كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

خاص بـ«سينماتك»

 

الحريف: حيوات تعيش في أزقة مدفونة على الرغم من سكنها في السماء

د. فراس الشاروط/ خاص بـ«سينماتك»

 
 

 

   
     
     
 
 

(أكتشف بعد فوات الآوان ان الحياة مثل كرة القدم جواااااال)

 

الحريف نقد صاخب لعالم القاهرة السفلي، ينزل به محمد خان الى قاع المدينة الى حواريها وازقتها الضيقة الجرداء ليكشف عن الانسان المصري المسحوق الذي يعاني الفقر والكثير من الاحباطات النفسية والاجتماعية، انه عالم مشحون بالحنق على الضعاف الذين يحاولون اشد ما يمكن ان لا يقهروا، فلا قيمة للإنسان ولا قيمة للحرية فهو أسير لقرارات السلطة التي من الممكن ان تحبسه من دون ان يكون له القدرة على الافلات من يدها الطويلة التي تحاول زجه في السجن لجريمة لم يرتكبها، او حتى في محاولة القبض على المجرم الحقيقي لكونه صديقه.

محمد خان يضعنا امام نماذج بشرية تعيش على هامش المدينة بكل احباطاتها النفسية والأخلاقية والعاطفية، ففارس انسان يمثل خليطاً من المشاعر والأحاسيس والمتناقضات بين الجد واللامبالاة، الفقر والاسراف، العنف والرقة، الشهرة والوحدة، الكرامة والاحباط، وكل هذا يجعله يعيد النظر في اسلوب حياته بعد استحالة الاستمرار هكذا في الحياة القاسية، لذلك يستجيب لعرض صديقه بالعمل في تهريب السيارات. الفيلم هجوم على سطوة المجتمع الراقي يتبناه خان كمضمون عام بكل ما يمتلك من اساليب كي يوصل لنا ما يريده.

في الحريف يصل محمد خان الى اطر جديدة في محتوى الفيلم من حيث الشكل بنقل مضامين الحدث بأسلوب جديد لإضفاء ابعاد انسانية عميقة وصادقة تنبع من قاع المدينة في الحواري والازقة الضيقة ليكشف عن الانسان المصري المسحوق الذي يعيش على هامش المدينة بكل إحباطاتها وأزماتها النفسية والأخلاقية والعاطفية.

تحتل آلة التصوير واستخداماتها مكانا باراز ضمن اطار الفيلم في نقل واقع الحياة الموحش، البائس والضيق الذي يعيشه فارس (عادل امام)، فآلة التصوير المحمولة على الكتف التي تتابعه في سيره ومبارياته وجلوسه في المقهى للحصول على اكبر قدر من المصداقية في تجسيد الواقع اليومي الذي يبدأ صباحاً وكانه لم ينتهي بالأمس، فالألم والقسوة والاحباط ترافق، ينام ويسير ويتناول الفطور مع فارس في كل ساعاته ودقائقه.

لقطة عامة لمدينة القاهرة تتحرك الة التصوير pan من جهة اليمين الى اليسار لوصف حياة السطوح فجاره مع اطفاله يتناولون الفطور والجارة الثانية تخرج من الحمام، يخرج فارس من غرفته، تتابعه الة التصوير في نزوله الذي يتبعه فيه جاره ليعيد له ما استلفه منه من النقود، عند مروره على السلم تتحرك آلة التصوير على السكة تتابعه في نزوله السلم، ثم تستقبله آلة التصوير بلقطة عامة عند وصوله الى باب العمارة تتحرك فيها الة التصوير dolly out يخرج من باب العمارة، تتحرك بعدها الة التصوير من الاعلى الى الاسفل tilt down يظهر فارس بلقطة عامة وهو يتناول الفطور عند عربة في الشارع في الطرف الايسر من الكادر، يسير تتابعه الة التصوير من اليسار الى اليمين، تستقبله الة التصوير من الامام مع حركة بان من اليمين الى اليسار يدخل الورشة، لقطة عامة من زاوية عين الطائر تتابعه في دخوله ثم ترتفع الى مستوى اللقطة الاعتيادي بعد صعوده السلالم يدخل الى غرفة الورشة الصغيرة تتابعه الة لتصوير بحركة pan من اليسار الى اليمين، يسلم على اصدقاء العمل، تربط الى لقطة كبيرة جداً لفم زميلته عزيزة (زيزي مصطفى) وهي تسلم عليه (صباح الخير) الى لقطة كبيرة لوجهها فلقطة over sholder من خلف عزيزة يغير ملابسه الى لقطة كبيرة لقدم فارس تضغط المكبس، ثم لقطة كبيرة لحذاء يكبس في الة صنع الاحذية. فقد اتاح ذلك الاستخدام لتلك الحركات المتنوعة في تقديم الصورة الكاملة لواقع الحياة التي يعيشها فارس والتي يعيشها سكان الاحياء الفقيرة فالشوارع الضيقة والمياه الاسنة والركود الاجتماعي والاقتصادي كل ما عبرت عنه ملابسات تلك اللقطات. وحتى الحب يرتبط بمفهوم الجسد وتمضية الوقت للأستأناس في تلك اللحظة.

في مشهد آخر تميل حركة آلة التصوير المحمولة مع المتحركة على السكة في المقهى الى منح المتلقي فضلاً عن احساس الواقعية بالحدث، الشعور بقيمة الاضطراب الذي تعيشه كل شخصية الى جانب فارس (عادل امام). لقطة كبيرة لاقداح الشاي الفارغة ويد تحملها تتحرك الة التصوير الى اعلى قليلاً وتسير خلفه وهو يمشي تصل الى فارس وهو يلعب الورق مع اثنين من رواد المقهى تربط الى لقطة من خلف فارس تتحرك جانبية على السكة، إذ يظهر في حجم اللقطة المتوسطة ثلاثة اشخاص يتفقون على عقود تسفير الى الخارج تربط الى لقطة متوسطة الى بائع بطاقات اليانصيب تتحرك معه الة التصوير على السكة نحو احد الرجال الكبار الذي يسأل على الارقام الفائزة بجائزة اليانصيب وفي عمق الكادر فارس يواصل لعب الورق مع منافسيه، لقطة كبيرة جانبية لفارس ثم تتحرك الة التصوير نحو الاسفل مع حركة يده، لقطة عامة يتبادل فيها اللاعبون اماكنهم الى لقطة كبيرة، يصرخ احدهم بصبي المقهى، لقطة عامة تتحرك الة التصوير جانبية على السكة تتابع الصبي وهو يجاوب ملبياً الطلب، ثم تتقدم الة التصوير (Dolly in) نحو ثلاثة اشخاص وهو يتبادلون الحشيشة بينهم الى لقطة كبيرة صباغ الاحذية يلمع حذاء احد الزبائن ترتفع الة التصوير(tilt up) يدخل مختار (عبد الله فرغلي) الى المقهى تتابعه الة التصوير (Pan) من اليمين الى اليسار يجلس الى جانب فارس على طاولته وقد خسر كل ما يملك بسبب القمار. لقد افرزت تلك التجاورات الصورية فيضاً من المعاني الى جانب وصفها لحال مجتمع الحارة التي ينتمي اليها فارس فقد منحت تلك اللقطات معنى عدم الاستقرار والاضطراب النفسي الذي تمارسه وتعيشه شخصيات ذلك الواقع المهمش بآلامها وإحباطاتها امثال كابتن الكرة العجوز الذي يحكي عن امجاده مع الرياضيين القدامى ويتحسر على تلك الايام ويمنعه كبرياؤه من الإفصاح عن حاجته للمال لمواجهة متطلبات الحياة الصعبة، فارس لا يعيش وحيداً في هذا الواقع بل في بيئة شعبية تمثل قطاعاً كبيراً من المسحوقين امثاله فهناك جاره (نجاح الموجي) الذي يعاني من الفقر الشديد وعجزه عن إعالة زوجته واولاده وتضطره الظروف لارتكاب جريمة قتل. وشخصية سمسار المباريات مختار (عبد الله فرغلي) الذي يستغل فارس، ضارباً عرض الحائط الصداقة والقيم والاخلاق في سبيل الحصول على المال، وهناك ايضاً جارته التي تمارس الدعارة وتتمنى قضاء ليلة واحدة مع رئيس مجلس الادارة والتي يستسلم لإغراءاتها فارس وهو في حالة حزن بعد وفاة والدته. كذلك الوافد الجديد من القرية محسن (حمدي الوزير) الريفي البسيط والطيب، الذي يحاول تكثيف نفسه للتعامل مع المدينة الكبيرة الا انه يضيع في دواماتها الواسعة وينحرف مع التيار اليومي للمدينة.

في مشهد لاحق يزاوج المخرج بين حركة الة التصوير المحمولة المتحركة في ارجاء ساحة اللعب بين اللاعبين والحركة البطيئة في اظهار المهارات الفردية التي يتمتع بها فارس، إذ تتحرك آلة التصوير مسرعة خلف فارس بلقطة متوسطة بين قدميه وهو يحرك الكرة حتى يصل ويسجل هدفا تتقاطع للقطات رد فعل الجمهور التي تتداخل بين الحين والاخر ضمن سياق المباراة ما يمنح المتلقي ادراكاً لصورة البطل الشعبي الذي يحاول تكييف نفسه مع ضغوط الفوضى السلبية التي يعانيها المجتمع الفقير. وتمكن القيمة الجمالية الحديثة للفيلم في لقطاته العامة من الزاوية المرتفعة عن مستوى النظر في نقل وكشف قاع المدينة عبر مشاهد سريعة الإيقاع تؤدي وظيفة درامية هامة في عملية شحن المتلقي للتأفف من اوضاع هذه النماذج البشرية والتعاطف معها في آنٍ واحد.

التنوع المونتاجي سمة اساسية وبارزة عند محمد خان إذ كان التسلسل المونتاجي يبدو في ظاهره مونتاجاً طولياً يسرد به المخرج معالم الحدث، لكنه يتداخل مع المونتاج التعبيري لخلق سلسلة من الصور الذهنية التي تمنح المتلقي ادراكاً لواقع الحدث الفني وان ارتبطت بمعنى أعم واشمل يدور حول مضمون الفيلم الفكري في تصوير واقع الحياة الاجتماعية والاخلاقية لسكنة الحواري والازقة الضيقة خلف الشوارع العريضة وبعيداً عن اضاءة الشارع. في مشهد آخر يمنح سياق الربط المونتاجي التعبيري المشهد معنى بلاغياً يلخص ما يعانيه فارس وكل افراد الطبقة المهمشة. لقطة عامة لمدينة القاهرة من شباك الغرفة بجانب سرير يستلقي عليه فارس وهو يدخن تربط الى لقطة كبيرة من زاوية منخفضة عن مستوى النظر صورة ملصقة على الحائط للمطرب عبد الحليم حافظ، تربط بلقطة متوسطة فارس يلتفت الى الجانب الاخر على السرير ويضع الوسادة على رأسه، وصوت صراخ الجارة وبكائها مستمر بعدما ضربها زوجها على شريط الصوت، تربط بلقطة عامة لاحد جسور المشاة وصوت لهاث فارس الذي يأتي راكضاً من عمق الكادر حتى يتجاوز آلة التصوير. لقد انقطع صوت الحياة، صوت الحب، صوت الامل، فعبد الحليم لم يبق الا صورة – وهي نفس الثيمة التي سيعود اليها لاحقا في فيلمه (زوجة رجل مهم) المهدى الى عبد الحليم حافظ- وبدل صوته صوت البكاء والالم عند الجارة ولهاث فارس المخنوق من ضغط الفوضى والسلبية التي يعيشها والتي كانت سبباً في انفصاله عن زوجته وولده.

لاحقا يبلغ المونتاج ذروته في ايجاد التصور الذهني المعادل لفكرة الانعزال والاضطهاد والذي تعانيه شخصية فارس على الرغم من محاولتها الوصول الى الكسب المادي الضروري لمعيشته حتى لو كان العمل في تهريب السيارات. فبعد سلسلة متتابعة من اللقطات التي تصور فارس في سيارته التي حصل عليها لقاء عمله مع شعبان (فاروق يوسف) في محل بيع السيارات مع كابتن الكرة العجوز في شوارع القاهرة العامة، يدخل في زقاق ضيق لإيصال الكابتن الى منزله، والذي يتركه عند المقهى، يدخل فارس بسيارته في ازقة ضيقة تعبر رمزياً عن المأزق الجديد الذي ادخل نفسه في (تجارة السيارات المهربة) فهو يخرج من متاهة ويدخل في متاهة وكان تلك الشخصيات قد كتب عليها ان تعيش حياتها بين الازقة مدفونة على الرغم من سكنها في السماء على حد تعبير محسن (حمدي الوزير) عندما يصعد الى السطوح في العمارة التي يسكن فوقها فارس.

لقطة متوسطة من خلف فارس داخل السيارة يدخل في زقاق ضيق جداً له انحناءات عدة تربط الى لقطة عامة من زقاق ضيق حيث تدخل السيارة في زقاق ضيق اخر في عمق الكادر والذي تختفي عند نهايته باستدارتها في زقاق يمين الكادر، تربط الى لقطة عامة السيارة تتجه نحو آلة التصوير، الى لقطة كبيرة فارس داخل السيارة يبدأ يتلفت يميناً وشمالاً، الى لقطة عامة تتحرك السيارة مقتربة من آلة التصوير ثم تتجه نحو عمق الكادر الى لقطة عامة يعود من عمق الكادر الى الزقاق نفسه وتتجه السيارة نحو الة التصوير مسرعة الى ان تقف فجأة، لقطة متوسطة جانبية لفارس وصوت لهاثهُ يأخذ بالتصاعد فالزقاق الذي دخله مسدود، يعود الى الخلف، لقطة متوسطة من خلف السيارة وهي ترجع الى الخلف ثم يخرج من الزقاق، تبقى آلة التصوير في مكانها تصور الحائط الذي يغلق الزقاق وصوت لهاث فارس تستمر.

 
 

 

 
   
     
 

المكان في هذا الفلم يكاد يكون هو الآخر بطلا للفيلم، فهو ينبعث فوق الشاشة بروح خاصة وبملامح تنطوي على شحنة جمالية تستولي على عين المتلقي في الحال، فهو الذي يثير الافكار ويخلق الصور الذهنية التي تحيل المتلقي الى كوامن الشخصية وتحديداً عبر الازقة الضيقة والشوارع الخلفية الخانقة، مما يجعل التكوين داخل المشهد فريداً في إيحاءاته التي تجسد عبقرية المخرج في التعامل مع الناس والشوارع والازقة والاسواق والبيوت الضيقة حتى وان كانت مألوفة الى عين المتلقي فهي تأخذ عنده خصوصيتها وابعادها وروحها وشخصيتها المدهشة.

القاهرة هنا غير التي نراها في كل الافلام، ازقة ضيقة كثيرة الالتواء تغوص فيها الشخصيات وتحمل هموماً قدر الهموم التي تعانيها بمطباتها وجدرانها الجرداء القذرة وابوابها المخلعة، فكانت اللقطات العامة عبر الة التصوير تصور أزقتها متابعةً فارس في مشواره اليومي من نزوله من غرفته وحتى وصوله الورشة التي يعمل فيها في المشهد الاول، بؤس المكان يحمل دلالته التعبيرية في منح شخصية فارس بعدها الاجتماعي، أما القاهرة التي نعرفها فلم تكن الا من خلال اللقطات العامة من فوق العمارة التي يسكنها.

فيما مارس المكان ضغطه على شخصية فارس عبر التكوينات التعبيرية التي حددت علاقة فارس بالآخرين ضمن اطار الفيلم، فحتى اللقطات العامة لم تكن مفتوحة، إذ استغل المخرج اجزاء المكان ليوحي بما يعانيه من ضغط اجتماعي ونفسي.

في المشهد الافتتاحي لقطة متوسطة فارس يقفل باب غرفته وأمامه أوتاد السلم الحديدية وكانه في زنزانة، فالغرفة التي يعيشها رغم التصاقها تقريباً بالسماء ما هي الا سجن صغير في هذا السجن الكبير التي تمثله اطراف الزقاق عندما ينزل اليه متوجهاً الى عمله، في مشهد آخر يوظف محمد خان المكان تعبيرياً ليحيل معاني عدة تشرح طبيعة العلاقة المتبادلة بين فارس (عادل امام) وزوجته دلال (فردوس عبد الحميد) وشدة الخلاف المتبادل بينهم، اذ كان الحائط بين باب الغرفتين حيث يقفان ذلك الحاجز المرئي المادي الذي جسد حجم الخلاف بينهما، لقطة عامة قريبة من زاوية جانبية يقف فارس في يمين صدر الكادر، في حين زوجته الى اليسار ويفصل بينهما الجدار الفاصل بين الغرفتين، فلم يكن الخلاف بينهما حوارياً بل كانت اجزاء الصورة حاملة لتلك الأحاسيس والمشاعر المتبادلة. مثلما هو الحال عند الغداء، اذ كانت طاولة الطعام هي ذلك الحاجز المادي المرئي للحالة النفسية التي تربطهما. ويتكرر ذلك الاستغلال في مشهد لاحق عندما تدخل زوجته مع صديقاتها الى محل بيع البوظة، إذ يستغل المخرج ماكنة تذاكر البيع اذ يجعلها حاجزاً بين الاثنين بلقطة متوسطة فارس في يسار الكادر ودلال في يمين الكادر وماكنة تذاكر البيع بينهما، وفي مشهد آخر كان شباك الباص الذي يقلهم هو الحاجز الذي يمزق صفو الاسرة، اذ تظهر لقطة متوسطة فارس في يسار الكادر، في حين دلال في اليمين والشباك بينهما، إذ يقف ابنهما متكئاً عليه ينظر الى الشارع، فيما منح المكان المتلقي احساساً بالترقب لما سيحدث نتيجة بيع فارس المباراة لمتعهد مدينة بور سعيد، لقطة عامة يقف فارس في عمق الكادر وفي صدره تقف من اليسار واليمين سيارتان على متن العبارة التي تسير فوق الماء، فكان المكان وكانه سيطبق على فارس ويقضي عليه، مهيأ المتلقي لما سيحدث عند نزوله منها، إذ يرسل اليه المتعهد من يضربه ليسترجع منه المال، وكانت صناديق الفراخ التي يصنعها والده على احد السطوح حاجزاً بينه وبين والده الذي ترك يوماً والدته وتزوج من راقصة، لقطة عامة قريبة يقف فارس في يمين الكادر، في حين يجلس والده في عمق يسار الكادر والى خلفه زوجته وبينهما صناديق الفراخ التي لم تعد تباع.

خط الزمن الدرامي للفيلم يسير متتابعاً في سرد الاحداث، فصيرورة الايام المتتالية تمنحها لقطات الصباح والمساء احساساً بتغيير الزمن المتفاعل مع واقع الاحداث كما هو الحال في الحياة الحقيقية بامتداده، فيما كانت لحظات تغير الزمن ترد على لسان شخصيات الفلم لتحيل الى المتلقي تنوع وتعدد الازمنة التي يعيشها فارس ومن يرتبط بحياته من بعيد او قريب كما في المشهد عندما تلومه عزيزة (زيزي مصطفى) على عدم مجيئه الى العمل لمدة يومين، فيما كانت ملامة والدة طليقتهُ له على مدة الثلاث سنوات التي انفصلا فيها عن بعضهما فهي احالت المتلقي ذهنياً الى الزمن الذي قضاه ويقضيه فارس في حياته فكانت حداثه التعامل مع الزمن في تنوعه على لسان الشخصيات من دون شعور المتلقي بتغيير الزمن الدرامي للحدث الذي يجري امامه والمرتبط اساساً بطبيعة البناء الدلالي الشكلي الذي يتعامل فيه المخرج مع عناصر اللغة التعبيرية.

أما الصوت فجاء ليحتل مكانه المتميز والمباشر عبر اشتغال أصنافه على مستويات عدة ترتبط وتساهم في تعزيز قيمة المضمون العام للحدث، اذ تحتل المؤثرات الصوتية مكانا بارزا واساسيا ليعزز من واقعية وصدق الحدث، ولاسيما ان كل احداثه تجري في اماكن حقيقية تتسم بالفقر والفوضى، وسعى خان الى اكساب حدثه كل المصداقية عبر تلك الضوضاء التي تمنح المتلقي شعوراً بالضيق الذي يعانيه سكان الازقة الضيقة ومكملاً لحقيقة الصورة وفعاليتها في تحقيق الاندهاش لدى المتلقي. فصراخ الطفل على البواب، وصوت اذاعه صوت القاهرة عند تناول الفطور على ناصية الشارع وصوت التفاعل الاجتماعي في الزقاق منح المتلقي احساساً بالانتماء الى تلك البيئة، في المشهد الاول، فيما كان صوت ضغط آلة كبس الاحذية في الورشة معادلاً صوتياً مؤثراً للحدث المرئي عندما يتشاجر فارس مع طليقته التي تشكيه قلة الاعالة الشهرية والعريس الذي ينوي التقدم لها، فكل ما يحيط بفارس يثور عليه ولا يجد اية حيلة في الحصول على المال.

وكان صوت لهاث الانفاس المتقطعة لفارس المتكررة بين مشهد وآخر وهو يركض صباحاً ويمارس لعبة كرة الشراب في الساحات وحتى المدن البعيدة عن القاهرة ملائمة لإحالة مشاعر الانقباض النفسي الذي يعانيه، ولاسيما عندما يدخل بالسيارة في متاهة الازقة الضيقة التي لا يعرف كيف يخرج منها فكانت انفاسه انفاس كل المعدومين الذين لا يجدون المخرج من متاهة الفقر الذي تعانيه، اما الموسيقى فكان اشتغالها على مستويين وظيفيين ارتبط بالنوع الذي تشغله ضمن اطار الفيلم فالموسيقى التصويرية ونغمات البيانو لم تستخدم في اغلب اجزاء الفلم وانما كان توظيفها مرتبطاً باللقطات العامة التي تصور القاهرة من سطوح العمارة التي يسكنها فارس او من نافذة السيارة التي تخترق شوارعها العريضة واستخدمت كمعادل للصورة والحدث ضمن مشهد النهاية في المباراة الأخيرة التي يخوضها فارس قبل توجهه الى الاسكندرية للعمل مع شعبان في تجارة السيارات.

اما الاستخدام الثاني فكان توظيف خان لأغاني عبد الحليم وفريد الاطرش وفيروز، ولاسيما في المقهى وشقة عزيزة بعد ممارسة فارس الجنس معها مما اكسب تلك المشاهد بعداً دلالياً يعزز من قيمة مضمون الحدث، فكانت تلك الاغاني بنغماتها فاقدة لمشاعرها وخصوصيتها وكانت مجرد صدى اصوات خلق الاحداث فهموم ومشاكل الحياة الفقيرة تنسي كل انسان شاعرية الاغنية ولذة الاحساس بها، اما الحوار فجاء بسيطاً ذا مفردات شعبية تنبع من تلك البيئة، الشتيمة والعبارات الرخيصة تحتل مكانها البارز بين اركان حوار الشخصيات، ولاسيما عندما يتشاجر فارس مع زوجته دلال والذي يصل الى حد محاولة الضرب، فالحوار يبلغ مداه المضطرب عندما يتشاجر الاثنان حول مشاكل ابنهما وقلة الإعالة الشهرية، يلومها فارس على ضربها الولد، ترده دلال بعصبية قائلة (طبعاً انت عايزو يسيب المدرسة ويطلع صايع زيك) يحاول ضربها لكنه يتردد كونه في محل عمله.

لم يمر فيلم الحريف من دون لجوء خان الى استخدام العناصر البلاغية لما لها من دور يخدم الحدث ويسهم في تقديم المعلومة الى المتلقي بكل يسر واختصار للكثير من الاحداث التي لا تجد مجالها على الشاشة. يوظف المخرج الاستعارة البلاغية لشرح تاريخ فارس الاجتماعي وعلاقته بزوجته والسبب الرئيس الذي كان وراء طلاقها منه والحصول على حق حضانة الطفل عندما يحقق معه ضابط الشرطة بتهمة قتل جارته الثرية ، لقطة متوسطة لفارس وصوت الضابط يشرح كيف قام فارس بضرب مدربه في نادي الترسانة وكيف ضرب زوجته، تربط بلقطة كبيرة لزوجته دلال منكوشة الرأس وعيناها دامعتان وقد ازرقت احداهما، تربط بلقطة متوسطة لفارس وصوت الضابط يخبره كيف رفعت عليه طلب الطلاق وحق حضانة ابنهما، تربط الى لقطة كبيرة اخرى لزوجة فارس وهي تبكي وعلى شريط الصوت ما زال ضابط الشرطة يشرح كيف كسر لها ضلعين وكيف حكمت لها المحكمة. لقد منحت تلك الاستعارة إدراكاً مضافاً لطبيعة فارس التي لم تكن من عالم اخر بل كانت نابعة من تلك البيئة المتواضعة التي تدفع الغائرين فيها الى مثل تلك التصرفات والسبب ضيق الحال وضيق الأفق بسبب جهل وانعدام المدارك الاجتماعية.

كما ان الفيلم كان غنيا بالرموز والاستعارات البلاغية أكسبت المخرج مرتبة متميزة بين اقرانه من المخرجين، تمنح المتلقي المتابع حساً يكشف له خان عن غيره من المخرجين وهو ما يميز افلامه، في هذا الفيلم استغلال للتكوين الشكلي للصورة مع طبيعة الحدث في الرمز الى حال المجتمع وتحديد سماته بلاغياً من دون الاكتفاء بمباشرة الطرح حتى يكتسب عمله ابعاده الجمالية الحديثة في استغلال وظائف عناصر اللغة التعبيرية، في مشهد يخرج فارس من غرفة عزيزة الجانبية وقد مارس معها الجنس تتحرك الة التصوير (Pan) متابعة فارس من اليمين الى اليسار والذي يدخل في زقاق ضيق جانبي يقف عند بدايته شاب وهو يتقيأ وظهره الى الة التصوير، فكان ذلك الشاب بسلوكه رمزاً لواقع مجتمع الحواري، فالحشيش والشراب وممارسة الدعارة ابرز سمات المجتمع الفقير وفارس جزء من ذلك المجتمع فهو انسان طبيعي لا يحمل اية ميزات خارقة سوى انه يمارس كرة الشراب بحرفنه زائدة عن الاخرين وان كان هناك من يفوز عليه. فيما كانت اوتاد اللافتة الاعلانية الكبيرة المثبتة على سطح العمارة التي يسكنها رمزاً دلالياً استغله للتعبير عن الخطأ الكبير الذي يعيشه فارس وجاره الذي يرتكب جريمة قتل الجارة الثرية، والجارة التي لا تجد من ممارسة الدعارة بداً لكسب قوت الحياة اليومية. مشكلة متكرر رمزي يجري الاستفادة منه اكثر من مرة.

في مشهد لاحق يقف فارس في غرفته متأملاً القاهرة من شباكها وصوت صراخ الجارة وبكائها وصياح الزوج يملأ المكان، يخرج فارس من غرفته ينظر اليهم، تربط بلقطة عامة من زاوية منخفضة عن زاوية النظر الاعتيادية تخرج الزوجة من غرفتها راكضة ويتبعها الزوج وينهال عليها بالضرب من خلف اوتار اللافتة الكبيرة التي تاخذ شكل (×××) فكانت تلك العلامات رمزاً للخطيئة التي يعيشها جاره والتي عاشها هو من قبله. فما هو الا رمز لتلك السنوات الثلاث التي عاشها فارس مع زوجته السابقة دلال، إذ كانت سمتها البارزة الضرب والاهانة.

وفي مشهد آخر تحمل  تلك الاوتاد دلالتها التعبيرية الرافضة لمشاريع فارس الجديدة بالعمل في تجارة السيارات المهربة مع شعبان، لقطة متوسطة شباك الغرفة الصغير التي يسكنها قريبه وجاره الجديد محسن (حمدي الوزير) تتحرك الة التصوير (Pan) من اليسار الى اليمين تظهر مدينة القاهرة صباحاً الى ان تصل الى فارس الذي يجلس من خلف وتدين حديدين على شكل علامة (×) كبيرة جداً. ثم يأتي محسن يتحدث معه عن العمل الجديد الذي وجده، فكانت علامة (×) الكبيرة حاملة دلالتها التعبيرية في رفضها لفكرة السفر اولاً التي يتبناها فارس بالنيابة عن اغلب الشباب في تلك المرحلة الذي كان همهم السفر والخروج ورفضها الثاني لممارسات اغلب العاطلين عن العمل بالعمل في التهريب وتجارة المخدرات، والتي لم تكن تؤتي اوكلها عليهم الا بالسجن وربما القتل.

سينماتك في ـ  25 أغسطس 2020

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004