لقد ظهر جيل جديد من السينمائيين الايطاليين الشباب
الحالمين بإعادة أمجاد سينما الواقعية الجديدة خصوصا وان
ممارساتهم تحمل تميزاً وغنى وتنوعاً أكثر من الجيل القديم،
يحاولون تقديم وجه ايطاليا الأخرى خلف صورة مطاعم البيتزا
وفرق كرة القدم، ليكشفوا ما موجود تحت القاع، غنى التجربة
الجديدة تكمن في التنوع وتعدد الرؤى، وقدرتها على دمج
خطابها بمواقف سياسية واجتماعية نقدية، كما في افلام
(غومورا) و(الالوية الحمراء) و(نسيان باليرمو)، وهذا ما
اكسبها طعم ولونا جديدين، خصوصا اذا عرفنا ان هنالك
مصطلحان سادا الوسط السينمائي الايطالي هما (سينما
المافيا) و(السينما السياسية)، يضاف الى ذلك وجود اسماء
مخرجين كبار يحاولون ان يستمروا في مسيرة السينما (الاخوة
تافياني) (ناني موريتي) (جوسيب تارانتوري) (ايتوري سكولا)،
بعض النقاد يرى في هذه الموجة من الافلام لا تعدوا سوى
موجة ستغادر سريعا وهي تحت تأثير اغواء السينما
الهوليودية، فهي افلام لا تختلف في شيء عن افلام الويسترن
سباغيتي طالما الصراع هو بين مجموعتين من العصابات، فيما
رأى البعض الآخر هي موجة جديدة ستضاف الى موجات السينما
الايطالية بصورة السينما السياسية الجديدة، كونها تعالج
الانسان الجديد وظروف حياته وحقه في العيش، فالسينما
السياسية هي التزام وموقف فكري واخلاقي ضد الابتزاز
والتخلف والجريمة المنظمة، فالسياسة هي علم تغير الواقع،
ومعرفة القوى المتحكمة بحركته، هذا النوع من افلام الموجة
الجديدة الايطالية، ستتضح هويته السياسية مادامت تجنح الى
النقد الاجتماعي، رغم انها شبيهة بعض الشيء بأفلام
العصابات الامريكية التي كانت جزءا من تاريخ أمريكا الخاص
في ثلاثينيات القرن المنصرم ايام (آل كابوني)، فرجل
العصابة هنا هو اشبه برجل المافيا الذي يجابه كل المخاطر
من اجل حلم الشباب.
أن التحولات السياسية في ايطاليا بعد سقوط الجمهورية
الاولى بداية التسعينات ونشر الفضائح التي ارتبط بها كبار
السياسيين في الحزب الديمقراطي المسيحي، ممن قادوا البلاد
لأكثر من اربعين عاما، اعتبرت دافعا قويا للسينمائيين
الشباب لتناول مواضيع كثيرة محرمة وتحمل تبعات خطيرة خصوصا
اذا كانت تتحدث عن علاقة السلطة بالمافيا، بل ان البعض ذهب
بعيدا الى نحو الهموم السياسية العالمية الاكبر كما في
فيلم المخرج (كوستانزو) الموسوم (خاص) والذي رصد فيه مشاكل
الاحتلال في غزة، من خلال بيت منعزل في الارض الحرام بين
قرية فلسطينية ومستعمرة إسرائيلية، تسكنه عائلة فلسطينية
استولى عليها الجيش الاسرائيلي، والحكاية ذات بعد رمزي،
فمحمد وزوجته وأطفاله الخمسة، يعيشون في بيت واحد مع جنود
الاحتلال الذين يسكنون الطابق العلوي بعد رفض محمد ان يترك
البيت ويهاجر، هذه الحكاية استهوت كوستانزو، بعد ان كانت
النية التقاط صور توثيقية للفيلم قرر تصوير الفيلم بأكمله
في قطاع غزة مع اطفال حقيقيين من نابلس.
فيما حاول البعض الآخر من المخرجين تقديم ثيمة اجتماعية
على الطريقة الامريكية تارة وبلمحات من السينما الفرنسية
تارة اخرى، كما في فيلم المخرج (جيوسيبي بيشيوني) الموسوم
(جوليا لا تواعد في المساء)، عن روائي مرموق مرشح لاستلام
جائزة عالمية يعيش ازمة منتصف العمر فيهجر زوجته وابنته
ليتفرغ لكتابة روايته يقع في غرام معلمة سباحة ابنته
(جوليا) التي تهبه الابداع ولكن تخفي خلف جمالها سرا، ندرك
انها مدانة بجريمة قتل عشيقها بعد ان تركت زوجها وابنتها
من اجله، حاول المخرج التركيز على الابعاد الاجتماعية
وازمة البطل النفسية، وعقدة الذنب عند جوليا، مركزا على
قيمة الاسرة واثرها الانساني على باقي القيم الاخرى
كالشهرة والمجد، أو كما في عواقب الحب، فيلم المخرج باولو
سورنتينو المرشح لسعفة كان الذهبية مليء بالحيوية
والعنفوان ،فموضوع الفيلم أساساً يتحدث عن شخصية كتومة
وخجولة، بينما الفيلم في ذاته صاخب وسريع.
في المشهد الافتتاحي التعريفي نجد تيتا دي جيروليمو
الشخصية المحورية في الفيلم يجلس وحيداً في المقهى لينطق
بأول جملة في الفيلم (أسوأ شيء هو أن يقضي الرجل الكثير من
الوقت لوحده.. مفتقراً إلى الخيال) جملة توصف حياة تيتا،
الرجل الخجول والنادر التحدث، والذي يجلس يومياً في
الحانة، يقابل نفس الأوجه، ولا يرد التحية أبداً، شخصية دي
جيروليمو تعد واحده من أهم الشخصيات السينمائية، فيها
الأسرار الكثيرة، اللامبالاة، غرابة الأطوار، مضيفاً عليها
الممثل توني سيرفيلو الشيء الكثير، شخصية مكتوبة بشكل
ممتاز، ومجسدة بشكل أكثر من رائع.
عمل المخرج باولو سورنتينو يميل إلى الأسلوب الهولييودي
أكثر من انتماءه للسينما الأوروبية الهادئة، فالكاميرا
تتحرك بشكل دائم وسريع، والموسيقى لا تتوقف في غالب أرجاء
الفيلم.
وأرى ان افضل افلام هذه المرحلة هو فيلم المخرج (ماركو
توليو جوردانا) المنتج عام 2004 (الافضل شبابا) الذي يمتد
الى مايقارب الـ(6) ساعات، فإذا كان برتولوتشي قد قدم
ملحمته (1900) وفيه استكمل حلمه باكمال ما بدءها فيسكونتي
بفيلمه (الفهد) فان فيلم المخرج جوردانا هو تكملة تاريخية
لفيلم بيرتولوتشي، الفيلم يستعرض تاريخ احدى العوائل
الايطالية، من منتصف ستينيات القرن المنصرم وحتى مطلع
الالفية الجديدة، وما رافقها من تحولات واحداث على صعيد
الامة الايطالية، التي كانت وحتى منتصف أعوام الخمسينات
بلدا زراعيا، ولكن مع مطلع السبعينيات غادر أكثر ممن
يعملون في الزراعة بجنوب البلاد نحو المصانع في شمالها،
وأدارت الحكومة ظهرها للجنوب وغرقت البلاد في مطحنة
الرأسمالية، لتستكمل الحكاية حكاية الجنوب البائس الغارق
بالجوع والفيضانات، ومثلما جاء الرفاه سريعا غادر سريعا،
فجاءت الازمة الاقتصادية بسرعة عام 1973 كاشفة أقنعة الزيف
الحضاري والتقدم الراسمالي عن وجه البرجوازية الحاكمة
لتظهر ايطاليا الحقيقية، ايطاليا الحواري المتعبة القذرة.
الفيلم يروي تاريخ (40) عاما يمثل علاقة الناس بالذاكرة،
وبتفاصيل صغيرة وكبيرة شكلت احداثا مهمة من تاريخ هذا
البلد، كفوز ايطاليا بكاس العالم عام 1982، مع ما يعرف
بسنوات الرصاص وظهور الألوية الحمراء واختطاف الدومورو،
معرجاً على الصدمة التي هزت البلاد على الصعيد الاخلاقي
والسياسي، المتمثلة بانتفاضة القضاء على الأوضاع الفاسدة.
والباحث يرى ان السينما الايطالية في تسعينيات القرن
الماضي تؤكد في اتجاهاتها احياء وتجديد تقاليد الواقعية
الجديدة التي شهدت عصرها الذهبي بعد الحرب العالمية
الثانية، والتي كانت من اهم تقاليدها الاهتمام بالسيناريو،
لذا فاغلب افلام الاتجاه الجديد بأحياء الواقعية في
التسعينات هما كاتبا السيناريو (ستيفانو روللي) و(ساندرو
بيترا) والفرق بينهما وبين (زافاتيني) انهما لا يعتمدان
على سرد قصة ادبية على اي نحو كان وبأي درجة، وانما يقدمان
سينما خالصة، حيث الفيلم هو الفيلم، من اول لقطة الى آخر
لقطة، مثل العمل الموسيقي الذي لا يمكن تلخيصه او تحديد
معناه في عدة كلمات، وتعبر الواقعية الجديدة في التسعينات
عن حقيقة ان مشاكل العالم أكبر واعقد من ان تجرد في شرطي
يرمز للسلطة ومواطن بدون بدلة رسمية يرمز للشعب كما كان
الحال في الواقعية الايطالية بعد الحرب وكما في السينما
السياسية الثورية في الستينيات.