بين استعراض حالة الضياع والاحتفاء بالعبث
افلام نولان ليست مريحة فكريا للمشاهد، بمعنى انها في
اكثريتها لا تحثه لأن يتلقى القصة بسهولة، أوأن يستوعب
وجهتها الاخيرة او صيرورتها الدرامية بلا تمحيص.
فنولان يبقي نوعا من الدور الأساسي للمشاهد لاكمال ما
يلزم. وهذا يتم اما عبر اتاحة الفرصة للحكم الثيمي
النهائي على اخلاقيات الشخصية الاساسية (افلام سلسلة
باتمان)، أو عبر تفاعلنا مع شخصية تمر في مستويات
متباينة من الوعي يزداد الخطر على كل من هو حولها أو
قريب منها
)"انسيبشين"(، أو أن نكون أمام
شخصية نحاول فهمها عبر محاولة اعادة تركيب المكونات
التفصيلية للقصة / الأحجية
(Puzzle) أو "مكعب روبيك"
)"ميمينتو"(. لكن مع
"انترستيلر"، يبدو نولان أقل ارتياحا مع اسلوب تجزئة
القصة وتفتيتها كمحفز لاعادة تركيبها. فهو يبدو هنا
منهمكا في مسار آخر مفاده استعمال الأمكنة الأقرب الى
السوريالية في تصميمها، والشخصيات الباردة التي تزيد
في تغريب وخلط أوراق المشاهد الى درجة منعه من اتخاذ
أي موقف فكري أو تقييمي تجاه ما يحدث.
مع "تينيت"، يعقد ويخلط نولان مسار القصة واتجاهاتها
الزمنية، واضعا ايانا في قمة التشكيك بعلاقة ما نشاهده
ببعضه البعض. ولجعل الموضوع أكثر استفزازا للمشاهد
المهتم بمتابعة ما يجري، يلجأ نولان قبل انتهاء الفيلم
بثلاثين دقيقة الى محاولة شرح ما "حدث / يحدث" بصورة
أقرب الى المباشرة. وامعانا في تحويل السرد الى ما
يشبه لعبة "تذاكي" على المشاهد، تبوء محاولة التفسير
الجديدة بالفشل مرة أخرى، بل تجعل المشاهد أكثر ضياعا
من السابق. فما الذي يجري هنا،
وهل له مفاعيل أو تواصلات فكرية معينة؟
كما نعلم، استعمل نولان أسلوب فكرة تركيب الأحداث عبر
التراجع "خلفا"، أو عبر التلاعب الزمني والمكاني في
عملية السرد السينمائي منذ فيلمه الثاني الذي أطلق
عمليا شهرته السينمائية. واستعمل نولان هذا الأسلوب
الى حد أقل في كل من "انسيبشين" وحتى في "دانكرك". وفي
"دنكرك" بالذات، يغوص الفيلم في التفصيلات التي تربك
فهمنا للمكان والزمان بهاجس فهم واستيعاب قباحة الحرب.
فانت تكره الحرب بقدر ما ترى الحرب تجعل من حياتك
وحياة من تحب جحيما. هنا يقوم نولان بلعب احدى "العاب"
ما بعد الحداثة التي تخلط موضوعي المكان والزمان
لمصلحة السرد اللاتاريخي لأحدى قصص الحروب. فالغوص
بالتفصيل "المايكروكوزمي" يعطي هنا الاولوية لتهميش
فهم المعطيات الأوسع للحرب ومفاعيلها وادواتها
ومسبباتها. فتتحول هذه الحرب الى حالة تنفجر هنا وهناك
بمحض الصدفة، وربما على يد قدر قاس وظالم. لكنها
بالنهاية هي واقع لا يقوى أحدعلى أكثر من كراهيته
وادانته.
بالمقابل، فان ما جعل استعمال نولان لتقنية السرد
المفكك في فيلم "ميمينتو" مميزا، كان يرتبط في دفعه
لنا للتعاطي مع التفكيك في اطار ما يعنيه بالنسبة الى
حياة انسان محدد، وليس، كما يحدث في "تينيت"، أو حتى
في "دنكرك"، كلعبة عبثية لا مكان فيها للانسان الا
"ككومبارس" يسهل بالنهاية الاستعاضة عن وجوده بشكل
كامل ومن غير ندم. لهذا بقي "ميمينتو" بالنسبة
للكثيرين اكثر افلام نولان قوة واقربها اليهم. وهذا لا
يمكن فصله عن المكون الانساني الذي طبع تعاطي الفيلم
مع مسار ضياع شخصيته الرئيسية. فتركيز "ميمينتو" يبقى
مركزا على روح القصة، ولا "يتفركش" بحذاقة البنية
المبدعة نفسها، بل يتكامل معها. وعبر اسلوبه السردي
الذي يدفعنا نحو تقصي ومعرفة ما حصل في السابق وما
يحصل حاليا عبر ربط مرجعيات الماضي مع مجابهات
ومرجعيات الحاضر الدائمة التراكم، لا يتيح لنا الفيلم
مجالا لأن نفلت من "الصحبة" التي طورناها مع المسيرة
التراجيدية للحياة المقطعة الأوصال والمجزاة لشخصية
ليونارد شيلبي
)غاي
بيرس(.
بدايات نولان مع "ميمينتو" جعلت افقه الفني يقترن
بالتعبير عن واحد من أعمق التعابير السينمائية عن
مرحلة ما بعد الحداثة، وبشكل خاص لجهة الواقع العبثي
للضياع الفكري والسياسي والمعرفي. فمرحلة ما بعد
انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي
تمخضت عن طغيان مقولات الطبقات البرجوازية الحاكمة
ومثقفيها العضويين حول "نهاية التاريخ" و"نهاية
الايديولوجيات"، وبالتالي نهاية اي امكانية لاحداث أي
تغيير في واقع عالمنا. وبناء على هذا التصور فأننا
اصبحنا في عصر الهيمنة المطلقة للنظام الرأسمالي، الذي
لا لم يعد يفلح معه اي تحدي او مجابهة او اي محاولة
للاستقلال عنه. اما البديل، فهو مزيد من الشيء نفسه،
والمراوحة في خضم الازمات الى ان نتعود على التأقلم
معها لتصبح جزءا من حالة عادية.
واهم من هذا، فان الفكر ما بعد الحداثي، وانطلاقا من
قناعته بنهاية التاريخ وعدم وجود امكانية لفرز أي
تغييرات بنيوية أساسية في الواقع الاجتماعي والسياسي،
فانه يستنتج أن الغوص في التاريخ والذاكرة الجمعية وكل
ما يمت اليهما بصلة يصبح جزءا من ممارسات "شمولية" لا
طائل أو فائدة منها. وانسجاما مع هذا التفكير، يصبح
التدوير العبثي، سواء في السياسة او في الاقتصاد او في
الفكر او في الفن هو البديل "الابداعي" الوحيد الذي
نستطيع فرزه في هذه المرحلة. من هنا كان "تأليه" الفكر
ما بعد الحداثي لفكرة "اللعب العبثي" الدائم والتي لا
نهاية له، كنمط حياة وتوجه فكري شامل. وفي نفس هذا
السياق، وبشكل خاص منذ أواسط الثمانينات، جرى سينمائيا
تداول افكار اعادة التدوير الجنري، و وتركيب الافلام
المختلطة في مرجعياتها الزمنية والمكانية.
"ميمينتو" كان واحدا من اهم الأفلام التي عبرت رمزيا
عن حالة الضياع الفكري الناجم عن فقدان الذاكرة
الجمعية في المجتمع الراسمالي المعاصر. فهذا الفيلم
الذي جرى بناؤه سرديا حول حكاية عن فقدان الذاكرة
الطويلة، ومحاولة الاعتماد في الحياة على التوظيف
الاحادي للذاكرة الفورية او شبه المباشرة، حاكى الى حد
كبير الحالة "اللاتاريخية" لذاكرة ما بعد الحداثة: هذه
الذاكرة التي تعيش لساعتها ومن اجل ساعتها. وحين يجابه
هذا التفكير الشعبوي لما بعد الحداثي أي ازمة وجودية،
)والذي
لا يعدو كونه المكون الايديولوجي المهيمن للطبقة
الرأسمالية المتأخرة كما يقول الفيلسوف الأميركي
الماركسي فريدريك جايميسون(، فانه يقف عاريا
وعاجزا عن التعامل مع الواقع ... الا بالاستسلام
والرضوخ له.
فالاوشام وصور كاميرا البولارويد المقرونة بكتابات
وتعليقات ملخصة عن الاشخاص الذين ترصدهم في "ميمينتو"
هي اشبه بومضات المعلومات المجتزأة والمبعثرة التي
يجترها الكثيرون في عالمنا المعاصر من متابعتهم للعالم
من خلال الانترنت وبشكل خاص من متابعتهم للفيسبوك
وتويتر والانستغرام. فهذه المعلومات لا يمكن لها ان
تكون ذات فائدة على المدى البعيد ما لم يتم وضعها ضمن
ابعادها واطرها الاوسع والاشمل. وضمن هذه المحدودية
يبقى ليونارد شلبي ضحية تلاعب من مازالوا يتمتعون
بذاكرتهم وقدرتهم على وضع التفاصيل الاحداث في سياقها
الكرونولوجي والمكاني وضمن اطار ارتباطها بمرجعياتها.
في هذا السياق كان "ميمينتو" ايقونة لسينما مستقلة
جديدة وواعدة، استطاعت أن ترصد واحدا من اهم تجليات
حالة العجز التي هيمنت على عالمنا في مرحلة ما بعد
انهيار التجربة الاشتراكية السوفياتية. وهي بالتاكيد
كانت حالة عجز مفهومة من الناحيتين الاجتماعية
والسياسية، لكنها تحولت تدريجيا الى حالة مرضية مزمنة
جرى تشجيع تدويرها وتكريسها من القوى الطبقية المهيمنة
في اطار ما تحدثنا عنه من طغيان افكار "نهاية
الايديولوجيات". و"ميمينتو" جاء تعبيرا عبقريا، في
الفكرة واسلوب السرد، لحالة الغرق والمراوحة في
"المباشرة" والتفكير الآني كاسلوب حياة. وفي هذا
الاطار، رسم الفيلم مماثلة هامة لحالة العجز المزمن
التي تظلل الهيمنة الايديولوجية للرأسمالية المعاصرة.
في خضم هذا الواقع، اضحى من السهولة بمكان التعاطي مع
أي شيء في سياق العبث المبرمج. فلا شيء له قيمة بعد
اليوم، وخصوصا محاولة العمل من اجل مجتمع مغاير لمجتمع
الهيمنة الراسمالية الشاملة.
في "تينيت" يتحول اللعب العبثي الى هدف بحد ذاته.
فبالرغم من براعة تصميم الانتاج وتنظيم مشاهد الحركة
وانفجارات المباني ثم استعادتها لشكلها ثم تفجيرها من
الداخل، وتفجير طائرة حقيقية أمام أعين الكاميرا،
وتحليق الطيور نحو الخلف، وتسيير الجنود وكأنهم يتبعون
مشية "الموون" التي ابتدعها مايكل جاكسون، وبالرغم من
انبهارنا بقيام شخصيات الفيلم بالقفز عبر الزمن نحو
المستقبل أو نحو الماضي، فان هذه الانجازات البصرية
للفيلم تبدو شبه منفصلة عن مواكبة الكيان السردي لقصة
يفترض أن يكون لها معالم درامية يتفاعل معها المشاهد
مع ثيمة فيلمية ما، بغض النظر عن محتواها.
ويفقد القطع التوليفي ضمن هذا السياق لما يفترض أن
يقوم به في اطار أي فيلم
)وخصوصا بالنسبة لفيلم هوليوودي(
يعتمد على ربط منظومة المعلومات المبعثرة لتوضيح
المسار القصصي العام للفيلم. وهذا لا يطال فقط ربط
القضايا التفصيلية العلمية المعقدة التي يرميها الفيلم
يمينا وشمالا، بل يشمل أيضا تعاطي الفيلم مع ربط قضايا
بديهية ببعضها البعض، مثل، على سبيل المثال لا الحصر،
كيفية وصول وسيلة نقل البطل الى العالم المعكوس. مثل
هذه المكونات السردية لا يمكن تركها من غير توضيح. بل
ان ومضات الفيلم المدهشة بصريا تصبح بالنهاية الى
مشاهد احتفالية يستعرض فيها نولان عضلاته التقنية
والمالية لاثبات قدرته على ابهارنا وان يجعل من
تجربتنا مع الآيماكس اقرب الى حالة اكبر من الفيلم
الذي جئنا لحضوره.
نحن هنا اذا أمام لعب حول القصة، وليس معها ودون
الولوج الى داخلها بما يكفي لان نتحدث عن مكان او زمان
أو نتيجة أو سؤال فلسفي او وجودي او سياسي او تركيبي
يدفعنا الفيلم الى سبر غوره. الفيلم يجعلنا ندرك أننا
في سباق مع الزمن (سواء بالاتجاه نحو الماضي أو
المستقبل) لايقاف "الشرير" من تحقيق هدفه الاقصى
بانهاء كل ما كان وبالتالي انهاء وجودنا نفسه. لكننا
لا نفهم على سبيل المثل ماذا يعني هذا لا بالنسبة
للبروتاغونست ولا للشرير الروسي.
وبالتالي فان الفيلم يتركنا نلملم بعض الاحتمالات
لنلعب بها بدون أن يدفعنا للاهتمام جديا او وجدانيا او
فكريا بهذه الاحتمالات. فما يبقى لنا من الساعتين ونصف
من هذه الدوامة لا يتجاوز التمتع باستعراضات لمؤثرات
بصرية مبهرة تمر ضمن سياق قصة مشتتة وغير مركزة، لا
مرساة تشدنا اليها او تشدها الينا.
خاتمة
فاذا كنت ماساة فقدان الذاكرة الطويلة في اساس حالة
الضياع والمراوحة التي تعيشها الشخصية الرئيسية في
"ميمينتو" مثلت تعبيرا بليغا عن مكون ايديولوجي يطبع
مرحلة الراسمالية المتاخرة، فان هذه المراوحة داخل
الفيلم كانت أيضا بمثابة حافز للمشاهد لمحاولة فك
الطلاسم التي يضعها شكل سرد القصة امامنا. بالمقابل
فان اختلاط مسار القصة نفسها في "تينيت" يقود بالمشاهد
الى محاولة الاهتمام بشيء آخر. فيصبح عامل الاثارة
الرئيس هو في متابعة استعراض العضلات التقني في مشاهد
الآكشن والمطاردة والانفجارات وما تحمله من رعشة تشويق
وانفعال اشبه بتلك التي نشعر بها ونحن نتسلى بالعاب
الفيديو، ولكن على شاشة اضخم.
فنحن هنا اذا امام مزيد من دق الاسفين في روح السينما
كممارسة ثقافية انسانية غنية ومتفاعلة مع واقعها.
ويبدو أن نولان الذي قدم ذروة ابداعه في أوائل عمله
السينمائي حين جعل من الميزانية البسيطة للفيلم حافزا
لبناء تركيبة سينمائية يتكامل فيها الأسلوب مع الحبكة
الدرامية والثيمة الانسانية، قد وصل الآن الى مرحلة
تمخض فيها "معبود" ميزانيته الضخمة فلم يلد الا المزيد
من "العبث" الذي لا معنى ولا روح له.
السينما دائما تنحو باتجاهات جديدة وتعيد تركيب نفسها
أو تنفض عنها جذريا طرقها وأساليبها السابقة، وهذا
أساس جمالها وشعبيتها التي لا تتوقف. لكنها، كما قال
المخرج مارتن سكورسيزي في معرض تعليقه على ما تمثله
اليوم "أفلام مارفيل"، تبقى بالنهاية مبهرة بسبب
قدرتها على تشويقنا للدخول في نوع جديد من الكشف الفني
أو العاطفي أو الروحي. وهذا يرتبط بالنهاية بالشخصيات
التي تقدمهم هذه السينما لنا وهم يواجهون تناقضاتهم،
وأحلامهم، وآلامهم، وتقاطع تجاربهم. |