حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

سينماتك في مهرجان أبوظبي السينمائي

"إيلينا" لأندري زيفكيانتسوف

كما في مسرح التراجيديا: في البدء كان المكان

بقلم: محسن الهذيلي

 

Elena

إيلينا

إخراج أندري زفياجنتسيف

روسيا | 109 دقائق | الروسية

إلينا، الزوجة الثانية للرجل الثري فلاديمير، تكتشف أنه ربما ينتهي بها الأمر مفلسة، عندما يعاود زوجها – بعد تعافيه من نوبة قلبية – الاتصال بابنته الساخطة. وخشية من ألا تتمكن من إعالة ابنها الوحيد العاطل عن العمل، تجد إلينا نفسها في مواجهة خيار صعب. أداءات رائعة وإخراج بارع، تجعل من هذه الدراما العائلية أحد أكثر أفلام هذا العام نيلاً للاستحسان النقدي. مخرج الفيلم أندريه زيفكيانتسوف هو صاحب فيلم «العودة» (2003) الذي حصد أرفع الجوائز في مهرجان البندقية السينمائي.

 

في البدء نجد أنفسنا إزاء مكان، حيث يبدأ الفيلم بمنظر على شرفات شقة فاخرة نرى فيها نوافذ مغلقة وستائر مسدلة، وحسب منطق السينما كان المشهد مطولا جدا، وكان دون حدث درامي مهم سوى صعود الشمس من وراء حجاب وانبعاث أصوات بعض الغربان التي حط أحدها على غصن في وسط الإطار، "الغربان" الذين يمكن أن يبشرنا حضورهم في غير مكانهم (نحن في مدينة) إما بغياب أصحاب المكان أو بتراجيديا مثل تراجيديا الرسام الهولندي "فان غوغ"، في الفيلم وعندما دخلنا بعد ذلك إلى داخل الشقة ووجدنا أنفسنا أمام صورة مطولة مثل الأولى في فضاء الشقة الداخلي الرحيب وأمام لطف المكان ومثاليته بدأنا نفهم أننا إزاء الموقع الذي سوف تجري فيه "تراجيديا" الفيلم أو أخطر أحداثه، وهو ما جرى بالفعل كما سوف نرى.

تقنيا، نقول (منذ الآن) أن الفيلم اعتمد عموما مشاهد مطولة وصورا من فوق كاميرا ثابتة، فتثبيت الكاميرا كان يراد منه صنع إيقاع الفيلم مع إتقان صوره لتكون إحدى أجمل الصور في تاريخ السينما لونيا وإطاريا، لقد كنا أمام عمل تشكيلي لوني- إضائي غاية في الجمال. وبسبب هذا العمل التشكيلي المتقن جدا كنا صابرين على الإنتظار خاصة في الصور الأولى من الفيلم. بعد ذلك سوف يسرع إيقاع الفيلم وتهبنا حكايته كثيرا من الدفئ التراجيدي، الصورة المطولة جدا سوف ننساها ولا نستعيدها إلا آخر الفيلم تماما، وسوف تكون من نفس زاوية صورته الأولى تنظر إلى نفس الشقة وشرفاتها ولكن مع نوافذها المفتوحة وستائرها المرفوعة هذه المرة، كما سوف تكون عند أفول اليوم وليس عند شروقه. وكل هذه رمزيات لها علاقة قوية بحكاية الفيلم كما سوف نرى.

يروي الفيلم حكاية زوجين ينتميان إلى طبقتين اجتماعيتين مختلفتين، فبينما ينتمي الزوج إلى طبقة مترفة تنتمي الزوجة إلى طبقة اجتماعية دنيا، وقد كانت هذه الزوجة محتاجة دائما إلى زوجها وتأخذ من ثرائه لمساعدة ابن لها يعيش في إحدى أحياء التخوم، وعرفنا خلال الحكاية أن الابن (العالة على أمه) كان محتاجا إلى شيء غير قليل من المال لتسجيل ابنه في الجامعة، هذا المال الذي رفض زوج الأم تسليمه إياه، زوج الأم تعرض بعد ذلك إلى وعكة صحية مفاجئة أجبرته على التفكير في كتابة وصيته، وقد كان خطؤه أنه أخبر زوجته بذلك وقال أنه سوف يوَرِّث كل أملاكه ابنته الوحيدة وسوف يترك لها هي منحة شهرية ترافقها حتى موتها، وكان رد فعل الزوجة (التي تعرف عليها الزوج كممرضة في إحدى المستشفيات التي دخلها قبل عشر سنين والتي كانت رحيمة به خدومة له حتى ذلك الوقت) عنيفا، حيث قامت بشكل قريب من الطبيعي ويحسب على الخطئ المهني غير المحسوب بقتله بحبة دواء مما كان يتعالج به.

هذه القصة بكل تفاصيلها كانت تجري في إطار أماكن اختارها المخرج "أندري زيفكيانتسوف" بدقة متناهية بحيث تعطي صورا سينمائية غاية في الجمال وتضمن حركة درامية وشبه تراجيدية لشخوص الفيلم، فمقاربة المخرج لأماكن تصويره والحجم الذي أعطي لفضاءاتها يجعلنا نقارنها أحيانا باتساع فضاءات المسرح ما يذكرنا بتراجيديا الحكايات المسرحية التي يمكن اعتبار حكاية الفيلم واحدة منها، لأن كل الحكاية في الفيلم كانت تتمحور حول مقولة تحذيرية ذكرتها الزوجة في حوار ساخن مع زوجها وجاءت بها من "الكتاب المقدس" وفحواها أنه يأتي يوم تنقلب فيه الموازين ويصبح من هم في المقدمة (من الأغنياء) في المأخرة، ومن هم في المأخرة (من الفقراء) في المقدمة.

ربما علينا أن نتوقف الآن عند ذكر بعض أكمل صور الفيلم دراميا وجماليا: هناك أولا الصور التي أخذت من داخل الشقة، فديكورات الشقة وألوانها والإضاءة المتقنة التي وضعت فيها جعلتها عملا تشكيليا مقتدرا.

هناك أيضا الصورة على مشهد أولئك الرجال الذين كانوا يلعبون الكرة في ذلك الملعب المتاخم لشقتنا الفاخرة، كنا نطالعهم من على إحدى شرفاتها في أحجامهم الصغيرة التي تتساوى مع أحجام أوراق الأشجار المعلقة التي تغطي الميدان في تكوينة تشكيلية لونية باهرة.

هناك أيضا صورة مشهد المصادمة بين أولئك الشباب خلال تلك الأشجار وحركة المتخاصمين بينها على خلفية ذاك المفاعل النووي، وهنا ربما علينا التفصيل في الحديث عن هذا المشهد الذي يأتي قبل الأخير في الفيلم، فقد رأينا الكاميرا تتحرك (ربما للمرة الوحيدة في الفيلم) في مشهد مطول خرجت فيه من داخل المبنى خلف ذلك الحفيد الذي تأكد من التحاقه بالجامعة لأن المال بات في حوزة والده، ثم تحركت بنا الكاميرا دون قطع خلف تلك المجموعة من الشبان الذين كانوا ينتظرون الحفيد ومشت ثم هرولت وراءهم من عند مدخل العمارة لتقطع بنا الطريق ثم لتدلف بنا خلال ذلك المكان الكثيف الأشجار على خلفية منظر مفاعل نووي، ووجدنا أنفسنا بعد ذلك وسط معركة عنيفة بين مجموعتين من الشبان استعملت فيها الأيادي والعصي والسكاكين. وكيف انتهى ذلك بتبادل اللكمات عند ذلك الممر جنب ذاك السور الشاهق، كل ذلك كان يتسم بعمق درامي واضح.

هناك أيضا رمزية آخر صورة في الفيلم، فبعد أن مات الزوج الثري وسكنت زوجته بيته الجميل مكانه واستضافت فيه ابنها وعائلته، من نفس الزاوية التي بدأ منها الفيلم رأينا أولئك مجتمعين وهم في تلك الشقة الفاخرة جدا كما لو أنهم أصبحوا بالمنطق الرمزي للحكاية في المقدمة بعد أن كانوا في المأخرة.

سينماتك في 16 نوفمبر 2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)