أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

القديم.. الجديد

سينما الطريق

البحث عن أفق *

ترجمة وإعداد: أمين صالح **

(1)

هل فيلم الطريق road movie نوع سينمائي كما الحال مع الفيلم التاريخي والبوليسي والكوميدي والويسترن والرعب.. إلخ؟ أم أنه مجرد مفهوم عام ومطاط، ويمكن استيعابه في أنواع أخرى قائمة ومعروفة الأسس والمعطيات؟

البعض ينظر إليه كنوع فني مستقل، له أسسه وخصائصه ومميزاته. ووفق معايير خاصة، يمكن وضع فيلم ما ضمن هذا التصنيف أو استبعاد فيلم آخر لا تتوفر فيه الشروط المطلوبة، حتى لو كانت معظم أحداثه تدور في الطريق، ذلك لأنه يفتقر إلى الروح والخاصية والعناصر التي بها يمكن تمييز النوع، وعلى أساسها يجرى التصنيف. فيلم مثل Speed لا يمكن تصنيفه ضمن هذه النوعية رغم أن جلّ أحداثه تدور في الطريق. كذلك فإن أغلب أفلام العصابات تستخدم الطريق إما لتهريب الممنوعات أو لتصوير المطاردات بين الشرطة والعصابات، بمعنى أن الطريق هنا موقع تصويري فحسب، وليس وسيلة سفر للبحث عن معنى الحياة (الأساس الذي يقوم عليه فيلم الطريق)

هؤلاء يحددون فيلم الطريق من زاوية أن أحداثه تدور في الطريق أثناء رحلة طويلة، لا يمكن التنبؤ بمسارها أو بنتائجها، تقوم بها شخصيات الفيلم عبر وسائل نقل أهمها السيارة. وهذه الرحلة، في جوهرها، هي محاولة اكتشاف للذات، بحث عن معنى الحياة، سعي وراء حلول أو أجوبة على أسئلة تتعلق بالحياة والموت والوضع البشري، نشدان للخلاص، انطلاق نحو الأفق.. نحو فجر جديد. وفي الطريق يواجهون تحديات شتى، ويخوضون في المغامرة التي قد يكتسبون من خلالها معرفة جديدة أو صحوة وعي ذاتي أو ربما تفضي بهم إلى نهاية مأساوية.  

بينما البعض الآخر لا يميل إلى تصنيف مثل هذا الاتجاه كنوع سينمائي محدد الملامح وواضح المعالم، ذلك لأن أفلام الطريق تشمل عناصر من أنواع أخرى، ففيها تنعكس أساليب متعددة تنتسب إلى أنواع معروفة: كالنوع البوليسي (مثل فيلم هتشكوك north by northwest) أو النوع الكوميدي (مثل فيلم "إنه عالم مجنون مجنون") أو النوع المرعب (مثل فيلم "كاليفورنيا").. بالتالي لا يمكن تجميع أفلام متباينة الطابع والمظهر، مختلفة في الأسلوب والمعالجة، ووضعها في خانة واحدة واعتبارها نوعاً محددا ومميزا.

ونحن لن نتوقف طويلا عند هذا الجدل الذي قد لا ينتهي أو لا ينحسم، ولن نسعى إلى تغليب طرف على آخر، أو تبنّي وجهة نظر مقابل إلغاء الأخرى، فمثل هذا الجدل لا يعنينا هنا كثيرا بقدر ما يعنينا البحث عن سمات أفلام الطريق وغاياتها واتصالها بالبعد الإنساني في سياق الرحلة التي يقوم بها البشر من أجل الاكتشاف أو التحرر أو تعيين الهوية أو غيرها من الأهداف المتعددة والمتباينة.  

(2)

مع أن فيلم الطريق تمتد جذوره إلى الحكايات الأولى في الرحلات الملحمية منذ "أوديسة" هوميروس، إلا أن بالإمكان تحديد انتشاره، سينمائيا، وبالذات في السينما الأمريكية، في الفترة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتعكس ازدهار صناعة السيارات والاستخدام الواسع لها، وبروز الثقافة الشبابية والطليعية وما رافقها من تمرد وسعي للتحرر من كل أشكال الكبح.

وعلى الرغم من أن المحاولات الجنينية لما يُعرف بسينما الطريق بدأت في فترة الركود الاقتصادي في الثلاثينيات من القرن الماضي، إلا أن هذا الاتجاه لم يحقق حضوره بكثافة إلا اعتبارا من سنوات الستينيات حيث شهدت الشاشة أفلاما تدور كل أحداثها في الطرقات العامة، مثل "الركوب السهل"easy rider و"بوني وكلايد".. مع انتشار فلسفات وأفكار وتأملات جديدة، تتصل بالوجود والحرية والثورة والعائلة، تبنتها مجموعات راديكالية مثل الهيبيين والسود والمثليين والأقليات العرقية وفناني البوب.

(3)

الطرقات، بكل أشكالها وأنواعها وتضاريسها، هي جزء من حياة البشر الاجتماعية والثقافية. الطرقات توصل المرء من نقطة إلى أخرى، من بيت إلى بيت، كما تصل المدن بالمدن.

في منتصف القرن التاسع عشر، راح السكان في أمريكا يبحثون عن أراض جديدة حيث العشب والمرعى، دون أن تمنعهم التخوم أو تقيدهم الإجراءات البيروقراطية. كان السفر والترحال متاحا للجميع. أرض شاسعة مفتوحة أمام البشر. كانت تغويهم بالكنوز المخبوءة وسحر المغامرة وبهجة الاكتشاف. كانت الفرصة سانحة للمغامرين والمقامرين والباحثين والراغبين في اكتشاف المجهول ورؤية مناطق أخرى، واسعة وغير مستكشفة من بلادهم، لأن يباشروا في الانتقال، في السفر، عبر الطرق الوعرة والشائكة والعدائية. ولكي يصلوا إلى الجنة المتخيلة، كان عليهم أن يقهروا الأعداء والكواسر واختلاف المناخات والأمراض ومخاطر الطريق.

كانت العربات تزحف شرقا وغربا، وفي طريقهم كانوا يكتشفون المدن، يشيدون الممرات، يزرعون الأرض، يمدون الصحراء بسكك الحديد، ويبنون حياة جديدة.

الحرية والثروة والاكتشاف.. كانت الغايات الأساسية للسفر. الطريق، كمفهوم، يعكس تلك الغايات.

تلك الطرق، سلكها أيضا أفراد بلا موطن، بلا جذور. مشردون وعاطلون عن العمل يبحثون عن المأوى والعمل والأمل.. حدث ذلك في فترة الكساد الاقتصادي في الثلاثينيات من القرن العشرين.

(4)

الطرقات، في السينما، قد تلعب دورا أساسيا حيث حضورها المهيمن والمؤثر، وقد تلعب دورا عرضيا أو ثانويا أو هامشيا.

والطرقات تختلف وتتباين في طابعها وطبيعتها وأجوائها و تأثيرها، وذلك وفق نوع الفيلم ومزاجه في المحتوى والشكل. قد يكون الطريق سهلا ومثيرا للبهجة (كما في الأفلام الكوميدية) وقد يكون مهددا ومخيفا (كما في أفلام الرعب) وقد يكون كثير الوعورة والالتواءات (كما في أفلام العصابات والأكشن) أو رحبا وشاسعا ومفتوحا (كما في أفلام الويسترن).

في الفيلم الكوميدي "طائرات وقطارات وسيارات" نرى إثنين من رجال الأعمال، الغريبيْن عن بعضهما والمتناقضيْن في كل شيء، ينجحان ليس فقط في تخطي كل المصائب والكوارث التي تواجههما أثناء رحلتهما الشاقة في الطرقات محاولين العودة بأي ثمن إلى البيت، إنما أيضا يوطدان بينهما صداقة قائمة على الاحترام بعد تنافر وتنابذ ومشاكل لا تحصى.

في فيلم "باريس تكساس" للألماني فيم فيندرز، الطريق هو انعكاس لرحلة ذاتية، باطنية، أكثر مما هي رحلة بحث عن المدينة الفاضلة. فيلم كهذا يضعنا أمام شخصيات محاصرة في منتصف الطريق، لا تعرف أي اتجاه تسلك، فاقدة الإحساس بالغاية وبالوقت، وفاقدة الاتصال بمحيطها وواقعها.. وربما هي لا تريد أن تصل إلى أي مكان.

(5)

أفلام الطريق، في السينما الأمريكية، هي تعبير عن الحياة الأمريكية، الاجتماعية والثقافية، ومن خلالها تنعكس صورة أمريكا كما عرفها العالم.

الكثير من أفلام شارلي شابلن مرتبطة على نحو مباشر بالطريق، حيث الفرص والشراك معاً تصادف المتشرد الوحيد أينما سار أو حلّ.

أحد أفلام الطريق الأولى "عناقيد الغضب"(1940) للمخرج الكبير جون فورد، والمأخوذ عن رواية جون شتاينبك. والفيلم يحكي عن الكارثة الاجتماعية الكبرى التي حلـّت بالبلاد بعد إخلاء الأماكن الزراعية من الناس والنبات. هذه الكارثة، مع الركود الاقتصادي الذي اجتاح البلاد، أدت إلى تشريد آلاف من السكان ودفعهم إلى الهجرة إلى مناطق أخرى بحثا عن العمل وعن حياة أفضل.

"ساحر أوز" (1939) فيلم طريق من نوع مختلف. البطلة هنا تسلك طريقا سحريا تقريبا للبحث عن المدينة السحرية أوز، حيث كل الألغاز تجد تفسيرا لها، وكل المعضلات تجد حلولا لها، وكل الصلوات تُستجاب. وفي هذه المغامرة تلتقي أصدقاءً رائعين، وتصادف السحرة والكثير من المحن. لكن يتضح أن أوز مدينة وهمية، زائفة.

(6)

مفهوم فيلم الطريق ليس حكرا على السينما الأمريكية (رغم أنه يتجلى على نحو أوضح وأكثر كثافة في هذه السينما) إذ نجد أفلاما في السينما العالمية تنتمي إلى هذا المفهوم أو النوعية، كمثال:

فيلم "لاسترادا" (الطريق) للإيطالي فلليني، واستخدام برتولوتشي للطريق، في فيلمه "الإمتثالي"، كوسيلة للربط بين ماضي الشخصية وحاضرها.

أفلام الألماني فيم فيندرز حيث شخصياته اللا مبالية، اللا منتمية، تجوب الطرقات بلا هدف..

الأفلام الفرنسية التي صورت الطرقات السريعة كمجاز للوضع العام المضطرب، كما في فيلم جودار "ويك إند"، و عالجت بحث الشباب عن حياة جديدة عبر الانتقال من مكان إلى آخر.

الفيلم الياباني "السوناتة القصيرة" يكشف الطريق عن غياب المناقب الأخلاقية عند رجال العصابات الذين يتجردون من كل شيء، بعد أن ضجروا من حياتهم ومن أنفسهم، ويتركون مواقعهم المريحة التي تآلفوا معها ليسلكوا طريقا مجهولا لم يستكشفوه من قبل، وهم يواصلون التحرك في هذا الطريق لكي يتجنبوا مواجهة ذواتهم، وهم يدركون أنهم في النهاية لن يجدوا الخلاص.

الفيلم المكسيكي Y tu mama tambien للمخرج ألفونسو كوارون يصور رحلة شابين وامرأة تكبرهما في السن عبر طرقات المكسيك هربا، ولو على نحو مؤقت، من قيود واقعهما، لاكتشاف الحرية، وفي الطريق يختبران مشاعر كانت دفينة ومحجبة، وصحوة وعي سياسي مع كل لقاء تصادفي بالآخرين ومع كل لمحة للواقع الحقيقي بكل تبايناته وتناقضاته، والرحلة تنتهي أو بالأحرى تتوقف عند شاطئ يدعى فم السماء.

أما الفيلم البرازيلي "يوميات دراجة نارية" للمخرج والتر سالس فهو عن رحلة تشي غيفارا عبر أقطار أمريكا الجنوبية في سنوات شبابه الأولى، هذه الرحلة التي شكـّلت وعيه السياسي وأيقظت حواسه على ما يحدث حوله، وليستمد منها بذور الثورة.

(7)

في فيلم الطريق نجد شخصية، أو عددا من الأفراد، يسعون إلى الهروب من العالم الذي يعيشون فيه، حيث الشر واليأس والعجز واللامبالاة والفراغ وانعدام الإحساس بالانتماء، منطلقين- إما بخرائط أو بدون خرائط- عبر طرقات لا يمكن التنبؤ بمسالكها ومساراتها وما قد يصادفونه. إنها رحلة نحو المجهول، نحو ما لم يُكتشف بعد، بحثاً عن الخلاص أو الأمان أو الهوية أو الانتماء.. حيث البداية الجديدة، المتحررة من قيود وروابط الماضي، قد تكون ممكنة.

الطريق واسطة للانتقال من حالة إلى أخرى، من وضع إلى آخر.

بإمكان الطريق أن يسحق الفرد أو يخلقه من جديد.. في صورة أقوى أو أنقى.

(8)

ليس كل مسافر، أو عابر للطريق، ملاك أو ضحية أوضاع اقتصادية واجتماعية قاهرة. قد يكون شريرا، لصا، هاربا من العدالة، أو مجرد قاتل سادي يشبع نزواته وغرائزه الإجرامية بملاحقة من يصادفهم في الطريق وإيقاع الأذى النفسي والجسدي بهم.

الطرقات تكون مأهولة بقتلة لا يحجمون عن مهاجمة كل من يصادفونه، حتى دونما سبب أو دافع، وغير مكترثين بالحياة وبالقيم والمشاعر. وهم بذلك يستأصلون كل رجاء في الخلاص أو المغامرة.

في هذه الحالة يتحول الطريق إلى ممر غير نافذ، إلى وسيلة لتجسيد المخاوف الباطنية، إلى كابوس مديد، إلى محيط عدائي ومهدد.. ولا سبيل للإفلات من الخطر إلا بالخروج أو الابتعاد عن الطريق واللجوء إلى مسكن أو مخفر أو مكان عام.

الرحلة لا تعود آمنة بل محفوفة بالمخاطر والشكوك والغموض.. والمستكشف، أو الباحث عن حريته، يجد نفسه أمام عدو لم يتوقعه، لم يتنبأ به، لكن يتربص به وبالتالي يفسد رحلته ويقطعها.

إذا كان الطريق في سينما الثلاثينيات يمثـّل قناة للهروب من كل أمراض المجتمع، فإن الطريق في الوقت الحاضر، ومن خلال هذه الأفلام القاتمة، صار لا يجلب غير المحن والآلام واليأس مع وجود قتلة يعيثون في الطرقات.

هذه الأفلام تعكس حالات البارانويا والمخاوف الكامنة تحت سطح الحياة الاجتماعية في فترات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.

(9)

الكثير من المقومات الأساسية لأفلام الطريق تتوفر في أفلام الويسترن. فيلم جون فورد "الباحثون" عن رجل يمتطي حصانا، في طرق وعرة وبقاع غير آهلة، مقتفيا أثر ابنة أخته التي اختطفها الهنود الحمر، وفي رحلته الخطرة، الشاقة، يصادف عناصر عدائية، والنتيجة أو الحصيلة لا تنسجم، بالضرورة، مع ما توقعه أو رغب فيه.

وعلى هذه الشاكلة، مع تنويعات واختلافات غير جوهرية، نشاهد رجالا يتنازعهم الأمل واليأس في رحلتهم الطويلة والشاقة، على صهوات جياد لا تكف عن العدو، حيث الطرقات لا تفضي دائما إلى المناطق المنشودة.

أهم عناصر فيلم الطريق موجودة هنا: الطرق المغبرّة، المحيط العدائي أو غير الودي، الإصرار على تخطي كل العقبات، البحث عن الموقع المثالي.

(10)

أفلام الطريق تعتمد، في البناء، على سلسلة من الأحداث المترابطة التي تشكـّل أجزاءً ضمن السياق العام، وفي كل جزء تتكشّف قطعة من الحبكة، وتواجه الشخصيات تحديا أو اختبارا من نوع أو آخر.

(11)

تقليديا، أغلب أفلام الطريق تنتهي إما:

·     بتغلب الشخصيات الرئيسية على كل المصاعب والمشكلات التي تواجهها، والعودة إلى البيت/الوطن وقد اكتسبت المعرفة والحكمة من التجربة..

·         أو تجد الشخصيات، عند نهاية الرحلة، مسكنا جديدا فيه تعيش حياة أخرى جديدة..

·         أو أن الرحلة لا تنتهي بل تستمر وتتواصل إلى ما لا نهاية..

·         أو أن تصل الشخصيات إلى طريق غير نافذ، أو إلى اللا مكان، حيث تواجه الموت، القتل، الجنون، الضياع.

 

هوامش:

* اعتمدنا هنا على مقالتين باللغة الانجليزية للكاتب سام نورث في مجلة (Hack writers) وهيثر جونسون في مجلة (Mix)

** البحث نشر ضمن كتاب (سينما الطريق) للناقد السينمائي السوري صلاح سرميني، بمصاحبة تظاهرة سينمائية بنفس الاسم من فعاليات مسابقة أفلام من الإمارات، الدورة السادسة مارس 2007

سينماتك في ـ  01 أبريل 2007

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004