شعار الموقع (Our Logo)

كتبوا في السينما

 

مختارات

جديد الأفلام الروائية القصيرة، والتسجيلية في السينما العربية

السينما المصرية الشابة ووعد التغيير

بعض الحقائق عن السينما العربية تكشفها الدورة الرابعة لمهرجان الفيلم العربيّ في روتردام 

إحتفاءٌ بالعلاقة بين مدير التصوير طارق التلمساني والمخرج خيري بشارة

مباشرة العمل في مشروع " صمت وذاكرة "

" فهرنهايت 11/9 " لمايكل مور

آلية التضليل: عنوان مسروق، ورؤية مشوّهة، ومعلومات تفتقر إلى الدقة والمصداقية

بقلم: عدنان حسين أحمد

أمستردام (هولندا)

 

خاص بـ "سينماتك"

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

غالباً ما يفضي منع فيلم أو كتاب أو أي عمل إبداعي إلى نتيجة عكسية تماماً يكون الرابح الوحيد فيها هو المخرج، أو المؤلف، أو المبدع حتى وإن كان هذا الأخير غير معروف، وبعيد عن الدوائر الضوئية نسبياً، فكيف إذا كان الأمر متعلقاً بمخرج " مثير للجدل " و " كاتب يساري استفزازي " بحسب التوصيفات السريعة، الجاهزة التي يكيلها بعض من النقاد والصحفيين على " نجوم طارئين " مثل مايكل مور، وسواه من الذين قد يتعرضون للسقوط المفاجئ في أية لحظة " ومن دون أن يثيروا أية جلبة تُذكر. الغريب أن هذا الجدل المحموم لم يستعر الآن بعد فوز فيلمه ذائع الصيت " فهرنهايت 11/9 " بجائزة " السعفة الذهبية " لمهرجان كان السينمائي في دورته السابعة والخمسين، وإنما يمتد إلى أواخر الثمانينات من القرن الماضي حينما أخرج عدداً من الأفلام الوثائقية التي تبحث في مناطق حساسة، غالباً ما تغيّبها الدولة أو المؤسسات الرسمية عن أنظار العامة من الناس، ولكن مهما تعاظم الحرص على التكتم فإن هذه المناطق " المحرمة " لن تبقى بمنأى عن فضوليين من طراز مايكل مور الذي يعتاش على التحرّش، والمشاكسة، والاستفزاز، ولَي عنق الحقيقة عبر أسلوب ممنهج ومدروس في التشويه والتضليل. ولتأكيد صحة ما نذهب إليه لابد أن نحيط القارئ علماً بسيرته الذاتية والإبداعية علّها تسلط بعض الضوء على رؤيته الفنية، وطبيعة تفكيره المأزومة التي غالباً ما تفضي إلى تشويه الحقائق. فهو من مواليد مدينة " فلينت " التابعة لولاية مشيغان الأمريكية عام 1954. وفلينت مدينة فقيرة، لا تختلف في فقرها المدقع، عن أية مدينة عراقية محاصرة، تطحنها آلة الحرب العكسرية الأمريكية بحسب توصيف أهالي المدينة نفسها، أو كما يذهب المخرج نفسه. بدأ مايكل مور حياته العملية صحفياً في جريدة مغمورة كانت تصدر في مدينة فلينت، ثم سرعان ما غادرها ليلتحلق كمحرر وكاتب عمود في مجلة " Mother Jones "، لكنه طُرد من وظيفته لأنه رفض أن  ينشر مقالاً متحيّزاً ضدّ ثوّار نيكاراغوا. أنجز مور أول أفلامه الوثائقية " روجر وأنا " عام 1989 بتشجيع من قبل شركة " موتورز " الشهيرة. وقد سلط الضوء على مدير الشركة روجر سميث الذي ساهم في تحطيم الاقتصاد المحلي لمدينة فلينت. ثم تبعه بفيلم ثان أسماه " حيوانات أليفة أم لحم: العودة إلى فلينت " عام 1992، وبعدها توالت أفلامه التسجيلية الأكثر أهمية، ومنها " لحم خنزير كندي " عام 1995،  الذي كشف من خلاله المخطط الأمريكي لتلفيق حرب باردة ضد كندا، ثم أخرج  " العدالة للجميع " 1998، و " الحقيقة المروّعة " 1999، ثم أنجز فيلمه الشهير " لعبة البولينغ من أجل كولومبيان " عام 2002، وهو فيلم مثير جداً يتناول جذور العنف في المجتمع الأمريكي حيث سلط الضوء على جريمة بشعة ارتكبها طالبان فتحا النار على مجموعة من التلاميذ وأرديا في الحال 13 قتيلاً قبل أن يقدما على الانتحار! وفي السياق ذاته أنجز مور عدداً من الكتب المُضللة، والمثيرة للجدل ولعل أبرزها " رجال بيض أغبياء " وقد تصدّر هذا الكتاب قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لأنه يتهم فيه بوش بالتهور، والغباء، وتخبطه في صناعة القرار السياسي. كما احتل كتابه الثاني " أيها الصديق: أين بلادي ؟ " المركز الثاني في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في ألمانيا. ولم تخرج بقية مؤلفاته عن هذا الإطار الدعائي الذي يعتمد على الفضائح القائمة على أنصاف الحقائق مثل كتاب " تهديدات عشوائية من أمريكي بلا اسم ". وفي 22 مايو " أيار " من هذا العام نال مايكل مور جائزة " السعفة الذهبية " في مهرجان " كان " لعام 2004 عن فيلمه الموسوم بـ " فهرنهايت 11/9 " وقد جاء في قرار لجنة التحكيم " أنها لم تمنح السعفة الذهبية للسياسة، وإنما للفن السينمائي في هذا الفيلم " وهذا التقييم، مع الأسف الشديد، غير دقيق، ولا ينطوي على أمانة علمية أو أخلاقية، فقد أجمع النقاد والمعنيون بالفن السابع أن السياسة هي المهيمنة في هذا الفيلم، وأن البعد السينمائي من الناحيتين الفنية والجمالية لم يتوافر إلا في لقطات متناثرة من هذا الفيلم الوثائقي الطويل القائم على بنية التجميع، والتوليف، والفبركة، هذا ناهيك عن الأسلوب التضليلي الذي اتبعه المخرج في مجمل أفلامه تقريباً التي تقول نصف الحقيقة، وتترك النص الآخر مغيباً، وبعيداً عن سمع الناس وبصرهم.

عنوان نصف مسروق

لاشك في أن عنوان فيلم  " فهرنهايت 11/9 " مُستمد من رواية ذائعة الصيت هي " فهرنهايت 451 " للروائي الأمريكي المعروف راي برادبيري الذي بلغ رصيده " 500 " عملاً أدبياً موزعاً بين القصة، والرواية، والشعر، والنص المسرحي، والنقد الأدبي، والسيناريو السينمائي. وتُعد رواية " فهرنهايت 451 " تحفته الأدبية المميزة التي تعالج بطريقة نقدية لاذعة مفهوم الرقابة المستقبلية في الدولة الشمولية التي تحظر الكتابة، وتقمع الشعب، وتمنعه من ممارسة التفكير الحر، المستقل. وفي محاولة جدية للحفاظ على تاريخهم وثقافتهم يقوم عدد من المتمردين في هذه الدولة التوتاليتارية بحفظ كل الأعمال الأدبية والفلسفية المهددة بالحرق عن ظهر قلب، وبذلك يصونون كنوزهم الثقافية والفكرية حتى من دون الحاجة إلى الكتب والمصادر التي تضم هذه الكنوز الثمينة. أن " فهرنهايت 451 " هي ببساطة درجة الحرارة التي تحترق فيها الأوراق، وما ينجم عن حرق الأوراق من إبادة حقيقية للثقافة والفكر. وقد أراد مور أن يقول " فهرنهايت 11/9 " هي الدرجة التي احترقت فيها أمريكا برمتها نتيجة لسياستها الرعناء سواء داخل حدود الولايات المتحدة أو في خارجها، فلا غرابة أن يتعرض برجي التجارة، عصب البلد الاقتصادي، والبنتاغون، رمز القوة العسكرية الأمريكية إلى دمار شامل احترق فيه كل شيء بسبب رعونة شخص غبي، لا يعرف كيف يتعاطى في الشأن السياسي. ففكرة العنوان ليست جديدة، وإنما هي مستمدة من فكرة عظيمة سابقة تعود إلى عام 1953 حيث نشرت الرواية أول مرة، والتي حولها المخرج الفرنسي الشهير فرانسوا تروفو عام 1966 إلى فيلمه الوحيد الناطق بالإنكليزية. لقد سطا مور على جوهر الفكرة الأساسية لـ " فهرنهايت 451 " ووظفها لمصلحة فيلمه الذي حصد واحدة من أهم الجوائز السينمائية في العالم، وهي جائزة السعفة الذهبية التي سبقه إليها الفيلم التسجيلي المعنون  بـ " العالم الصامت " وهو إخراج مشترك للمستكشف، وعالِم البحار الفرنسي المعروف جاك كوستو والمخرج لوي مال عام 1956.

آلية التضليل والبوح بأنصاف الحقائق

يعتمد نجاح أي فيلم تسجيلي على مصداقية المعلومات الواردة فيه، هذا ناهيك عن التقنيات الفنية المتعارف عليها والتي تدخل في صميم صناعة الفيلم السينمائي. ويبدو أن مايكل مور لا يريد أن يتخلص من ديدنه المعهود في تضليل المتلقين، فقد اعتمد كما في أسلوبه السابق الذي يتكئ على التهكم، والسخرية اللاذعة، والتجريح الشخصي، وبعض المواقف التراجيكوميدية، إضافة إلى ولعه المعهود بالبحث عن الفضائح، وتقديمها إلى المشاهد على علاتها من دون تدقيق أو غربلة أو تمحيص. الشيء الوحيد الذي خدمه في هذا الفيلم هو أن ظهوره لم يتكرر كثيراً كما في أفلامه السابقة، وقد اكتفى بدور الراوي الملفِق، والظهور في بعض المواقف الملحة التي تستدعي حضوره لكي يُحرج هذا السيناتور أو ذاك، ويقتنص المفارقات التي تفند أراء الأشخاص المُستجوَبين الذين يحاورهم. لا نستطع الوقوف عند كل المغالطات والمواقف المضللة التي ركز عليها مور، وجعلها محور فيلمه التسجيلي الذي أوحى إلينا من خلاله وكأن هناك عداءً شخصياً مُستحكماً، وتصفية حسابات مريرة بينه وبين الرئيس جورج دبليو بوش الذي نصحه بطريقة مهينة " إذهب وجِد لك عملاً حقيقياً " وكأن السينما هي تزجية للوقت، وأن العمل الفني هو عبث لا طائل من ورائه، ولكننا سنتوقف عند المحاور الأساسية التي انبنى عليها الفيلم برمته. لم يأت هذا الفيلم بجديد سوى المعلومات الملفقة التي فبكرها مور على هواه، أو أنه لم يكلف نفسه عناء فحصها والتأكد من مصداقياتها. فحينما يلتقي بالصحفي الأمريكي المعروف كريج أنكر " Craig  Unger ، صاحب كتاب " House of  Bush ;House of Suad " ويسأله عن حجم الأموال السعودية المستثمرة في الولايات المتحدة الأمريكية، فيجيبه " 860 " بليون " والبليون في أمريكا يساوي مليار "، بينما لو عدنا إلى معهد أبحاث الشرق الأوسط فإنه يقول بأن مجمل الأموال السعودية المُستَثمرة في الخارج تقدر بـ " 700 " مليار دولار أمريكي، و %60 من هذه الأموال مستثمرة في أمريكا. إذاً، فالرقم الحقيقي للأموال السعودية المستثمرة في أمريكا هو " 420 " مليار دولار، وليس " 860 " مليار دولار. نلاحظ أن مور يستخدم تقنية الإشاعة تماماً، فالإشاعة تحتاج إلى نتوء صحيح لكي تعرض جبلاً من الأكاذيب. هناك أموال مستثمرة وهذه حقيقة، لكنه ضخمها وجعل منها رقماً مهولاً، ولا أدري ما الضير لو أنه بذل جهوداً إضافية، لكي يتحقق من هذه المعلومة، خصوصاً وأن تكاليف هذا الفيلم قد بلغت " 16 " مليون دولار؟ الأمر الذي يتيح له إمكانية البحث والتدقيق. الكذبة الثاني التي بنيت على حقيقة لا علاقة لها ببوش هي زيارة سيد هاشمي، ممثل حكومة طالبان الأفغانية إلى أمريكا عام 1997. فقد أوحى مور بأن الزيارة قد حصلت وكأن الدعوة كانت موجهة من الإدارة الأمريكية. الصحيح في هذه الواقعة أن الزيارة حصلت في وقت كان فيه بوش حاكماً لولاية تكساس، ولكن ما علاقته هو بهذه الزيارة؟ آخذين بنظر الإعتبار أن الدعوة قد وجهت له من قبل مسؤولي شركة يونيكال لمد أنبوب الغاز الطبيعي من بحر قزوين عبر الأراضي الأفغانية. فبوش " الجمهوري " لا علاقة له بالزيارة التي حصلت في زمن كلنتون " الديمقراطي " وحتى الذي حصل على عقد الحفر في بحر قزوين الموقّع من قبل يونيكال، هي شركة هاليبرتون المملوكة من قبل ديك تشيني. أراد مور أن يوحي للمشاهدين بأن هناك علاقة عميقة بين عائلة بوش وآل سعود، وهذا صحيح، لكن ليس على حساب المصلحة الوطنية لأمريكا، وليس على حساب الأمن القومي الأمريكي. وقد أوصل هذه العلاقة لدرجة أن الأمير بندر قد غدا أحد أفراد أسرة بوش، وهم يلقبونه باسم " بندر بوش " وأظهر في الفيلم لقطات من زيارة بوش الأب إلى المملكة العربية السعودية التي تكشف عن الترحاب الشديد الذي أبدته العائلة السعودية المالكة لبوش ولغيره من المسؤولين الأمريكيين الذين تربطهم مصالح اقتصادية وسياسية معروفة، لكن الذي لم يقله مور أن هذا التحالف معرض للإنهيار في أية لحظة، وبالفعل هذا ما حصل عندما ضغطت السعودية على أمريكا ونقلت مقر قيادتها إلى قاعدة " العديد " في قطر. يقول مور بأن العراقيين لم يقتلوا إنساناً أمريكيا واحداً، وهذا الكلام صحيح على المستوى الشعبي، لكنه غير دقيق إذا ما أخذناه على مستوى النظام الدكتاتوري الذي ناصب أسياده، والذين أتوا به إلى سدة الحكم، العداء في السنوات الأخيرة، وهناك عشرات الدلائل التي تثبت تورطه في قتل مواطنين أمريكيين أبرياء. لست هنا بصدد الدفاع عن السياسة الأمريكية فهي معروفة باستهتارها بكل القيم والضوابط الإنسانية، ولكن علينا ألا ننسى أن نظام صدام حسين المقبور قد وفر ملاذاً آمناً لـ " أبو عباس " الذي خطف سفينة آشيلا لورا، كما آوى عبد الرحمن ياسين الذي قام بتفجير برج التجارة عام 1993. وفي العام ذاته قامت أجهزة صدام الأمنية بمحاولة اغتيال الرئيس بوش الأب خلال زيارته للكويت غب التحرير. كما وفر نظام صدام ملاذاً آمناً لأبي نضال الذي فجر مطارات في فينا وروما، وهناك عشرات الأدلة والبراهين الدامغة التي تؤكد بأن النظام العراقي كان مصدر تهديد للمواطنين الأمريكان بغض النظر عن مراكزهم التي يشغلونها. حتى محاولة الاستقصاء التي أجراها على أعضاء الكونغرس الأمريكي قال مور بعظمة لسانه أن هناك عضواً واحداً في الكونغرس لديه ابن عسكري في العراق، لكنه في الخلاصة التي قدمها في النهاية قال " ليس هناك عضو واحد في الكونغرس الأمريكي يريد لابنه أن يذهب إلى الحرب! "، ولو دققنا جيداً لاكتشفنا أن ابن ممثل كاليفورنيا الجمهوري دنكون هانتر قد غادر عمله بعد أحداث 11 سبتمبر وكان اسمه مسجلاً ضمن المارينز. وأن بو " Beau " ابن السيناتور جوزيف بِدِن " Joseph Biden " كان مكلفاً في واجب شديد الخطورة لكنه فرقته لم تذهب إلى العراق، وهذا أمر لا دخل له فيه، بل وخارج عن إرادة ابن السيناتور. ابن جون أشكروفت عسكري، ويؤدي واجبات حساسة ضمن حدود الوطن. عضو الكونغرس الجمهوري مايكل كاسل الذي كان يتحدث بالهاتف النقال قدمّه لنا وكأنه لا يريد أن يضحي بأولاده، في حين أن كاسل ليس له أولاد! نسب مور غير مرة أقوالاً وتصريحات للرئيس بوش بينما كان هذا الأخير بريئاً منها تماماً. فبعد أحداث 11/9 مباشرة نسب إلى بوش معلومة خطيرة مفادها أنه أصدراً أمراً خلال مدة الحظر الجوي التي لم تقلع فيها أية طائرة أمريكية، بالسماح لبعض الأفراد السعوديين المعروفين وبضمنهم أشخاص من عائلة بن لادن بمغادرة الولايات المتحدة. وتبين لاحقاً أن بوش لم يصدر أي أوامر من هذا النوع، وأن ريتشارد كلارك المسؤول عن مكافحة الإرهاب هو الذي أصدر هذه الأوامر بعد استشارة مكتب التحقيقات الفيدرالي. وأكد ريتشارد أن أغلب السعوديين قد تعرضوا للتحقيق المفصل، وتبين من سير التحقيقات سلامة موقفهم، وتأكد بما يقطع الشك باليقين بأنهم لا علاقة لهم بأحداث 11 سبتمبر. وأكثر من ذلك فقد أكد ريتشارد، بحسب التصريحات التي أدلى بها لصحيفة " ذي هِل " الأميريكية بأنه " ليس هناك من هو أعلى مني. وفي 11و 12 و 13 / 9 هناك أشياء كثيرة لم تذهب إلى من هو أعلى مني. أنا اتخذت القرارات بعد مشورة مكتب التحقيقات الفيدرالي. " لا أدري كيف تجرأ مور ونسب تصريحات خطيرة من هذا النوع إلى بوش؟ وما الفائدة من تشويه هذه المعلومات، وتقديمها إلى القارئ من أجل تضليله؟ صحيح أن هذا الفيلم يبدو وكأنه موجه إلى جمهور الناخبين الأمريكان، يطالبهم، أو يدعوهم من طرف غير خفي إلى عدم انتخاب بوش الذي قاد البلاد إلى كوارث اقتصادية وسياسية ونفسية خطيرة. كان على مور ألا يلتجئ إلى أسلوب التزوير الذي اتبعه بوش في الانتخابات، فالشعب بالنتيجة بحاجة إلى رئيس صادق، وإلى فنانين، وسياسيين صادقين أيضاً. أنا أستغرب كيف يدافع شخص مثل مور عن الفقراء والمساكين الأمريكان وهو المليونير الذي يطل عليهم من برجه العاجي في أغنى منطقة في نيويورك. مور في وضعه الحالي ليس ابن الشعب الذي يدافع عن قضاياه، وإنما هو يدافع عن قضيته الشخصية، ويحاول أن يصفي حساباته مع بوش، ويسعى لأن يقتنص سانحة الحظ من أجل الحصول على مزيد من الأموال والشهرة الفارغة الناجمة عن أفلام مُضللة لا تقدّم إلا الأكاذيب أو أنصاف الحقائق. ظهر مايكل مور قرب السفارة السعودية في واشنطن لكي يوحي للمشاهد بأن هناك حراسة أمنية مشددة على هذه السفارة تحديداً، ثم تبين لنا أن عدد الذين يحرسونها هم ستة أشخاص لا غير! آخذين بنظر الاعتبار أن الشرطة الأمريكية توفر الحراسة لمجمع البيت الأبيض الأمريكي، ومقر إقامة نائب الرئيس، ووزارة المالية وبقية البنايات الملحقة بها، والمكاتب الفيدرالية الأخرى، ومقرات السفارات الأجنبية، والبعثات الدبلوماسية، وغيرها من المرافق التابعة للدولة، فما هو الغريب في أن توفر أمريكا " حراسة مكثفة " للسفارة السعودية التي قد تتعرض إلى تهديدات جدية من قبل أنصار القاعدة المبثوثين في كل مكان، خاصة وأن المصالح السعودية قد تعرضت لأعمال تخريبية في داخل المملكة وخارجها. إن أسوأ ما فعله مايكل مور هو أنه أخذ ما يناسبه من تصريحات المسؤولين الأمريكيين لتعزيز طروحاته الفكرية والسياسية حتى لو تطلّب الأمر قلب الحقائق وتشويهها، وتقويل المسؤول الأمريكي ما لم يقله، وهذا أمر في غاية الخطورة. دعني أسوق مثالاً واحداً يدلل على عدم أمانة هذا المخرج الذي لا يحترم جمهوره. فمن لقاء كونداليزا رايس لأحد الصحفيين اجتزأ مور ما يناسبه على طريقة " لا تقربوا الصلاة. . " وحذف متعمداً " وأنتم سكارى " لكي يوهم القارئ بأن المسؤول الأمريكي كاذب، ومدلّس ليس إلا. فعندما يسألها الصحفي إن كانت هناك علاقة ما تربط بين العراق وتنظيم القاعدة؟ ينتقي مور جزءاً من إجابة رايس التي تقول " أوه، حقاً، هناك علاقة تربط بين العراق وما حدث في 11/9. " وقد حذف مور متعمداً " جُملاً أساسية لكي يضلل القارئ بوجود هذه العلاقة بينما يقول النص الأصلي لتصريح رايس ما يلي: " أوه، حقاً، هناك علاقة تربط بين القاعدة وما حدث في 11/9. وهذا لا يعني أن صدام حسين نفسه أو نظامه كان متورطاً بأحداث 11/9. " ثم تسهب في الحديث عن ظهور أيديولوجيات الحقد التي دفعت بالمتطرفين لأن ينقضّوا بالطائرات المدنية على برجي التجارة في نيويورك إلى آخر هذه القصة التي يعرفها القارئ الكريم. لست هنا بصدد الدفاع عن الأفكار الواردة في تصريحات المسؤولين الأمريكيين، فهذا شأن آخر، ولكنني بصدد الحديث عن مصداقية مخرج الفيلم من عدمها، لأن عماد الفيلم التسجيلي هو الصدق والأمانة وتوخي الدقة، وهذا ، مع الأسف الشديد، ما افتقر إليه هذا الفيلم الذي كاد أن يشكل إدانة حقيقية لسياسات بوش وإدارته الرعناء ليس في الحرب على العراق، وإنما في مجمل سياسات هذه الإدارة داخل أمريكا وخارجها.

مخالب الجيش الأمريكي المخبأة تحت قفازات الحرير

لا شك في أن المتلقي في كل مكان بحاجة ماسة إلى معرفة الأسرار الدفينة التي تكتنف حياة الرؤساء أو الأنظمة والإدارات المثيرة للجدل. فمن منا لا يريد أن يعرف عن كثب علاقة عائلة بوش ببن لادن مثلاً؟ ولماذا يلقبون السفير السعودي لدى أمريكا الأمير بندر بـ " بندر بوش " ؟ والذي وصف بن لادن في هذا الفيلم بأنه " بسيط وهادئ " وأنه يعرف أسرته كلها، لكنه لم يلتقِ بن لادن إلا مرة واحدة عندما طلب منه هذا الأخير مساعدة أمريكا لكي يتخلصوا من الاحتلال السوفيتي لأفغانستان! كلنا نريد أن نعرف لماذا قلب الأمريكان لبن لادن ظهر المجن بحيث اصبح الشخص الأول المطلوب للعدالة الأمريكية؟ المتلقي سواء في أمريكا أو بقية أنحاء العالم يريد أن يعرف كيف اجتمع كل هؤلاء الأثرياء الأمريكان في سدة الحكم الأمريكية دفعة واحدة، ولماذا لا يتعاملوا إلاّ مع أصحاب رؤوس الأموال، بل أثرياء فاحشين من طراز حامد كرزاي، وزلماي خليل زادة، وشافي بن لادن، وسالم بن لادن، ومن قبلهم صدام حسين، ثم يحاولوا أن يقنعوا " هذا المتلقي المسكين في كل مكان " بأنهم ذاهبون للعراق من أجل إنقاذه من ربقة الدكتاتورية، وتحقيق نظام ديمقراطي يكون أنموذجاً يُحتذى به في الشرق الأوسط، هذا ناهيك عن " جلب الغذاء والدواء والحرية للعراقيين ". كيف يمكن للإنسان في كل مكان في العالم أن يصدق هذه المزاعم، والطروحات الزائفة، والأكاذيب الفجة بينما يمارس الجندي الأمريكي " السادي " أعلى درجات الفتك بالمواطن العراقي الآمن، وترويع العزّل من الأطفال والنساء والشيوخ الطاعنين في السن. ربما كان مايكل مور أميناً في تصوير وحشية الجنود الأمريكي المحتل التي تُمارس يومياً وبشكل سافر ضد العراقيين البسطاء الذين عاملتهم العقلية الأمريكية المتهورة، وفق منهج مدروس، بقساوة وإذلال ومهانة قل أن تجد لها نظيراً في العالم، كما كشف عن الوجه الحقيقي للمحتل الأمريكي الذي لا يمتلك غير مخالب الذئب التي يخبئها تحت قفازات الحرير.

18 أغسطس 2004

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة