أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

القديم.. الجديد

سينما جورج فرانجو (4- 4)

تلك هي الميلودراما

ترجمة: أمين صالح

(نتابع حديث المخرج الفرنسي جورج فرانجو عن أفلامه):

*  *  *

الاختلاف بين مورياك و كوكتو نجده في الآتي: مع مورياك كل شيء يتقارب و يلتقي عند نقطة واحدة، بينما مع كوكتو كل شيء متناثر و مفتوح و غير مقيّد. لهذا السبب لم أجد صعوبة في تحويل عمل مورياك إلى فيلم. بما أن الجو يتجمع و يتركّز عند نقطة أو موضع واحد، فإن من السهل تفجير الشيء دفعة واحدة. مع كوكتو، هذا مستحيل. لا أستطيع أن أمضي أبعد مما وصل إليه.

إذا كان الأفراد في أعمال مورياك يعانون و يتألمون، فإنهم – في أعمال كوكتو- يحلمون.. و ماذا بوسعك أن تفعل بحلم حالم آخر؟

نصحني الجميع بألا أحقق فيلما عن رواية جان كوكتو "توماس المحتال"، حتى كوكتو نفسه حذرني بأن الفيلم لن يحقق نجاحا على الصعيد الجماهيري، و قد سألني آنذاك: "ماذا بوسع حالم أن يفعل بحالم آخر؟".. و كان يعنينا، أنا و هو.

وبالفعل، فقد رحّبت الأوساط الثقافية بالفيلم، لكنه أخفق تجاريا. أما الفيلم الذي حققته عن رواية فرانسوا مورياك "تيريز ديكيرو" فقد لقي استحسان النقاد و الجمهور معا. كان مغايراً لعمل كوكتو. تيريز ذات هوية مزدوجة، أما توماس فإنه بلا هوية. تيريز تنطلق نحو الحقيقة، توماس يحلـّق نحو اللا حقيقة.

في رواية مورياك، كل شيء يأتي على نحو متصل بالآخر: في البداية هناك أشجار الصنوبر، بعد ذلك منزلان.. منزل واحد.. عائلة واحدة.. رجل.. فتاة. إنها تأتي معاً و تنفجر. و كان بإمكاني أن أتخطى رواية مورياك و أفجّرها. كان بإمكاني أن أحولها إلى ميلودراما.

في رواية كوكتو، كل شيء يأتي منفردا و على نحو مستقل: توماس، الأميرة، القافلة، ساحة القتال.. و لا أستطيع أن أمضي أبعد من ذلك. تلك كانت مشكلتي. لم يكن باستطاعتي أن أتخطى عمل كوكتو. قصة كوكتو دراما، لكن الحرب تراجيديا. و الفيلم ليس مأساويا. أقدر أن أقول بأنه يثير البهجة حتى و إن كان ينتهي على نحو تراجيدي. كان لدى كوكتو الإحساس بالدراما، لكن ليس بالمعاناة. مخلوقات كوكتو – كما جاء على لسانه- يحلمون. بينما مخلوقات مورياك يعانون.

في رواية مورياك، الثيمة الأساسية هي الضغينة، و الجمهور يحب ذلك. ثمة شخصيتان تتعايشان في تيريز: الفتاة المثلية الميول إلى حد ما، التي تنجذب إلى صديقتها، و تلك الناضجة التي ترغب في الزواج و الاستقرار. لهذا السبب هي تحاول أن تسمّم زوجها. هذا الصراع المتكافئ الضدين هو الذي يظهر مشاعر تيريز الأعمق، و إحساسها بالموت.

لم ينجح "توماس المحتال" تجاريا لأنه ينظر إلى الحرب من خطوط جانبية. كوكتو و أنا رفضنا أن نجعل الحرب تبدو بهية، محزنة، تراجيدية. إذا جعلتها تراجيدية فسوف تبدو جذابة حتما.

إننا نلاحظ بأن معظم الأفلام المضادة للحرب تقول لنا أن الحرب فظيعة و بغيضة، مع ذلك تتضمن شيئا حسنا و خيّرا، فهناك الرفقة، الصداقة، الرجولة. كوكتو أراد أن يُظهر قذارة الحرب، و بكونها تمثـّل الخاتمة. ثمة جملة دقيقة و معبّرة في الرواية: "في الجبهة، بسبب تكرار حالات الموت و الإنجراح و المخاطر المتدفقة التي تدفع بالرجال إلى أن يموتوا أكثر من مرّة، يفقد الموت قيمته".

*  *  *

إذا قارنت سلسلة أفلام لوي فيولاد "فانتوماس" (1913-1914) بالروايات الأصلية التي كتبها ألان و سوفستر، فسوف تجد أن الروايات مشحونة بالجرائم.. جرائم موصولة دون توقف. لكن في أفلام فيولاد، و لأسباب تتصل بالرقابة و التزمت الأخلاقي، هذه الجرائم غير مرئية. بالرغم من ذلك تبدو هذه الأفلام قريبة جدا من تلك الروايات. لماذا؟ لأن في لقطات فيولاد ، التي فيها لا شيء يحدث، يدخل شيء آخر تحت ستار اللا فعل، الانتظار، الإثارة، الفراغ، غموض الحدث.. ذلك الشيء هو اللغز. و كيف يمكن التعبير عن اللغز؟ من خلال الأسلوب. صانع الفيلم لا يساوي شيئا بدون الأسلوب. فيولاد كان له أسلوبه الخاص، كذلك هتشكوك.

في أفلام فيولاد ثمة فتنة و روح شعرية. مع ذلك هو لم يكن يجاهد من أجل إحراز ذلك الحس الشعري. لم يكن يبحث عنه. الشيء ذاته ينطبق على مخترع السينما، لوي لوميير. لم تكن أفلامه تهدف إلى أن تكون شعرية، لكنها كانت كذلك.

*  *  *

الميلودراما توجد حيث توجد قصة حب. حالما يتوجه الفيلم إلى مشاعرنا، تنهض الميلودراما. شارلي شابلن كان الأعظم في هذا المجال. كل أفلام شابلن كانت ميلودرامية.. كذلك أفلام جريفيث الهامة.

في الواقع، لا أستطيع تخيّل الميلودراما بدون وجود الدعابة.. بدونها ستكون مفرطة. إنك لا تحقق كمية هائلة من الضحك مثلما تحققها حين تكتب سيناريو فيلم مرعب، ليس لأنك تتعمد أو تحاول إثارة الضحك، و إنما لأن حالة اللا تناغم أو اللا تناسب وحدها تكفي لأن تدغدغك. لقد حدث لي ذلك أثناء كتابة "عينان بلا وجه": مشهد الطبيب و كلابه تفترسه.. إنه نوع من الانتقام.

*  *  *

الميلودراما وجدانية، عاطفية يشكل خالص. ذلك هو العنصر الأساسي الوحيد. لكنني أرفض أن أصدق بأن الميلودراما  تخاطب أو تتوجه إلى مشاعرنا الأرقى، كما يسمونها. أنا لا أؤمن بالمشاعر الأرقى. ربما أؤمن بالنقاء لكن ليس بالبراءة. إذا عرضت أمامك شخصية فلور دي ميزيريه و أنت شعرت برغبة في حمايتها، فإنك تفعل ذلك لكونها جميلة، أليس كذلك؟ من المؤكد أنك لن ترغب في حمايتها لو كانت قبيحة.

تلك هي الميلودراما: ضحية جميلة، ناعمة، رقيقة، عذبة، ضعيفة. إن رغبتنا في حماية الضحية تحجب رغبة أخرى: أن نمتلكها. و هذه الرغبة في الامتلاك ليست مجرد وجدانية، بل أنها جنسية.. و في هذا يكمن رياء الميلودراما.

الميلودراما تمنح الناس إحساسا بالدراما، تجعلهم يتوقون إلى حدوث الدراما. لكن إذا كنا نحتاج إلى الدراما، فإلى أين تمضي مشاعرنا الأرقى؟ و قبل أن نندفع إلى حماية البطلة التعيسة و السيئة الحظ، نريدها قبل كل شيء أن تكون تعيسة و غائصة في المحن.. إذن ماذا يحلّ بمشاعرنا الأرقى؟ لهذا السبب أقول أن الميلودراما رياء محض.

لكنني أقول أيضا أن الميلودراما تملك حقيقتها. في فيلمي "الميلودراما الأخيرة"، فلور دي ميزيريه تنتظر الطبيب. يدخل رجل. امرأة من الجمهور المتفرج على المسرحية تهمس لنفسها: "هذا ليس الطبيب!". و هي محقة. إنه مالك البيت. هذا نقيض المسرح الذي يحافظ على مسافة بينه و بين الجمهور. الميلودراما تجعلنا أكثر قرباً. و إذا كانت شائعة و رائجة جماهيريا، فلأنها كانت وجدانية و شعبية. و لم تكفّ عن الوجود إلا حين بدأ الناس يشيرون إلى كتـّاب المسرح بدلا من المسرحيات، و حين صار يُنظر إلى المسرح كأدب أولاً و دراما ثانياً.

بالطبع، تستطيع أن تخلق الميلودراما من أحد أعمال فيكتور هوجو، لكن عندئذ لا يمكن أن يُنسب العمل إلى هوجو. الميلودراما نوع مسرحي مستقل تماما، لا تحيل نفسها إلى الأدب، كما أنها لا تملك أسلوبا. إنها أكثر الأنواع المسرحية واقعية و شعبية. و تستطيع أن تقول بأنها مسرح الحياة.

حين يحدث شيء ما في الحياة الواقعية، نسميه دراما. عندما نقدم هذا الحدث على خشبة المسرح، فإنه عندئذ يسمى ميلودراما. خذ شخصا يفقد دراجته الهوائية.. أو خذ فتاة. هي أم غير متزوجة هجرها حبيبها. إنها في الشارع متشردة. تصبح مومساً. تبحث عن عمل لكنها لا تجد. ربما تتعرّض لحادث و لا يعود بمقدورها ممارسة مهنتها. ربما تنتحر. كل هذا يعتبر دراما. عندما يحوّل إلى عرض مسرحي، يصبح ميلودراما.

مسرح بريشت هو مسرح الأقنعة، مسرح الأسلوب. يونيسكو أيضا عقلاني جوهريا و ليس عاطفيا. حتى راسين ليس عاطفيا، إنه لا يلامس مشاعرنا. الميلودراما وحدها هي التي تلامس مشاعرنا. أظن أن الميلودراما فريدة و فذة، و من العار أن نخسرها.

مع ذلك، الميلودراما مرفوضة في الفنون الأخرى، و كذلك العناصر المثيرة للعاطفة. الأعمال الأدبية في هذه الأيام مضجرة كثيرا لأنها تستبعد السيكولوجيا، رغم أنها هي التي تجعل الأدب مغويا. الآن صاروا يكتبون عن منفضة السجائر في 300 صفحة. هذا ليس للعموم. الطبعة الواحدة من الكتاب يصل إلى 5000 شخص فقط، و هذا لا يعد شيئا قياسا إلى الملايين الذين ينبغي الوصول إليهم. هؤلاء الكتـّاب يحرزون الشهرة من هذه النسخ المحدودة فقط. لكن في المسرح يتعيّن عليك الوصول إلى عدد أكبر.

و الموسيقى المعاصرة صارت تنفذ بدون اتساق في الأصوات، أو تناغم في الألحان، أو تأليف كلاسيكي.. و هي الأشياء التي جعلت الموسيقى مغوية. اليوم صاروا يقدمون الموسيقى حتى بدون استخدام آلات موسيقية. لا أحد يستطيع أن يستمع إليها. إنه انحطاط شامل. و لحسن الحظ أن الأفلام لا تزال تصنع بالكاميرات.. هذا ما أنقذنا.

*  *  *

الميلودراما ازدهرت في مرحلة مفعمة بالسعادة، في بداية القرن العشرين. لقد أدخلت للمرة الأولى إحساسا بالمحنة و البليـّة في فترة سعيدة. اليوم لم نعد نعيش في مرحلة سعيدة، و احتياجات الناس صارت مختلفة. إنهم يريدون الأعمال الكوميدية الرائجة كثيرا في الوقت الحاضر. و يريدون أيضا أفلام الكوارث التي هي درامية لكن لا تقلق الراحة و لا تزعج و لا تفسد نظام الأشياء، ذلك لأن الكوارث سوف لن تحدث عندنا أبدا. حتى الحرب تبدو قصصية.. أي متخيلة. إذا أظهرت الحرب كما يمكن أن تحدث لنا، فإن الجمهور سوف يكره الفيلم. أعتقد أن الجمهور لا يرغب في مشاهدة الميلودراما لأنه يجدها اعتيادية أكثر مما ينبغي.

سينماتك في ـ  01 يناير 2007

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004