كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

خاص بـ«سينماتك»

 

موعد على العشاء:

حكاية فتاة تحلم

د. فراس الشاروط/ خاص بـ«سينماتك»

 
 

 

   
     
     
 
 

فراس عبد الجليل الشاروط (عراقي)

·      أكاديمي، ناقد ومخرج سينمائي

·      حاصل على شهادة الماجستير بالإخراج والنقد السينمائي عام 2002

·      حاصل على شهادة الدكتوراه بالنقد السينمائي عام 2013

·      كاتب في صحفيفة المدى والعالم الجديد ومجلة  الشبكة العراقية.

·      مؤسس ورئيس تحرير نشرة  كلاكيت السينمائية التي تصدر عن نادي صحبة السينما

·      حاصل على جائزة الابداع من وزارة الثقافة العراقية 2010

·      مشارك كناقد سينمائي وعضو لجنة تحكيم في مهرجانات عدة منها: باليرمو، مالمو، دمشق، أبو ظبي، دبي، بغداد ، مسقط ، القاهرة

إصدارات سينمائية:

·      أصوات بوق اسرافيل دراسة في الفكر الديني عند ديستوفسكي (2010)

·      السرد الروائي والسرد الفيلمي ضرورات المعالجة الفيلمية (2010)

·      الجنس والوعي: دراسة في دلالات الجنس بالسينما (2011)

·      الواقعية الجديدة وما بعدها في السينما الإيطالية (2014)

دلالة السينما (2014)

أخرج فيلمين:

·      (يطير الحمام.. يحط الحمام) الوثائقي عام 1996

·      (روما ترانزيت) الروائي القصير عام 2010

 

د. فراس الشاروط

 

 

موعد على العشاء..

حكاية فتاة تحلم

بقلم: د. فراس الشاروط/ خاص بـ«سينماتك»

(نوال هي أي فتاة ارادت ان تحب وتعيش حياة طبيعية)...

محمد خان

 

في المشهد الافتتاحي يظهر مكان الحدث في محل تصوير ، إذ نرى نوال (سعاد حسني) وعزت ابو الروس (حسين فهمي) وهما يلتقطان صورة الزواج وبعدها يكتب (بعد مرور ست سنوات) ، هنا اختزل المخرج ست سنوات من العلاقة بين نوال وزوجها عزت مما اعطى مرونة كبيرة في تخطي مدة زمنية طويلة مع تهيئة المتلقي لطبيعية الاحداث التي ستجري في الزمن الدرامي الذي ستبدأ منه احداث الفلم وليؤكد على ان نوال كانت خلال ست سنوات مجرد رقم تكميلي في حياة زوجها عزت، وهو ما تجسد عند المخرج في المشهد التالي عندما يأتي عزت الى البيت في ساعة متأخرة وهي نائمة في سريرها ويجلس الى جانبها يدقق بعض الحسابات ويضع يده على مؤخرتها، لم تكن نوال عنده سوى حاجة لإشباع رغباته.

في حين كان استغلال تقنية المزج اشارة على انقضاء ومرور الزمن السلبي للتعبير عن مدى التحول الذي حققته نوال في مجال التعلم والعمل بعد طلاقها من عزت، إذ كان الانتقال من المشهد وهي تتعلم في معهد التدريب على الآلة الكاتبة الى المشهد اللاحق في مكتب المحامي الذي تعمل فيه وهو ما يتكرر ثانية عندما تقدم امها على الزواج، فكان زمن الحياة واللحظات السعيدة عند محلات الأقمشة لشراء جهاز الزواج يمر بسرعة شانه شأن الحياة مع شكري، إذ تمر تلك اللحظات بسرعة، على العكس تماماً من ذلك كانت اللحظات التي تجمع نوال بزوجها الأول عزت ذا مساحة زمنية أطول عكست واقع نوال البائس والحزين الذي انعكس على الجو العام للفلم، فجاء تكثيف الزمن في الربع الأول من الفلم لمجمل الأحداث المهمة التي تجري في يوم واحد من الصباح حتى المساء ليبرز المعاناة وكيفية تحمل نوال لها وهي ترمز عن ست سنوات عاشتها على هذا الأسلوب.

ثم عمد بعدها المخرج الى مد الزمن أياماً وأسابيع لتحقيق غايتهُ في منح زمن الحدث دوراً اكبر في كشف واقع نوال بعد الطلاق وتعلمها وبحثها عن العمل، ثم زواجها.

يأخذنا محمد خان في فيلمه الرومانسي/ الشاعري هذا الى مستويات تعبيرية عدة متميزة وظفها بين ما هو ظاهر مرئي وبين ما هو غائب إيحائي، هذه  التوظيفات للعناصر السينمائية جاءت لتعمق من الأثر الفكري الذي يهيئه داخل بنية الفيلم من خلال السرد وفق الذي انتهجه لتسيير الاحداث ومنح القصة ابعاداً دلالية متميزة.

ولعل التموج الموضوعي الذي تسرد به قصة نوال ابراهيم في بحثها عن الحرية من قيود تسلط الرجل على الرغم من فشلها في ذلك، يمنح الفيلم بعداً فكرياً ودلالياً يمثل رفضاً قاطعاً لهذا المجتمع، الذي يشكله المخرج ويطلقه الى عنان الشاشة عبر ذلك الاسلوب البليغ بين الرموز تارة والاستعارة مرة اخرى او الاكثار من عملية مزج اللقطات، فضلاً عن الموسيقى المعبرة والمتجسدة في ضربات البيانو الناعمة والحزينة محطماً قيوداً لطالما ظلت مسيطرة وتغلف جدران المعالجة الفنية لواقع المجتمع على الرغم من تحضره الذي يواري تخلفه خلف سيارة فارهة وشقة رائعة وبدلات وسهرات، لعل أصالته في حقيقته وأصالة معالجته، فرعب الموت شكل ملاذاً آمناً لواقع بائس وهو بذلك نقد صاخب لعالم تسوده الوحشية والقمعية وهجوم حقيقي على سطوة مجتمع الرجل على المرأة يتبناه الشريط السينمائي بكل ما يمتلك من أساليب حتى يوصل المضامين ، فالحرية والتحرر احد اهم المطالب في هذا الفيلم.

سعى محمد خان جاهدا ليقدم بشعرية عالية أنموذجا صورياً مهماً عبر آلة التصوير للتعبير عن الواقع الفني عبر تقنياتها من حجم وزاوية وحركة للوصول الى الاكتمال الفني وتحقيق الإحساس بقيمة وواقعية الحياة.

في مشهد المزاد حيث اللوحة الزيتية التي رسم فيها (طفلة يقودها رجل ضرير ويسيران معاً في طريق لا بداية فيه ولا نهاية له) نجد تنوع اللقطات التي ساهمت في تعميق المعنى والاثر العام للفيلم حيث ان المرأة منتهكة مسلوبة الارادة وتسير في طريق لا بداية فيه ولا نهاية له وحتى من يقود الطفلة ضرير لا يرى شيئاً، فحركة آلة التصوير جاءت بأحاسيس زادت من قيمة المشهد وعمقت من المعنى.

جاءت اللقطات بنظام لا يحكمه تسلسل في نسبة الأحجام بل تنوع يخدم معنى الحدث وتأكيداُ لحقيقة الموضوع، لقطة متوسطة لنوال ثم ينتقل الى لقطة كبيرة للوحة ثم لقطة متوسطة بعيدة تقريباً لنوال تقف الى جانبها صديقتها بعدها لقطة متوسطة الى الرجل الذي يبدأ منافستها المزاد لشراء اللوحة، لقطة كبيرة لنوال وهي تنظر اليه ثم لقطة عامة لكل المشاركين في المزاد ثم لقطة متوسطة لأحدى صديقات نوال وهي تحاول اصلاح مكياجها مع حركة pan من اليسار الى اليمين تقف نوال تنظر باهتمام الى اللوحة وخلفها احدى صديقاتها تساعد الصديقة الاخرى على اشعال سيكارتها مبررة عدم اهتمام من حولها لقضيتها في تخليص فتاة اللوحة (نوال نفسها) من تبعيتها للرجل، الى لقطة متوسطة لنوال ترفع السعر ثم لقطة كبيرة لفم الرجل يرفع السعر امعاناً وتأكيداً على غلبة الرجل في كل المواقف على المرآة، يتبعها بلقطة متوسطة نوال ترفع السعر أملاً في تخليص الفنان وشراء اللوحة الى لقطة متوسطة مع حركة زوم نحو الرجل يلتفت الى نوال ثم يرفع السعر اكثر فاكثر، يتبعها بلقطة متوسطة لنوال وصديقتها من الخلف تخبرها عن اللوحة (متستهلش) اشارة الى الانهزامية التي تعانيها المرأة والتي تؤكدها لقطة كبيرة لصديقتها الاخرى وهي تقول (ده جنون) ترفع نوال السعر الى (200) جنيه وهو مبلغ كبير جداً لشراء اللوحة، لكن تأكيد المخرج على انتصار الرجل في تلك المعركة وسلب المرأة إنسانيتها يأتي بلقطة كلوز على يد الرجل وهو يشير الى (300) جنيه وليس للمرأة من حق في أي شيء سوى البكاء والحسرة لتظهر نوال بلقطة متوسطة قريبة وهي تبكي في المقعد الخلفي للسيارة. ويميل المخرج الى ربط شخصياته بالمجتمع الذي تعيش فيه والذي يفرض نفسه باحتواء تلك الشخصيات بتقاليده وعاداته من خلال استغلاله اللقطات العامة من زاوية عين الطائر لترسيخ موقفها وانتمائها الى ذلك المكان، كان الربط السريع بين اللقطات المتوسطة والكبيرة في مشهد شراء اللوحة بليغاً في جذب انتباه المتلقي وايجاد ايقاع عزز من توتر الحدث وفرض صورة ذهنية واضحة عن طبيعة العلاقة الباردة بين نوال وعزت من جهة وطبيعة الواقع اللاإنساني الذي تعيشه المرأة عموماً في المجتمع تحت ظل الرجل، في مشهد لاحق تخرج نوال (سعاد حسني) مع والدتها (زوزو ماضي) من العمارة التي تضم مكتب المحامي تستقبلها آلة التصوير بلقطة عامة ومن زاوية عين الطائر وصوتها مسموع وهما يتشاجران حول رفضها النفقة الممنوحة والشقة التي تركها لها زوجها السابق اذ يساهم توظيف تلك الزاوية في ترسيخ موقع نوال بانها جزء من ذلك المجتمع عبر مجاميع الناس الذين تخترقهم وما تحاول ان تحققه من اثبات لذاتها على الرغم من تعنيف والدتها لها، تأكيد لمقدرتها على اتخاذ القرار المناسب فيما يخص حياتها ومستقبلها اذ ينتقل المخرج الى لقطة كبيرة لنوال مباشرة بعد اللقطة العامة وهي تخبر والدتها (لماذا تحسسيني اني ضعيفة ولا استطيع ان اخذ قرار) فجاء الانتقال من اللقطة العامة جداً الى الكبيرة تأكيد لقيمة نوال أولاً والمرأة عموماً بانها قادرة على ان تكافح وتحقق وجودها في اطار مجتمع يتمسك بتقاليد وعادات اجبرت المرأة دائماً على الخضوع للرجل والذي ياتي بشكل مؤكد لاحقا من خلال لقطة كبيرة لنوال وهي تؤكد (انها لم تشعر بانها انسانة الا في اليوم الذي عملت فيه) استغل محمد خان توزيع الشخصيات داخل اللقطة ليبرز مدى الفراغ الذي تعيشه نوال في علاقتها مع زوجها عزت ابو الروس، كانت اللقطات التي تجمعها معه متوسطة وكل واحد منهم يقف عند طرف الكادر ويفصل بينهما حاجز او قطعة اثاث اكدت الفراغ الذي لا يمكن ان يملأ بلقائهما او ارتباطهما وهي اشارة بليغة الى ان الانفصال هو طريقهما الاخير. على العكس من اللقطات التي جمعتها مع شكري اذ كان الاثنان في منتصف الكادر اغلب اللقطات متلاحمين تأكيد على المشاعر والأحاسيس العالية التي تربطهما.

مونتاجيا استغل محمد خان سياق الربط بين اللقطات ضمن اطار الفيلم الى سرد الاحداث بطريقة سلسلة تقترب في ظاهرها من المونتاج الروائي الطولي لسرد حياة نوال وعلاقتها بزوجها عزت وطلاقها منه، ثم زواجها من شكري ومقتله على يد الزوج الاول ، إذ ينتهي بها الحال الى الانتحار بقتله بعد وضع السم له ولها في طعام العشاء الا ان الحداثة في الشكل المونتاجي لإيصال المعنى تتولد من خلال تراكب اللقطات الذي يرتبط بقيمة المشهد الدرامية والسايكولوجية في اطار المشهد الواحد المتداخل مع بقية المشاهد، لقد نجح محمد خان في استغلال تقنية المونتاج  التعبيري الى جانب المونتاج الروائي لإيصال المعنى بأبلغ وسيلة تعزز من قيمة الحدث وتجعل المتلقي قادراً على قراءة الصورة والوصول الى النتيجة التي يبتغيها المخرج من خلال تجاور اللقطات.

في مشهد خروج نوال (سعاد حسني) مع والدتها (زوزو ماضي) من عيادة الدكتورة، تنصحها والدتها بإنجاب الأطفال وهما واقفتان أمام باب المصعد يتم ربط كلام الام بلقطة كبيرة جداً على يد نوال وهي تثني الورقة التي كتبت فيها الدكتورة علاجاً لها ليساعدها على الانجاب ثم يربطها بلقطة متوسطة لها ولوالدتها وهن يدخلن المصعد وعندما تقوم نوال بغلق الباب يربط المخرج بلقطة كبيرة اخرى على يد نوال وهي ما تزال تحمل الورقة، ترمي الورقة فتقع على ارضية المصعد، الى لقطة كبيرة اخرى على قدم نوال وهي تدفع الورقة لتسقطها من باب المصعد الى لقطة عامة من اسفل والكاميرا متجهة نحو الاعلى تستقبل سقوط الورقة الى اسفل، ان تسلسل البناء التعبيري لهذه اللقطات يولد معنى مهما وهو ان نوال ترفض فكرة الانجاب من زوجها لأنها ترفض العيش معه، وهو رفض يسبق الرفض الذي يأتي على لسان نوال عندما يربط المخرج اللقطة الكبيرة التي تمثل سقوط الورقة بلقطة كبيرة للام داخل المصعد تحدث ابنتها عن قدرتها على انجاب طفل بأية وسيلة، تخبرها نوال (لا) لا التي تجسد رفضها لكل مظاهر الحياة التي تعيشها مع عزت كونه العقبة في حياتها، وهذا ما يجسده المخرج ببراعة في خلقه رمزاً يعبر عن مدى طبيعة العلاقة بين نوال وزوجها عزت ، إذ يقوم بربط لقطة تأتي متجانسة مع سياق الحوار بين نوال وامها فعندما يظهر اللقطة التي تبين الام وهي تقول (يجب ان تخلفي بأي طريقة كوزك عايز اولاد) يربط الى لقطة كبيرة تبين وتد يعترض طريق عجلة سلك المصعد فيسبب اهتزاز المصعد الذي يظهر في اللقطة المتوسطة القريبة التالية التي تبين نوال وهي تكمل حديثها مع والدتها قائلة (خايفه عليّ اوي).

تتجسد براعة المخرج في تشكيل مونتاجي جديد غير نمطي يعبر عن المعنى ويعزز من قيمة الحدث، عبر تلك المزاوجة بين حركة عدسة آلة التصوير (zoom in) و(zoom out) مع حركة (dolly in) و(dolly out)، فبعد سلسلة من اللقطات للشخصيات التي تحضر الحفلة يربط المخرج بلقطة عامة للجميع وهم يجلسون الى المائدة، تتحرك عدسة آلة التصوير (zoom out) يظهر الجميع ثم تربط بلقطة تتحرك فيها عدسة الة التصوير (zoom in) نحو نوال التي تنظر الى احد جدران الغرفة التي يجلسون فيها ليربط بلقطة متوسطة لجدار تعلق عليه صورة تمثل مشهداً لمصارعة الثيران ويحاول المصارع غرز السيف في ظهر الثور وآلة التصوير تتقدم نحو الصورة (dolly in) يربطها بلقطة متوسطة لنوال وهي تمعن النظر بالصورة المتعلقة على الجدار تتحرك عدسة آلة التصوير (zoom in) نحو نوال يربطها بلقطة متوسطة لصورة اخرى معلقة على الجدار لثور يُسقط مصارعه وقد صرعه يربطها بلقطة متوسطة لنوال تنظر الى عازف الغيتار ثم تنهض وتخرج من الحفلة فقد انتصرت على مخاوفها وعليها تلبية نداء نفسها والتخلص من واقعها ومن الذي يحاول أن يركعها ولو بالقوة.

في مشهد لاحق يبرز استغلال المخرج لعنصر المونتاج لنقل إيحاءات تحيل المتلقي الى استنباط طبيعة الحدث قبل تقديمه مباشرة على الشاشة لزيادة الترقب أولاً والتوتر وتحذير المتلقي ثانياً من أن شيئاً ما سيحدث لإحدى الشخصيات، فكان الربط بين اللقطات الثانية محفزاً وباعثاً على تقبل تلك الإيحاءات، إذ يتم ربط اللقطات متداخلة مع استخدام تقنية المزج اشارة الى مرور مدة زمنية طويلة على انتظار نوال لزوجها شكري الذي غادر صباحاً.

لقطة متوسطة لنوال وهي تجلس على الكرسي، ثم ينتقل بواسطة المزج الى الساعة المعلقة على الحائط التي يخترق صوتها سكون تلك اللحظات، ليربطها بلقطة متوسطة قريبة من خلف احد الكراسي وقد غلبها النوم، الى لقطة كبيرة لرقاص الساعة الذي تحمل دقاتهُ نذير الشؤم لما سيحدث، ثم ينتقل بواسطة المزج الى لوحة الساعة بلقطة كبيرة جداً على الرقم 5، فلقطة متوسطة لنوال وهي نائمة ثم يربطها بلقطة كبيرة الى جهاز الهاتف عند قدميها الى لقطة كبيرة اخرى لاطباق الطعام تحتل مكانها من دون ان تلمس، ثم لقطة متوسطة قريبة للساعة بكاملها ودقات رقاص الساعة تحطم سكون اللقطات وتبت إيحاءاتها بمكروه سيحدث، تربط بلقطة كبيرة جداً لعيني نوال التي تفتح اثر سماع جرس الباب، وهنا يتجلى دور المخرج في اكتساب صفة الخصوصية الجمالية المتميزة في ترتيب اللقطات باسلوب تعبيري متميز يغني من قيمة ذلك التسلسل ويمنحه صفة الحداثة والجدية في التعامل مع الوسيلة السينمائية، اذ يقوم بربط اللقطة الكبيرة لعيني نوال بلقطة عامة لباب الشقة، ثم لقطة عامة لغرفة الاستقبال في الشقة التي تجلس فيها نوال الى لقطة كبيرة جداً لقفل الشباك ويدها تفتحه الى لقطة متوسطة من خلف نوال وهي تفتح الشباك ببطء يظهر مأمور شرطة، يربطها بلقطة كبيرة جداً لمفتاح الباب الذي يفتح، ثم يربطها بلقطة متوسطة قريبة من خلف مأمور الشرطة لنوال، ثم يربطها بلقطة كبيرة جداً للنسر المثبت على رأسه نسمع على شريط الصوت حديثه وهو يقول (صباح الخير.. دي شقة نوال ابراهيم هاشم) لقطة متوسطة قريبة لنوال تجيب نعم، تربط الى لقطة متوسطة لنوال تسير مع رجل يرتدي ملابس طبيب وتتحرك آلة التصوير الى جانبهم (track) الى ان تتوقف مكتفية بمتابعتهم بواسطة حركة pan الى ان يدخلو غرفة في جانب الممر.

 
 

 

لقد اكتسب البناء المونتاجي لتلك اللقطات أهميته وخصوصيته بنقله لنا صورة ذهنية عميقة محملة بالدلالات عززت من رهبة الخطر والوضع غير الطبيعي الذي تعيشه نوال من دون مشاهدة عملية مقتل شكري، اذ استثمر المخرج ذلك الربط المتنوع بين اللقطات لتحفيز المتلقي ضد الزوج السابق عندما يربط دخول نوال تلك الغرفة في جانب الممر بلقطة كبيرة لباب ثلاجة الموتى يفتح ويسحب منه أحد الممرضين جثة شكري وعلى شريط الصوت نسمع عبارات الطبيب (وصلتنا امبارح بالليل ، الظاهر خبطتو عربية).

لقد استغل المخرج المونتاج ضمن اطار الفيلم للتعبير عن مفاهيم عدة ارتبطت بقيمة المضمون الفكري للعمل ككل ومن ثم عززت قيمة الحدث، فكان الربط بين اللقطات وسيلة أساسية للمخرج للتأكيد على حرية المرأة في العمل والتعلم، إذ وجد سياق الربط المونتاجي بين المشهد الذي يبين تعلم نوال على الآلة الكاتبة والمشهد التالي الذي يجسد مدى انشغالها بالعمل في مكتب المحامي، عبر ربط اللقطة التي تبين تعلم نوال على الآلة الكاتبة مع تاليتها عندما تدخل الى مكتب المحامي تقدم له أوراق المطالعة في قمة انشغالها بالعمل مع المشهد الحادي والعشرين في منزل والدتها تخبرها ان العمل اخذ كل وقتها وباتت تشعر بقيمتها بعد ان بدأت العمل.

استغل خان المكان الفيلمي بذكاء للتعبير عن الحالة اللاإنسانية التي تعانيها نوال واسهم في تعميق فكرته بإبراز التسلط الرجولي على المرأة. عندما تأتي نوال الى مكتب زوجها بعد اخبار والدتها انها سوف تطلب الطلاق منه تدخل نوال المصعد ويدخل معها مجموعة كبيرة من الرجال وبعد اغلاق الباب يبدأ المشهد بلقطة من فوق مستوى النظر قريبة تظهر وجوه الرجال وهي تقف بينهم، ثم ينتقل الى لقطة بالحجم نفسه تتحرك آلة التصوير من اليمين الى اليسار، ثم بالعكس من اليسار الى اليمين، إذ تتوقف آلة التصوير عند نوال وهي تتعرق وتشعر بالاختناق، ثم يربط الى لقطة متوسطة من فتحة شباك باب المصعد وهي غائرة بينهم وتحاول بكل ما اوتيت من قوة لفتح الباب، تفتحه وتخرج الى الحياة الى الهواء بعد ان كانت محاطة بالرجال، ضمن اطار الصورة جاء المكان معبراً عن فكرة عميقة احالت المتلقي الى معنى اكبر جسد ما تعانيه المرأة في المجتمع من عدم ادراك الرجل لها والتي من الممكن ان تتحول الى وحش كاسر اذا بقيت على هذا الحال.

ايضا اشتغل المكان بشكل معبر عن مدى الضيق والاختناق الذي تعانيه نوال بعد مقتل زوجها الثاني شكري، عندما تذهب الى زوجها السابق عزت ابو الروس لتقابله إذ كانت زاوية آلة التصوير جانبية عند طرف الممر مما جعل الجدران وكأنها حجري رحى تنطبق على نوال، فضلاً عن استغلال المخرج لأجزاء وعناصر المكان في ابراز الفراغ وعدم التوافق بين نوال وزوجها عزت في مشهد آخر تذهب نوال الى المطعم الذي يتواجد فيه زوجها لطلب الطلاق يظهران في لقطة عامة داخل المطعم ونوال في يسار الكادر وعزت في يمينه وبينهما حاجز من الأثاث استغل وضعه المخرج إشارة الى الحاجز الذي يغلف حياتهم ويفصل بينهم.

وهو ما قام به المخرج مستغلاً اجزاء الشقة ليعبر عن مدى الاختلاف الذي يشوب علاقة نوال بوالدتها ازاء زوجها الاول، عندما تأتي الام محاولة اثناء نوال عن رغبتها في طلب الطلاق، تظهر لقطة متوسطة نوال ووالدتها في عمق الكادر وباب شرفة الشقة في صدر الكادر وحافة الباب الخشبية تقسم الكادر الى نصفين وفي كل نصف تقف إحداهن، اشارة بارزة للخلاف وعدم الاتفاق الذي يميز علاقة نوال بوالدتها والتي تتهمها فيه بانها باعتها وانها تحب النقود اكثر من حبها لها.

في حين جاء اختيار المخرج لمدينة الإسكندرية مكاناً واقعياً غاية في الأهمية ربطت شخصياته بحياتها اليومية، فكان استغلاله للسوق والشارع الرئيس في المدينة عبر اللقطات من زاوية عين الطائر اثره في تعميق ارتباط نوال بالمجتمع، واستغلال شاطئ البحر عندما تذهب اليه لترمي همومها، ما يعزز من أهمية المدينة والبحر عند نوال ومدى ارتباطها بمكانها ووجودها.

البناء الزمني لتسلسل الأحداث ادى دوراً مهماً في التعبير عن واقع الحياة التي تعيشها نوال مع زوجها عزت، فكان التكثيف الزمني نقطة بارزة لخصت الكثير من المواقف وعززت من قيمة فهم طبيعة الحدث بالنسبة للمتلقي امتزجت اثناء الفلم سواء باستغلال العبارات التعريفية بمرور الزمن التي تظهر على الشاشة او عبر الوسائل السينمائية التي كان استخدام تقنية المزج فيها واضحاً ومؤثراً على مدار الفيلم لتقديم الحالة.

يتميز شريط الصوت في فيلم (موعد على العشاء) باشتغاله على مستويات عدة وحسب أنواعه مشكلاً ترابطاً ملحوظاً مع الصورة ومساهماً في تعميق المضمون الذي يريد خان إيصاله، ففي المشهد عندما تخرج نوال الى شرفة شقتها تنظر خروج زوجها، جاء اشتغال الموسيقى التصويرية الى جانب الصورة معبراً عن الوحدة والانعزال الذي تعيشه عندما تنظر الى اسفل فتنقل لنا آلة التصوير رؤيتها لفتاة وهي تلعب على الرصيف المقابل، تتحرك آلة التصوير (zoom in) نحو الفتاة والموسيقى مستمرة، إذ تحيل تلك اللقطات مع الموسيقى الى معنى اكبر، عما تحلم به هذه المرأة (نوال) من حرية تعيدها الى حرية ايام الطفولة كحرية هذه الطفلة التي تلعب على الرصيف لكن الرجل الذي يطل على شقتها من الطرف الاخر ويحاول معاكستها يذكرها بمعانتها من الرجل المتسلط.

في مشهد آخر استغل خان بشكل جميل موسيقى الفلامينغو الواقعية داخل المشهد في اعطاء مساحة واقعية للحدث ساهمت في التعبير عن الحالة النفسية التي تمر بها نوال عبر التناغم بين اللقطات والوصلة الموسيقية وبين اللقطات التي تبين صور المصارع وهو يحاول غرز سيفه في ظهر الثور والصورة الثانية التي تبين الثور وهو يسقط مصارعه وخروج نوال من الحفلة. في حين جاء الحوار في مشهد المزاد على شريط الصوت عندما تشاهد نوال اللوحة التي فشلت في شرائها ليعمق من معنى اللوحة ومن المعنى الذي يريد المخرج ايصاله الى المتلقي فهي تقول: (اول مرة شفت فيها الصورة دي حسيت اني الطفل الى كواها، انا ماشية في طريق زي ما بكون بحلم، بدايتو فين معرفش).

وتتداخل مع الحوار لقطات لساحل بحر الاسكندرية ثم هي وزوجها الثاني شكري يجلسان على الاريكة تكمل الحوار: (نهايتو فين معرفش وحيوصلني لفين معرفش والتاجر اللي اخذها كأنو اخذ حياتي كلها).

وهذا يمثل لب الرسالة التي يريد المخرج ايصالها الى المتلقي ليعبر عن واقع المرأة بصورة عامة ضمن اطار المجتمع الذي تعيشه فكان تناغم الحوار مع اللقطات مكملاً الواحد للآخر ضمن اطار المشهد لتعميق فهم المضمون العام للقصة وللقضية التي يحاول معالجتها، والتي يعززها في المشهد لاحق عندما تخرج نوال مع والدتها من عند المحامي الى الشارع تخبرها والدتها ان رفضها للشقة التي تركها لها زوجها وللنفقة سيؤثر على معيشتها، تجاوبها نوال (ما تخفيش حشتغل) اشارة تؤكد ما سوف تحققه لاحقاً والذي يتأكد حين تخبر والدتها ان العمل قد وضع لها قيمة وانها تشعر بانها انسانة، فهي مؤشرات يعمل المخرج على بثها لتؤكد القيمة الجمالية لتعامله مع الحوار والموسيقى بالطريقة التي تكسبه صفة التحديث الجديد، ومن ثم اكتساب صفة الخصوصية والتميز. والتي عززها في استغلاله المميز للمؤثرات الصوتية بشكل بارز حين جاء صوت نور الشريف عبر التلفزيون في احد افلامه بوصفه مؤثراً يسهم في زيادة الاثر النفسي للوضع الذي تعيشه نوال بعد وفاة والدتها عندما يقول (الحياة وحشة) ليظهر لقطة فيها نوال وهي جالسة ترتدي السواد صامتة اشارة من المخرج بالصعوبة التي تعيشها والقسوة التي تفرضها عليها الحياة.

يكثف المخرج محمد خان من بلاغة لغته الصورية ضمن إطار الفلم لتحصين الفكرة بمفاهيم دلالية عميقة تتيح له تحقيق طفرة نوعية في معالجة قضيته واكتساب الجدة والحداثة في الطرح لتحقيق واكتساب الخصوصية الجمالية في التعبير عن المضمون العام للفيلم مما يتيح للمتلقي أدراك مفهوم الفيلم ومن خلال: 

أ- الاستعارة

في المشهد الإفتتاحي عند أستوديو التصوير، يخلق المخرج عبر سياق الربط المونتاجي لوحة استعارية تثير ذهن المتلقي وتسعى الى خلق صدمة فكرية - صورية تتيح له ادراك حجم وطبيعة العلاقة غير المتجانسة بين نوال وزوجها.

لقطة متوسطة الام وهي تضع وردة على جاكيت بدلة العريس ثم تقبل ابنتها، تربط الى لقطة عامة تكمل الام تقبيل ابنتها، ثم يتجه المصور ليضبط وقوفهما تربط لقطة كبيرة لصورتهما منعكسة داخل آلة التصوير الفوتوغرافي، إذ يبدو الاثنان راساً على عقب، ثم تربط الى لقطة كبيرة لصورتهما بالوضع الطبيعي وقد بدأ تسلسل اسماء المشاركين في اعداد وعمل الفيلم. لقد سمح ذلك الترابط المادي بين اللقطات الى توليد معنى عميق نقل المتلقي من حالة الاسترخاء لمشاهدة العريسين بملابسهما الأنيقة عند المصور في اول بداية الفلم الى تشويه تلك الصورة باللقطة الكبيرة للصورة المقلوبة التي اتاحت فهم اكبر لطبيعة الحدث وتلك العلاقة.

في مشهد آخر كانت استعارة المخرج لصور اللوحات المعلقة على الحائط للمصارع الذي يحاول غرز سيفه في ظهر الثور مع صورة الثور الذي يصرع مصارعه، متداخلة مع اللقطات المتوسطة التي تتحرك فيها عدسة آلة التصوير zoom in نحو نوال، مساهمة في خلق دلالات فكرية عميقة عززت من قيمة المضامين الجمالية للفكرة ودعمت من قيمة المعالجة الصورية للمضمون بذلك الشكل الجديد والحديث مما أتاح للمتلقي تأويلاً فكرياً يعزز من أدراك الحدث وطبيعة موضوع الفيلم، فيما كانت استعارته لمنظر شاطئ البحر اثناء حديث نوال مع زوجها الثاني شكري مكسور اليد بعد تعرضه للضرب من قبل احد ازلام الزوج الاول عزت ابو الروس عن اللوحة التي فشلت في شرائها اثناء المزاد تأكيداً على الهوة والغربة السحيقة التي تعيشها في ترابط تتناغم فيه الصورة مع الحوار للتعبير عن الحرية المفقودة وتجسيد للحالة النفسية والاجتماعية، فهي غير قادرة على ممارسة حريتها الشخصية، وهي من ابسط الحريات العامة.

ب- الرموز

يُقدم خان أثناء ثنايا الفلم بتشكيل رموز تعبيرية تحرز حيزاً كبيراً من الدعم للفكرة الاساسية دون الاسهاب في التفاصيل الثانوية، بما يمنح المتلقي من استبصار يوجه به مداركه العقلية والشعورية نحو المعنى مباشرة، فنجد في هذا الفيلم استخدامات حديثة لأجزاء من الواقع يوظفها المخرج في اثارة معاني فكرية عميقة على الرغم من التماثل والتشابه لها من حيث الشكل والتكوين، الا انها تأخذ معنى كبيراً هنا فجاء استغلال المصعد كرمز متكرر في اكثر من مرة لتعميق الاحساس بواقع الاضطهاد والبؤس الذي تعيشه نوال، فضلاً عما يثيره في نفوسنا من حجم القسوة وسيطرة الرجل على المرأة.

وكان استغلال المخرج للوتد الذي يعترض سلك المصعد الذي تستقلهُ نوال مع والدتها أثناء نزولهم من الدكتورة التي راجعتها بطلب من والدتها لغرض المساعدة في الإنجاب متزامناً مع الكلمة (لا) رمزاً بليغاً بين حجم ومنزلة زوجها عزت عندها فهو ليس سوى عائق يعترض طريقها، عليها ان تتخطاه كما تخطى السلك ذلك الوتد. فيما كان المصعد رمزاً بليغاً عن تسلط الرجل على المرأة، فنوال داخل المصعد وحدها ويقف حولها اكثر من عشرة رجال ، تبدو وكأنها تغرق بينهم.

كما ان استغلال الملابس وتسريحه الشعر رمزاً معبراً عن الحرية التي تبحث عنها نوال فكان الشعر المسدل على الكتفين والملابس بألوانها البراقة تعبيراً عن الأمل والحب والحرية، وكان مشهد المرأة المتعلقة في إحدى الشرفات، ومن ثم سقوطها رمزاً تعبيرياً بين مصير المرأة الباحثة عن الحرية في هذا المجتمع أولاً ورمزاً يحيل المتلقي الى ما ستواجه نوال من مصير، فضلاً عن الدور الرمزي للمؤثرات الصوتية الذي استغله المخرج في بث روح اليأس والاسى عندما كانت دقات رقاص الساعة بديلاً بليغاً عن الزمن الذي يمضي والآلام التي تستمر.

سينماتك في ـ  14 أغسطس 2020

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004