حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

سينماتك في مهرجان أبوظبي السينمائي

"أسباب القلب" للمكسيكي أرتو ريبستين:

عدد اللقطات يعادل عدد المشاهد

بقلم: محسن الهذيلي

 

The Reasons of the Heart

أسباب القلب

إخراج ارتورو ريبستين

المكسيك, إسبانيا | 119 دقيقة | الإسبانية

يشكل هذا الفيلم فرصة حقيقية للتعرف على تجربة أرتو ريبستين التي ربما ما زالت مجهولة في العالم العربي لكنها تحظى منذ زمن طويل بكثير من الاحترام، كإحدى التجارب السينمائية الطليعية في العالم. في اقتباس حرّ وشخصي جداً يلجأ أحد أبرز مخرجي المكسيك وأكثرهم خصوصية في أحدث أفلامه إلى فلوبير وكتابه الشهير «مدام بوفاري» ليبني قصة جديدة عن العزلة والخوف، الشغف تجاه الحياة واليأس منها على حدّ سواء.

 

سيناريو الفيلم هو اقتباس من قصة الأديب الفرنسي غوستاف فلوبير، والقصة كتبت في أواسط القرن التاسع عشر ولكن سيناريو رفيقة درب آرتو ريبستين السيدة "باز أليسيا غارسيادياغو" أخذ شخصية مادام بوفاري برغباتها وأحلامها وخصائصها النفسية وجعلها في إطار نفسي وثقافي أكثر ارتباطا بالمشاكل الإجتماعية والإقتصادية التي يعاني منها المكسيكيون اليوم.

تتمثل ميزة السيناريو في اقتباس اعتمد على الشخصيات دون الأحداث. ففي فيلم أرتو تمثل البطل العاشق على عكس قصة مادام بوفاري في شخص قريب مكانيا من البطلة وهو الجار عازف الساكسوفون، وهذا القرب المكاني بين شخصيتي الفيلم الرئيسيتين أملته ضرورات إنتاج فيلم يدور (على غرار أغلب أفلام أرتو ريبستين) داخل ميزانية محدودة. فكامل الفيلم نقضيه حكائيا داخل عمارة واحدة والخارج لا نطلع عليه إلا حين نكون في السطح أو حين نطل من النافذة أو عبر الباب.

وفي الحقيقة فإن حصر المكان بهذه الأحياز التي ذكرنا لم تمليه ميزانية الفيلم المحدودة وحسب وإنما أملته أيضا التقنية أو الأسلوب الذي اعتمده آرتو ريبستين في تصوير فيلمه. وهذا الأسلوب وهذه التقنية هما ما سوف نستطرد عندهما في حديثنا عن فيلم "أسباب القلب".

أول شيء يثير انتباهنا حين نشاهد فيلم آرتو ريبستين هو اعتماده للونين الأبيض والأسود، مرجع هذا الاختيار (فنيا) هو أن الأفلام الملونة تجعل العين في أغلب الأحيان تائهة بين بقع الألوان المختلفة، فلا وحدة حقيقية داخل الإطار السينوغرافي، من جهة أخرى فإن الأبيض والأسود يكون خلفية لونية أكثر ملائمة للعين للتركيز على أحداث الفيلم وحركة الممثلين.

في فيلم "أسباب القلب" الذي بين أيدينا بدى لنا اللون الأبيض والأسود وكأنه يذكرنا بالأصل القديم للحكاية وارتباطها بقصة وتجربة عاطفية كتب عنها في القرن التاسع عشر، ومع ذلك فإن العامل التقني والفني هو السبب الرئيسي في اختيارات آرنو ريبستين اللونية، وهو ما سنعرفه الآن.

صور المخرج فيلمه أو مشاهد فيلمه بلقطات طويلة دون قطع، بمعنى أن كل مشهد من السيناريو صور في لقطة واحدة، ونجاح هذا الاختيار مرتبط شديد الإرتباط بالإختيار اللوني في الفيلم. ما أحب أن أستطرد عنده هو هذا التكامل بين اللقطة الواحدة في المشهد الواحد والإختيار اللوني (هناك عنصر فني ثالث تكامل مع هذين العنصرين لإنجاح الفيلم سينمائيا سوف نتحدث عنه فيما بعد).

إن اعتماد اللونين الأبيض والأسود يمكنه أن يعطي مع عمل دقيق على الإضاءة تراوحا ضوئيا مناطقيا نحصل معه على مناطق حيزية أغمق (ضمن الصورة) ومناطق حيزية أكثر إضاءة، وبذلك يصبح لدينا خط حركة بين المنطقة الأكثر ظلمة والمنطقة الأقل ظلمة وهو ما يعطي دينامية حركية ويهيكل في ذات الوقت الفضاء الذي تصبح المنطقة المضاءة فيه نقطة جذب مشهدية، ويمكن لهذا الخط مع إدارة قوية للمثلين (كما التي قام بها آرتو ريبستين) أن تصبح بمثابة المبرر السينوغرافي لحركة الممثلين. هذا عندما يكون الأمر متعلقا بتصوير اللقطات الكبيرة أما عند تصوير اللقطات المتوسطة والكلوز آب فإن الضوء ينصب (دون الأحياز) على الشخوص أو بعض الكائنات القريبة أو على الوجوه.

هناك العنصر الثالث (الذي أشرنا إليه آنفا) وهو مهم تقنيا ويتكامل مع العنصرين الأوليين المتمثلان في اختيار الأبيض والأسود وخلق تراوح ضوئي في الصورة، هذا العنصر هو حركة الكاميرا خلال اللقطات، ففي اللقطات المطولة (كما قلنا وخاصة ضمن بعض المواقف الدرامية) نحس بالكاميرا تتحرك حتى تقترب جدا من الأجساد وربما الوجوه، هذه الحركة للكاميرا لا يعاضدها (مع آرنو ريبستين) فعل ضوئي متقن فقط ولكن تآزرها أيضا حركة رشيقة ومحسوبة للممثلين، فحين تتحرك الكاميرا وتقترب من الأجساد والرؤوس فإن هذه تبدأ في التحرك في نفس اتجاه حركة الكاميرا بحيث تصبح حركة الكاميرا رشيقة ومنسابة وطبيعية.

الآن يمكننا التحدث عن العامل المفسر لانحسار تصوير فيلم "أسباب القلب" في مكان محدد وداخلي مغلق، السبب ليس مرتبطا فقط بميزانية الفيلم المحدودة ولكن باختيارات وتقنيات التصوير الثلاث التي ذكرنا، حيث تتطلب هذه التقنيات إعدادا سينوغرافيا دقيقا يحتاج إلى تركيز يمنع أي مداخلة غير محسوبة وأي مفاجئات، وهذا لا يتأتى إلا في الأماكن المغلقة والمسيطر عليها تماما وهي الأماكن الداخلية دون الخارجية.

من أجل استعراضنا لبعض أجمل صور الفيلم نشير إلى كل اللقطات التي تمت ضمن أدراج العمارة، والتي صورت حركة الممثلين وسجلت حواراتهم وربما بعض مشاداتهم، وقد أظهرت هذه اللقطات مدى رشاقة وانسيابية كاميرا آرنو ريبستين.

هناك مشهد بهو الإستقبال حين جاء البوليس المالي وحركة حارسة العمارة من وراء مكتب الإستقبال من خلال تلك الأدراج التي كانت تأمن صعودها وهبوطها، الباب الكبير ذو الشبابيك الحديدية المزخرفة والتي كانت بمثابة أطر صغيرة للأشخاص الواقفين في الخارج كان يملؤ الإطار، وقد رأينا بعد ذلك كيف فتح لهم الباب فدخلوا وصعدوا المدرج في لقطة واحدة صاحبتهم فيها الكاميرا في انسيابية لطيفة. كل هذا أنتج صورا من زوايا متنوعة ودينامية جميلة جدا.

هناك مشهد غرفة النوم حين كانت البطلة مستلقية على فراش الموت وكان معها زوجها وعشيقها الذي حضر بطلب من الأول، هذا المشهد كان يصور من الخارج من خلال بلور نافذة مغلقة لنرى بعد ذلك كيف تحرك الزوج في فعل شبه عفوي يفتح النافذة من أجل تهوية المكان فتدخل الكاميرا في انسيابية محببة تختصر لنا مدى التكامل الجميل بين ممثلين يتحركون ضمن خارطة طريق واضحة ودقيقة وكاميرا تتعاطف معهم وتشاركهم عملهم الدرامي الجميل.

لقد كان فيلم "أسباب القلب" درسا فنيا حقيقيا في السينما، ومع ذلك يمكننا القول بأن عمل آرنو المدروس والمحبوك والمحسوب جدا فنيا وتقنيا جعلنا نشعر أحيانا (وعلى الرغم من ذلك) بشيء من الملل، وهو ما نتج عن ارتباط تصوير الفيلم بأماكن داخلية مغلقة أعطى إحساسا مثل ذلك الذي نجده إزاء الأعمال المصورة في الأستوديوهات.

إضافة إلى غياب الخارج في تصوير الفيلم فإن اعتماد الإضاءة الاصطناعية أقصى إلى حد ما معطى النهار فبدى الفيلم مختصرا على أحداث كأنها جرت في الليل ما زاد من النفس الغير طبيعي والمصطنع فيه، وهذا الإحساس لم يتغير لدينا حتى مع محاولة المخرج إعطاء حواراته بعض الفكاهة التي جاءت ضمن كوميديا سوداء زادت من تعميق إحساسنا بالضيق.

ختاما، نقول بأن فيلم آرنو ريبستين هذا كان أحد أجمل الأفلام التي شاهدناها في مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي الأخير وهو درس حقيقي في السينما، كما كان سيناريو الفيلم الذي كتبته "باز أليسيا غارسيادياغو" أحد أهم نماذج اقتباساتها عن أعمال أدبية عالمية.

سينماتك في 19 نوفمبر 2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)