أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

فــيــلـم «دوغـــفـــيـــل» (1-2)

طعـــــــم الـــــســـــلــــطــــــة

بقلم: أمين صالح

على الرغم من تحذيرات من تعرف ومن لا تعرف بأن هذا الفيلم الذي تنوي مشاهدته ''بايخ'' ومضجر ولا يستأهل أن تهدر بسببه مالك ووقتك، فإنك تصر على دخول الصالة ومشاهدة فيلم ''دوغفيلDogville، مسلحاً بالثقة التامة في مخرج الفيلم الدنمركي لارس فون ترير (الذي يعد واحداً من أهم المخرجين المعاصرين في السينما العالمية) وفي طاقم الممثلين الذي يضم عدداً من الشخصيات البارزة والاستثنائية في عالم التمثيل مثل: نيكول كيدمان، لورين باكول، بن جازارا وآخرين.. ومسلحاً أيضاً بمعرفتك عن فوز الفيلم بأكثر من عشر جوائز في مسابقات متعددة مثل: جائزة بوديل كأحسن فيلم، جائزة السينما البرازيلية كأحسن فيلم أجنبي، جائزة جمعية الكتاب السينمائيين بأسبانيا كأفضل فيلم أجنبي، جوائز الفيلم الأوروبي كأفضل مخرج ومصور، جوائز النقاد الروس كأفضل فيلم أجنبي وأفضل ممثلة أجنبية، جائزة الجمهور في مهرجان صوفيا كأفضل فيلم.

و بالطبع، فإن مثل هذه الجوائز يستحيل منحها إلى فيلم ''بايخ'' ومضجر ولا قيمة له، أو من باب المجاملة.

على أية حال، تختار مقعدك وتوجه بصرك إلى الشاشة حيث تتعاقب أمامك الصور، لا يشاغبك إلا انسحاب الجمهور القليل من الصالة خلال النصف الساعة الأولى من عرض الفيلم (وتستغرب كيف حكم هذا الجمهور، وفي فترة وجيزة، على فيلم مدته ثلاث ساعات تقريبا بأنه سيء ولا يستحق المشاهدة؟) على أية حال، تظل أنت متسمراً على مقعدك، مشدوداً إلى الشاشة، لتشهد تجربة أخاذة، جريئة وجديدة (علينا، على الأقل، نحن الذين لا يتسنّ لنا إلا مشاهدة شذرات أو اليسير من التجارب الفنية العالمية) دون أن يعتريك الضجر الذي حذروك منه.

''دوغفيل'' اسم بلدة أمريكية صغيرة، لكن في الفيلم تحتمل أن تكون منطقة متخيلة، ميثولوجية، أو عالما مصغراً كمجاز لعالم أوسع، أو مجرد موقع سينمائي. فنحن لسنا أمام موقع حقيقي وطبيعي بكل جغرافيته الواقعية وهندسته المميزة وشوارعه وبيوته ودكاكينه، بل نحن أمام موقع بياني وإيحائي، أشبه بخشبة مسرح كبيرة، حيث الديكور التجريدي الذي يعتمد الإيحاء، والاختزال في الاكسسوارات، والأرضية المخططة بالطباشير لتشير إلى أسماء الشوارع والطرقات والحديقة.. أما الممثلون فيتحركون عبر هذه الأماكن التجريدية، الوهمية، بطريقة إيحائية، فيطرقون أبوابا غير مرئية لكننا، من خلال التسجيل الصوتي، نسمع أصوات الأبواب وهي تطرق وتنفتح، بل ونسمع نباح الكلب المرسوم بالطبشور على الأرض.

حدود البلدة غير واضحة المعالم لكن ثمة طريق تفضي إلى بلدة أخرى، أما الأفق والسماء فتغلب عليهما العتمة حيث ينتظم السواد والبياض ليخلق إحساساً بحالات الرهاب والبارانويا، أما الإضاءة والألوان فتتغير حسب الفصول وأوقات اليوم. والملاحظ أن جميع الممثلين حاضرون في الموقع لكن تحجبهم الإضاءة أو لا تحصرهم الكاميرا في الكادر عندما لا يستدعي المشهد وجودهم.

و كما في الروايات الكلاسيكية، يوظف الفيلم الراوي العليم بكل شيء، العارف بكل المجريات، حيث نسمع الراوي (بصوت الممثل البريطاني جون هارت) وهو يصف ويعلق على الأحداث والشخصيات ويفسر ما هو على وشك الحدوث في الجزء الذي سوف يلي ما نراه. والقصة لا تعتمد السرد المألوف إنما تنقسم إلى تسعة فصول مع برولوج (مقدمة تمهيدية) يشكلها وعي المتفرج ومخيلته.

إلى هذه البلدة الصغيرة والفقيرة، وفي زمن الكساد الاقتصادي الذي اجتاح الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين، تصل امرأة شابة، تدعى جريس (نيكول كيدمان)، هاربة من شخص ما أو شيء ما. وسرعان ما تلفت نظر توم (بول بيتاني)، الكاتب الشاب الطموح، والذي ينجذب إلى جمالها وبراءتها وصدقها وغموضها، فيسعى إلى قهر نزعة الحذر والارتياب عند أهالي البلدة تجاه أي تطفل أو اختراق من العالم الخارجي، ويحاول إقناعهم بتوفير الملاذ والحماية لهذه المرأة الخائفة والمستجيرة بهم، وإزاء معارضتهم وخشيتهم من التورط في أمور لا بقرها القانون، يقترح توم أن تقوم جريس بتأدية خدمات اجتماعية للأفراد أو العائلات، من تدريس للأطفال ومساعدة في أعمال الحقل والبستنة واعتناء برجل أعمى يرفض الاعتراف بعاهته، بحيث تخصص يوما لكل فرد أو بيت، لمدة أسبوعين، حتى تكسب ثقتهم وقبولهم وتثبت جدارتها بالملاذ الذي سيوفرونه لها بعيداً عن أعين المطاردين.

توم لا يفعل ذلك من أجل حمايتها فحسب، بل أيضاً- بحكم قيمه الأخلاقية ومبادئه المثالية- يريد أن يستثمر ما تتسم به جريس من صدق وبراءة ونقاء وسخاء في التأثير على أهالي البلدة ورفع الروح المعنوية التي تعرضت للانكسار والانطفاء بفعل الوضع الاقتصادي السيئ (الكساد) الذي أدى إلى تفشي الفقر والقلق والخوف والقنوط. إنه يسعى إلى كسر حالة الانعزالية والخوف من كل ما هو غريب وأجنبي، والقبول بالآخر.

لكن ما ينجم عن ذلك هو النقيض أو البعيد عن أي توقع.. فالأهالي الذين يطمئنون إليها، ويتذوقون طعم الراحة والسعادة- ربما للمرة الأولى بعد سنوات من الضيم والقهر- لا يريدون لهذه الراحة والمتعة أن تكون زائلة ومحكومة بظرف طارئ أو عابر، ولا يريدون لهذه المرأة أن تتحرر من سطوتهم وأن تستقل بذاتها فيفقدون ذلك الطعم الحلو والإحساس المبهج بالسلطة. وكل محاولاتها للهرب تبوء بالفشل بسبب تواطؤ الأهالي ضدها.

إنهم يرغمونها على تمديد الفترة المتفق عليها، كشرط لإثبات جدارتها، ومضاعفة الخدمات التي تقدمها للأهالي، تعويضا عن مجازفتهم في إخفائها عن أعين الشرطة والمطاردين. إنهم يستغلون براءتها وضعفها وخنوعها في إخضاعها والإبقاء عليها تحت نفوذهم وسلطتهم.

بالتدريج، وعلى نحو منهجي، يبدأون في ممارسة سلطتهم عليها، في خداعها وتعريضها للعداء والإذلال والعقاب والحبس والتعذيب والاغتصاب من أجل تحطيمها وإخضاعها كلياً.. وأثناء ذلك، يكشف الأهالي عن دواخلهم في أبشع صورها وعن غرائزهم في أشنع تجلياتها.

لكن من هي جريس.. هذه الكائنة البريئة والهشة التي تتقبل كل هذا الإذلال والعقاب، كل هذه القسوة والعنف، في استسلام وخنوع تام؟

من تكون، ما هي هويتها؟ لا نعرف، لا أحد يعرف. هل هي مهاجرة غير شرعية؟ لاجئة سياسية؟ ملاك مبعوث من السماء لتطهير بلدة تعج بالإثم ولا أمل لها في الخلاص؟ هل هي غضب الرب؟ صورة أخرى للمسيح الذي يعانق آثام وخطايا البشر من أجل تخليصهم؟ هل تمثل الجماهير المقموعة؟

في النهاية تصل إلى البلدة سيارات غاصة برجال العصابات، بقتلة قساة مسلحين بالرشاشات، ونكتشف بأن جريس هي ابنة زعيم العصابة.. وداخل السيارة يدور بينهما حديث طويل عن السلطة، الغطرسة، الغفران، الرحمة، العدل، العقاب..عن المفاهيم التي تتصل بالطبيعة البشرية، بالسلوك الإنساني. وبعد هذا الحديث تأمر جريس بقتل كل فرد في البلدة وحرقها تماما. وينتهي الفيلم تاركا لكل متفرج حرية التأويل وفق معطياته ومفاهيمه الخاصة.

الفيلم أثار جدلاً وخلافاً واسعاً في الأوساط النقدية، وقد انقسم النقاد حوله، فالبعض وجده مخيباً أو فاشلاً ولا قيمة له، والبعض الآخر اعتبره تحفة فنية. وعدد من النقاد الأمريكان رأوا فيه فيلما معادياً لأمريكا ولأسلوب الحياة الأمريكية..هكذا تتعدد القراءات والتأويلات، وتبقى للفرد حرية التقييم الخاصة به.

هذا الفيلم، المطعم بنكهة كافكاوية، يستفيد من الأسلوب البريختي في كسر الإيهام وحالة التطابق التي تتخلق عادة بين المتفرج والفيلم. والمخرج يعتمد في تكويناته على اللقطات القريبة وعلى الانتقالات المفاجئة في المونتاج. والجدير بالذكر أن لارس فون ترير يميل إلى تصوير العديد من مشاهد أفلامه بنفسه، وبكاميرا فيديو ديجيتال محمولة باليد، رغم وجود مدير التصوير أنتوني دود مانتل.. الذي تعاون معه في عدة أفلام.

للفيلم أصداء، فنية وأدبية، كثيرة. والمخرج يشير صراحة إلى هذه التأثيرات ومنها: أغنية بريخت '' القرصان جين'' (في الموقف) فيلم ستانلي كوبريك ''باري ليندون'' (في الموسيقى والسرد) عرض فرقة رويال شكسبير للعمل التلفزيوني ''نيكولاس نيكلبي'' (في الميزانسين) وفي الأدب هناك رواية ثورنتون وايلدر ''بلدتنا''.. لكن كل هذا لا ينفي الجدة والأصالة والروح الخلاقة التي يتميز بها الفيلم.

الوطن البحرينية في

05.04.2006

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004