هذه الأفكار الموروثة مع شخصيته؟ بل ما هى أصلاً مواصفات شخصية
حسن؟
أما الفكرة الباهتة الثانية فهى علاقة المصرى مع الآخر المختلف عنه،
مدى قدرته على الإنفتاح أو عودته الى الإنغلاق عندما تتصادم المفاهيم، نورا
أرمنيّة ولكنها عاشت لسنوات فى مصر، هى لا تعانى مثل حسن عُقداً فى العلاقة
مع الآخر لدرجة أنها ترسل تلغرافاً تعلن فيه حبها لشخص لا يعرفها، هى أيضا
تستطيع أن تفرّق بين لغة المشاعر ولغة الجسد فيما لا يستطيع حسن ذلك.
معظم الشخصيات المصرية فى هذا القسم ترى الرجولة فى الفحولة، حتى
بائعات الهوى المصريات تصرخن مؤكدات لأى عسكرى إنجليزى:" أنت ريتشارد قلب
الأسد"، بينما نجد قبطان السفينة (يوسف داود) يونانياً عاش فى مصر، ولذلك
فهو نصف شرقى مما يجعله قادراً على فهم معنى ومغزى علاقة رومانسية بدأت
بتلغراف من فتاة على سفينة تشبه المدينة بل العالم.
بتر مفاجيء
تتوه هذه المعانى تماماً وسط انقلابات حسن الغامضة، ووسط شبح اسمه
فؤاد كامل يقولون إنه موظف فى الهيئة، ينادونه فؤاد بيك بينما نراه يستأجر
بدلة الفرح، تبدو الأفكار باهتة تماما وسط البتر المفاجئ لبعض المشاهد
وتقديم بعض الأجزاء الكوميدية تقليدا لسينما فيللينى دون أن يفطن ماهر الى
أن الكوميديا فى أفلام المخرج الإيطالى الكبير لا تستهدف التخفيف من قتامة
مشهد سابق كالإغتصاب أو الموت، ولكنها جزء عضوى يُكمل رسم ملامح تناقضات
الشخصيات وحيواتهم القلقة.
ورغم أنك لا تستطيع أن تجد علاقة ما بين اختيار تاريخ 1948 (حرب
فلسطين) وبين حكاية حسن ونورا، إلا أن ماهر يعود فى القسم الثانى ليختار
دون أن يدرى تاريخاً دالاً آخر فى الذاكرة المصرية هو عام 1973 (حرب
أكتوبر) دون أن يكون له علاقة بالأحداث، ثم يختار تاريخاً دالاً بالنسبة
للذاكرة الإنسانية كلها فى القسم الثالث هو عام 2001 (تدمير مركز التجارة
العالمى) ، يقول المخرج أنه لم يقصد أى دلالة بهذه التواريخ سوى أن هذه
الأحداث الكبرى قد لا تثير اهتمام أشخاص عاديين مثل بطله الذى يحكى عنه.
هؤلاء هم هدف الفيلم لا الأحداث الكبرى الخطيرة.
لا بأس من المعنى سوى أنك من الصعب أن تصل إليه إلا إذا قاله أحمد
ماهر فى حوار صحفى، لم نسمع حسن يعلّق مثلاً فى أى قسم من الفيلم بأن
اكتشافه لابنه وحفيده أهم عنده من الحروب، مرة أخرى هناك قصور فى التوصيل،
وقصور فى استيعاب فهم الجمهور التواريخ ودلالاتها، وكلها نقائص زادت الفيلم
اضطرابا.
في الاسكندرية
فى القسم الثانى ننتقل الى مدينة أخرى مفتوحة على العالم هى
الإسكندرية، وهنا أيضا تظهر ثغرة أخرى، يُفترض ان يواصل حسن تصدّر رحلة
البحث والإكتشاف، ولكن البطل الحقيقى لهذا الجزء الطويل هو رجل شبه أبله
اسمه جابر يلعب دوره ببراعة واقتدار محمد شومان، سيكتشف حسن أن له ابنة
اسمها نادية (سيرين عبد النور أيضا) ،ومن خلال الإبنة يعرف أن لها شقيقا
غرق فى الماء بسبب رهان متهور على نزول أحد الآبار، من خلال الصورة
الثلاثية فى السفينة ستكتشف نادية أن أخيها الغريق، الذى لن نراه أبدا،
نسخة فى الشكل من حسن، فتلجأ الى الرجل الذى تقدّم فى العمر، ولكن كل
المعلومات الهامة عن الغريق سنعرفها من صديقه الأبله جابر الذى سيتزوج من
نادية بموافقة الأب حسن!
مرة أخرى ستتوه الفكرة التى يحاول ماهر أن يمسك بها منذ البداية دون
توفيق كبير، هو يريد أن يقول من جديد أن بطلنا مازال خائفا من مواجهة نفسه
أو مواجهة الآخر (يتردد فى مساعدة نادية وفى احتضانها ويرفض أن يشاهد ابنه
الشبيه الغريق)، تستطيع أن تفهم بصعوبة بالغة أن الإبن الغريق يفهم الرجولة
والمغامرة بما يقترب من التهور إذ كان ينتظر اقتراب القطار ثم يُلقى بنفسه
فى الماء، تبدو هناك أيضاً سخرية لاذعة من فكرة مصائر أسرة حسن حيث تتزوج
ابنة الأرمنية الرومانسية من شخص أبله تماماً، ولكن حسن يبدو كما لو كان
ضيفاً على هذا الجزء المثقل باستطرادات سواء فى مشاهد استلام جثة الإبن
ودفنه أو فى إجراءات العزاء التى تتحول الى صوان فرح، فى مقابل ذلك لا
تستطيع أن تفهم أسباب سلبية وصمت نادية وكأنها سلعة تباع وتشترى، ولا تفهم
بالقطع لماذا وافق الأب على زواج فتاة (شعر أنها ابنته) من شخص ابله.
بالكاد أيضا، ووسط هذا التشويش تستطيع أن تتبين أن القسم الثانى مثل
القسم الأول ومثل ما سيحدث فى القسم الثالث يتلاعب بالماء والنار، ينتهى كل
قسم بحريق هائل فى حين ينزل بطلنا الى الماء ويعود مبتلاً وكأنه ممزق بين
نقيضين يتصارعان فى داخله، وينتهى القسمان أيضاً بصورة للذكرى يفترض أنها
تسجيل لذكرى سارة بينما هى ليست كذلك. وبدلا من أن يستغل المخرج صوت الرواى
لإضاءة تصرفات بطله الغامض فإنه يكتفى بأقل التعليقات وأكثرها اختزالاً.
في القاهرة
فى القسم الثالث ننتقل الى القاهرة، ويتغير شريط الصوت من أغنيات
أجنبية ومصرية شعبية فى بورسعيد، و أغنيات لعبد الحليم مثل موعود فى
الإسكندرية، الى أصوات الصلاة وقراءة القرآن وابتهالات الشيخ النقشبندى فى
العاصمة عام 2001، وننتقل من التصوير على الشاطئ أوعلى سفينة بحجم المدينة
فى مشاهد بورسعيد والإسكندرية الى أماكن مغلقة فى القاهرة (شقة، نفق،
مستشفى، حجرة عمليات)، حسن (عمر الشريف) مازال خائفاً ومرعوباً، يبدأ هذا
الجزء بسقوط بالات من البضائع بالقرب منه فيشعر بالذعر ويهرب، نراه يفطر فى
رمضان وينكر ذلك مثل أى طفل صغير، مع اكتشاف حفيده على (شريف رمزى) يبدو
كما لو أنه يواجه نفسه من جديد، الحفيد يعمل فى المطافى مع أنه شديد الجبن
(لا أعرف كيف)، ومع ظهور طبيبة التجميل (بسمة) وإصرارها على إجراء عملية
لتعديل أنف على، سيواجه حسن احتمال أن يكون فؤاد سليم (صاحب الأنف المميز)
هو رب هذه الأسرة وليس هو.
يقرر حسن اخيراً أن يواجه نفسه وأن يختار، يرفض أن يجرى حفيده العملية
ليكون نسخة منه لا شبيهاً بفؤاد سليم، يذهب الى كوبرى امبابة ليقلد مغامرة
ابنه الغريق فى الإسكندرية، نراه معلقاً بين السماء والأرض، وحوله طيور
بيضاء فى رمز مباشر ساذج لوصوله أخيراً الى حالة من السلام الداخلى، نسمع
كلماته على شريط الصوت مؤكداً أنه تخلص من الخوف، ولم يعد خائفا من النار
التى فى أعلى (السماء) أو الماء الذى فى أسفل (الأرض).
الى حد ما يبدو هذا الجزء متماسكاً، والى حد ما فإن مشهد حسن المعلّق
بين السماء والأرض يغلق القوس المفتوح، ويلملم فوضى الثرثرة والإستطراد،
ولكن أحمد ماهر يضيف مشهداً جديدياً يخرج فيه حسن مبتلاً من الماء ليلتقى
مع أم حولها عدة أولاد ( المغنية اللبنانية نانا)، تقول له أنها أنجبت
أولادها من زوجين أما الجنين الجديد فتترك هوية والده مفتوحة.
المشهد يعيد الحكاية من جديد بعد أن أُغلقت وإن كان معناه السخرية من
بحث حسن الدائم عن نسب أولاده وأحفاده فيما كان أولى به ان يبحث عن نفسه،
وأن يعيد تكوين مفاهيم جديدة غير المفاهيم "الشرقية" عن الخوف والشجاعة
والرجولة والعلاقة مع الآخر.
وهكذا تظل مشكلة المسافر فى أن الأفكار تبدو تائهة بسبب اضطراب
المعالجة وتذبذبها صعوداً وهبوطاً.
امتد الإضطراب أيضا الى التنفيذ. ليست مشكلة "المسافر" فى طول المشاهد
ولكن فى اضطراب الإيقاع لدرجة بتر بعض المشاهد فجأة، مونتير الفيلم تامر
عزت متميز جدا فى أعماله السابقة ومع ذلك فإن المونتاج هو أسوأ عناصر
المسافر.
لابد ان نشير الى أن ايقاع الفيلم يولد أولا على الورق كما أنه يتحدد
من خلال عناصر كثيرة أثناء التصوير مثل حركة الممثل وحجم اللقطة، هو
بالأساس مسئولية المخرج الذى نجح فى إدارة بعض ممثليه فقدموا أدوارا لافتة
وعلى رأسهم عمر الشريف، ولكنه فشل مع خالد النبوى خاصة فى القسم الثانى من
الفيلم.
لولا هذا الممثل المخضرم لانهار الفيلم، لقد أضفى عمر الشريف على
شخصية حسن العجوز حيوية مذهلة، وانتزع التعاطف والإبتسامات على حد سواء، فى
حين تورط خالد النبوى فى تقليده بصورة كاريكاتورية فى القسم الثانى فأضاع
المجهود المبذول فى الجزء الأول. لاشك أن المخرج يتحمل مسئولية هذا التناول
الساذج للشخصي.
سيرين عبد النور كانت أيضا مميزة ومقنعة فى دور نورا ولكنها بدت أقل
إقناعاً فى دور نادية. كان شريف رمزى أيضا جيداً فى دور الحفيد الخائف
بينما خطف محمد شومان الأضواء من الجميع فى دور جابر مما يرشحه للمنافسه
هذا العام على لقب أفضل ممثل مساعد.
من عناصر الفيلم المميزة للغاية ديكور القدير أنسى أبو سيف الذى قام
بتصميم السفينة المذهلة التى لم يقلل من روعتها إلا حركة الكاميرا الزاحفة
دون ضرورة، وإلاّ قلة عدد المجاميع على سطح سفينة يفترض أنها أقرب الى
المدينة العائمة.
صورة الإيطالى ماركو آنوراتو كانت مميزة خاصة فى مشاهد الشاطئ
بالأسكندرية وإن لم أبتلع مشهد الإغتصاب على السفينة لا فى إضاءته الساطعة
ولا فى الإنتقال الى الراقصات فى الحفلة فى لقطة طويلة بدون قطع.
هناك مشاهد أخرى مدهشة مثل لقطات سقوط الخيول فى الماء، ومشهد استعراض
أعماق الماء الذى غرق فيه ابن حسن. لا أعرف بالضبط مغزى المشهدين ضمن سياق
الأحداث سوى استلهام عجائب عالم فيللينى من الناحية الشكلية، وإن بدا لى أن
الخيول والطووايس تنافس مجاميع السفينة فى قلة العدد.
ساهمت ملابس دينا نديم أيضا فى استعادة ملامح كل حقبة زمنية بدقة ،
كما أن الألوان كانت تترجم مزاج الشخصية وحالتها النفسية.
يبدأ "المسافر" بحركة كاميرا من شاطئ مفتوح تتجه الى الداخل حتى نجد
أنفسنا ونحن نطل من نافذة قطار متوقف. ربما كُنا نحتاج الى حركة كاميرا
عكسية من مكان مغلق الى سماء أو بحر مفتوح لكى تنتهى رحلة مشوشة كهذه، لكن
أحمد ماهر الطموح كان مشغولاً بأن يخلق عالماً مختلفاً مثل فيللنى، ونسى أن
الفارق كبير بين أن تصنع فيلماً عن الرجل الشرقى/ المصرى المعلّق بين
السماء والأرض والممزق بين المعاصر والموروث، وبين أن يكون الفيلم نفسه
معلّقا بين السماء و الأرض.
عين على السينما في
25/09/2011
فيلم "تك تك بوم":
آسفون يا كوميديا.. آسفون يا ثورة!
محمود عبد الشكور
لو رجعت الى المقالات التى كتبتها عن أفلام الممثل محمد سعد لوجدتها
تكرّر فكرتين لا ثالث لهما، الأولى هى أننا أمام طاقة وموهبة واضحة،
والثانية هى أن حصاد هذه الموهبة السينمائى هزيل وضعيف مثل معظم زملائه
الذين اصطُلح على تسميتهم المضحكين الجدد.
تنتمى موهبة سعد فى مجال فن الإضحاك الى ممثلى الإرتجال والأداءالذى
يستوحى بدون قصد عالم الأراجوز وخيال الظل وممثلى الموالد والساحات حيث
يغلب الأداء الفردى المرتجل عما سواه، أذكر أننى كتبت مرة أن محمد سعد
يذكرنى، وقد شاهدته مبكراً على المسرح الجامعى، بالممثل الراحل صاحب الصوت
المميز أمين الهنيدى.
كان الهنيدى أحد ملوك الإرتجال على المسرح، وكان أيضاً طاقة بدنية
وحركية هائلة، وكان يستطيع أن يقدم عرضاً منفرداً بدون أى مشكلة، ومن وحى
اللحظة، ولكننا لا نتذكر لهذا الممثل الذى بزغ فى عصر فؤاد المهندس وعبد
المنعم مدبولى سوى مسرحية أو اثنتين، وقد نتذكر عملين مثلهما فى السينما،
ثم خبا نجم الهنيدى تماماً قبل سنوات طويلة من وفاته.
الرجل الواحد
مشكلة هنيدى ومحمد سعد فى عدم إدراكهما أن فن الكوميديا أكثر تعقيداً
من عملية الإضحاك سواء من خلال الإرتجال الفورى أو من خلال تلوين الصوت أو
عن طريق استعراض الرجل الواحد الذى يؤثّر فى الساحات والموالد، ولا يفلح
كثيرا، أو بمعنى أدق ولا يستمر نجاحه على الشاشات.
الكوميديا بناء درامى بالأساس، يستهدف الإضحاك نعم، ولكن من خلال هذا
البناء لاقفزاً فوقه أو هدما له أو رغماً عنه ،الإضحاك يكون من خلال
الشخصيات والأحداث والمفارقات والصراع والفكرة نفسها، الممثل هنا هو جزء من
العرض وليس العرض كله، موهبته فى خدمة الموضوع، وليس الموضوع قرباناً على
مذبح موهبته.
فى السينما، الكوميديا أكثر تعقيداً لأن هناك عناصر إضافية تساهم فى
اللعبة مثل الإضحاك بالصورة وعن طريق بناء المشهد مونتاجيا، بالإضافة الى
دور المخرج الأساسى الذى يقوم بتقطيع المشهد وإدارته ، إنه يستطيع أن يجعل
الشمهد مؤثراً أو يدمره تماماً، كما أنه يحدد إيقاع الفيلم بأكمله.
أرجو أن تعود الى مذكرات العظيم نجيب الريحانى القادم من المسرح، وهو
يتحدث بانبهار عن مشاركة المخرج الشاب وقتها نيازى مصطفى فى اقتراح بعض
المشاهد والأفكار فى فيلمهما الأول البديع سلامة فى خير، هنا دور المخرج
اساسى بينما يتراجع هذا الدور نسبياً فى المسرح لصالح الممثل.
لا توجد فى معظم أفلام محمد سعد هذه العناصر التى تصنع دراما كوميدية،
توجد فقط موهبة وطاقة وشخصية محورية (اللمبى، كتكوت، كركر) تقترب كثيراً من
هياكل الشخصيات التى يُدار حولها الإرتجال فى مسرحيات الشوارع، وهناك مساحة
واسعة للحركة الجسدية والتلاعب اللفظى يذكرك على نحو ما بعروض الأراجوز دون
أى تقليل من شأن هذه الفنون إذ أن المقصود أن هذه الفنون مضحكة ومسلية
ولكنها ليست فن الكوميديا بصورته السينمائية كما عرفناه فى نماذجه الناضجة.
المشكلة الأكبر أن مخرجى أعمال سعد يتركون له الكاميرا مع بعض
الإستثناءات، وأظن أن أحدا منهم لايجرؤ على حذف مشهد واحد لضبط الإيقاع
مثلاً، وطالما أن الأفلام تكسب، لن يغير سعد شيئا على الإطلاق بدليل الفوضى
الشاملة فى فيلمه الأخير الذى عرض فى موسم العيد وعنوانه "تك ..تك ..بوم".
الفيلم عن فكرة المنتجة إسعاد يونس، وكتب له السيناريو اوالحوار محمد
سعد شخصيا مما يؤكد أنه يريد إظهار دوره المعروف فى الكتابة بشكل كامل،
وأُسند إخراج الفيلم الى أشرف فايق، أما الموضوع، إذا كان هناك موضوع، فعن
ظاهرة اللجان الشعبية التى فرضت نفسها فى شوارع القاهرة فى أيام الثورة
الأولى تعويضاً عن غياب أو تغييب الشرطة.
فى رأيى أن الفكرة جيدة، وتحتمل فيلما كوميديا خفيفا مليئا بالمفارقات
عن أشخاص وجدوا أنفسهم فجأة يبحثون "عن" الشرطة بعد أن كانوا يبحثون "مع"
الشرطة، أشخاصٌ وجدوا أمامهم مهمة ثقيلة بدون أسلحة وتدريب مناسبين،
فانطلقوا يستعينون بكل ما فى أيديهم لدرجة أن أحد أفراد اللجان نزل من
منزله حاملاً مخرطة الملوخية فى واقعة حقيقية ما زلنا نتندر بها.
ولكن محمد سعد لم تكن فى ذهنه دراما وإنما شخصية واحدة هى شخصيته
الغريبة فى الفيلم، ولذلك لم يستطع أبداً تطوير الأحداث، فقال كل مالديه فى
نصف الساعة الأول من الفيلم، ثم دخل فى موضوع آخر استدعى فيه شخصية قديمة
قام بدورها فى فيلم سابق هو اللى بالى بالك.
مشاهد مجمعة
أصبحنا أمام مشاهد مجمّعة لا يمكن أن يكتبها سيناريست مبتدئ، حكاية
تدور على خلفية الثورة دون أى تمهيد ،وبسذاجة منقطعة النظيرمع خلط حتى فى
ترتيب الأحداث وتأثيرها، حارة مغلقة ضيقة ، وناس تذهب وناس تجئ، وأغنية
متوقعة تدور هذه المرة عن أحلام "تيكا" صانع البمب وألعاب الأطفال المتفجرة
حول ما سيفعله لو كان رئيسا (آه لو كنت رئيس .. أنا شعبى لازم يدّلع.. لازم
يشبع ويبلّع).
المدهش كما قلت أن هناك قماشة جيدة ولكن الثوب النهائى ملئ بالثغرات
والفتحات التى جعلته مهلهلاً تماماً، البداية معقولة: الشاب الفقير تيكا
سيتزوج من ابنة الحارة الفقيرة قطيفة التى تلعبها درة، ولكن ليلة الزفاف
ستتم بالمصادفة فى يوم الثورة ليتحول صانع البمب الى منظّم للجان الشعبية
لحمايتها من عصابة البلطجة التى يتزعمها شلضم (يلعبه محمد لطفى).
يمكن صناعة فيلم خفيف من فكرة كهذه بكتابة سيناريست محترف، ولكن محمد
سعد استهلك كل شئ فى المشاهد الأولى، الإعداد للفرح، وسماعه بالثورة أثناء
الزفاف دون أى تمهيد وكأنه لم يعرف بوجود مظاهرات صباحاً، ثم الصورة
الساذجة للشباب الثائر الذين يطلبون منه نزول الميدان فيما هو يريد أن يدخل
بزوجته.
وحتى مع ظهور شلضم وعصابته وبداية ظهور الصراع، فإن شلضم يضم تيكا الى
عصابته فى تصرف عجيب، ثم يقوم تيكا بتوزيع المسروقات على أهل الحارة، ولكن
طفلا صغيراً يلفت نظره الى أن السرقة حرام فينبه الجميع الى ذلك، ويسترد
منهم المسروقات!
سلك شائك
بدلاً من أن يستمر الصراع بين تيكا وشلضم فإن محمد سعد يحسم الحكاية
مبكرا بعمل سلك شائك مكهرب حول الحارة فيهرب البلطجية، هنا لا يجد الفيلم
شيئاً جديداً يقوله بسبب إنعدام حرفة الكتابة ، فتتم فبركة قصة تجعل من
تيكا بلطجياً قاوم الشرطة التى لم يكن لها وجود أصلاً فى الميادين فما بالك
بالأحياء العشوائية؟
ينتقل الصراع الى طرف آخر أقرب الى المجانين هو رياض المنفلوطى مأمور
السجن الذى لعبه محمد سعد فى فيلم سابق هو اللى بالى بالك، الرجل يدير
السجن بنفس الطريقة التى أدار بها الأمور قبل الثورة، بل إنه يتورط فيقتل
سجينين!
ما علاقة كل ذلك باللجان الشعبية والثورة؟ ما علاقة السجون بالحارة؟
محمد سعد وحده يمتلك الإجابة، المهم أن تيكا سيهرب من السجن لكى يعود من
جديد ليصارع شلضم الذى نسيناه تماماً ، وينجح فى إحباط محاولة لسرقة
مستشفى سرطان الأطفال.
فى مواجهة أخيرة بين المنفلوطى وتيكا يتحدث الأخير عن الناس التى لم
تأخذ حقها ، وعن أمنيته ألا يكون هناك شلضم لا فى الشارع ولا فى المناصب،
وبسبب تلك الكلمات يطلق المنفلوطى سراحه، وكان المأمور القاتل هو الذى قتل
شلضم أيضا!
هناك تفسير من اثنين أو التفسيران معاً لهذه الفوضى: إما أن بدائية
السيناريو فشلت فى التعبير عن المعانى المباشرة بافتراض وجودها، او أن هناك
فيلم أصلى عن مواجهة جديدة مع رياض المنفلوطى بعد بعثه من جديد، وفيلم آخر
عن اللجان الشعيبية بعد الثورة ، وتم دمج الفليمين معاً فنشأ هذا التهريج
المكتوب.
فى كل الأحوال، فإننى أعترف بصعوبة منطقة شئ عبثى لم يبذل أصحابه أى
جهد فى إتقان صناعته، ماذا يتبقى لدينا إذن إذا لم يكن هناك أى ورق أو
سيناريو؟
تبقى كارثة التنفيذ حيث لن تشعر أبدا أن هناك مخرج، هناك شخص ترك
الكاميرافقام محمد سعد بإنجاز المشاهد بالإيقاع والأداء الذى يحدده، ثم تم
لصق المشاهد معا وطبعها على شريط سينمائى، محمد سعد الممثل لم يفقد قدراته
البدينة والحركية ،ولكنه لا يزال يدور فى إطار التلاعب اللفظى (الفيس بوك
تتحول مثلا الى الفيس فوك، وأغنية قارئة الفنجان تصبح قارئة الفرجان، مع
ابتكار عبارات غريبة مثل فى عزّ التلج والشمس والعة)، لا تتغير ولا تنمو
الشخصية المحورية من أول الفيلم الى آخره، الإفتعال أيضاً كان من نصيب أداء
محمد لطفى ودرة و جمال اسماعيل حيث المبالغة بالصوت والحركة، ظهر أيضا محمد
شرف فى مشهد سريع بلا أى معنى، وارتضى سليمان عيد بدور باهت للتواجد فقط.
ديكور سامح الخولى للحارة كان عجيباً إذ أنها حارة أرضيتها لها بلاط
صغير وبيوتها تذكرنا باليبوت المرسومة فى مسرحية سيدتى الجميلة، أما
الموسيقى فهى تعلق على كل لقطة مثل أفلام الكارتون، وقد وضع الموسيقى شخص
اسمه مادو.
فى أحد مشاهد الفيلم، يرفع محمد سعد شعار"عبّى وادّيلو" حيث يسكب أهل
الحارة المياه فوق رؤوس البلطجية، الحقيقة أن الفيلم نفسه صُنع بنفس
الشعار:"عبّى الفيلم وادّيه للجمهور ليسقط على الناس فى موسم العيد". من
أجل ذلك يجب أن نعيد الهدية الى صاحبها واضعين النقاط فوق الحروف:
معلهش .. آسفون يا كوميديا .. آسفون ياثورة.
عين على السينما في
24/09/2011 |