أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

هـويــات ممــوهـــة

والريــــــح ســــــوف تحملنـــــــا

بقلم: أمين صالح

الإيراني عباس كيارستمي هو واحد من أهم   وأبرز المخرجين في السينما العالمية المعاصرة، ويقر كثير من النقاد بنبوغ كيارستمي وعظمته كسينمائي متميز، استطاع بفضل إبداعاته - مع إبداعات سينمائيين إيرانيين لا يقلون أهمية- أن يضع الفيلم الإيراني على خارطة السينما العالمية، وأن يجعل من حضوره حدثاً ثقافياً مهماً.

لدى كيارستمي إحساس حاد بالتراكيب البصرية- الصوتية، ولديه أسلوبه الخاص الذي يتميّز به، والذي تجده حاضراً في أفلامه، حيث تتكرر العناصر في أفلامه، كما هي الحال عند أغلب كبار المخرجين في السينما العالمية (بيرجمان، أنتونيوني، تاركوفسكي، فلليني، بريسون، أنجيلوبولوس.. و آخرين) الذين يعبّرون عن عوالمهم الخاصة بالعناصر ذاتها واللغة التي تميزهم. في فيلمه ''و الريح سوف تحملنا'' (1999) يعرض عباس كيارستمي صوراً وثائقية- درامية لقرية جبلية في كردستان الإيرانية، محاطة بحقول الحنطة الخصبة، في علاقة متبادلة، تتسم بالشاعرية، مع الحال الذهنية لبطل الفيلم.

كيارستمي يقدم هنا حكاية، أو لنقل حالات، بسيطة جدا..ظاهريا وعلى نحو مضلل. منتج أو مخرج تلفزيوني يدعى بهزاد، يرافقه عدد من الفنيين (والفيلم لا يوضح هوية هؤلاء)، يصلون بالسيارة إلى قرية جبلية نائية من أجل تصوير أو تدوين أو مشاهدة (والفيلم لا يبّين بوضوح الدافع وراء الزيارة) شعائر دينية سرية ستقام مباشرة بعد وفاة امرأة عجوز بلغت المائة عام من عمرها. ورغم أن الموت على وشك الحدوث في أية لحظة، إلا أن العجوز تتشبث بالحياة على نحو غريب، ويمر أسبوعان وأفراد الفريق يزدادون ضجرا واستياء فيقررون العودة، ويبقى بهزاد وحده متأرجحا بين الترقب والتوتر، الأمل واليأس، الامتلاء والفراغ، مكوّنا علاقات عابرة وسريعة مع بعض أهالي القرية، ومحاولا التغلب على الضغوطات المفروضة عليه جراء مرور الوقت (من دون حدوث شيء).

الحدث، إن جاز القول، ينشأ من هذه المراوحة بين اللقاءات العابرة مع أفراد هذا المجتمع الصغير المحافظ ومحاولة التناغم مع عناصر الطبيعة، المحايدة منها والمراوغة، بينما ينتظر الحدث المفترض (موت العجوز) .. وأثناء ذلك يحاول إقامة علاقة صداقة مع دليله الصبي ''فرزاد''.

كيارستمي هنا يربك المتفرج بتمويه هوية الشخصيات الزائرة للقرية من جهة، وجعل شخصيات عدة توجد خارج مجال الكاميرا، أي مخفية، بحيث نسمع صوتها ولا نراها. بهزاد يقدم نفسه وفريقه بوصفهم مهندسين. ورغم أنهم جاؤوا إلى القرية ''ليصوروا حدثا ما'' إلا أن المربك والمحيّر في الأمر أننا لا نرى أجهزة تصوير أو إضاءة أو أية معدات أخرى توحي بأنهم سيصورون شيئا، بل لا نرى أبدا فريق العمل هذا، إنما نسمع أصواتهم فقط خارج الكادر، وهم إما يوجدون داخل غرفة أو في مكان خارج مجال الرؤية.

فضلا عن ذلك، هناك شخصيات ''مهمة'' لا نراها أيضا.. مثل يوسف، ذلك القروي الذي يحفر موضعا عميقا من أجل تركيب شيء يتعلق بالاتصال عن بعد، لكننا نسمع صوته، غناءه، صوت الرفش وهو يحفر.

بهذا كله يعمل كيارستمي على عزل بطل فيلمه بحيث يظهره كشكل ضئيل في محيط فسيح، يرهق نفسه في مسعى غير مجد ولا طائل من ورائه من أجل تسريع الزمن بدلا من مروره البطيء والمضجر والذي لا يحمل أي عنصر من الإثارة.

الفيلم يركز بؤرته على هذه الشخصية فحسب، بحيث يعزلها عن كل ما حولها وما يتصل بها.. بالتالي نجد أنفسنا أمام رحلة روحية يقوم بها شخص لا يدرك، على نحو تام، حقيقة أنه في رحلة روحية إلا في الدقيقة الأخرى. وفي هذه الرحلة يختبر الإحباط والخيبة والغضب (خصوصا بعد أن يتركه فريقه نتيجة الإحباط، ويأسه هو من حدوث أي شيء أثناء انتظاره) لكنه يتشبث بالأمل أو ببصيصه. وينتقل من الموقف المحايد، السلبي، إلى الانخراط والاهتمام..وذلك بعد إصابة يوسف في انهيار أرضي، حيث يقوم باستدعاء الطبيب والأهالي من أجل إنقاذ يوسف.

نحن هنا لسنا أمام قصة بالمعنى التقليدي، فهنا لا يحدث إلا القليل. لكن الفيلم يعج بالحياة اليومية.. والمساحات الخالية بين ''الأحداث'' الخفيفة تكون حافلة بالنقاشات، بالنوادر والحكايات الشعبية، والشعر (في أحد المشاهد يقرأ بهزاد قصيدة فروغ فروخزاد، والتي استعار منها عنوان الفيلم: ''والريح سوف تحملنا''..و الشاعرة فروخزاد هي من رموز الحداثة الشعرية في إيران، وقد عاشت حياة تراجيدية بعد انتزاع ابنها منها في قضية طلاق، وماتت في حادث تصادم سيارة وهي في الثالثة والثلاثين من عمرها.. وقد تحدث كيارستمي ذات مرّة عن فلسفتها الحسية التي تقترب كثيرا من فلسفة عمر الخيام الذي يستشهد الطبيب في الفيلم بقصيدته في مديح ملذات الحياة).

من جانب آخر، يمكن النظر إلى الفيلم بوصفه لوحة لمكان آسر يعتني كيارستمي كثيرا في رسمه عبر لقطاته العامة والطويلة، حيث الدروب المتعرجة السالكة، والحقول الخلابة، والتلال. كيارستمي - مثلما نلاحظ في أغلب أعماله- لا يهتم كثيرا بتصوير المواقع الداخلية واستخدام الإضاءة الاصطناعية، قدر تكريس اهتمامه بالمواقع الخارجية والمناظر الطبيعية. إن بهزاد يبدو أشبه بعالم أنثروبولوجي متنكر، مع أسئلته التي لا تنتهي والتي يوجهها إلى من يلتقيه من القرويين، وهو يسعى إلى الكشف عن هذا المكان النائي.

ورغم الرصد الأنثروبولوجي، إلا أن الفيلم أيضا عن ما لا يقال ولا يُرى، وكأن كيارستمي يريد من المتفرج أن يتخذ دورا فعالا في تقرير المعنى. طوال الوقت نسمع أشخاصا يتكلمون من دون أن نراهم، ومع أن بعضهم يعبر عن وجهة نظره في الحياة كاشفا عن شخصيته وأفكاره، إلا أن المخرج يترك للمتفرج مساحة يوظف فيها مخيلته، ويتيح له حرية التأمل والتأويل. وكأنه يقول: لكي تفهم، ليس من الضروري أن ترى.. بل أن تسمع وأن تتخيل.

إن كيارستمي يعتمد هنا، وعلى نحو أساسي، على الصوت. ثمة توظيف خلاق للصوت، وهو يستغني عن الموسيقى المؤلفة، مستغلا أصوات الطبيعة والكائنات. إنه يوظف على نحو متقن ومدروس مزيجا من هذه الأصوات بحيث تمنح العالم الطبيعي الحد الأقصى من الحضور الفاتن والغامض.

هذا الفيلم، الذي يعد أحد نماذج السينما الشعرية، يتسم بجمالية بصرية مدهشة.

الوطن البحرينية في

05.07.2006

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004