جديد الموقع

 
 
 
ملف خاص عن 6 أكتوبر .. السينما والحرب، في «سينماتوغراف»
 
 
   

محمود قاسم

 

محمود قاسم يكتب دراسة لـ"سينماتوغراف"

حرب أكتوبر.. فى السينما المصرية

انعكاسات متباينة.. لساعات النصر الحاسمة

   
 
 
 
 
 

تتجدد الذكرى كل عام فتعيد إلى الأذهان ذلك النصر الذي كان معجزة وطنية لم يشهد مثلها الزمان.. عند معركة العبور.. حرب أكتوبر .. في ذاك العام الفاصل والرائع والميمون.. عام 1973.. عام النصر.. مفأجأة العصر في مصر وفي كل أرجاء الأمة العربية.. عندما وقف الكل في أعظم وحدة للهدف وللصف.. 

هاهي الذكرى الـ41 تطل علينا اليوم ... فتأخذنا إلى عالم يستحق الرصد .. في سجلات صناعة السينما العربية، والسينما المصرية قاعدتها وأهم ركائزها، لنراجع كيف كان التعامل مع أعظم معركة ذاق فيها العرب من المحيط إلى الخليج، طعم النصر..

1 ساعات الحرب الست .. هل تبرر للسينما تقصيرها؟

كلما حلت الاحتفالات بذكرى حرب أكتوبر تمتلىء وسائل الإعلام الفنية بتساؤلات متكررة، حول تقصير الإنتاج السينمائى المصرى في إنتاج فيلم يناسب وقائع الحرب، ومكانتها فى حياة العرب بشكل عام، والمصريين بشكل خاص. وطالما أن السؤال هو نفسه، فى التكرار، فإن الإجابة ستكون فى الغالب مألوفة وغير جديدة، وسط أمنيات الانتظار لعمل مثل هذا الفيلم الذى طال انتظاره طوال أكثر من أربعة عقود.

وفى أذهان من يسألون ومن يتولون الإجابة، ما قدمته السينما العالمية، خاصة الأمريكية من ملاحم سينمائية ضخمة حول الحربين العالميتين من ناحية، وأيضاً عن الحروب الفرعية التى دارت فى أماكن متعددة من العالم طوال قرنين من الزمان، ومنها الحرب الأهلية فى الولايات المتحدة، وحروب كمبوديا، وفيتنام، والخليج، والجزائر، لا يختلف كثيراً من حيث عدد الافلام، والحماس الشديد لتقديم أفلام عن فظائع الحرب فى فترة بعينها، حتى بدت هذه الأعمال الفنية كأنها أدت رسالتها كى يبدأ الاهتمام بحروب جديدة بصرف النظر عن هوية المنتصر أو المنهزم فى هذه الحرب.

اتسمت حرب أكتوبر ببعض السمات التى تجعل السينما المصرية بريئة من التقصير الذى تتهم به، فنحن أمام حرب خاصة هى حرب صغيرة قصيرة الأمد ضيقة المساحة، محدودة الافراد، قياساً إلى الحروب الأخرى، فالحرب العالمية الثانية استمرت ست سنوات بين أطراف متحاربة عديدة، من اليابان والصين إلى الاتحاد السوفيتى سابقاً، وتركيا، وقلب أوروبا، ثم بريطانيا والولايات المتحدة، كما وصلت إلى ليبيا والجزائر، ومصر، أى أنها ستظل مادة بالغة الخصوبة لعمل المزيد من الأفلام وأيضاً لكتابة روايات جديدة واصدارات أدبية لاتزال تدهش الناس. أما حرب أكتوبر فقد تم العبور فيها فى ساعات قليلة، بين قوتين متحاربتين، وتمثلت البطولة فيها من خلال عبور القوات المصرية من الضفة الغربية للقناة إلى الجانب الشرقى وهذه هى أبرز النقاط فى الحرب، اجتياز مانع مائى، وسط استعدادات ضخمة عند خط بارليف، واستمرت الحرب إلى أن تمكنت القوات الإسرائيلية، من عمل الثغرة وعمل هدنة لايقاف القتال، ثم جاء الدور السياسى من خلال مباحثات عسكرية، عند الكيلو 101، وغيره، ثم زيارة السادات لإسرائيل، ومعاهدة كامب ديفيد، وما تلا ذلك من أحداث لازلنا نعيش بعضها حتى الآن.

2 أفلام العبور.. لقطات عسكرية ... ودراما مدنية!

سوف يظل "العبور" هو نقطة الارتكاز الرئيسية فى حرب أكتوبر، سواء على المستوى التاريخى، أو الفنى، وسوف نتذكر دوماً كيف قام العسكريون المصريون بدفع المعابر فوق القناة، واندفاع الجنود المشاه، والدبابات بسرعة نحو الضفة الشرقية من قناة السويس، واقتحام مواقع الجيش الإسرائيلى، ثم تنتقل الأحداث الدرامية فى كل الأفلام إلى الحياة المدنية، وعودة الرجال المنتصرين إلى مدنهم، وقراهم يتلقون التهانى من ذويهم لما حققوه من انتصارات.

هى ساعات مقدسة، تدخل فيها لحظات الانتظار وعنصر المفاجأة، والمبادرة ثم التلاحم العسكرى.. هذا هو المقصود بحرب أكتوبر على المستوى العسكرى، بالنسبة للمعالجات السينمائية التى رأيناها على شاشات السينما فى الأفلام قليلة العدد، التى عبرت عن الانتصار، وتتركز فى أن أهمية حرب أكتوبر أنها جاءت للعرب بالنصر، بعد هزيمة غير متوقعة، نفسيا فى يونيه 1967، وسنوات انتظار طويلة، عاشت فيها مصر فى توتر ملحوظ، من استنزاف عسكرى، ومباحثات سياسية، ورحيل عبدالناصر، وتغيير فى القيادات العسكرية، وطرد الخبراء العسكريين السوفييت ومرحلة اللا سلم واللا حرب، ووعد الرئيس السادات بعام الحسم، ثم مفاجأة الحرب، وعبور القوات.

فى أغلب الأفلام التى سنتحدث عنها فى هذه الدراسة، ستكون الحرب بمثابة الختام السعيد لما عاشه المصريون من معاناة حقيقية إبان الفترة التى استمرت ست سنوات، وسوف نرى أن مساحة الدراما الأكبر، ستكون فى سنوات ما قبل الحرب، وأن حرب السادس من أكتوبر ستكون بمثابة الحل السعيد لمشاكل الشباب فى مصر، الذين سيدفع بعضهم حياته من أجل وطنه، بينما سيفوز البعض الآخر بثمرات الحرب. قد لا يستحق هذا البعض ما ناله من مكاسب، ولكن بشكل عام، فإن الحرب ستكون الحل الأمثل، النموذجى للمصريين، الذين استردوا ثقتهم فى أنفسهم، من خلال الانتصار ما يعنى أن الموضوع سيتكرر بشكل أو بآخر فى كل هذه الأفلام، من خلال تتويج قصة حب بين شاب مصرى، وفتاته بالاقتران السعيد، وما كان لهذه الفرحة أن تحدث دون العبور.. الذى اعتبر فى حد ذاته النصر المبين.

فبكل هذه الافلام هناك قصص حب وبطولات وتجنيد وعمليات عسكرية جماعية، ثم عودة الجنود إلى مسقط الرأس، من أجل الفوز بالنصر.. بالطبع، لأن جميع المحاربين الذين حققوا الأمل كانوا، فى تلك الآونة، من الشباب.. ويمكن أن نوجز مجموعة من السمات تربط بين هذه الأفلام، قبل أن نتوقف عند افلام بعينها نالت شهرتها عن هذه الحرب:

3 السينما المصرية أمام نصوص أدبية أبطالها لم يذوقوا النصر!

سوف نلاحظ أن كثيرا من الأفلام عن حرب أكتوبر قد أخذت عن نصوص أدبية، كتبها أدباء ينتمون إلى أجيال مختلفة، لكن أغلبهم لم يشارك فى الحرب نفسها، أى أنه لم يتمكن من ارتداء الخوذة، وحمل السلام، والقيام بالعبور. قد يحدث ذلك فيما بعد، حين مارس هؤلاء الأبطال حياتهم المدنية. لقد صارت الحرب بمثابة ذكرى مثلما سنرى، والنصوص الأدبية التى اقتبست منها الأفلام الأساسية، مكتوبة قبل اندلاع الحرب الأخيرة بين مصر وإسرائيل، وقد كتبها الأدباء عن الهزيمة وعن سنوات الاستنزاف التى سبقت الحرب، أى أن أبطال هذه النصوص لم يذوقوا طعم النصر فى الكتب، بل فى الأفلام، ما يعنى أنه حدثت اضافات درامية متعددة لهذه النصوص ومنها أقصوصة طويلة لاحسان عبدالقدوس، باسم "رصاصة واحدة فى جيبى" نشرها عام 1968، فى جريدة أخبار اليوم ثم فى كتاب عام 1973 باسم "لا أستطيع أن أفكر وأنا أرقص" وتنتهى أحداثها من خلال عودة الجندى مجند محمد عبدالكريم إلى قريته وقد احتفظ معه برصاصة من بقايا الحرب، من أجل أن يثأر لنفسه. أما يوسف السباعى، الذى كتب دوما روايات عن المناسبات السياسية والعسكرية التى شهدتها مصر طوال ثلاثة عقود، فإنه كتب رواية تحمل عنوانا رومانسيا هو "العمر لحظة" نشرها قبل حرب أكتوبر بفترة وجيزة، بينما كتب مجيد طوبيا (الكاتب الشاب آنذاك) رواية، ثم نصاً سينمائياً يحمل اسم "أبناء الصمت". ونحن نتوقف عند هذه السمة، باعتبار أن هناك معان محددة، وطعماً للكتابة الأدبية وللافلام المأخوذة عن الأدب بشكل عام، وهناك أيضاً نصا أدبىا للكاتبة السورية نينا رحبانى، حوله إلى فيلم فى عام 1975، الروائى يوسف السباعى يحمل اسم "حتى آخر العمر"، كما أن السينما أشارت إلى حرب أكتوبر فى مقدمة، ونهاية فيلم "الكرنك" المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب نجيب محفوظ.

على جانب آخر، فإن هناك أفلاماً حشرت الحرب ضمن أحداثها، مأخوذة من قصص سينمائية عالمية، بعضها عن الحرب، وبعضها أضيفت الحرب إلى أحداثه. فرغم أننا لا نعرف الاسم الأصلى للرواية الفرنسية التى أخذ عنها فيلم "الوفاء العظيم"، فإن السينما المصرية، سبق أن اقتبستها أكثر من مرة، سواء قبل انتاج هذا الفيلم أو بعده، وهى تدور حول الثأر الشخصى بين والد الفتاة، وبين حبيبها الذى يطلب الزواج منها، وهو الابن الوحيد، لاب قام بقتل عريس ابنته ليلة زفافها، بسبب شعور بالغيرة، وبعد سنوات هاهو الشاب يأتى ليخطب من الاسرة نفسها، كى يفتح الجرح القديم. هذه الحكاية شاهدناها بمعالجات متباينة فى فيلم "خلود" لعز الدين ذو الفقار عام 1947، و"حب لا أنساه" لسعد عرفة 1963، ثم "الوفاء العظيم" لحلمى رفلة 1974، و"منتهى الحب" لحسن الامام 1975، ما يعنى أن مخرج وكاتب فيلم "الوفاء العظيم" قد حشر مسألة حرب أكتوبر ضمن القصة الأصلية.

كما أن فيلم "لا وقت للدموع" لنادر جلال 1976، مأخوذ عن الفيلم الأمريكى الحربى "جسر ووترلو" عام 1939، الذى اقتبسته السينما المصرية عدداً من المرات، فى أفلام كانت الحرب هى المحور الرئيسى فيها، ومنها "الحياة الحب" لسيف الدين شوكت 1953، و"وداع فى الفجر" لحسن الامام عام 1956 وذلك باعتبار أن قصص الحرب فى السينما متقاربة مهما اختلفت الأزمنة، والشعوب. ولا شك أن من يكتبون هذه الأفلام يجدون فى قصص الحرب الناجحة سينمائياً معينا لا ينضب فليست هناك بالتقريب دولة لم تعرف بأس الحرب فى القرن العشرين، عدا سويسرا وبلاد أخرى قليلة العدد.

4ـ ثلاثية محمد راضي عن حرب أكتوبر .. ينقصها "حائط البطولات"!

ونحن نتابع حركة السينما المصرية مع حرب أكتوبر كحدث تاريخي غير مسبوق ، عسكريا ووطنيا، سنجد أن مخرجين بأعينهم، قاموا باخراج أفلام عن حرب أكتوبر أكثر من مرة، أى أنهم قدموا أفلاما عن هذه الحرب فى الذكرى الاولى للعبور، مع احتفال المصريين بفرحتهم بمرور عام على النصر، ثم قاموا فيما بعد بعمل أفلام أخرى عن نفس الموضوع. ويأتى محمد راضى كأبرز الأسماء فى هذا المجال، حيث أخرج ثلاثة أفلام، فى سابقة هى الأولى من نوعها، أولها فيلم "أبناء الصمت" عام 1974، و"العمر لحظة" عام 1978، و"حائط البطولات" عام 1999، الذى لم يعرض حتى الآن لأسباب تباينت فى عالم القوات المسلحة، كما أن راضى هو الذى أنتج فيلم "فتاة من إسرائيل" عام 1998، من اخراج ابنه إيهاب راضى، ويتضمن الفيلم مشهد معركة بالكلمات بين أب مصرى فقد ابنه فى الحرب، وبين أستاذ جامعى اسرائيلى، عند سواحل سيناء. وقد بدت هذه الكلمات أقرب إلى أصوات المدفعية فى الحرب، باعتبار أنه لن يقوم سلام أبداً بين مصر وإسرائيل، وأن التطبيع سيظل مسألة نقاشية كبرى فى مرحلة ما بعد السلام، مهما قام المسئولون بالتوقيع على اتفاقات سلام. وفى فيلمه "أمهات فى المنفى" 1983، تحدث عن الذين أصابتهم لعنة السلام بين مصر وإسرائيل.

ويأتى فى المرتبة التالية نادر جلال الذى قدم فيلم "بدور" عام 1974، ثم قدم فيلمه الثانى حول الحرب نفسها "لا وقت للدموع" بعد عامين وهى مسافة زمنية قصيرة بالنسبة لتناول الحرب فى مسيرة أى من المخرجين فى عالم السينما.

ونصل إلى على عبدالخالق ، فهو صاحب فيلم "أغنية على الممر" كما أنه قدم مباحثات السلام بين مصر وإسرائيل فى فيلم "وضاع حبى هناك" عام 1982.

وهناك مخرجون آخرون قدموا الحرب فى فيلم واحد ينتمى إلى الإنتاج الضخم. فالمعروف أن السينمائى فى أى بقعة من العالم، خاصة مصر، لن يمكنه انتاج مثل هذا الفيلم، دون دعم ملموس من المؤسسة العسكرية التى يتبعها، باعتبارها أفلاما ضخمة الإنتاج، وتحتاج إلى عتاد حربى حقيقى، وليس مجرد هياكل، وسوف نرى أن الشركات التى أنتجت بعض هذه الأفلام عن حرب أكتوبر قد استعانت بمخرجين أجانب لديهم الخبرة فى إدارة المعارك الحربية سينمائياً، وقد حدث هذا بشكل ملحوظ فى فيلم "الرصاصة لا تزال فى جيبى".

تنقسم الافلام التى تدخل فى اطار دراستنا إلى عدة أنواع، منها أعمال حول معارك أكتوبر، وعبور القوات المسلحة المصرية إلى الضفة الشرقية للقناة، أما النوع الثانى فإن أحداثه تقوم على أساس نتائج الحرب، مثلما رأينا فى فيلم "الكرنك" لعلى بدرخان 1975.. يتضمن النوع الأول من الأفلام أسماء افلام بارزة وهى:

- الرصاصة لاتزال فى جيبى.. اخراج حسام الدين مصطفى.. عرض فى 1 اكتوبر 1974.

- الوفاء العظيم – اخراج حلمى رفلة – عرض فى 6 أكتوبر 1974.

- بدور – اخراج نادر جلال – عرض فى 14 أكتوبر 1974.

- أبناء الصمت – اخراج محمد راضى – عرض فى 16 نوفمبر 1974.

- حتى آخر العمر – اخراج أشرف فهمى – عرض فى 5 أكتوبر 1975.

- لا وقت للدموع – اخراج نادر جلال – عرض فى 24 سبتمبر 1976.

- العمر لحظة – اخراج محمد راضى – عرض فى 3 سبتمبر 1978.

والملاحظ أن تواريخ عروض هذه الأفلام اقترنت باحتفاليات أكتوبر فى أعوام عرضها، وان الناس كانت تذهب إلى دور العرض، فى الأسابيع نفسها التى تحتفل فيها مصر بذكرى النصر، ثم انتقل عرض هذه الأفلام على شاشات التليفزيون خاصة فى المناسبات الوطنية، سواء الاحتفال بذكرى النصر أو بذكرى تحرير سيناء حسب معاهدة كامب ديفيد أو استعادة سيناء إلى السيادة المصرية.

5ـ الأفلام المصرية من تمجيد النصر العسكري إلى مناهضة التطبيع السياسي 

هناك أفلام عديدة كانت حرب أكتوبر موجودة ضمن القصة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر مثل فيلم "الكرنك" لعلى بدرخان عام 1975، أو "كتيبة الاعدام" لعاطف الطيب عام 1989، و"أيام السادات" لمحمد خان عام 2002.

ومثلما أضفنا فى دراستنا عن السينما وعدوان 1967، موضوع الحرب السرية بين مصر وإسرائيل فيما يسمى بصراع أجهزة الاستخبارات، فإننا فى هذه الدراسة لا يمكن أن نغفل مجموع الأفلام التى رفض فيها السينمائيون المصريون التطبيع السياسى مع إسرائيل عقب معاهدة السلام، حيث ظل هذا الموضوع يؤرق المصريين دوما، وكم صفقوا لأبطال هذه الأفلام فى قاعات العرض الذين يقفون ضد التطبيع، ومن هذه الأفلام:

- العصابة – اخراج هشام أبو النصر 1986.

- فتاة من اسرائيل اخراج إيهاب راضى عام 1998.

- صعيدى فى الجامعة الأمريكية اخراج سعيد حامد عام 1998.

- السفارة فى العمارة – اخراج عمرو عرفة عام 2006.

- أولاد العم اخراج شريف عرفة عام 2009.

وسوف نتوقف عند هذه الأفلام وغيرها، التى تعكس موقف الشعب المصرى من معاهدة كامب ديفيد التى كانت أبرز نتائج حرب أكتوبر السياسية. فالناس التى عانت من ويلات الحرب لاتزال تتعامل مع إسرائيل على أنها الكيان الذى اغتصب الأرض الفلسطينية، واعتدى على مصر فى أكثر من حرب، ما يعنى أن كامب دافيد كانت مجرد معاهدة سياسية استردت مصر بموجبها شبه جزيرة سيناء، لكنها لم تجعل الناس يحسون بأى تقارب، أو مصالحة مع اسرائيل، فالخصومة لاتزال قائمة، ولن تنتهى.

وقد اهتمت الافلام السينمائية التى صورت عن حرب 1948 بموضوع تجار الأسلحة الفاسدة من كبار السياسيين، ورجال الاقتصاد، ما أدى إلى أول هزيمة عسكرية أمام إسرائيل، وفى الأفلام التى قدمت عن العدوان الثلاثى عام 1956، كانت الصورة الغالبة هى المقاومة الشعبية، لأبناء بورسعيد وتهميش دور القوات المسلحة فى تحقيق النصر قياساً إلى بطولات شعب بورسعيد. أما الافلام التى صورت هزيمة 1967، فقد عبرت عن فساد داخل المؤسسة العسكرية، ورأينا ما أصاب الشعب من مرارة اجتماعية.. لكن أغلب الأفلام التى تم تصويرها عن انتصار أكتوبر عام 1973 قد أرجع فيها سبب النصر فى المقام الأول إلى الجيش، الذى استعاد قوته، ورابطة جاشه. وقد صبغت هذه الافلام بالصبغة العسكرية، أى أنها أفلام حربية، كان عليها أن تستعين باللقطات الحقيقية حول العبور، وتدمير خط بارليف، ثم تصوير بعض المواجهات فى سيناء – شرق القناة – والتأكيد على أن النصر عسكرى، خاصة خلال المواجهات العسكرية الأولى، وتمكن الوحدات المصرية من عبور القناة، وسط ظروف بالغة الحساسية، والخطورة، وأن العملية تمت بكفاءة ومهارة.

ومن الجميل أن تمتزج قصص عبور هؤلاء الجنود والضباط قناة السويس الجريحة، وان تحكى الافلام عن القصص العاطفية، والاجتماعية التى عاشها بعض هؤلاء حول العبور، خاصة أن من صنع النصر وقام بالعبور، هم مجموعة من الشباب، وليس فرداً واحداً، وبمراجعة هذه الافلام التى تم انتاجها عن حرب فلسطين، ثم حرب أكتوبر، فسوف نكتشف أن الأولى أعمال سياسية فى المقام الأول، أى أننا عشنا داخل الدهاليز السياسية التى أثرت على الحرب، من مواقف الملك أو الوزراء، أو رجال الاقتصاد الذين ساندوا تجارة الأسلحة الفاسدة، ثم قيام بعض شخصيات ذوات قدرة على اصدار القرار السياسى بالمشاركة فى جلب الهزيمة، وهو الموضوع الذى اثبت التاريخ أنه لم يكن صحيحاً. فالكاتب احسان عبدالقدوس، هو أول وأبرز من كتب حول ما أسماه "الاسلحة الفاسدة" فى مقالات عديدة نشرها بالصحف والمجلات، وهو الذى تبنى هذه القضية بحماس شديد، وهو يكتب سيناريو فيلم "الله معنا" لأحمد بدرخان عام 1955، وكانت هناك شخصية رئيسية فى الفيلم، حول صحفى شاب كتب مقالات عن الأسلحة الفاسدة المقصود به عبدالقدوس نفسه، وقد جسد هذه الشخصية فى الفيلم شكرى سرحان. احسان هو نفسه الذى كتب النص الأدبى المسمى "الرصاصة لا تزال فى جيبى" الذى صار أحد أهم الافلام التى عبرت عن نكسة يونيه، ثم انتصار أكتوبر.

6ـ الأفلام الحربية : بطولات للعسكر ... وغياب للقيادات 

لايزال الحديث متواصلا عن حرب اكتوبر في سجلات السينما المصرية التي حرصت دائما على أن تؤكد في أفلامها الحربية أن الجيش بشكل عام هو سبب النصر، دون اشارة إلى بطولات رجال القوات المسلحة الذين خططوا لهذه الحرب، ابتداء من الرئيس أنور السادات، والمشير أحمد اسماعيل وزير الحربية، والفريق أول سعد الدين الشاذلى رئيس أركان القوات المسلحة، والمسئول عن وضع خطة الحرب. وسوف نلاحظ أنه طوال اكثر من اربعين عاما فإن السينما لم تهتم أبداً بواحد من هذه القيادات، عدا أنور السادات الذى تم تقديمه كرئيس دولة، رغم أننا كم شاهدنا أفلاما أمريكيا عن بطولات القادة العسكريين فى الحرب العالمية الثانية، ومنها افلام عن ايزنهاور، وباتون، وجون كيندى، واودى مورفى، وماك آرثر، وغيرهم.. حيث كان هناك تجاهل ملحوظ للقادة العسكريين طوال تاريخ السينما، وكان أغلب أبطال الافلام الحربية متخيلين، وقد ظهر هذا واضحا فى الفيلم الذى لم يعرض لمحمد راضى بعنوان "حائط البطولات".

ففى الأفلام التى تم انتاجها فى مصر، حول حرب أكتوبر، فإنها جاءت ذات طابع عسكرى، أكثر منها ذات طابع سياسى، وقد بدا القرار السياسى بعيداً عن البعد الدرامى، وعشنا فى هذه الأفلام مع رجال الجيش الذين أدوا الواجب على خير ما يكون، وعبروا بمصر من الهزيمة النفسية والعسكرية إلى النصر الذى صار له طابع اجتماعى، وسياسى وعسكرى.

من الأهمية هنا أن نطرح مساحة تليق بفيلم "الرصاصة لا تزال فى جيبى" لحسام الدين مصطفى الذى قام ببطولته مجموعة من الشباب البارزين فى تلك الآونة، وصارت لبعضهم مكانة ملحوظة فى عالم النجومية وعلى رأسهم محمود ياسين، وحسين فهمى، وصلاح السعدنى، وسعيد صالح، وهناك اثنان من هذه الأسماء ظهرا فى دور المحاربين فى فيلم "أغنية على الممر" .

ولعل من أجمل ما قرأت حول هذا الفيلم ما سطره الناقد مجدى فهمى فى مجلة "الشبكة" ضمن مقالات مطولة أسبوعية طوال السبعينيات وكان عنوان المقال هو "عبور.. إلى سينما عربية مشرفة" جاء فى بدايته:

"فى القلب كان جرح

وفى الجرح كان عمق

والجراح العميقة تتطلب وقتا كى تشفى، وتحتاج عناية حتى لا تسرى العلة فى الجسد كله، فالتسمم قد يكون نتيجة جرح صغير أهمل. والجرح الذى يحتوى على صديد لا يندمل لابد من تنظيفه وتطهيره أولا.

هذه جراح الأجساد.

وأصعب منها جراح النفس مدتها قد تكون عمراً بأكمله، وآثارها قد تكون أبدية وإن لم ترها عين، واقسى منها جراح الأوطان، جرح الوطن ينزف من كل قلب، ويؤلم كل فرد، الوطن الجريح لا يصرخ، وانما الصراخ يكون فى حناجر الشعب، صراخ جماعى محموم حتى لو لم يكن مسموعا.

"وجرح الوطن لا يبرأ إلا بجرح معاكس.. بجرح آخر يصيب العدو، انه الثأر الوحيد الشريف.. الثأر الذى ترضى عنه النفوس، وتهدأ".

"ومصر كانت جريحة من طعنة غادرة استقرت فى ظهرها عام 1967، قالوا إنها نكسة وقالوا انها هزيمة معركة وليست خسارة حرب..وقالوا. وقالوا..".

"ولكن مصر كانت جريحة.. ولا تهم التسمية.. وانما المهم هو ذلك النزيف الذى أصاب قلب مصر، ووجدان مصر، وكل مصر".

"الأسود لا تنام طويلا على الضيم".

"لابد فى النهاية من أن تطرد الغفوة عن عيونها وان يعود زئيرها القوى يهز الغابة هزاً".

"والأسود المصرية استيقظت فى الثانية بعد الظهر من يوم 6 اكتوبر (10 رمضان) عام 1973، وكان لابد من الثأر لهذه الجراح بأخرى أثخن منها وأعمق".

وقد تعمدنا اقتباس هذه الفقرات من مقال مجدي فهمي كى نتعرف بصدق على ما كان المصريون يحسونه فى تلك الفترة الانتقالية، وهو منشور في مجلة الشبكة عقب عرض الفيلم فى أكتوبر من عام 1974. وما ذكره الناقد يعكس الحالة النفسية والدرامية التى عاشها المصريون قبل وبعد أكتوبر 1973، وهو الموضوع الغالب فى الافلام الأساسية التى تناولت العبور.. والنص الأدبى المنشور فى جريدة "أخبار اليوم" تحت عنوان "رصاصة واحدة فى جيبى" يدور فى شكل رسالة سطرها جندى مصرى إلى صديق له، يتحدث فيها عن قصته مع السلاح، قبل وبعد النكسة، أى أن الموضوع لا علاقة له بانتصار أكتوبر من ناحية النص الأدبى، أما السينما وحرب أكتوبر فلذلك شأن آخر.

وعندما هلت حرب العبور، بدت الرواية القصيرة، كأنها تكمل جزءاً مهما ناقصا فى القصة، لأنه من المهم أن تكتمل أحداث هزيمة الوطن بانتصار اجتماعى وسياسى، وعسكرى، ونحن نتوقف عند هذه النقطة، لأنه فى الفيلم هناك مشهدان بالغا الأهمية فى حياة محمد المغاورى المتعلم الشاب الفلاح الذى شارك فى الحربين معا، كان عليه أن يعود إلى قريته، فى المرة الأولى حاملاً الهزيمة، وفى الثانية رافعاً راية النصر، فبعد الهزيمة يركب القطار، ويتعرض لسخرية بعض ركاب القطار بشكل مباشر فلا يرد. أما المرة الثانية، عقب نصر أكتوبر، فإن ركاب القطار نفسه يتبادلون معه التيه، ويرسلون إليه التهانى، ويقابلونه بمشاعر نبيلة، فهو رمز لما تحقق للوطن من هزيمة فى المرة الأولى، ثم ما جاء له من نصر فى المرة الثانية، ولا شك أن هذا يعكس ظاهرة اجتماعية كانت تحدث بشكل مكثف فى الفترة بين عامى 1967 و 1974 أى بين زمن النكسة، وزمن عرض الفيلم.

فى النص الأدبى، هناك البطل المصرى نحن أمام بطل فردى فى المقام الأول، لم نره قط مع زملائه من الجنود، هو يهرب ويمشى وحده فى الصحراء الملتهبة إلى أن يعثر عليه بدو من سيناء، ثم هو يهرب من المكان عن طريق البدو ومعه رصاصة تتيح له فرصة الانتقام، ويظل هذا البطل فرديا عقب عودته من الحرب وهو يواجه الطغيان الذى سيطر على القرية.

حوادث الفيلم تنتقل بين سيناء، الأرض التى شهدت الحرب بين إسرائيل ومصر، ثم القرية التى يسكنها محمد ويعود إليها دوماً، لتمثل الصراعات التى تتجدد مع كل عصر، من خلال سيطرة الأقوياء على الفقراء، والجهلاء.. فالطالب محمد المغاورى، يحب ابنة عمه فاطمة منذ أن كانا طفلين، ويفاجأ الشاب أن هناك شخصا ينافسه على امتلاك فاطمة، يسمونه عباس بك، إنه وكيل الجمعية الزراعية.. يمتلك قدرات خاصة يستطيع من خلالها السيطرة على القرية، وأبنائها، ويدفع الجميع لخدمة أغراضه، ومنها الحصول على جسد فاطمة، ابنة عم محمد وحبيبته.

يمثل عباس القوة الغاشمة التى تستبد بالوطن من الداخل فهو انسان بلا قلب، أو هوية ووجدان، كل ما يطمح فيه هو امتلاك أشياء ليست من حقه الحصول عليها، خاصة فاطمة التى تمكن من اغتصابها، ونال منها، رغم أنها قاومته بقوة، ولم تتمكن من أن تحافظ على شرفها.. فى الوقت الذى انشغل فيه محمد باستعادة شرف الوطن.

يمتلك محمد مشروعاً قومياً، يتمثل فى أن يحقق النصر العسكرى الوطنى، وفى يونيه 1967 يجد نفسه وقد تاه عن فصيلته التى بددتها إسرائيل، ورغم أنه بذل ما بوسعه حين قاوم الوحدة الإسرائيلية قبل أن يتوه فى الصحراء وتم العثور عليه فيما بعد، فإن مشروعه الوطنى مرتبط بما يدور فى الوطن.

7ـ مغاوري وبهية ... واختلاط العام والخاص في فيلم حربي

فى الأفلام الحربية الكبرى، غالباً ما تدور الأحداث حول مجموعة شخصيات تمثل طرفاً من المحاربين لكل منهم قصته، وفى الغالب، فإن المعركة تضم كل هذا العدد من الأشخاص وتبتعد القصة عن الفردية، لكن فى هذا الفيلم فإننا أمام الفرد وحده، هو الذى يشهد الهزيمة، ثم يشارك فى النصر، وهو وحده الذى يتلقى اللوم والاستهجان، كما أنه بمفرده تتم تحيته حين يعود محققاً النصر، وقل أن تجد هذا فى أى أفلام حربية، لكن الفيلم امتلأ فى أحداثه بوقائع عن الحرب، شارك فيها الجندى، هو ليس البطل الخارق، رامبو الذى يلحق الهزائم بالأعداء، ويحقق بطولات أسطورية، لكنه واحد من المشاركين فى الحرب، يركب الزورق مع زملائه، وينطلقون نحو الضفة الشرقية للقناة، ولولا اخراج المعارك بهذه الصورة ما وجدنا أنفسنا أمام فيلم ضخم الانتاج، قد يقترب من بطولات الجنود المصريين، فكأنما مخرج المعارك الأجنبى، قد أعاد فى الفيلم شموخ معركة العبور، حين تم فرد الجسور التى تسير فوقها الدبابات، وأيضاً حين انطلقت الزوارق حاملة فوقها الجنود، ثم حين الاشتباك مع الأعداء، وقيام رجال العسكرية المصرية بأسر قيادة إسرائيلية بارزة، وذلك فى مشاهد قدمت المعارك فى مستوى عالمى، قام بتصميمها الخبيران الايطاليان ماريو فانى، وك. كونرى بالإضافة إلى المخرج المصرى خليل شوقى، وقد ذكر مجدى فهمى فى مقاله المشار إليه أنه استخدمت ست كاميرات لتصوير هذه المعارك، واحدة منها كانت محمولة من كونرى نفسه الذى قام أيضاً بعمل المونتاج للقطات الحربية.

هذا البطل، كما أشرنا، كان قد تدرب على الأعمال العسكرية وهو طالب فى الجامعة وتمرن على الرماية، وتأهب لخوض معركتين وانتصر فيهما.. وكان كلا الطرفين اللذين يحاربهما آثماً، إسرائيل العدوانية من ناحية، ثم عباس فى الجانب المدنى، وقد حقق محمد المغاورى رغبته فى الانتقام من الطرفين، لكن مثلما كان الوطن قد اغتصب فى يونيه 1967، فإنه تم اغتصاب فاطمة لذا وجب الانتصار والانتقام لما تعرضت له على يدى عباس.

ويمكن أن نقول إن المغاورى صار يرمز إلى مصر (رجلاً) مثلما رمزت بهية إلى الوطن كامرأة فى فيلم "العصفور" ليوسف شاهين.

اختلط الخاص بالعام فى هذا الفيلم، انتصار الوطن، والانتقام لشرف الحبيبة. وقد حرص حسام الدين مصطفى على تصوير وقائع الحرب بما يؤكد أننا أمام فيلم حربى فعلاً، ابتداء بعبور القوات الخاصة، وكيف استطاع سلاح المهندسين اقامة الجسور التى انطلقت من فوقها المدرعات، كما رأينا كيف تمت ازالة الساتر الترابى، ومن الواضح أن القوات المسلحة أعادت تجسيد بعض المعارك بالحماس نفسه، حيث شاركت فى تعضيد الانتاج بشكل ملحوظ حتى جاءت الحرب على الشاشة صورة حية من الحرب الأصلية كما جاء فى المقال المذكور.

وكما نلاحظ، فإن هذه الأفلام لم تشر من قريب أو بعيد، إلى دور الطيران، الذى سمي فيما بعد بالضربة الجوية وقد خلت سماء القناة فى الفيلم، وغيره من الأفلام من أى اشارة للطيران، عدا ما رأينا عليه البطل الطيار فى فيلم "حتى آخر العمر".

8ـ أبناء الصمت ... فيلم النماذج الإنسانية البسيطة

الفيلم الثانى، الذى له الأهمية نفسها هو "أبناء الصمت". وكما سنرى فإنه فيلم عن الجنود، ومن بعدهم الضباط، دون أى اشارة إلى القادة السياسيين، أو العسكريين الذين ساهموا فى الحرب، وقد صيغ الفيلم بطابع سياسى، وطنى بشكل واضح، ربما أكثر من الفيلم الأسبق.. حسبما جاء فى الكراس الدعائى على لسان المؤلف مجيد طوبيا، حيث يدافع الصحفى الكبير أحمد راجى عن نفسه أمام الصحفية الجديدة نبيلة عويس وهو يقول:

"من أين جاءنى هذا الروماتيزم الذى يعذبنى فى ركبتى اليسرى، من الغرفة الرطبة التى كنت أقطن فيها مع أسرتى، ومن السجن السياسى فى الأربعينيات ومن برش المعتقل فى الخمسينيات، ولا أحد يذكر لى هذا.. الجميع يظوننى نبياً؟ وينتقدون ويتطاولون، لا يعرف عذاب المعتقل وذله إلا من تعرض له.

ولعل هذه الشخصية هى الوحيدة التى تعطى بعداً سياسياً للفيلم باعتباره ركيزة شخصية ضمن شخصيات أخرى ذهبت إلى الجبهة لتحارب، فالصحفى الذى يفخر بماضيه فى النضال الوطنى، صار الآن فى سن متقدمة، كل ما يفعله أن يكتب وقد صار موقفه سلبياً، بينما الشباب ذهبوا إلى الجبهة يحاربون، ويدفعون حيواتهم ثمنا غاليا من أجل المواطن، ومنهم على سبيل المثال الجندى مجدى الأعسر الذى تخرج فى جامعة القاهرة , ومنها إلى جبهة القتال مباشرة، وكان أحد رفاق الملجأ الذى يأوى إليه قد دفع حياته فى إحدى عمليات حرب الاستنزاف.

الفيلم ملىء بالنماذج الانسانية البسيطة، انه فيلم عن الجنود الذين ذهبوا الى الحرب للدفاع عن الوطن، ترك كل منهم حكاية فى حياته المدنية وينتظر العودة بعد الحرب كى يجنى ثمار النصر مثلما فعل البطل فى الفيلم السابق.. ولن يختلف الصحفى المشهور أحمد راجى عن المجندين، فهو صاحب سجل وطنى مشرف، جعله يحصل على منصب مرموق فى عالم الصحافة، لذا فإن هذا الكاتب يعطى بعداً سياسياً حقيقياً للفيلم، فهو ليس انتهازياً، مثلما سنرى صحفىا آخر فى فيلم "العمر لحظة" ولكنه عرف المعاناة فى السجون السياسية فى كافة العقود السابقة، خاصة الأربعينيات، والخمسينيات، وتعب من قسوة المعتقل وذله، فاستكان ورضى بأن يكون مجنداً لأى تصرف من تصرفات السلطة فى مواجهة المحررين الشبان الثائرين على وضع الجريدة.

هذا الصحفى هو بلا شك الشخص الوحيد الذى يمكنه أن يلعب دوراً سياسياً فى الفيلم، حيث أنه ممنوع على العسكريين من ضباط وجنود وقادة الانتماء أو التعامل فى السياسة، أو التحزب، فى فترة كان هناك حزب سياسى واحد فى مصر، هو الاتحاد الاشتراكى العربى، والعسكريون فى هذه الأفلام يمكنهم فقط تنفيذ الأوامر العسكرية، القادمة من القائد العام الذى استمد سلطاته من القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو رئيس الجمهورية، دون أن يتدخلوا فى السياسة، أو أن تكون لهم القدرة على كشف هذه الانتماءات، فباعتبارى واحدا من هذا الجيل، فقد رأيت كم تم استبعاد الشباب ذوى الانتماءات الدينية السياسية من التجنيد، فى الوقت الذى تم تجنيد أغلب شباب الفكر اليسارى، أو الاشتراكى.

تبدأ أحداث الفيلم أيضاً فى يونيه 1967، مثلما حدث مع " الرصاصة لا تزال فى جيبى". ففى الثانى والعشرين من أكتوبر فى العام المذكور، قام جنود وضباط البحرية المصرية بإغراق المدمرة إيلات الإسرائيلية، التى كادت أن تقترب من المياه الاقليمية امام بورسعيد، وفى الوقت نفسه، جن جنون العدو فضرب مدينة الزيتية بالسويس وتبلغ حرب الاستنزاف ذروتها مع العدو الاسرائيلى، والجنود على حافة القناة، لا يبعدهم عن عدوهم سوى الممر المائى، يتبادلون الشتائم، والوعيد على طرفى القناة، وبين ليلة وأخرى، يتسلل جنود مصريون إلى خلف خطوط العدو فى سيناء، وينفذون عملياتهم العسكرية، قد يعود البعض، وقد يبقى جثمانه هناك، إلى أن يأتى يوم السادس من أكتوبر حيث يتم العبور وتحطيم خط بارليف. قبل الحرب مباشرة، ومن مظاهر التمويه إن قائد الوحدة يمنح بعض الجنود أجازات مؤقتة، هذه الظاهرة التى عرفت بيننا كجنود فى تلك الآونة، باسم "حرب فرش المتاع" حيث نجح الفريق سعد الدين الشاذلى فى اعطاء الايحاء بأن الجيش المصرى يمر بحالة استرخاء.

فى الفيلم، نرى كيف قام بعض المجندين بقضاء تلك الأجازة السريعة فى القرى التى يسكنونها، أو المدن، ومنهم الجندى، مؤهلات عليا، مجدى، الذى يعود إلى القاهرة للقاء خطيبته "نبيلة" الصحفية صاحبة المبادىء التى تتصدى لزميلها رئيس التحرير الذى صار نفعياً، يستغل و ظيفته لتحقيق المكاسب، ويبدو منفصلا تماماً عم يدور فى شرق الوطن، من استعدادات للحرب، انه لا يشعر قط بمعاناة الشعب، تنتهى أجازة مجدى السريعة، كما يعود صابر الصعيدى من بلدته، بعد أن وعد حبيبته بالزواج، أما الجندى ماهر فيعرف أن زوجته صارت "حامل" وأنها قررت العودة إلى مسقط رأسها فى القناة، بعد سنوات من الهجرة القاسية.

هنا، تبدو المدينة، بسكانها، منفصلين تماماً عما يحدث فى الجبهة، وفى الوقت نفسه فإن نبيلة تقوم بعمل تحقيق صحفى، عن الجانب الماجن من العاصمة الذى يرتاده رئيس التحرير، وتعرف، كما ذكرنا أنه كان شاباً مناضلاً، لكنه قرر التخلى عن نضاله، بعد أن صدم فى حياته، أى أننا هنا أمام عدد من المشاكل، سواء فى الحياة على الجبهة، وأيضاً فى الحياة المدنية.

وفى العمليات العسكرية، تفقد نبيلة خطيبها، الذى يموت شهيداً.. وتقوم نبيلة بكتابة موضوع عن الشهداء الذين كانوا سببا فى النصر.

عندما سعى محمد راضى لعمل فيلم جديد عن حرب أكتوبر، بعد أربع سنوات ونصف من هذا الزمن، بدا كأنه يكرر نفس الأجواء.. فهناك الفساد والسلبية فى عالم الصحافة، مقابل الحماس الشديد لدى المجندين والضباط الذين سوف يشاركون فى الحرب. كما أن المخرج سيتوقف أيضاً عند مسألة "حرب فرش المتاع" حين سيقوم الجنود بعمل حفل ترفيهى تحضره الصحفية نعمت، التى تعتبر صورة متكررة من نبيلة فى الفيلم السابق، فكلتا المرأتين تقوم بزيارة الجرحى فى المستشفيات والمهجرين الذين اختاروا مديرية التحرير للاقامة بعيداً عن أصوات المدافع.

وفى الفيلمين هناك جذور صعيدية وقروية للجنود، فمثلما عاد صابر إلى قريته الصعيدية فى "أبناء الصمت" سنري جندياً آخر يفعل ذلك فى "العمر لحظة"، صابر هذا مدرس فى التعليم الالزامى، يعود مع كل أجازة مدنية إلى رفاق القروانة (وعاء الأكل)، زملاء الملجأ بأوزة محمرة، محشوة بالفريك، ترسلها أمه معه إلى زملائه، ليأكلوا معا، ما يعكس بساطة وتعاطف المصريين معا، ومدى كرمهم الفطرى، اذ قد تمثل هذه الهدية الشهرية عبئا ماليا على أسرة ريفية فقيرة.

تحدث مجيد طوبيا عن عدة أسباب لتأخير انتاج الفيلم، وعرضه بعد عام ضمن مجموعة الأفلام الرئيسية التى عرضت فى الذكرى الأولى لحرب اكتوبر، قائلا فى نشرة المركز القومى للسينما إن استهتار واحد أو اثنين من الممثلين النجوم، وعدم احترامهم لمواعيد التصوير فى اليومين الأخيرين للدوبلاج، كان السبب فى تأخير عرض الفيلم فى الذكرى الأولى لحرب أكتوبر، هذا إلى جانب أن الفيلم كان من المفروض أن ينتج قبل ذلك بفترة، إلا أن عدة أسباب أدت إلى هذا التأخير منها:

1- الغاء مؤسسة السينما الحكومية وايقاف الانتاج.

2- خوف منتجي القطاع الخاص من المغامرة بإنتاج الفيلم.

وتبدأ أحداث "العمر لحظة" أيضاً عقب هزيمة يونيه 1967 مباشرة، حيث تعيش الصحفية "نعمت" الجانب الساخن من حياتها مع زوجها عبدالقادر رئيس تحرير إحدى الجرائد الكبرى، انه تقارب ملحوظ بين النص السينمائى الذى أعده حسين حلمى المهندس عن رواية ليوسف السباعى، مع النص السينمائى الذى أعده مجيد طوبيا عن نص أدبى يخصه هو، فهناك مكان واحد يجمع بين عبدالقادر وزوجته، إنها الجريدة، مثلما كانت نبيلة تعمل مع رئيس التحرير فى الجريدة نفسها فى "أبناء الصمت" وفى "العمر لحظة" فإن رئيس التحرير ليس له ماض نضالى، أو مشرف، وهو ليس منهزماً على مستوى التجربة الوطنية، بل هو انتهازى فى منبعه، فهو يكتب مقالات وافتتاحيات تدعو إلى اليأس، وان النصر لن يأتى قط، كما أنه متعدد العلاقات النسائية وفى المقابل فإن زوجته نعمت تؤمن بأن العمل الوطنى هو مفتاح شخصية المرء، لذا اهتمت بالعمل التطوعى. فى إحدى المستشفيات العسكرية، وفى زيارتها تتعرف على الكثير من المقاتلين، منهم الجنود، والضباط الذين وهبوا أنفسهم لخدمة الوطن، وتهتم بحالة المقدم المصاب فى العمليات، محمود، وهو ضابط صاعقة لديه مشكلات عائلية مع زوجته، تتولى نعمت المساعدة فى حل مشاكل نزلاء المستشفى، فتحمل رسائلهم، وتوصلها إلى الأهل فى الحياة المدنية، كما أنها تسافر إلى الجبهة لرفع الروح المعنوية، وتعود إلى صحيفتها لتكتب عن معارك الاستنزاف، وعن الأمل والطموحات المشرقة فى عيون الأبطال الجدد، إلى أن تبدأ حرب أكتوبر ويستشهد الكثيرون ممن عرفتهم، وصنعوا مجد بلادهم بدماء غالية. وبعد العبور يكون اللقاء مجدداً بين نعمت وزوجها وابنته، بعد أن انفصلت عن زوجها.

9ـ نصر اكتوبر ... رهين سيناريو"بدور"والقصص سابقة الإعداد! 

في حلقتنا التاسعة من هذا التقرير نصل إلى الفيلمين اللذين أخرجهما محمد راضى وفيهما تدور أغلب الحوادث فى الثكنات العسكرية، وملاجىء الجنود المحاربين، وكان على المخرج أن يخرج لبعض الوقت من هذه الأقبية، أو أجواء القتال من أجل إضفاء حس انسانى لأبطاله، ولعلها التجربة الأكثر خصوصية فى هذه السمة، بشكل أكثر كثافة من الأفلام التى تدور حول حرب أكتوبر.

وكان المخرج نادر جلال، قد تحمس بشدة لتقديم حرب أكتوبر فى أكثر من عمل، الأول هو "بدور" ثم "لا وقت للدموع" وقد قام المخرج نفسه بتأليف القصة وكتابة السيناريو والحوار للفيلم الأول حسبما جاء فى عناوين الفيلم الذى يعتبر من بواكير أعماله، ما يعنى أن المخرج اهتم منذ بداياته بعمل أفلام ضخمة التكاليف، وكانت والدته المنتجة مارى كوينى وراء هذه التجربة، وأغلب أحداث النصف الأول من الفيلم لا توحى بالمرة أننا أمام فيلم حربى، مثلما توحى الأحداث فى "الرصاصة لا تزال فى جيبى" فهناك وكر لعصابة، وفتاة تسمى بدور تنتمى إلى عصابة للنشل، والسرقة، وكأنما الفيلم ابان كتابته فى عام الحرب، لم يكن له أن ينحو نحو ما سوف يحدث فى الجبهة، فالأحداث طويلة، وأكتوبر وما حدث فيه يبدو كأنه مقحم على الموضوع، لكثرة التفاصيل التى رأيناها فى النصف الأول من الفيلم، وربما ثلثى الأحداث فالفتاة، تهرب من العصابة التى تعمل معها، وتلجأ إلى مجارى إحدى المناطق الشعبية، وهناك تلتقى مع صابر، عامل المجارى الذى يساعدها فى أن تختبىء من العصابة، لكنها لا تلبث أن تعود إلى وكر العصابة، وتعطى المعلمة محصول السرقة، وهنا يبدأ اللص ميمو فى التقرب إليها، لكن زميلتها انشراح تغار من هذه العلاقة، فهى تحب ميمو.. يتم القبض على بدور وتدعى أنها شقيقة عامل المجارى، فيتم الافراج عنها بضمانه وتعيش معه فى حى القلعة، فى المسكن نفسه تتعرف بدور على المعلمة أوسه، التى تحب المعلم، وينوى أن يتزوجها، يعرف ميمو مكان بدور فيذهب إلى الحارة وتدور معركة بين رجاله وبين رجال المعلم.

نحن نتوقف هنا عند تفاصيل الحكاية كى نؤكد أن السيناريو الأساسى لم تكن له أى علاقة بانتصار أكتوبر، وأن ما شاهدناه فى الفيلم قد أضيف إليه بعد العبور، وأغلب الظن أن هذا الجزء قد صور بعد أن تم تنفيذ كل هذه التفاصيل من القصة التى تدور فى عالم المجارى، وعصابات السرقة، وهو موضوع محبب كثيراً لدى صناع السينما والرواية فى العالم التقليدى. فعقب المشاجرة التى دارت بين ميمو وصابر، فإن بدور تهرب من حارة القلعة، ويستعيدها صابر، ويخطبها أمام الجميع، كى يبدو الجزء التالى منفصلا تماما عما سبق حكيه، فذات يوم يأتى شيخ الحارة إلى عامل المجارى، وهو يمارس عمله، ويبلغه إنه مطلوب للتجنيد، وحسب القصة، فانه تم ايضا تجنيد خصمه ميمو، وايضا فإنه تم الدفع بكل منهما إلى الجبهة، باعتبار أن بداية أحداث الفيلم تمت فى يوليو من عام 1973، ما يعنى أن الجنود لم يتلقوا التدريب الكافى، للذهاب إلى الحرب، لكنها القصة التى تم تعديلها، وفى العمليات العسكرية يلتقى صابر بخصمه القديم، وينمو العداء القديم، ويقدم الفيلم مشاهد من الحرب تؤكد أن صابر كان أحد أبطال العبور، ثم تنتهى العمليات العسكرية، ولا يعود صابر إلى الحارة، ويشاع أنه دفع حياته شهيداً.. فداء لوطنه، إلا أن ميمو يعلن أنه كان شريكاً له فى الحرب، وأنه لم يمت، وبالفعل يعود صابر ويتزوج من حبيبته.

يعنى هذا أن أغلب النصوص التى صورت حرب أكتوبر، لم تكتب فى الأساس لتكون افلاما عن انتصار المصريين فى الحرب، وانما تمت اضافة موضوع عبور الجيش المصرى الى الضفة الشرقية، إلى قصص جاهزة، وقد سبقت الاشارة إلى هذا الموضوع مسبقاً.

كما أن موضوع فيلم "الوفاء العظيم" لحلمى رفلة كما سبقت الاشارة فى أصله غير معنى بالحرب، فالموضوع حول ميراث الكراهية فى قصص عاطفية، لذا تم انتاجه أربع مرات فى السينما المصرية، آخرها عام 1974، ضمن موجة أفلام عن حرب أكتوبر، وقدمه حسن الامام فى شكله الرومانسى عام 1975، باسم "وانتهى الحب"، قام ببطولته أيضاً محمود ياسين الذى قام ببطولة ثلاثة من اربعة أفلام عرضت بمناسبة الذكرى الاولى للاحتفال العسكرى والوطنى بالعبور. فدائما تبدأ الحكاية بموت العاشق، والسبب هو ثأر أو رغبة طرف آخر فى منع الزواج بين رؤوف وسهى، يتربص لهذا الزواج شخص يريد أن يمنعه، حيث تنطلق الرصاصة، وتموت العروس، ويصاب العريس بصدمة، ويقرر عدم الزواج، إلا أن إبراهيم ينصح صديقه رؤوف بتبنى طفلة صغيرة يتيمة، تلك التى فقدت والديها فى الحرب، تصبح فيما بعد طالبة فى معهد الموسيقى ويصبح رؤوف والدها، ويكبر عادل ابن صديقه إبراهيم، ويصبح ضابطاً بالجيش يرغب ابراهيم أن يزوجها لابنه، لكن رؤوف يعارض فقد ارتبط بها عاطفيا، مثلما حدث فى فيلم "خلود"، تقابل ولاء جارها صفوت الضابط، بدأ بقصة حب، يذهب صفوت كى يخطب ولاء التى تشبه سهى كثيراً، ويعرف أن صفوت ابن قاتل عروسه، فيرفضه ويطرده، تقوم الحرب ويذهب صفوت إلى الجبهة ويتقابل مع عادل وتنشأ بينهما صداقة، ويعرف صفوت أن عادل زوج حبيبته، ويصاب أثناء العمليات ويفقد ساقه، يعرف عادل حقيقة الحب بين صفوت وولاء، ويقرر الانسحاب من حياة ولاء.

وكما نلاحظ، فإننا أمام قصة جاهزة، يمكن أن يضاف موضوع الحرب إلى الجزء الأخير منها، وهناك تشابه ملحوظ بين الخصومة بين رجلين متنافسين على قلب نفس المرأة وتكون صداقتهما أثناء العمليات العسكرية سببا فى أن يقوما بحل مشكلة عاطفية هما طرفان مشتركان فيها.

10 ـ سانجام الهندي يخطف حرب اكتوبر حتى آخر العمر!

صارت حرب أكتوبر هي الأيقونة التى يتبارك بها كتاب السيناريو، والمخرجون والمنتجون فى أفلام تلك الفترة التي تلت معركة العبور، خاصة عام 1975. فرواية "الكرنك" لنجيب محفوظ التى أخرجها للسينما على بدرخان، كانت حول سنوات مراكز القوى، ودور الاستخبارات فى فرض الأمن فى السنوات الأخيرة من عهد عبدالناصر، خاصة بعد نكسة يونيه. والرواية بمثابة رحلة مع طلاب الستينيات الذين استدعتهم الاستخبارات، وألقت عليهم التهم الأيديولوجية، تارة أنهم شيوعيون، أو اسلاميون.. ومن بين هؤلاء الطلاب الذين كانوا يلتفون حول كاتب بارز، هناك زينب، واسماعيل، وآخرون، والرواية محاولة لإدانة عصر عبدالناصر. فالأحداث تبدأ قبل هزيمة يونيه، وتنتهى مع بداية السبعينيات، أما الفيلم فإن كاتب السيناريو ممدوح الليثى قد أضاف أحداثا من بعيد حول حرب أكتوبر، فاسماعيل الذى عانى كثيرا فى أروقة السجون والمعتقلات، أصابه الذهول، والتحول، وها هو يقف أمام المستشفى الذى تعمل به حبيبته زينب، وقد بدا فى حال يرثى لها، وتراه زينب، وقد تخرجت فى كلية الطب، فتسرع إليه، وتدخله المبنى ثم تطلب من مديرها المباشر أن يضم اسماعيل إلى الكتيبة الطبية التى تعتنى بالجرحى والمصابين، تلك هى الاشارة الوحيدة الى حرب أكتوبر، وهى مضافة إلى الأحداث.

أى أن الفيلم تبدأ أحداثه، وتنتهى يوم السادس من أكتوبر، حيث تبدو الوقائع جميعها بمثابة استرجاع قصص التعذيب فى السجون التى لحقت بجيل الشباب فى الستينيات وتنتهى الأحداث بزينب، وهى تدخل المستشفى، كي تصحب حبيبها ليؤدى دوره الوطنى.

فى العام نفسه، قدمت السينما فيلما بطله أحد ضباط الطيران، أى أنه رجل عسكرى شارك فى الحرب، وأصيب فى العمليات. الفيلم يحمل اسم "حتى آخر العمر" عرض فى الذكرى الثانية لحرب أكتوبر، والفيلم مأخوذ عن قصة لكاتبة سورية، لا نكاد نعرفها اسمها تينا الرحبانى، وبالتالى فإننا لا نعرف أى معلومات عن القصة الأصلية، ومن المرجح أن كاتب السيناريو رفيق الصبان، سورى الجنسية، وهو واحد من أربعة كتاب سيناريو كتبوا الفيلم، منهم المنتج رمسيس نجيب، والمخرج اشرف فهمى ثم كاتب السيناريو المحترف محمد مصطفى سامى، الذى اشتهر بتحويل اشهر الروايات والمسرحيات الفرنسية إلى أفلام، وليس لدينا ما يؤكد المشاركة التى قام بها هذا الكاتب لسيناريو فيلم عن الحرب. لكن لا شك أن الحرب تبدو دخيلة هنا بشكل ملحوظ قياسا إلى فيلمى "أبناء الصمت" و"الرصاصة لاتزال فى جيبى"، فنحن أمام طبقة اجتماعية مختلفة كثيراً عن تلك التى شاهدناها فى افلام سابقة عن أكتوبر، فالبطلة الرئيسية هى من فتيات النوادى، خاصة هوليوبوليس، وهى محاطة بشباب من نفس المكانة الاجتماعية، منى معجبة بالشاب أحمد الذى لا يكاد يشعر بها، هو شخص أنانى، لا يكاد يرى إلا نفسه، وهو يفضل السفر إلى خارج البلاد، بحثاً عن فرصة عمل تدر عليه الأموال الكثيرة، دون أن يلتفت إلى عواطف منى، أما ضابط الطيران محمود، فهو يحب منى دون أن تشعر بأى عاطفة مثله، وهنا تبدو المشاركة التى أسهم بها محمد مصطفى سامى، يتقدم محمود لخطبة منى، وتوافق على مضض، بسبب انكسارها العاطفى ازاء ما فعله أحمد قبل أن يسافر. تعيش منى حياة زوجية سعيدة، يحفها الوفاء، والاخلاص، وبعد فترة يعود أحمد من الخارج، بعد فشله هناك، يعرف أن منى تزوجت، ويحاول التقرب منها، إلا أنها ترفض الاستجابة لاغراءاته، يظل يطاردها، خاصة فى غياب زوجها الذى يتم استدعاؤه إلى الجبهة، للمشاركة فى الضربة الجوية، ونرى مشاهد لما أنجزته الطائرات الحربية المصرية فى السادس من أكتوبر، ويصاب محمود ويصبح قعيداً، ويطلب من منى أن تنفصل عنه، وهو الذى كان قد قرر طلاقها عندما انتابته الشكوك فى علاقتها بأحمد قبل الاصابة.

الجزء الغالب من الفيلم، حول ترميم العلاقة بين الزوجين، مثل ترميم الساق المصابة من جراء العمليات، فمنى تقاوم بشدة أحد اصدقاء زوجها، حين حاول الاعتداء عليها فى الوقت نفسه يتجدد لديها الأمل فى شفاء محمود بعد عودة أحد الزملاء من الخارج، وقد شفى تماماً..

وبدت السينما المصرية كأنها قد فعلت ما عليها، من خلال التعامل مع حرب أكتوبر، وعلى المستوى الاجتماعى العام، فقد كانت ذكرى الحرب تأتى كل سنة، ويسترجع الناس ذكريات الحرب من خلال الأفلام، وفى فيلم "حب تحت المطر" هناك اشارات من بعيد، أن الشباب شاركوا فى العمليات العسكرية. وفى عام 1976، عاد نادر جلال إلى الحرب مرة أخرى، فأخرج فيلمه "لا وقت للدموع" الذى اقتبسه عبد الحى أديب، عن الفيلم الأمريكى "جسر ووترلو" لميرفن ليروى عام 1939، وهو الفيلم الذى نهل منه كتاب السيناريو فى مصر الكثير من افلام تدور حول الحروب التى خاضتها مصر ضد اسرائيل، ومنها فيلم "الحياة الحب" لسيف الدين شوكت 1953، و"وداع فى الفجر" لحسن الإمام 1956، و"غدا يوم آخر" لألبير نجيب، وتدور القصة الاصلية، حول فتاة تعمل فى الهوى، بعد أن جاءتها الأنباء أن حبيبها دفع حياته فى الحرب العالمية الأولى.

فى الفيلم المصرى، كانت الشخصية الرئيسية، هى الفتاة عزة، التى تعمل راقصة استعراضية فى إحدى الفرق الفنية الصغيرة، التى التقت بضابط الصاعقة فى الطريق الصحراوى، بعد أن تعطلت سيارتها، فهب إلى مساعدتها، وقام بتوصيلها إلى مكان عملها بسيارة الجيش، وفى اليوم التالى يأتى إلى مبنى الفرقة المسرحية التى تعمل بها، ما يسبب متاعب مع مديرة الفرقة، وهى سيدة شديدة الحزم، وتطرد عزة، وزميلتها صفاء التى تدافع عنها، وقبل أن تتم خطبة حازم وعزة يتم استدعاؤه إلى الجبهة، ويشارك فى العمليات العسكرية لحرب أكتوبر، وسرعان ما تأتى الأخبار أنه مات، وذلك عن طريق زميله عمرو الذى جاء من الجبهة لابلاغها بالخبر. تحاول عزة الانتحار لكن يتم انقاذها، تعمل راقصة فى الملاهى الليلية، وتعمل معها صفاء، وبعد فترة طويلة من السقوط، تفاجأ أن حازم لم يمت وأنه عاد من الحرب.. يطلبها للزواج، ويقدمها إلى أمه التى تود لابنها فتاة ذات حسب، وماض نقى، ودون أن تعرف شيئا عن حقيقة عزة، لذا فإنها تبدى اعجابا بها، إلا أن عزة تقرر حماية حبيبها من ماضيها وتنتحر.

وكما نرى، فإن حرب أكتوبر هنا، صارت ديكوراً وطنياً لقصة حب.. أحب الناس مزيجها الميلودرامى، وهى أيضاً القصة نفسها التى رأيناها فى الفيلم الهندى الشهير "سانجام"، وكما نلاحظ فإن الحرب ليست الحدث الرئيسى، ولكنها السبب فى فراق العاشقين، وهى التى دفعت بظروفها، الفتاة إلى أن تكون فتاة ليل، ونحن هنا أمام قصة فردية ولا ندخل فيها إلى أتون الحرب، والعمليات العسكرية. لذا فإن مثل هذا النوع من القصص يصلح لكافة الحروب، بكل ما فى الحرب من عمليات عسكرية، وبطولات وانتصارات أو هزائم.

11ـ التطبيع ... بديل النصر.. في وجهات نظر .. سينمائية 

مع تغير الأمور بشكل ملحوظ بحكم مرور السنوات صارت ايام الجندية، والحرب بمثابة ذكرى، بعد أن عاد الجنود إلى بيوتهم.. وراحوا يمارسون حياتهم المدنية، وبدأت الحرب تبتعد عاماً وراء آخر، واستجدت أمور فى الحياة، بعيدا عن الحرب حتى أعلن الرئيس السادات عن نيته للذهاب إلى مدينة القدس فيما يشبه أحداث يوم القيامة، وظهرت صراعات جديدة فيم سمى بالتطبيع مع اسرائيل، وهو الموضوع الذى سنلحقه بهذه الدراسة، حيث أنه من أبرز توابع قيام حرب أكتوبر. وقد جرت المباحثات بين الطرفين المصرى والاسرائيلى سواء على الجانب العسكرى او السياسى على أساس أن المصريين هم المنتصرون من وجهة نظرهم، وان الاسرائيليين حققوا نصرا خاصا بهم من خلال الثغرة، وهو الموضوع السياسى والاجتماعى الذى ركز عليه فيلم "كتيبة الاعدام" لعاطف الطيب 1989، وهو المخرج الذى أشار فيلمه "سواق الاتوبيس" عام 1984 إلى ما سمى بشركاء القروانة، أى ماذا آلت إليه مصائر الذين كانوا فى التجنيد ابان حرب أكتوبر. ففى مشهد مؤثر توجه أربعة من زملاء القروانة إلى سفح الهرم فى أحد لقاءاتهم المتكررة، يسترجعون الذكريات، ويروون كيف فعلت بهم الحياة المدنية.

فى فيلم "كتيبة الاعدام" الذى كتبه أسامة أنور عكاشة نرى ما يسمى بحرب الثغرة، حيث تمكنت قوات اسرائيلية من دخول مدينة السويس، وصار المصريون يمارسون أعمال المقاومة. فى هذه الظروف راح العدو يجمع المعلومات عن رجال المقاومة الذين رفضوا أن يهجروا المدينة، وعن طريق أحد عملاء العدو من المصريين، وهو فرج الاكتع عرفوا أن سيد الغريب هو الرجل الذى جمع حوله أبطال المقاومة، فوضعوا خطة عن طريق عميلهم للتخلص من سيد وابنه، والآخرين معه أثناء الليل، ونجحت الخطة وقتلوا "سيد" وآخرين، ولم يبق على قيد الحياة سوى حسن عز الرجال.. لكن الشبهات تحوم حول حسن فيتهم بالتواطؤ مع العدو الاسرائيلى لقتل سيد وابنه، والاستيلاء على المبلغ الضخم لمرتبات قوات الجيش، التى كان سيوصلها سيد الغريب إلى رجاله. لكن ليس معه دليل على براءته.

تبدأ أحداث الفيلم بخروج حسن عز الرجال من السجن، حيث قضى هناك أربعة عشر عاما، ولديه أمل واحد ان يبحث عن ابنه الوحيد هانى ليثبت براءته، لكنه لا يجد الزوجة ولا الابن.. الأحداث هنا تبدأ بعد نهاية الحرب بأربعة عشر عاما، وهناك فى زمن معاهدة كامب ديفيد، أكثر من طرف، يمثلون الأبناء الذين يبحثون عن القتلة المهربين الخونة للانتقام منهم، أى أن ما حدث فى السويس عام 1973، لايزال أثره موجودا فى نفوس الأبناء، مثل نعيمة ابنة سيد الغريب التى تبحث عن قتلة ابيها. أما حسن فمنذ اللحظة الأولى لخروجه من السجن والشرطة تلاحقه للحصول على المبلغ الضخم المسروق من الجيش، ويقوم الضابط يوسف بتعذيب حسن، فهو يريد المبلغ لنفسه، لكن حسن لا يعترف بشىء. تعرف نعيمة أن الاكتع الذى كان يعيش فى السويس عين للعدو على رجال المقاومة، وكان سبباً فى موت الشهيد سيد وابنه، وحصل على ثمن خيانته من أموال الجنود، وأصبح الاكتع من كبار رجال الأعمال، ومعروفا باسمه الحقيقى أبو خطوة، يتأكد الضابطان يوسف وكمال من براءة حسن، ويقفان إلى جانبه، وإلى جانب نعيمة التى لم تكف البحث عن قتلة ابيها واخيها. وفى لحظة واحدة يقوم أربعة باطلاق الرصاص على أبو خطوة.. هم الضابطان ونعيمة وحسن، ويتم الانتقام من الرجل الذى خان وطنه لصالح العدو الاسرائيلى.

فى فيلم "ايام السادات" لمحمد خان عام 2002، تم تصوير بعض أحداث حرب أكتوبر باعتبارها الجزء الاكثر أهمية فى مسيرة الرئيس أنو السادات. وبالاضافة الى العمليات العسكرية فإن الفيلم صور جانبا خلفيا من حياة الرئيس، خاصة عندما جاء أخوه الطيار عاطف ليبلغه أنه سوف يكون أول المشاركين فى الطلعة الجوية، ويمازح أخاه، قبل أن يغادره، ويكون أول من يدفع حياته فى الجو فداء لدفاعه عن وطنه.

لقد ذهب الحاكم إلى إسرائيل , وقامت الدنيا في كل أنحاء العالم ..

ووقع معاهدة سلام مع دولة اغتصبت الأراضي العربية , وصارت هناك علاقات دبلوماسية , وجاء سفير بدا متعاليا على المصريين, وشوهد في أكثر من محفل ثقافي, خاصة معرض الكتاب بالجزيرة, واعتبر الإسرائيليون أن أول الدبلوماسيين الذين جاءوا إلى مصر بمثابة مغامرين .. وجاء الدور على طوائف عديدة من الشعب من أجل السفر إلى إسرائيل ..

وهنا ظهر مصطلح " التطبيع ", أطلقه المثقفون, ووقفوا بالمرصاد لعدو الأمس الذي دخل الوطن معه أربعة حروب, فطرد السكان الأصليين, واستوطن القادمون من أنحاء متفرقة في العالم ما أسموه بأرض الميعاد, وصارت المفاوضات فقط على ما تم احتلاله بعد عدوان 1967. وفي الوقت الذي أتى فيه الإسرائيليون, خاصة رجال السياسة والسياحة, فإن المثقفين وقفوا بالمرصاد لإقامة أي علاقات مع إسرائيل, خاصة في المجال الثقافي.

وفي وقت رأى فيه رجال الاقتصاد أن المال ليس له وطن, وقامت بعض العلاقات التجارية مع إسرائيل, فإن المثقفين كانوا دائما بالمرصاد, ليس فقط ضد الصلح, ولكن ضد من يحاول أن يخرجه عن إطار الورق, والتوقيعات الشكلية .. وحاول المثقفون دوما من خلال مواقف إسرائيل العسكرية ضد الفلسطينيين, وفي جنوب لبنان إثبات أنه لا سلام .. وأعلنوا أنهم لن يقيموا التطبيع مع إسرائيل حتى تعود الأراضي المحتلة. وفي بعض الأوقات كانت الدولة تتعامل بدبلوماسية واضحة مع الأمر, حيث تقف مع المثقفين, الذين يناصرون الرئيس الاسبق مبارك في أنه لم يذهب قط في زيارة لإسرائيل, سوى في زيارة عابرة, وجوبية لحضور جنازة إسحاق رابين, وبدا هنا أن موقف الدولة يتفق تماما مع موقف المثقفين إبان السنوات التي تولى فيها نتنياهو رئاسة وزارة إسرائيل, فبدا شخصا غير مقبول, وأنه يحمل عداء سافرا للعرب, وكم شككت القيادة العليا في مواقفه. وفي هذه الفترة بالذات توحد الموقف السياسي مع موقف المنادين بعدم التطبيع مع إسرائيل.

في هذه الفترة، صارت البطولة تتمثل في الموقف المتشدد ضد اسرائيل, وتساهلت الرقابة, خاصة في السينما, ووجد خصوم التطبيع الفرصة متاحة لهم للتعبير عن آرائهم بشكل جماهيري, وكانت عملية مقاومة التطبيع قد عاشت انتكاسة ملحوظة, حين ذهب إلى إسرائيل مخرجون وكتاب سبق لهم أن أشعلوا قلوبنا حماسا بأفلامهم, وكتاباتهم, ومنهم على سالم الذي كتب " أغنية على الممر " مسرحية وفيلما, ثم حسام الدين مصطفى مخرج فيلم " الرصاصة لا تزال في جيبي", وقد بدا الاثنان ثابتين على موقفهما من مناصرة التطبيع ولم يتراجعا عنه يوما.

وطوال سنوات كان التطبيع لا يناقش إلا على نطاق ضيق, في المحافل الثقافية, وبعض صحف المعارضة, بينما بدت الصحف القومية كأنها تناصر التطبيع, أو تقف منه موقفا حياديا, خاصة أن رؤساء تحرير الكثير من الصحف زاروا اسرائيل بشكل رسمي.

12ـ أفلام الجاسوسية في مواجهة التطبيع وكشف مساوئه 

السينما هي الفن الوحيد الذي يلهب مشاعر الناس, ويوقظ فيهم الإحساس الجماعي تجاه أي موقف وطني وشعبي. وهذا مافعلته السينما عندما التزمت مبدئيا وفكريا بضرورة عدم التطبيع مع اسرائيل, ومن ثم بدأت الظاهرة بأفلام, بالإضافة إلى مسلسلات تلفزيونية, تذكر الناس بالعداء القديم والحديث بين العرب واسرائيل, سواء في مجال الجاسوسية, أو في مجالات عديدة. فقدمت السينما بشكل مكثف الجاسوسية المتبادلة بين مصر واسرائيل في أفلام عديدة , منها " فخ الجواسيس " و" بئر الخيانة " و" إعدام ميت ", ثم " مهمة في تل أبيب ", و"48 ساعة في اسرائيل " و" الكافير". وكانت هذه الأفلام قد حاولت استثمار نجاح مسلسلات وطنية من طراز "الدموع في عيون وقحة", و"الحفار" و"رأفت الهجان" و"السقوط في بئر سبع".

وبعيدا عن الجاسوسية, فإن هناك أفلاما عديدة أشارت إلى أن الخطر القادم من اسرائيل دون الإشارة بوضوح إلى ذلك, مثل فيلم, " الحب في طابا " لأحمد فؤاد, حيث آثار الفيلم فكرة أن التطبيع الجنسي مع نساء قابلوهن في سيناء أصاب الشباب بمرض الإيدز الفتاك, ما آثار التحذير على المستوى الوطني.

وفي فترة زمنية بعينها لم تكن الإشارة واضحة إلى أن الخطر قادم من اسرائيل, وكان على المتفرج أن يفهم الأمر ضمن معطيات خاصة مطروحة في الفيلم. فالنساء الثلاث اللاتي نقلن الإيدز إلى المصريين أشرن إلى أسمائهن العبرية, بعد أن ضاجعن الرجال, وقبل أن يختفين من حيواتهم.

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد, فهناك أفلام عديدة, حول تهريب المخدرات, أشارت إلى أن المخدرات تأتي إلى مصر عن طريق البوابة الشرقية. وهناك أفلام تحذيرية من توغل العبرانيين في مصر بعد الصلح, مثل فيلم " العصابة " لهشام أبو النصر, ثم فيلم " الغيبوبة " لنفس المخرج الذي أشار بوضوح إلى الاسم العبراني لمهرب المخدرات الذي يسلم الشحنة إلى الشباب المصريين, وهو فيلم لم يعرض بعد رغم إنتاجه منذ عام 1998.

كانت فترة حكم نتنياهو بمثابة المساحة الذهبية لأنصار اللاتطبيع, كي يقدموا ما لديهم من أفكار, وأعمال, وتم حرق علم اسرائيل على الشاشة ضمن أحداث فيلم جماهيري, المفروض أن أحداثه تدور في الجامعة الأمريكية. كما تم عمل فيلم كامل عن التطبيع مع إسرائيل, وهو فيلم تعطل كثيرا في التنفيذ, ومن بينها أن الرقابة كانت لها بعض الملحوظات. وفى فيلم "السفارة فى العمارة" وجد مواطن مصرى نفسه يسكن إلى جوار السفارة الإسرائيلية ويدفع ثمن هذا الجوار.

الفيلم الأول هو " صعيدي في الجامعة الأمريكية " إخراج سعيد حامد 1998 وفيه تتوقد مشاعر الطلاب المصريين أيا كانت انتماءاتهم, أو مشاعرهم, أو بيئاتهم, ضد الأستاذ الجامعي, المصري الأصل, الذي ينتقد المصريين دوما. وقد كتبت حسن شاه في أخبار النجوم – 15 أغسطس 1998 – أن أستاذ الجامعة المصري الذي يحمل الحقيبة الأمريكية يتحدى مشاعر الطلبة المصريين, وهو يلقي محاضرات عن اتفاقية الجات, وهناك طالب اسمه أحمد يعقد الاجتماعات ويوزع المنشورات ضد السياسة الأمريكية داخل حرم الجامعة الأمريكية .. وفي البداية لا ينضم خلف دهشوري (محمد هنيدي) إلى تيار المعارضين لأمريكا, لكنه لا يلبث أن يفعل عندما ما يصل التحدي إلى أقصاه ويقاطع الطلبة الأستاذ, حتى خطيبة الأستاذ تخلع دبلة خطيبها، وترتفع فى فناء الجامعة الامريكية لوحات تنادى "عاشت فلسطين" ويقوم دهشورى بحرق العلم الاسرائيلى كرد فعل طبيعى وسط التصفيق من زملائه أو فى قاعة السينما. 

وقد نقلنا هذه الفقرة للناقدة, لأنه أيضا في نفس الحفل الذي شاهدنا فيه الفيلم, صفق المشاهدون بنفس الحماس, إذن .. فقد أوقظ الموقف مشاعر عامة بالعداء ضد اسرائيل .. وأنه من الصعب التطبيع مع اسرائيل في ظل أي ظروف .. وقد تكررت هذه الرؤية في كتابات الكثير من النقاد, مثلما صاغ حسن عطية مقالة عن الفيلم في نفس الجريدة في 22 أغسطس 1998, قائلا: إن خلف الدهشوري اعتصم مع زملاء له بحرم الجامعة الامريكية في الذكرى الخمسين لاغتصاب فلسطين, ويهاجمهم رجال الأمن أثناء تظاهرهم الطلابي, والذي يشاركهم في أنه صوت الوطني البسيط غير المسيس, وأن الحياة لم تعد كما كانت لحظة التحاقه بالجامعة, وإن العولمة التي كان يسخر منها في أغنية ساخرة لها تأثير حتمي على مستقبله .
وقبل أن نذكر مجموعة آراء في الفيلم, من المهم أن نشير أن مشهد حرق العلم تمت إضافته أثناء تصوير الفيلم, لأن السيناريو كان مكتوبا بشكل جاهز دون هذا المشهد قبل أشهر من تصويره, وأنه حسب تطور الأحداث, فإن الفيلم يمكنه أن ينتهي عام 2001, أي أن هناك ضغطا في الزمن الفيلم, حدث من أجل إضافة هذا المشهد. ولا شك أن ميلاد هذا المشهد جاء مع تصاعد مشاعر العداء الشديدة لنتنياهو, حيث وصلت إلى قمتها مع بلوغ نكبة فلسطين عامها الخمسين. هناك احتفالات ضخمة في إسرائيل, وشعور بإحباط شديد في الوطن العربي, لذا جاء المشهد متوافقا مع الشعور العام في مصر , والعالم العربي .

13ـ ظلال الشهداء تغلف "فتاة من إسرائيل"

كان الاحساس الوطني العام دافعا للعاملين في فيلم " فتاة من اسرائيل " إلى عرضه أوائل عام 1999. ففي هذا التوقيت بالذات, كان نتنياهو لا يزال في الحكم, يصول ويجول عداء للعرب وبأسلوب شديد التعنت, وتغير عنوان الفيلم من " ظل الشهيد ", إلى " فتاة من إسرائيل "، حيث بدت الخصومة شديدة وحيث كانت نادية الجندي قد قدمت قبل ذلك بأشهر قليلة فيلمها 48 ساعة في اسرائيل.

الفيلم كما هو معروف مأخوذة عن رواية قصيرة نشرها الكاتب محمد المنسي قنديل ضمن ثلاث قصص, وكان اسمها " الوداعة والرعب ", وتدور القصة الأصلية في مصيف فارنا, حيث تفاجأ أسرة مصرية بأن ابنها الوحيد وقع في حب ابنه الأسرة الإسرائيلية التي جاءت للتصييف أيضا. إذن فاللقاء هنا جاء مصادفة, وذلك بعكس الفيلم, الذي ذهبت فيه نفس الأسرة, المكونة من زوجين, وابنهما الوحيد, إلى فندق طابا ( سونستا سابقا ) ولابد أنهم يتوقعون أن يلتقوا بإسرائيليين في كل مكان بالفندق, وفي طابا بشكل خاص.

وفي القصة, فإن الأب يقف بكل حزم أمام العلاقة الإسرائيلية المصرية, فسعى إلى أن يوئدها, لإحساسه بالوطنية, ولأن أسرته فقدت ابنا لها في الحرب.

ومثلما سعى فيلم " صعيدي في الجامعة الأمريكية " لسعيد حامد إلى الاستفادة من مناسبة سياسية حدثت وقت تصوير الفيلم, فإن " فتاة من اسرائيل" لإيهاب راضي 1999 بدأ بوقائع حقيقية عن أحداث نشرت في الصحف حول قيام قائد إسرائيلي بدفن جثث لجنود مصريين في الرمال بعد أن قتلهم عنوة. وجعل الفيلم الابن الأكبر أحد هؤلاء الجنود الذين قاموا بعمل حفرة واسعة, تحت تهديد السلاح, وعن طريق الرصد والإصرار, قام جنود القائد الإسرائيلي بإطلاق النيران على المصريين, فتهاوى الجميع داخل المقبرة الجماعية, وسرعان ما جاءت جرافة اسرائيلية كي تهيل الرمال فوق جثث الشهداء الأبرياء.

الحدث الحقيقي, ماثل في أذهان المشاهدين, إذن فلابد من المشهد الأول أن تتولد مشاعر العداء, وأن تصحو الخصومة القديمة, مهما كان السلام الموقع بين الدولتين. هناك فارق وحيد بين الحادثتين, أنها في الواقع دارت عام 1967, وفي الفيلم حدثت إبان حرب أكتوبر. لكن الفارق واضح بين الفيلم والرواية, يغير من المناظير السياسية والسينمائية, وإن كان الاثنان يقفان ضد التطبيع بقوة, لكن أمر التطبيع في الرواية, أسرى, مرتبط في المقام الأول بزوجين فقدا ابنهما في الحرب, ويمكنهما أن يفقدا الثاني في السلام. أما في الفيلم، فإن التطبيع هنا جماعي, أي يرتبط بمجموعة من الأصدقاء والزملاء, اجتمعوا في إجازه صيف في طابا, وهناك مواجهة لابد أن تحدث بين مجموعتين من الطرفين, شباب إسرائيلي, ثم قصة الحب التي ستتولد بين طارق, والفتاة الإسرائيلية.

وقبل أن نتوقف عند الفيلم, يهمنا التعرف على بعض المتاعب الرقابية التي قابلته, حيث يتحدث المخرج إلى مجلة " فن " في 24 / 11 / 1997, أي قبل عرض الفيلم بعامين ونصف وقبل أن يظهر إلى الوجود فيلم " صعيدي "، فيقول : لأننا نتوغل في منطقة فكرية تقبل الخلاف, حدث الصدام, في فترة ما, مع الرقابة, حيث حدث أن إحدى الرقيبات بنت رفضها للسيناريو بقولها : لا ينبغي أن نقترب من هذه المنطقة باعتبارها سياسة دولة, إن المسألة لا تتصل بمعايير موضوعية نقيس عليها الرفض والقبول خصوصا عندما نعلم أن موضوعات كثيرة أخطر ألف مرة في توجيهاتها من تناول موضوع التطبيع, كالبطلات العاهرات والراقصات الشهيرات, وكلها مرت من تحت أيدي الرقابة ولم يحدث لها ما حدث لموضوع بطلته أم الشهيد. 

الموضوع إذن حسب سياسة الدولة العليا, كان ممنوعا في فترة, ثم أضيء له النور الأخضر في فترة أخرى.. وكما أشرنا في بداية الحديث فان التطبيع مسألة ثقافية, وموقف مثقفين. وقد تمت كتابة السيناريو للتأكيد على مسألة الموقف الجماعي من التطبيع, وذلك من خلال مجموعة الأشخاص الذين أستقلوا الأوتوبيس السياحي لقضاء أجازة صيف سريعة في طابا.

وهؤلاء الأشخاص يمثلون جيلين بارزين, أحدهما عاش الحروب الاخيرة, ودفع ثمنها غاليا, والثاني ولد في زمن السلام, ولم يتضح رؤى وأبعاد العداء القديم مثلما كان قبل ثلاثين عاما على سبيل المثال.

الجيل الأول ليس رافضا للتطبيع كله, ويمثله طرفان, الطرف المصري, والطرف الإسرائيلي. المصري هو الأب عبد الغني وزوجته, الرجل مدرس تاريخ يحفظ جيدا أبعاد الصراع السياسي والتاريخي بين العرب وإسرائيل في المنطقة, وقام بتدريس التاريخ في مراحل مختلفة, منذ أن كانت اسرائيل هي العدو الأول للوطن العربي, ثم جاءت فترة تم حذف ما يشير إلى العداء من كتب التاريخ, وهذا الأب فقد ابنه في الحرب, ويعاني من أحزان جمة, خاصة أن زوجته لا تزال ترتدي ثوب الحداد على ابنها ولا تزال ملامح الحزن مرتسمة على الوجه.

وهكذا صار الموضوع يتجدد ، فطالما ان السينما قالت كلمتها من خلال الافلام التى تحدثنا عنها، حول الحرب نفسها، فلابد لأفلام العقود التالية ان تذكر الناس بالعداء السافر بين اسرائيل والعرب، وقد رأينا الصراع يتجدد فى افلام مهمة منها "السفارة فى العمارة" لعمرو عرفة 2006، "ولاد العم" لشريف عرفة 2008، وغيرهما من أفلام جيدة..

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)