أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الأيام البحرينية

المحطة المركزية

رحلة في الجغرافية العاطفية

ترجمة: أمين صالح

الفيلم البرازيلي (المحطة المركزية central station) يحكي عن مدرّسة سابقة (دورا) تكسب رزقها من كتابة رسائل لأفراد أميين في محطة القطار بالعاصمة البرازيلية. يوماً ما تأتي إليها امرأة مع ابنها البالغ تسع سنوات طالبة منها أن تكتب (وتبعث) رسالة إلي والد الطفل، الذي هجرهما منذ سنوات ولم يعد، لكي يعود ويعتني بابنه. لكن دورا، كالعادة، لا تبعث الرسائل بل ترميها في اليوم التالي تلقي المرأة (الأم) مصرعها في حادث سير تاركة الصبي وحيداً. هنا تضطر دورا أن تساعده في البحث عن أبيه في قرية نائية.

الفيلم يسبر العلاقة بين المرأة والصبي، هذه العلاقة التي تنمو عاطفياً عبر رحلة مادية (فيزيائية) وعاطفية، تتعرض فيها دورا إلي تحول جذري من الانانية والخبث والخذاع الي الانفتاح والحساسية والاهتمام بالآخرين.

وقد لقي الفيلم ترحيباً من النقاد والجمهور، وحاز علي العديد من الجوائز العالمية، من بينها جائزة مهرجان برلين الكبري وجائزة أحسن ممثله في نفس المهرجان. وهنا يتحدث مخرج الفيلم والتر ساليس عن المحطة المركزية في مجلة (Cineaste)، شتاء 1998:


فالبرازيل بلد لايزال قيد التحقق. بلد الهجرة. البلد الذي فيه تتمازج وتختلط الجماعات العرقية الآسيوية والافريقية والاوروبية. لذلك نحن في بلد يعيد تحديد هويته الوطنية كل يوم، وهذا ما يجعل الأمر مثيراً للاهتمام حقاً. ثمة حاجة ملحة في البرازيل والتي من المثير جداً تصويرها. إحدي قدرات السينما تكمن في تصوير ما تجتازه البلاد وما تكابده. هذا ما حدث مع الواقعية الجديدة الايطالية ومع السينما البرازيلية الجديدة (سينما نوفو) في الستينات والسبعينات. انه عند اظهار وجه البلد علي الشاشة، وهو أيضاً عن توسيع رؤية المرء لذلك المكان المحدد. عندما شاهدت تلك الأفلام الايرانية، علي سبيل المثال، التي حققها كيارستمي ومخملباف، شعرت بأنها توفر لي فهماً ومعرفة أكثر اثارة للاهتمام عن ايران. لقد وسعت رؤيتي لتلك الثقافة. هذا ما أحبه في السينما، حين تتيح لك أن تفهم الآخر علي نحو أفضل، الآخر الذي لا يشبهك، وليس مثلك. أظن أن السينما تكون أكثر اثارة للاهتمام عندما تعرض المتنوع والتعددية الثقافية.

فعندما أخذ (الايطالي) روبرتو روسيطليني الكاميرا الي خارج الاستوديو ووضعها في الشوارع، فقد خلق في الواقع ليس ثورة جمالية فحسب، لكن ايضا ثورة أخلاقية، وهيأ الأرضية لوصول الواقعية الجديدة. السينما الجديدة في البرازيل كانت متأثرة جداً بالواقعية الجديدة، وهي وفرت للمرة الأولي امكانية أن تخلق صورة للبلد حقيقية وجديرة بالتصديق. القاسم المشترك في كلا الحركتين هو الاتصال الانساني لأولئك المخرجين. ثمة تصريح جميل جداً قدمه روسيلليني حيث قال: کما أريد أن اعرضه هو أن العالم ملئ بالأصدقاء. أحياناً عندما اشاهد العنف، ابتذال العنف في سينما اليوم، يتكون لدي انطباع بأن الجملة يمكن أن تنقلب لتصير کما أريد أن اعرضه هو أن العالم ملئ بالأعداء ثمة انقلاب غريب يحدث في السينما المعاصرة والذي لا أرغب في ان اكون مرتبطاً به. اظن اننا نعيش في مرحلة حيث هناك ثقافة اللامبالاة والشكوكية، وانا لا اشعر باتفاق معها. هذا يعلل الي حد ما واقع ان فيلمي يسرد الخلاص الذي يحدثه اكتشاف عاطفة لاحب. هذا ما يتحث عنه فيلمي کالمحطة المركزية. انه كذلك عن مسألة البحث، البحث عن عدة مستويات مختلفة. انها قصة صبي يبحث عن أب لم يلتق به أبداً، وقصة امرأة تبحث عن مشاعر فقدتها منذ زمن، ومن بعض النواحي هو فيلم يبحث عن اقليم انساني وجغرافي معين: ليس فقط شمال شرقي البرازيل لكن اقليم التضامن، اقليم اخاء معين بين الانداد.

الفيلم يظهر ان ذلك الاتصال ممكن بين افراد فقدوا كل اهتمام بالآخرين، ببعهضم البعض. انه عن امكانية ان يبدأ المرء حياته من جديد. الفيلم هو ضد هذا الاتجاه من الشكوكية، الذي فيه ربما ننقاد للاعتقاد بأن من الممكن استخدام أية وسيلة لبلوغ غاية محددة. لكن ذلك ليس صحيحاً. انه عن مقاومة ذلك. تلك هي الثيمة الضمنية.

اشعر ان الفيلم هو في الواقع قصة اكتشاف الحب بين شخصيتين متباينتين ويائستين جداً. انه عن ايجاد المرء مكانا له في العالم، ورؤية العالم ثانية كما ينبغي ان يري. بهذا المعني فإن فقدان الهوية معلن بوضوح في البداية، لأن كل ما تراه دورا ـ بطلة الفيلم ـ هو خارج البؤرة فيما عدا الشخص الذي تريد ان تنتزع منه نقوده. وفيما هي تبدأ في ادراك العالم بطريقة مختلفة ـ والعالم المغير هنا هو الصبي ـ عندئذ يكتسب الفيلم عمقاً معيناً في المجال، وتتوفر لديك الألوان التي لم تكن متوفرة في الرؤية الأحادية اللون للمحطة في بداية الفيلم. فيما يتعلق بكيفية تخطيطنا للصوت، علي سبيل المقال، فإن الطبقات المتعددة للأصوات المختلفة التي تسمعها في البداية تصبح أكثر ندرة فيما نحن نتقدم ونقترب أكثر من الأب الإفتراضي بحيث يكون لديك، في النهاية، أصوات نادرة جداً ومحددة جداً. لذلك فالفيلم أيضاً متحدث عن امتلاك القدرة علي رؤية العالم وسماع أصوات محددة والتي لم تكن دورا تسمعها في البداية.

فلا أظن ان علي المرء ان يحدد أعماله الخاصة. البعض ـ في حديثه عن فيلمي ـ كتب عن جماليات العاطفة أو جماليات التضامن. شخصياً أشعر بأن التعريفات ضرورية لكنها بطريقة ما تقيدك الي اقليم معين. حتي تعريف جماليات الجوع يعمل علي تغليف سينما النوفو في اقليم هو الي حد ما منعزل، بينما كان هناك تنوع وثراء هائل في تلك الحركة، تلك السينما. ثمة نزوع انساني ومحاولة لاحداث التغيير. وهذا ما تجره في فيلمي المحطة المركزية. دورا تمثل، بطريقة معينة، الوضع الراهن القديم، والصبي يمثل الامكانية الجديدة، امكانية التغيير من خلال الفعل.

فالفيلم الذي حققته سابقا، وكان عنوانه أرض اجنبية، يدور في تلك السنوات المتغيرة من 1989 الي 1990 والتي كانت زمن فوضي وتشوش كامل. انه عن تلك اللحظة التي كف فيها البلد عن ان يكون بلد الهجرة وصار بلد النزوح. الفيلم يتابع جيلاً من الشباب في العشرينات من العمر والذين يحاولون ان يعيشوا حياة ثانية في أوروبا. في الواقع، ما يجدونه هناك هو وضع مشابه تماماً لذلك الوضع الذي تركوه في البرازيل، وضع الرفض والعجز عن الانتماء الي شيء ما. في ذلك الفيلم، الذي يقود الشخصيات هي تلك الاحداث التي كانت بعيدة عن قرارهم الخاص. الوضع السياسي كان جائزاً وقمعياً جداً الي حد انهم لم يستطيعوا تحديد مصيرهم الخاص.

في المحطة المركزية، التغيير يكمن في انه، للمرة الأولي، الصبي يحد من جديدة مصيره الخاص، انه يعيد تعميد نفسه. وبفعل ذلك هو يصبح اشبه بالملاك الذي يساعد الآخرين علي التحول. هذا هو ما يجذب الجمهور العريض في البرازيل الي الفيلم. ثمة حاجة حقيقية لذلك النوع من التغيير.

فالسينما تصبح مشوقة ومثيرة للاهتمام، بالنسبة لي، عندما تكف عن تمثيل الشيء وتصبح الشيء نفسه. لهذا السبب ايضا أحب ان اعمل مع ممثلين غير محترفين وأدمجهم مع ممثلين معروفين مثلما يفعل كيارستمي.

فإن رؤية النخبة البرازيلية للعالم هي ضيقة ومحدودة جداً ـ بالطبع تستطيع ان تقول هذا عن أغلب البلدان ـ وهي لا تمنحك الأدوات الضرورية لفهم الواقع الذي يحيط بك. أنا مهتم بفهم ما لا أعرفه بعد أكثر من فهم ما سبق ان عرفته. منذ فترة ليست بعيدة، كنت قد قرأت سيرة لوتشينو فيسكونتي الذاتية. فيسكونتي جاء من خلفية ارستقراطية جداً والتي لا تماثل خلفيتي التي هي ليست أو مستقراطية. هو يقول انه كان دائماً مهتماً بالغوص في كون لم يفهمه، للوهلة الأولي، لكنه احتاج الي فهمه لكي يفهم العالم كما هو. اعتقد ان هذا يتصل كثيراً برغبتي الخاصة. لهذا السبب بدأت مخرجاً لأفلام وثائقية.. انها أساساً الرغبة في فهم ما لم أفهمه، ما لم استطيع ان افهمه في طفولتي. انه عن الاقتراب أكثر من واقع البلد هذا هو القاسم المشترك لكل ما فعلته حتي الآن. انه عن فهم ما هو مختلف عنك، الذي يكتسب رؤية اكثر تنوعاً وتعددية للواقع.

ففي هذا الفيلم، قبل كل شيء، لديك محطة القطار نفسها، التي ترمز الي ما كانت البرازيل ترغب في ان تكونه لكنها لم تنجح في تحقيقه. في كيونة المحطة نفسها وذلك المبني، كان هناك توف الي دم الناس، توحيد الطبقات الاجتماعية المتنوعة، ولتقديم خدمات لم تكن أبداً مقدمة في الواقع، وتلاشت تدريجيا من تلك اللحظة فصاعدا. بطريقة ما، ذلك المكان الذي من خلاله يعبر 300 الي 400 ألف شخص كل يوم، كان صورة للمدينة البرازيلية. انه تقريباً المكان الدارويني (نسبة الي داروين) الذي فيه الاقوي فقط هو الذي ينجو ويبقي علي قيد الحياة.

في الجزء الاخير من الفيلم، عندما تصل الي ذلك المجمع السكني فإنك تعود الي بداية الفيلم والي ذلك الوضع حيث يوقف الناس سياراتهم في منتصف اللامكان، في موضع لا يبدو مفهوماً تماماً. وأنت اذا عدت الي هنك بعد عشر سنوات فسيكون المكان في حالة خراب، والناس ربما قد هجروا المنطقة.

انها لوحة لبلد لم يباشر في احداث تغييرات بنيوية ضرورية ولم يبدأ في اصلاح الارض، والذي قد يفضي الي تعديل وضع المناطق الريفية. كنتيجة لذلك فإن ما هو لديك مجرد مناطق مدينية في وسط اللامكان، بلا أي فاعلية اقتصادية يمكن ان تجعلها تعمل. لماذا تتحرك دورا الصبي هناك؟ لانها تعتقد بأن امكانية العاطفة وايجاد المرء لعائلته لا يزال هو أكثر أهمية من أي شيء آخر. لهذا السبب هي تغادر. إن رؤيتي للجزء الاخير من الفيلم تشاؤمية تماماً فيما يتعلق بترك الصبي، لكنها تفاؤلية في ما يتعلق بالخلاص الذي تنجح الشخصيتان معاً في بلوغه واحرازه.

الفيلم يقول بوضوح تام ان علينا اعادة تحديد مصائرنا دون انتظار شخص ما لكي يمنحنا ذلك الحق. الفيلم هو ضد فكرة وجوب انتظار مجئ شخص ما ليمنحك شيئاً.

الأيام البحرينية في

27.07.2003

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004