أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

القديم.. الجديد

المحاكمة بين ويلز وكافكا

كتابة: جيمس نيرمور

ترجمة: أمين صالح

من بداية مسيرته الفنية، كان أورسون ويلز يلمّح إلى كافكا، الذي معه كان يشعر بوجود وشائج جلية. مع أنهما شخصان مختلفان في الخلفية الثقافية والاجتماعية، وفي التكوين الشخصي، لكن تجمع بينهما خاصيات معينة: كلاهما يستمدان المادة من الكوابيس، ويشتركان في الغنائية العرَضية التي يحققها الولع بالغرابة والمغايرة، إضافة إلى الرؤى الهجائية. الاثنان يعرضان شخصيتيهما، على نحو يتعذر اجتنابه، كضحايا لتعذيب جنسي واجتماعي.

الاجتماع السياسي الحاشد في "المواطن كين"، الأحاديث المسترقة على سلم من السنديان في "عائلة أمبرسون"، قاعة المحكمة الصاخبة في " السيدة من شنغهاي"، استجواب الشرطة في "لمسة شر".. كل هذه اللحظات الشهيرة ما صارت ممكنة إلا بفضل كافكا، أو على الأقل، بفضل الحساسية الحديثة التي خلقها كافكا على نطاق واسع. إنها كلها أمثلة لواقع مريح يصبح منافياً للعقل كما الحلم، أمثلة لحياة نهارية، يمكن التعرّف عليها وتمييزها، تبدأ في التحوّل إلى متاهة ميئوس منها وبلا مركز.

مهما كانت قصص ويلز قدرية، ويستبدّ بها الذعر، مهما كانت صوره لا عقلانية ومشحونة جنسياً، إلا أنه يستمر في الإصرار، داخل القصة وخارجها معاً، على أن شخصياته هي عوامل مسئولة أخلاقياً في مجتمع من خلقها هي.. إن ويلز المفتون بما دون الوعي وبالشيطاني هو نفسه الذي كان يكتب مقالات رئيسية سياسية في نيويورك بوست. ربما كان متشائماً لكنه لم يكن أبداً يائساً. بالتالي ليس أمراً مفاجئاً منه، عندما عُرض عليه إخراج "المحاكمة" في 1962، مطلقين له اليد ومانحين له حق التصرّف في إعداد العمل، أن يشعر بحاجة لأن يُجري تغييرات أساسية في النص. بناءً على ذلك هو أنتج عملاً يحمل رؤية فكرية عميقة، وبعض الرعب الكافكاوي، والذي برغم ذلك يبدو منقسماً على نفسه.

الاختلافات بين الفيلم والرواية تكون أكثر إثارة للاهتمام في تلك المناطق حيث يمتلك الاثنان، ويلز وكافكا، شيئاً مشتركاً. على سبيل المثال، كلاهما مغرمان بإدخال حكايات خرافية ذات مغزى، أو قصص ذات مغزى أخلاقي، وسط السرد الشبيه بالحلم.. وكان من الطبيعي أن ينجذب ويلز إلى حكاية كافكا عن القانون.

ويلز نقل هذه الحكاية القصيرة ليضعها في بداية الفيلم، وليرويها في شكل شرائح معروضة. الرسوم لا تخدم فقط كمدخل إلى عالم كافكا لكن أيضاً كتعليق غير مباشر على طبيعة الأفلام. الرسوم، الواحدة تلو الأخرى، تومض على الشاشة، تتحرك بارتجاج صعوداً مثل الصفحات ثم تصبح أشكالاً مظلّلة، ثلاثية البعد.

إننا نرى سوراً حجرياً ضخماً ذا مدخل قنطري الشكل، فيما يبدأ صوت ويلز في سرد الحكاية الرمزية خارج الشاشة. يقول: "في حضرة القانون هناك يقف حارس". ومع كل بيان تال تتحرك بارتجاج إلى أعلى صورة أخرى، محولاً الجمل إلى "لقطات". رجل من القرية يظهر، ملتمساً الإذن بالدخول والمثول أمام القانون. لكن الحارس لا يستطيع أن يسمح له باجتياز الباب. يتساءل إذا كان بمقدوره الدخول في ما بعد. الحارس يرد: ربما.

على نحو رعديد، الرجل ينعم النظر إلى ما وراء القنطرة المفتوحة فيرى مدخلاً آخر، إنه الأول في سلسلة متتالية من المداخل، كل مدخل هو مهيب أكثر من سابقه.

الرجل، في احترام، ينتظر. وبمرور الأيام يزداد تقدماً في السن. الفصول تمرّ، لكن الحارس يظل في موقعه. الرجل العجوز – الآن – يحاول رشوته على نحو متذلّل وخنوع، بل أنه يصادق البراغيث في ياقة سترة الحارس، المصنوعة من الفرو، على أمل أن يكون لها تأثير عليه. لكن لا شيء يساعده. وعندما يوشك الرجل العجوز على الموت، يطرح على الحارس هذا السؤال: لم، خلال كل هذه السنين، لا أحد غيري جاء صوب هذا الباب؟

فيقول له الحارس: لا أحد غيرك بوسعه أن يدخل من هذا الباب. هذا الباب مخصّص لك أنت وحدك، والآن سوف أغلقه.

ثمة اختلاف حاسم بين الطريقة التي استخدمت بها الحكاية، الصالحة لأن تكون مثلاً للقانون، في الرواية وفي الفيلم.. وها هنا وجهة نظر ويلز الخاصة تصبح جلية.

في رواية كافكا، الحكاية تظهر في الفصل ما قبل الأخير، حيث يرويها قسيس كوسيلة لتوضيح "وهْم معيّن" عن المحكمة. في الختام، جوزيف ك، الذي كان محترماً ومجاملاً، على الفور يستنتج هذا الدرس: "إذن الحاجب خدع الرجل". يرد القسيس: "لا تكن عجولاً إلى هذا الحد.. لقد رويت لك القصة كما هي مكتوبة حرفياً في الكتاب المقدس. ليس ثمة ذكر للخداع في القصة".

ثم في الصفحات الست التالية، يتشابك ك والقسيس في تمرين عقلي مدروس ومحكم في التأويل، الجدل الذي قد يفسَر كهجاء مشوّش للبحث التلمودي والنقد الأدبي. ك يلاحظ: "لكن ذلك واضح إلى حد كافٍ"، والقسيس يرد: "ليس كذلك" ثم يعدّد تأويلات محتملة متباينة، مشيراً إلى عدة معلقين، ومنهجياً يقوّض كل محاولة يقوم بها ك للوصول إلى حكم ما. أخيراً يقول القسيس: "ليس من الضروري قبول أي شيء باعتباره حقيقياً أو زائفاً.. يتعيّن على المرء أن يقبله ويسلّم به فحسب كشيء ضروري".

عندئذ يقول ك: "هذه نتيجة كئيبة وسوداوية.. إنها تحوّل الكذب إلى مبدأ كوني".

لكن ك لا يعود قادراً حقاً على الاعتراض على أي شيء.. "كان منهكاً إلى حد أنه لم يستطع معاينة وتقييم كل الاستنتاجات الناشئة من القصة، وما تفضي إليه من تسلسل أفكار غير مألوفة، متعاملاً مع أشياء غير محسوسة لا تلائمه بقدر ما تلائم موظفي المحكمة".

المنهج هزلي على نحو مقصود. تأويل القسيس يلغي أي معنى، ويترك ك مع "تفسير" يثير الغضب كما المحكمة نفسها. ويبدو أن أورسون ويلز قد أدرك هذه الخاصية في معالجة كافكا للحكاية الرمزية، وفي نصه الختامي للفيلم حاول ويلز أن يسلّم بصحتها، بأن يجعل الراوي يتقدم إلى الأمام نحو الجمهور ويعلن:

"هذه قصة داخل تاريخ. وجهات النظر تختلف في هذا الموضع، لكن الخطأ يكمن في الاعتقاد بأن المشكلة يمكن حلها فحسب من خلال معرفة خاصة أو حدة ذهن.. أي أنه مجرد لغز ينبغي حلّه. اللغز الحقيقي لا يُسبر غوره، يتعذر فهمه، ولا شيء مخفي بداخله. لا شيء هناك لشرحه وتفسيره. لقد قيل بأن منطق هذه القصة هو منطق الحلم. هل تشعرون بالتيه في المتاهة؟ لا تبحثوا عن مَخرج. سوف لن يكون بوسعكم إيجاده. ليس هناك مَخرج".

في الفيلم المنجز، مخاطبة الجمهور هذه لا تظهر، بل نجد بدلاً منها ملاحظة ويلز: القصة التي نحن على وشك مشاهدتها لها منطق حلم، منطق كابوس.

حكاية القانون مقدمة بدون تعليق في البداية، ثم يتم التلميح إليها قرب النهاية، حيث يبدأ أورسون ويلز، في دور المحامي، في إعادة سرد القصة لكن يقاطعه في غضب جوزيف ك (أنتوني بيركنز). ويلز أيضاً استأصل الشروحات الهزلية المطولة - على نحو موجع – للحكاية، ذلك لأنها تتسم بالثرثرة إلى حد ما، ولأنها غير سينمائية. ولأن ويلز – في التحليل الأخير – انقلب على رؤية كافكا العبثية للحياة، وعوضاً عن ذلك، نرى جوزيف ك يسير عبر كنيسة ونحو صالة خالية حيث المحكمة تستخدم "أدوات مساعدة بصرية" لإرشاد الناس.

المحامي يعرض الرسوم على الشاشة، منتحلاً دور محاضر عيّنته المحكمة. وما إن يبدأ عرض الشرائح حتى يتدخّل ك ويوقف العرض قائلا: "لقد سبق أن سمعتها كلها.. كلنا سمعناها". وكلمة "نحن" هنا تعود إلى الجمهور الذي بدوره يصبح جماعة بشرية معمّمة.

عندما ك يتهم المحامي بتحويل "الكذب إلى مبدأ كوني"، هو يقول ذلك بغضب وقناعة، رافضاً الإقرار بالصلات بين نفسه والرجل المتهم في الحكاية. إن بقية المشهد، التي ابتكرها كلها ويلز، لا يخدم فقط لإعطاء (ك) بعداً بطولياً، بل أيضاً ليهاجم الرؤية العدمية المحتملة التي يحسها ويلز وراء عمل كافكا:

ك: أنا لا أتظاهر بكوني شهيداً. لا..

المحامي: ليس حتى ضحية مجتمع؟

ك: أنا عضو في المجتمع.

المحامي: تظن أنك تستطيع أن تقنع المحكمة بأنك غير مسؤول بسبب الجنون؟

ك: أظن أن هذا ما تريد المحكمة مني أن أعتقده.. نعم، تلك هي المؤامرة.. أن تقنعنا جميعاً بأن العالم بأسره مجنون، عديم الشكل، عبثي، وبلا معنى. تلك هي اللعبة القذرة. 

القسيس: (داخلاً فيما ك يبحث عن مَخرج)

ألا يمكنك أن ترى شيئاً على الإطلاق؟

ك: بالطبع.. أنا مسؤول..

القسيس: يا بني...

ك: لستُ ابنك.. (يخرج)

هكذا تتحوّل رؤية كافكا التهكمية، المجرّدة، لليأس إلى لعب أخلاقي ويلزي. والجمهور الذي ليس لديه معرفة مسبقة بكافكا لا يمكن أن يعي التغيير الحاصل، أو يميّز هذه اللحظة بوصفها نقداً صريحاً لمصدر الفيلم (رواية كافكا).

هنا هجوم ليس على كافكا فحسب لكن على نزعات معينة في الفن الحديث انتشرت على نحو واسع، مع بداية الستينيات، وتخللت في الوعي العام. إنه في الواقع تنقيح أو نقد ذاتي للفيلم الذي نشاهده، إعلاء مباغت لكابوس ك إلى مستوى التحليل الواعي. في الأقل، هو يكشف ازدواجية ويلز تجاه التجريد واللامعقولية التي كان يحاول تصويرها، واختياره تنقيح نهاية رواية كافكا. بدلاً من جعل جوزيف ك يموت "مثل كلب"، يتيح ويلز للرجل المدان أن يقاوم.

لقد لاحظ الناقد جوزيف ماكبرايد أن الفيلم الذي يقترب كثيراً من "المحاكمة" هو فيلم هتشكوك "الرجل الخطأ" The Wrong Man (1957). المقارنة ملائمة ليس فقط لأن هتشكوك يقدم مرادفاً أسلوبياً تقريبياً لكافكا، لكن أيضاً لأن القصة تتضمن الرؤية ذاتها لشخصية البورجوازي الصغير. إن بطل الفيلم (هنري فوندا) رجل برئ يتهم بجريمة قتل لم يرتكبها. هو أب طيب وزوج محب يرى بيته ينهار وزوجته تجن تحت وطأة نظام قانوني مجرد، لا يبالي بالمشاعر الشخصية. عندما يتم اكتشاف القاتل بالصدفة، في نهاية الفيلم، يوجّه البطل غضبه تجاه القاتل فقط وليس القضاء.. "هل تدرك ما فعلته بزوجتي؟" يقول للقاتل الذي يشبهه تماماً. ثم يشكر رجال الشرطة على جهودهم الخيّرة.

هتشكوك، الفنان الحرفي الهادئ، رابط الجأش دوماً، يتركنا أحراراً في تأويل هذا المشهد، على نحو تهكمي إن شئنا. مع ذلك هو يعطينا الانطباع بأن العبثية تشكّل أساس الحياة الاعتيادية، وبأن "المواطنية الصالحة" قد لا تكون ضماناً ضد الفوضى والتشوّش، لكنها الفرصة الوحيدة المتاحة.

مثل هذه الرؤية مستمدة من حقيقة أن هتشكوك، ليس بخلاف كافكا، يبقى ضحيةً للمخاوف التي تصورها أفلامه. أورسون ويلز، من ناحية أخرى، هو مثل النبيل الأرستقراطي، الرجل الذي يهتم بسيكولوجيا المضطهِدين أكثر من قلق المضطهَدين.. بالتالي هو يقف خارج الحياة الاعتيادية، على نحو غامض يرشح ازدراءً إزاء رجال مثل جوزيف ك أو بطل "الرجل الخطأ".

المشاهد التي تتضمن تحدياً للمحكمة واستخفافاً بها هي غير محتملة الحدوث بالنظر إلى العالم الكافكاوي الذي به يبدأ الفيلم. مع ذلك، هذه المشاهد متناغمة مع وصف ويلز لنفسه (في إحدى مقابلاته) بأنه مثقف "إدواردي" أكثر منه حديث، وبتشبثّه بالمعتقد الرائج في القرن 19 والذي ينص على أن الأدب ينبغي أن يشفّ عن أمل ما للإنسانية.

على نحو مثير للاهتمام، تغييرات ويلز للقصة الأصلية يتضمن استنتاجاً مماثلاً لهجوم جورج لوكاش على كافكا في كتابه "الواقعية في زمننا"، والذي يقول:

"هل ينبغي للذعر أو الحصر النفسي أن يتم تناوله كشيء مطلق، أم يتعيّن قهره والتغلّب عليه؟ هل ينبغي أن يُنظر إليه كردة فعل واحدة بين أخرى، أم يتعيّن أن يكون حاسماً للوضع البشري؟ في المقام الأول، هذه بالطبع ليست أسئلة أدبية، إنما تتصل بسلوك الإنسان وتجربته في الحياة. السؤال الحاسم هو ما إذا الإنسان يهرب من حياة زمنه إلى عالم التجريد – حيث يتولّد الذعر في الوعي الإنساني – أم يواجه الحياة العصرية عاقداً العزم على محاربة شرورها ومساندة ما هو خيّر فيها. القرار الأول يفضي إلى سؤال آخر: هل الإنسان ضحية عاجزة، لا عون لها، لقوى مبهمة، كائنة فوق الوجود المادي، ومتعذّر تفسيرها، أم هو فرد داخل مجتمع إنساني فيه يستطيع هو أن يلعب دوراً، مهما كان صغيراً، في تغييره أو إصلاحه؟".

أورسون ويلز، بالطبع، ليس واقعياً اشتراكياً مثل لوكاش، مع أن الكلمات التي يضعها على لسان ك، قرب نهاية الفيلم، هي مماثلة تماماً للكلمات التي أوردناها للوكاش. إن عدم ارتياحه لرؤية كافكا هو مثال للنزاع الداخلي الذي نشأ ضمن الديمقراطية الليبرالية، والذي يدير المعركة داخل وعي ويلز نفسه.. نزاع بين ما يدعوه لوكاش "الحداثة البورجوازية" و"الواقعية النقدية". من جهة، هناك نوع من الفن الذي يستسلم للتجريد، للقلق والحصر النفسي، لفكرة أن الحياة عبثية. من جهة أخرى، هناك نوع آخر مهما تأثّر بالتقليد الحديث فإنه يحافظ على قيم إنسانية أساسية. هذه الرؤية الأخيرة هي التي يحاول ويلز أن يؤكدّها، على الرغم من حقيقة أنها تقريباً تقطع أوصال فيلمه.

اعتراض ويلز ليس ناشئاً فقط من كراهيته الشخصية لنهاية الرواية لكن أيضاً الظروف التاريخية، التي اعترف ببعضها في مقابلة له مع كاييه دو سينما بعد عرض الفيلم. شارحاً لم يصعب احتمال نهاية كافكا الأصلية في 1962، يقول ويلز: " بالنسبة لي، الرواية بالية، كتبها مثقف يهودي قبل مجئ هتلر. ما كان لكافكا أن يكتب ذلك بعد هلاك ستة ملايين يهودي. هذا ممكن في المرحلة التي سبقت ما جرى في أوشفيتز (معسكر اعتقال نازي). أنا لا أقصد أن نهايتي هي الأفضل، لكنها الحل المحتمل الوحيد".

لقد خلق كافكا رؤية كابوسية للحياة الاعتيادية في ظل حكم آل هابسبورغ الملكي، في مجتمع فاشي بدئي الناس فيه تحولوا إلى أشياء أو "حالات"، وحيث البيروقراطية المبهمة، الفسيحة، تغلّف كل شيء. في هذا المناخ، يتم اعتقال جوزيف ك، يقدّم إلى المحاكمة، ثم يعاقَب دون أن يعرف ما هي التهمة الموجهة ضده. في النهاية، هو يرمق وجهيّ الجلاديْن الغريبين، اللذين ينحنيان فوقه، وبالسكين يشقان قلبه بحركة ملتوية فيما هو يصرخ في يأس وخزي.

إن الإشارة إلى الخزي هنا مثَل حاسم للموقف الذي يجده ويلز مقلقاً جداً. إنه يلمّح إلى شعور ك بالذنب ومازوشيته وقبوله اللاواعي بسلطة القانون. بالإحساس بهذا الخزي، بالأمل في لحظاته الأخيرة في إيجاد "القاضي الذي لم يره قط"، يساهم ك في تجريد نفسه من الصفات الإنسانية.

يقول أورسون ويلز عن جوزيف ك أنه: "ينتسب إلى شيء يمثّل الشر والذي هو جزء من ذاته في الوقت نفسه. هو ليس مذنباً بما يتهمونه به، لكنه مذنب مع ذلك. إنه ينتمي إلى مجتمع مذنب، وهو يتعاون معه".

من الطبيعي أن تظل رؤية كافكا للانسلاب الاجتماعي والكبح موضوعاً فنياً شرعياً وفعالاً لويلز، الذي حاول أن يحوّلها إلى رمز للأخوية الكبرى في العصر الما بعد صناعي، لكن بجعل ك متعاوناً سلبياً في نهاية الفيلم، فإن ذلك يوحي بأن وجود هتلر كان ضرورياً، حتى لو دلّ ذلك ضمناً على تواطؤ لاواع بين كافكا والنازيين. لقد شعر ويلز بأن من الضروري الإلحاح على أن جنون ك ليس جزءاً من الوضع الإنساني المجرّد، وبفعل ذلك هو اتّخذ موقفاً مفعماً بالأمل أكثر من موقف كافكا.

تاريخياً، كانت هناك أسباب أخرى وجيهة عند ويلز للشعور بالاستياء وعدم الرضا من الانعزال والتجرّد والعبثية في الفن الحديث. مع حلول بداية الستينيات، أصبحت الطليعية مختلفة نوعياً عن أسلافها. اللوحات التكعيبية والتعبيرية للحداثيين الأوائل خلقت بيئة للتعبيرية التجريدية القادمة. تجارب جويس وكافكا الأدبية أفسحت المجال لبيكيت ويونيسكو. خلال هذه الفترة يلاحظ المرء نقصاً مطّرداً للنوعية التاريخية في الفن، وفقداناً للمنظور الاجتماعي. الوعي بالزمن والمكان، الذي جعل من دبلن جيمس جويس وبراغ كافكا محيطاً مفعماً بالحيوية، قد تم استبداله بنوع من الأرض الأدبية غير الآهلة. لوكاش وصف هذه الظاهرة باعتبارها فقداناً للموثوقية، تقهقراً نحو التجريد الذي نتج عن العصر النووي والحرب الباردة.. وقال: "فيما تتعمّق أزمة الحداثة، تزداد الواقعية النقدية أهمية".

لكن المشكلة مع إعداد ويلز لرواية كافكا هو أنه أقل نقدياً مما يحتاج أن يكونه، ويفتقر إلى "موثوقية" الأصل. من نواح عديدة، حاول ويلز أن يعصرن الرواية، جاعلاً إياها أداة لنقل الهجاء الاجتماعي المعاصر.. على سبيل المثال، هو يقدّم جهاز كومبيوتر هائل في مكتب جوزيف ك، ويجعل ك يتكلم ضد المفهوم الفني السائد في الوقت الحاضر القائل بأن الحياة "عبثية".

لكن المفارقة أن فيلم ويلز هو نتاج النزعة التجريدية ذاتها التي هو اختار أن يهاجمها. لقد سبق لأورسون ويلز أن أخرج مسرحية "الخراتيت" في لندن العام 1960، كما أن تأثير مسرح اللامعقول أو العبث يمكن إيجاده في كل أرجاء فيلمه "المحاكمة".

تأمل المشهد الذي يصوّر عودة ك إلى بيته حاملاً علبة من الكعك اشتراها لإحدى جاراته. إنه يلتقي بامرأة عرجاء تسحب حقيبة ثقيلة. في لقطة مصاحبة tracking طويلة، على نحو استثنائي، نراه يسير وراء المرأة عارضاً عليها المساعدة، لكنها ترفض هذه المساعدة، متهمةً إياه بأنه المسؤول عن طرد تلك الجارة.

إنهما يستمران في السير معاً، بينما يجري بينهما نقاش مطوّل. الموقع قاحل، ملئ بمبان عامة لا شخصية مميّزة لها. ك يلهو بعلبته البيضاء الصغيرة، يقذفها في الهواء، ثم يغادر في توتر وإحساس بالذنب، فيما المرأة تسير بتثاقل وهي تجرجر الحقيبة السوداء. ساقها المزوّدة بسناد تُحدث قعقعة مع كل خطوة. إنها لحظة هزلية على نحو قاتم، غريبة ومخيفة، وليس لها مرادف عند كافكا. على العكس، هذه اللحظة لا تماثل إلا اللحظات المشابهة في المسرح اللامعقول أو العبثي كما عند بيكيت أو إدوارد ألبي. إن هدف ويلز هنا، كما في أي مكان آخر، يبدو كما لو يؤسس المناخ الوجودي للمسرح المعاصر بينما، في الوقت نفسه، يُظهر أن العبث أو اللامعقول هو نتاج "مجتمع مذنب". لكنه لسوء الحظ لا يكون قادراً أبداً على إيجاد تحقّق درامي مرْض لهذا الهدف مثلما وجد في أعمال إثارية بوليسية مثل: "السيدة من شنغهاي" و"لمسة شر".

العالم الذي يخلقه هو اصطناعي تماماً، تحكمه استبدادية غير محدّدة، "وضع إنساني" معمّم متمثّل في تلك المباني المؤلفة من وحدات سكنية فسيحة، والتي هي ذات صلابة قليلة، بالتالي يكون الهجاء غير حاد.

ويلز نفسه قد علّق، على نحو دفاعي إلى حد ما، على الفوارق في النبرة والطابع بين فيلمه ورواية كافكا، مركّزاً خصوصاً على المواقع غير العادية التي تعرضت للنقد بسبب خاصيتها الباروكية، العملاقة. بسبب الصعوبات المالية، لم يتمكن ويلز من استخدام مواقع مصممة خصيصاً في يوغوسلافيا. بناءً على ذلك، هو ارتجل في محطة باريسية خالية، باذلاً أفضل ما يستطيع في ظروف يائسة.

مشروعه الأصلي كان فعلاً أكثر تجريدية من الصورة التي خلقها.. يقول: "في المشروع الذي تخيلته أصلاً، كان على المواقع أن تختفي شيئاً فشيئاً، وكان على عدد من العناصر الواقعية أن تتناقص تدريجياً، وأن يراها المتفرج وهي تتناقص حتى لا يبقى غير مكان واحد مفتوح بينما كل شيء يتلاشى".

على الرغم من الافتقار إلى المصداقية في المواقع، إلا أن الفيلم مثير للاهتمام تقنياً، كما هو الحال مع أفلام أورسون ويلز.

في الفيلم، الميزانسين يصبح غير منطقي. تجوال ك يأخذه عبر عالم صادم ومحيّر. الكاميرا على نحو متكرّر تصاحبه فيما هو يتنقّل من موقع مختلف، على نحو غريب، إلى موقع آخر، وموسيقى ألبينوني البطيئة تشكّل ثيمة حزينة، مهيمنة ومتكررة، والتي تعزّز الإيقاع السلس، المتواصل، للقطات.

الفضاء يبدو منطقياً، ما على ك إلا أن يفتح باباً، أو يعبر رواقاً، ليجد نفسه في بيئة جديدة. من اللحظة التي يغادر فيها النزُل، يتحوّل العالم إلى مكان خادع ومضلّل، متقلّب، عدائي على نحو متزايد. عندما يحاول أن يخترق المحاكم، هو يتحرك عبر مناطق مفتوحة، ضخمة، مليئة بحشود خنوعة وسلبية. حين يحاول أن يهرب، يجد نفسه دوماً داخل حدود المحكمة، راكضاً عبر دهاليز شبيهة بالأنفاق، والتي تفضي به إلى مجابهات جديدة مع القانون.

مشاهد الافتتاحية مصممة بعناية لتأسيس محيط طبيعي نسبياً، منه سوف تنطلق بقية الفيلم، حتى لو كانت تؤذن ببناء الأحداث الباقية فيما هي تحدّد سيكولوجية ك.

من البداية نحن نشعر بأن فيلم "المحكمة" سيكون دراما نفسية عن موظف بيروقراطي مضطرب، كل شيء في القصة هو نتاج ما دون وعي الشخصية الرئيسية.

القصة تبدأ مع استيقاظ ك (أنتوني بيركنز). من زاوية سفلى نرى أحد ضلفتي الباب المزدوج ينفتح، ويدخل الغرفة رجل ذو قبعة سوداء. ك يجلس على السرير. الكاميرا تتحرك يساراً، طافية خلف رأسه المظلل، كما لو أن المشهد معروض من ذهنه. مفتش الشرطة يتقدم من الباب. شرطي آخر يدخل اتفاقاً ويغادر، في حين يحاول ك أن يغيّر ملابسه. عندئذ يوجهون إليه تهمة إقامة علاقة سريّة مع جارته. في توتر وتشوّش، هو ينكر التهمة وينكر امتلاكه أي مادة أدبية إباحية ومفسدة للأخلاق. يُلقى القبض عليه دون تحديد طبيعة الجناية، ودون توجيه تهمة رسمية له، وأن الأمر لا يتعدى الإجراءات الشكلية والقضائية.

هذا المشهد يجعل العلاقة بين الدولة والأنا العليا واضحة وصريحة تقريباً، ويُظهر قلق ك المتنامي من مشاركته الإرادية والطوعية في هرمية الكبح الاجتماعي. "أنا رجل ذو عادات منتظمة".. هكذا يقول للشرطي. وفي ما بعد يعترف لجارته المثيرة أنه كان دوماً يشعر بالإثم حين يلتقي بشخصيات سلطوية ذات نفوذ، من ضمنهم أبوه وأساتذته: "الأمر يسوء أكثر حين لا ترتكب ذنباً أو خطأ، ومع ذلك تشعر بالإثم".

الأجزاء الأولى من الفيلم أيضاً تؤسس "القوانين" الرسمية للفعل الباقي. الموقع الداخلي لمنزل ك مصوّر بعدد من اللقطات المصاحبة، التي تتحرك عبر الغرف المختلفة، خالقة الإحساس بأننا في متاهة صغيرة تحاكي المتاهة الكبرى المقبلة.

في بقية الفيلم، ك على نحو متكرّر يدنو من مداخل مماثلة، وفجأة يفتح باباً ليواجه منظراً غير متوقع.

الأبواب المتعددة، المتنوعة، هي من بين الرموز الرئيسية لعالم ك الحلمي، وواحدة من الطرائق التي تحقق انتقالات من مرحلة في الحدث إلى مرحلة أخرى. دائماً هي تنفتح على أمكنة مختلفة على نحو محيّر ومذهل.

الباب الذي يفضي إلى حجرة ما دوماً يوحي برعب نفسي مكبوح.. سواء أكانت رغبة جنسية محرّمة، أو إحساس خفيّ بالذنب، أو خوف من جزاء. كل مدخل ينذر بنوع من الصدمة.

حركات الممثل بيركنز عبر الأبواب، وفي النهاية نحو حقل ما، تدلّ على تقدّم شخصيته. هو في الحقيقة لا يصل إلى أي مكان، لكنه يتغيّر. الفيلم يبدأ مع ك وهو يكنّ كل الاحترام للموظفين الرسميين الذين يوجهون له ما يشاءون من تهم. هو ينظم حياته منهجياً. ينكمش مرتعداً أمام رئيسه، بينما يتصرّف مع الموظفين في مكتبه مثل ضابط صارم في فرض النظام. هو إلى حد ما يقاوم، دون نجاح، الرغبات الجنسية متباهياً، طوال الوقت، بكفاءته وفعاليته في العمل.

إن كل ما يبذله من جهد، وفقاً لما يمليه ضميره، للدفاع عن نفسه ضد المحكمة، لا يخلّصه من الدور المرسوم له بوصفه سن دولاب في نظام الرعب المؤسس. حتى تذمره بشأن انتهاك حقوقه المدنية يؤدي به إلى أن يصبح شاهداً، مذنباً، خائفاً من التعذيب. لكنه شيئاً فشيئاً يبدأ في إظهار ومضات من الغضب، بل أنه يطالب بالاحترام من حاجب المحكمة، الضعيف، والذي ينظر إليه كبطل. في نهاية الفيلم، ك لا يكف عن القلق بشأن عمله، لكنه يصبح تدريجياً أكثر جرأة وتحدياً. أخيراً يطرد محاميه ويسخر من سلطة المحكمة.

إذا لم يستطع ك أن يثير التعاطف، فإنه على الأقل يحصل على الفرصة لتوكيد نفسه والدفاع عنها. وفيما هو يزداد جسارةً، يصبح خصومه أكثر ضعفاً.

عدم الكفاءة نجدها عند الشخصيات الرسمية والقانونية. في الجزء الأخير من الفيلم، كمثال، لا يمتلك الجلادان القدرة على غرز السكين في صدر ك. في النهاية نراهما يركضان في ذعر من المتفجرات. في أفضل الأحوال، ويلز يوحي أن نفوذ وسلطة المحكمة على قضاياها يتوقف على تعاون المتهمين.

لكن تقدّم ك عبر المتاهة لا تفضي به إلا إلى تحرر جزئي من الإحباط، إلى انتصار منتزع بثمن باهظ جداً.

نساء ويلز مختلفات قليلاً عن النساء في رواية كافكا. إنهن أكثر فطنة ودهاء، عادةً هن جذابات على نحو حقيقي. لكن إجمالاً، يبدو ويلز غير راغب، أو غير قادر، على تقديم صورة كافكاوية عن الاعتلال الجنسي. من جانب آخر، ويلز حاكى كافكا في جعل النساء يصبحن، في عالم ك، بغيضات ومهدّدات أكثر كلما يزددن شهوانية.                             

المصدر:

عن كتاب The Magic World of Orson Welles

مجلة البحرين الثقافية ـ أبريل 2010

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004