أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

مخرج الأحلام فيكتـــور إيريثــه«2-2»

من الهشاشة يولد الجمال

ترجمة -أمين صالح

في فيلمي " روح خلية النحل" نحن نرى وعي الطفلة يتشكل طوال الفيلم.. الوعي الذي سوف يكون مميزا إلى الأبد باعتباره منفصلا عن الرؤية التقليدية، المألوفة، للعالم. يمكن أن يكون وعي فنان و الذي من خلاله يرى الفنانون أشياء لا يراها الآخرون، أو يرونها بطريقة مختلفة.

في البداية، الصغيرة مجرد كائن طيّع، سهل الانقياد، و جبان.. مجرد طفلة تطرح أسئلة. و هي لا تستطيع أن تفهم كيف يمكن أن يكون هناك شيء عبثي جدا في الحياة، أو مخيف جدا بحيث يجعل المخلوق المسخ يقتل طفلة.

ما يريده المسخ، في بؤسه و شقائه، أن يكون مقبولا في المجتمع و معترفا به، لكن المجتمع يرفضه. في هذا المسخ يوجد شيء إنساني يصعب اكتشافه. لذا فإن تماهي الطفلة معه هو تطابق و تماه مع أولئك الذين يعانون و يتعذبون.. ذلك أنها تختبر المعاناة أيضا.

في البداية، الصغيرة لا توجد إلا من خلال أختها، أو من خلال الأشياء التي يتم تلقينها من قِبل الآخرين. لكن، قرب النهاية، هي توجد بذاتها، و الأثر الأول لهويتها يكون قد تشكل. و لهذا السبب تقول: " أنا".. و بهذه الكلمة تعبّر عن ذاتها للمرة الأولى.

لكن عملية التشكل، و الكينونة، تلك تشمل الألم أيضا.. فالمعرفة أشبه بجرح. و الوعي يتشكل من خلال الجرح.

*  *  *  *

فيلمي "شمس شجرة السفرجل" يعتمد في توتره الدرامي على الحوار بين الفن و الطبيعة.. هناك، من جهة، الطبيعة، الشجرة، الموضوع الحي. و من جهة أخرى، هناك الرسم الذي يحاول أن يعيد إنتاج الشجرة في لحظة معينة من لحظات اشراقها. لكن الشجرة ليست طبيعة صامتة: إنها تتحرك، إنها حية. و هذا يخلق توترا يكرر اسطورة صراع الجنس البشري للتحكم في الطبيعة.

هناك مواجهة – أو علاقة- بين لغة الرسم و لغة الفيلم. الفنان يعمل فقط تبعا للّـحظة، لكن الكاميرا السينمائية تستطيع أن تأسر شيئا لا يستطيعه الر سام: حركة الزمن.

الزمن حاضر في كل ابداع فني، لأن الإنسان ينشد الدوام. النضال من أجل البقاء في وسط ما هو عابر و زائل، هو تعبير عن حالة الوجود التراجيدي. لذا فإن محاولة الرسام أنتونيو لوبيز لإيقاف دورة الشجرة الطبيعية و الإمساك إلى الأبد بلحظة في حياتها، هذه المحاولة محكومة بالإخفاق. لكنه يقبل بهذا الإخفاق لأنه ينظر إلى الشجرة باعتبارها شيئا منجزا تماما، كاملا جدا.

ما إن يشرع هذا الفنان في العمل و يضع بناءً معدنيا حول الشجرة، حتى تصبح الشجرة شيئا آخر.. أشبه بموديل للفنان. بعد ذلك، مع لطخات الصبغ – الأشبه بمكياج- و التي يضعها عليها كعلامات، الشجرة تدريجيا تفقد هويتها كشجرة.

عندما انتهى أنتونيو من عمله، و بدأ في إزالة كل شيء - البناء المعدني، البلاستيكي- قلت فجأة:" لكنها مجرد شجرة صغيرة!".. إذ لمدة ثمانية أسابيع لم نكن نراها كشجرة. إن أنتونيو يحاول أن يوقف جريان الزمن، لكن تأتي اللحظة حين يشعر بأنه لا يستطيع أن يستمر بسبب تساقط الثمار. إنه يتقدم و يلتقط الثمرة، و هذا يحدث عندما يسلّم بقدر الشجرة، عندما يقبل هزيمة المشروع البشري و يسمح للشجرة بأن تواصل مسارها. بالنسبة لي، كان ذلك أكثر الأفعال عاطفية في الفيلم.

كان يمكن للفيلم أن ينتهي مع انسحاب الفنان، لكنني شعرت بضرورة إظهار سخاء هذه الشجرة الصغيرة الهشة التي في كل عام، و في صمت، تنتج ثمارا لإطعام الناس. كل شيء حي هو مصدر للحياة.

حين يشاهد المتفرج الفيلم و يسلك الطريق الذي مشيناه، سوف يجعل من هذه العملية، التي كانت تخصنا، شيئا خاصا به.. شيئا قادرا على الخلق و إعادة الخلق بداخله.

 الفيلم لا يوجد ما لم يكن مرئيا. إذا لم تكن هناك أعين ترى الصور، فإن الصور لا توجد. حين أنتهي من الفيلم فإنه لا يعود فيلمي، بل ينتمي إلى الناس، فأنا لست سوى وسيط في هذه العملية.

*  *  *  *

إستريلا، في فيلمي "الجنوب"، تفهم أخيرا بأن والدها لم يكن ساحرا بل مجرد رجل عادي. هزيمة الآباء على يد أبنائهم مبدأ طبيعي: فالطفل ينمو و يكبر و يجد مكانه الخاص و هويته الخاصة في العالم، و هذا يعني أنه يترك وراءه شيئا مما ورثه من والديه. إنه لا ينسى ذلك الإرث لكنه يتجاوزه من أجل أن يصبح فردا، ذاتا خاصة. الذريّة تهزم خالقيها، و هذا ينطبق على الخلق الفني أيضا. لكن هناك أفرادا –أمهات و آباء- يرغبون في تبلور تجربتهم مع أطفالهم في مرحلة الطفولة. هذا ما يحدث مع والد إستريلا.

لقد حالت صعوبات الإنتاج دون تصوير الجزء الأخير من فيلم "الجنوب"، و كان لذلك تأثير على فعالية الفيلم.

الأب هنا رجل منقسم بين تاريخين أو عالمين: الشمال و الجنوب. لكنه طوال حياته كان عاجزا عن القيام برحلة إلى الجنوب لربط أو توحيد ما تباعد و تفرّق. لهذا السبب نراه، في الليلة الأخيرة من حياته، يضع تحت وسادة ابنته الرمز الذي وحّد بينهما: بندول الساعة.و بفعل ذلك هو يمنحها تفويضا: هي التي يجب أن تمضي إلى الجنوب و تفعل ما عجز هو عن فعله.

لذا، بدون الجزء الختامي في الجنوب، يتشوه الفيلم بعمق. لقد كان موجعا جدا، بالنسبة لي، ألا أتمكن من إنهائه بالطريقة التي أردتها. ففي رحلة إستريلا إلى الجنوب كان عليها أن توّحد شطري أبيها، بحيث تتمكن هي أيضا في النهاية أن تقول:أنا إستريلا.

الرحلة إلى الجنوب كانت أساسية و جوهرية.

*  *  *  *

أظن أن مفهوم "الجماهيري" أو "الشعبي" هو مفهوم باطل و عقيم. الجمهور منقسم جدا. إنه لا يشكل كتلة كما كان الحال عندما كانت السينما كينونة واحدة.

نحن نشهد، في كل مكان من العالم، ولادة جمهور جديد و قيّم، يتعين علينا اشباعه. إنه الجمهور الذي ينتقي الأفلام التي يرغب في مشاهدتها.

كيف يمكن لنا أن ننافس تلك الأفلام التي تصرف الكثير من المال في الدعاية وحدها، و التي تجد رواجا بسبب الدعاية فقط؟

أعلم أن هناك جمهورا لهذا النوع من الأفلام التي أحققها و أحبها. لذا يجب أن يتاح لنا استخدام حق المبادرة، فإذا زال ذلك، هذا يعني ضياع شيء ثمين جدا.

أحيانا من الهشاشة تولد أشياء جميلة جدا.

الوطن البحرينية في

13.10.2006

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004