أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

القديم.. الجديد

العطر.. قصة قاتل:

عن أسر الرائحة

أمين صالح

فيلم "العطر: قصة قاتل" (2006) إعداد رائع وقوي، قام به المخرج الألماني توم تايكفير عن رواية شهيرة تحمل العنوان نفسه كتبها الألماني باتريك سوسكيند، وقد نُشرت الرواية لأول مرّة في العام 1985 وسرعان ما لقيت نجاحاً ورواجاً كبيرين، فترجمت إلى أكثر من 45 لغة، وصارت محط اهتمام عدد من المخرجين السينمائيين مثل: ستانلي كوبريك، مارتن سكورسيزي، فرانسس فورد كوبولا، ريدلي سكوت.. حتى استقرت أخيراً بين يدي تايكفير الذي أمضى عامين مع شريكيه أندرو بيركن وبيرن آيشنجر في إعداد الرواية وكتابة السيناريو.

إنها قصة شاب يتيم، يدعى جان- بابتيست غرينويه (يؤدي دوره الممثل البريطاني الصاعد بن ويشو)، عاش في فرنسا في القرن الثامن عشر. وكانت ولادته في منطقة سيئة، غير صحية، تقع في واحدة من أقذر الأسواق وأكثرها نتانة. لكن الغريب والمحيّر، أنه في مثل هذه الظروف الرهيبة، لا يكتسب رائحة خاصة به، بل يكتسب حاسة شم استثنائية وخارقة، وبهذه الموهبة الفذّة يتبيّن الروائح والعطور التي تحيط به، كما يختبر ويكتشف ويميّز العالم الذي يعيشه. في طفولته، هو يبتهج إلى أقصى حد بقدرته على شم كل روائح العالم، وامتلاكه ذاكرة لا تخطئ بشأن نكهة وشذا كل شيء. 

أمه، بائعة السمك، تتخلى عنه، فيتربى في ملجأ أيتام مزدحم، ينتقل بعده إلى إحدى ضواحي باريس (التي كانت وقتذاك من أقذر مدن أوروبا) للعمل كالعبد في معمل للدباغة، حيث يستعبده هذا العالم البغيض سنوات. إنه يشعر دوماً بالوحدة والاختلاف عن أي شخص آخر.

في رحلة له إلى باريس، برفقة الدباغ، يكتشف عالماً من الأريج الجديد، من فكرة الشذا الآسر: العطر. وفيما هو يتجول ذات مساء في طرقات وأزقة المدينة، ومن خلال نتانة المدينة يكتشف رائحة في منتهى الروعة، الرائحة الزكية، الآسرة، التي تجبره على تعقّب أثرها ومحاولة الكشف عن مصدرها: إنها رائحة امرأة شابة حمراء الشعر، تبيع الخوخ، وتصبح ضحيته الأولى، إذ في محاولته الاقتراب أكثر من الرائحة التي أثارته، هو يقتلها عن غير قصد. مع موتها، يزداد عطرها حدّة وكثافة لكن سرعان ما يتلاشى ويزول. عندئذ يستبد به هاجس لا يستطيع مقاومته: أن يعيد خلق تلك الرائحة، أن يجد طريقة لأسر ذلك العطر.  

هو يظل هذا الكائن الراصد ما حوله، الصامت على نحو غريب ومخيف. الشيء الوحيد الذي يتميّز به هذا اليتيم ويجعله استثنائياً هو حاسة الشم العالية والقوية جداً. إنه يمتلك هذه القدرة الخارقة تقريباً على تمييز وتبيّن المكونات والمركبات الدقيقة للروائح، حتى الأكثر تعقيداً. وهذه الموهبة تخضع للتجربة والممارسة، ومن ثَم البروز، عندما يلتقي بصانع عطور شهير  يدعى بالديني (دوستين هوفمان) يعجب به ويعيّنه مساعداً له.

إن هدف جان من العمل مع بالديني هو أن يصير ضليعاً وبارعاً في فن حفظ وصيانة الرائحة.  عندما يشعر بأنه برع في كل ما بوسع سيده أن يعلّمه، ينتقل من باريس ليحط في بلدة جراس، حيث يباشر في وضع خطة طموحة لخلق أكثر عطور العالم إثارةً للسكْر والنشوة، لكن إنجاز هذا الطموح، وتحقيق الوصفة الخاصة، يتطلب قتل وأسر رائحة 13  امرأة شابة في لحظة الموت، من بينهن لورا ابنة واحد من أكثر الشخصيات غنى ونفوذاً في البلدة.

في النهاية، بعد القبض عليه، وفيما هو على وشك أن يُعدم في الساحة العامة أمام حضور حشد من الجنسين، يكشف عن قدرة خارقة على التلاعب بالناس والسيطرة عليهم من خلال التركيبة الفذّة للعطر المقدّس الذي استخلصه من أجسام ضحاياه، والتي هي نتاج عبقريته في عالم العطور. إنه يختبر دقائق من الانتصار السامي، الساحق، وينال تعلّق الحشد به حد العبادة، وخضوعهم لإرادته ورغبته المنحرفة، بعد بلوغهم درجة عالية من الانتشاء والوجْد الجنسي الشهواني. وهو يهب لهم نفسه وجسده – في إيماءة انتحارية صريحة -  بسكب العطر السحري على نفسه حتى يصير فريسة للشهوة البدائية  المنعتقة من أسرها.

الشخصية الرئيسية (جان) في الرواية تبدو ممسوسة طوال الوقت بفكرة العطر، وكيفية الحصول على العبير النادر، فلا تُظهر أي انجذاب جنسي إلى النساء، ولا تعلن عن أي رغبة جنسية، بينما في الفيلم يبدي اهتماماً بالمرأة، بالدافع الجنسي، بالرغبة في امتلاك من يحب أو يشتهي حتى لو من طريق التخيّل.

هذا المسّ، هذه الحالة الاستحواذية، تهيمن على جان، تستبد بتفكيره ومشاعره، تسيطر على كيانه كله، تغمره وتستنفده كلياً دون أن يقاومها. لذلك لا يتوقف هنيهة لكي يقيّم نفسه أخلاقياً، لكي يندم، أو يعتريه إحساس بالذنب. إنه يصبح ضحية رؤيته الاستحواذية.

إن جان، حسب وصف سوسكيند في روايته، "هو واحد من أكثر الشخصيات موهبةً، لكن المقيتة والبغيضة جداً، في تلك المرحلة التي لم تعرف نقصاً في الشخصيات الموهوبة والبغيضة".

الفيلم دراما تاريخية مشوبة بمسحة من الدعابة السوداء، مع استخدام راو ساخر يعلّق على الأحداث وعلى أفكار الشخصيات الرئيسية.

المخرج توم تايكفير ولد في فوبرتال بألمانيا في العام 1965. في صباه، وكان يبلغ 11 عاماً، تحمس للعمل السينمائي، وأخرج أفلاماً بكاميرا سوبر 8. بعد فيلمين قصيرين، أخرج Deadly Maria في 1993، وفي العام التالي كوّن مع آخرين شركة إنتاج خاصة. في 1996 حقق فيلمه الثاني Winter Sleepers ثم قدّم أنجح أفلامه Run Lola Run (1998) والذي فاز بالعديد من الجوائز. بعده حقق The Princess and the Warrior (2000) Heaven (2002) 

 
 

العطر.. لا أن ترى العالم بل تشمه

 (المخرج الألماني توم تايكفير يتحدث هنا عن فيلمه "العطر: قصة قاتل")

حديث: توم تايكفير

ترجمة: أمين صالح

* رواية "العطر" ليست من الكتب التي تُقرأ ثم تُنسى سريعاً. إنها تمكث معنا، والقراء أحبوها وكوّنوا علاقة شخصية وحميمة معها، وهذا يحمّلنا مسؤولية كبيرة، إذ يجب أن ننجح في عملية تحويلها إلى الشاشة بحيث لا يشعر المتفرج بخيبة أمل، بل يشعر أن الفيلم يختلف عن الرواية التي قرأها ومع ذلك هو – أي الفيلم – أمين للمادة قدر المستطاع لكن يعكس وجهة نظر ذاتية، محددة، تمليه رؤيتنا للرواية.

* أظن أن الخاصية الحقيقية للرواية هي أنها تفتح الكثير من الأبواب على أقاليم مختلفة، على موضوعات غير مفروضة عليك أو مدفوعة بقوة في اتجاهك. من الجلي أنها تتضمن الكثير من الأمور، الكثير من الأفكار بشأن الشهرة والتلاعب بعواطف ومشاعر الآخرين، وكيف أن السلطة والنفوذ قد مرّت بتحولات طوال قرون.

الغريب أن الأعمال التاريخية قادرة غالباً على جعلنا نقترب من الموضوعات التي هي هامة في حاضرنا أكثر مما تفعله القصص الراهنة التي تتناولها على نحو مباشر.

* ما يجعلني أتصل بشخصية جان هو حقيقة أنه بشري بعمق في دوافعه ورغباته وطموحاته. الشيء الوحيد الذي يحاوله، والذي يتوق إلى الحصول عليه من المجتمع الذي يعيش فيه، هو الاعتراف والتقدير، أن يكون مرئياً، مقبولاً، محبوباً.. وهي الأشياء التي نتوق إليها جميعاً.

* من الأشياء التي أحببتها في الرواية ذلك الحس التصويري الحي في الوصف. إنها تتسم بالعنف والقسوة عندما يتعلق الأمر بالتفاصيل. الرواية لا تحجم عن إبراز تلك الخاصيات ولا تقنّع ذلك باستخدام غطاء شعري. الرواية تصف على نحو صريح وقاس قذارة ونتانة شوارع باريس في القرن 18. إنها لا تصور العالم الأرستقراطي والحياة الجميلة المرفهة في بيوت الأغنياء والأرياف، كما تفعل الكثير من الكتب والأفلام في تصويرها لتلك المرحلة. هذه الرواية تصور بصدق واقع تلك المرحلة التاريخية حيث المدن تفتقر إلى شبكات المجاري، والناس يرمون الفضلات والقمامة من النوافذ، ويخوضون حتى الركب في الأوحال. العيش وقتذاك كان كابوساً، غير آمن وغير صحي تماماً، ونحن أردنا أن نصور هذا الواقع، أن نُظهر هذه المظاهر دون التضحية بالخاصية الملحمية للرواية.

* الفيلم يعكس الجوانب المظلمة من دواخلنا، وهذا يضفي على الفيلم نسقاً قاتماً يتناسب مع الخاصيات المقلقة بشأن الشخصية الرئيسية. أردت من الفيلم أن يكون قاتماً ومقلقاً، لكن أيضاً يتسم بدفء بشري، ذلك لأن الشخصية تحمل بداخلها أيضاً الرغبة التي هي مفهومة جداً ونعرفها جيداً.

* مع هذه الشخصية نحن لا نرى العالم من خلال عينيها فحسب، بل أيضاً نشم العالم من خلال أنفها.

* لأنه فيلم يقوم على اللمس، حيث استنطاق الأسطح وأنسجة العناصر، فإنه يمضي مباشرة إلى التفاصيل، ملتقطاً الأجزاء ومنها يبني صورة كاملة، مثل تأليف المقطوعة الموسيقية التي تنطلق من النغمات المفردة إلى النغمات المتآلفة إلى التركيب المكتمل. هكذا يتم بناء اللقطات، من التفاصيل إلى الصورة العريضة الكاملة.

الموسيقى لعبت دوراً كبيراً في تحديد اللغة السينمائية للفيلم. لقد جعلنا الموسيقى تعمل مع السيناريو، ذلك لأننا كنا نؤلف الموسيقى على نحو متواز لكتابة السيناريو، بحيث تكون الموسيقى حاضرة عند شروعنا في تصوير الفيلم، فيتفاعل معها الممثلون، وبها نخلق الأجواء.

* في الرواية نوع من الدعابة السوداء التي حاولنا أسرها في الفيلم أيضاً. ثمة مشاهد تدفعك إلى الابتسام رغم أنها مخيفة حقاً.

* كنت جالساً في مسرح الأولد فيك، أشاهد أداء بن ويشو لشخصية هاملت وأنا أحمد الرب على أنني عثرت، بعد بحث طويل وشاق، على الممثل الشاب الذي سوف يؤدي شخصية جان- بابتست جرينويه في فيلمي المقبل "العطر: قصة قاتل". بطريقة ما كنت أعرف أن اللحظة سوف تحين عندما أعثر على الشخص المناسب معتمداً على الحدس والصدفة. كان الاختيار مباشراً وفورياً.

بن ترك نفسه تنزلق نحو الشخصية، لكنه يتمتع بالذكاء الذي جعله قادراً على استيعاب كل التعقيدات التي احتوتها الرواية. أحياناً كنت أطلب منه شيئاً غريزياً أو بدنياً محضاً، وفي دقائق ندخل في نقاش حول أمور معقدة كنت أرغب في الإمساك بها.

بن ممثل مدهش، يمتلك مزيجاً من المهارات، ولغة جسده تنسجم مع الطريقة التي ينطق بها، والتي ينظر بها. إنها الطاقة الغامضة التي جلبها معه. وهو يمنحنا الإحساس الكلي بأنه شخص برئ للغاية وفي الوقت نفسه غامض للغاية، بأنه كائن بشري متوحش وفي الوقت نفسه سهل الانجراح، وحساس جداً.

قبل أن نعثر على بن ويشو، كنت مدركاً لحاجتنا إلى الانتظار، حتى لو اقتضى الأمر الانتظار عشر سنوات للعثور على الممثل المناسب.

* لدور بالديني، تاجر العطور، مباشرة فكرت في دوستين هوفمان، لأن بالديني شخصية آسرة، جميلة، مرحة، مراوغة، ومتوهجة، وهي الصفات نفسها التي يتحلى بها هوفمان.. إلى جانب عبقريته في الأداء.

* من الأعمال التي مارست تأثيرا فيلم "سائق التاكسي" لمارتن سكورسيزي. بن ويشو لم يكن قد شاهد الفيلم، لذا استأجرت صالة عرض صغيرة وجلسنا، نحن الاثنين، نشاهد "سائق التاكسي". إنه واحد من أفلامي المفضلة، العمل الكلاسيكي الذي تجد نفسك فيه مقحماً داخل منظور الشخصية. هذا ما أردت من بن أن يشاهده، كيف أن من الممكن البقاء مع شخص والذي يمضي خارج المسار على نحو مقلق. ترافيس بيكل (روبرت دي نيرو) يتحول إلى شخص فاشستي لكنك في الوقت نفسه تفهم دوافعه. عزلة الشخصية تجعلك تبقى إلى جانبه، تنحاز إليه وتتعاطف معه، وهذا شيء خطر. ذلك هو ما سحرني بشأن هذا الفيلم، عندما تخضع لإغوائه بالدخول، ويتعيّن عليك أن تكون قوياً بما يكفي لتبدي رأيك الخاص وتصدر حكمك الخاص.

المصدر:

Close- up Film, August 2007

Groucho Reviews, October 2007   

مجلة البحرين الثقافية ـ  سبتمبر 2010

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004