أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الأيام البحرينية

استعراض ترومان

وما نسميه الواقع الإفتراضي

ترجمة: أمين صالح

بيتر وير مخرج استرالي حقق عدداً من الأفلام الهامة مثل: نزهة عند الصخرة المعلقة(1975)، الموجة الأخيرة (1977)، سنة العيش في خطر (1982).. قبل أن يقيم في أمريكا منذ العام 1984، ليقدم عدداً من الأفلام الناجحة مثل: (Witness) عام 1985، (Fearless) عام 1993. وهو هنا يتحدث عن فيلمه (The Truman Show) إلى مجلة (Film Quarterly)، عدد خريف 1999.

فعندما قرأت السيناريو أعجبني كثيراً لكنني لم أعرف ما إذا كان من الممكن تحقيقه بنجاح. النسخة الأصلية من السيناريو كانت أكثر قتامة وأكثر غموضاً، وتدور أحداثه في مانهاتن. كان عملاً ينتمي إلي الخيال العلمي، وأول شيء فكرت فيه هو صعوبة تنفيذه في نيويورك. لماذا نبني نيويورك؟ لماذا نبني شيئاً معروفاً بدلاً من أن يكون لدينا موقع متخيل؟ مع ذلك فقد أثار السيناريو اهتمامي إلي حد بعيد، فهو غير نمطي ومغاير لأفلام هوليوود. هوليوود لا تهتم بصنع فيلم عن الأفكار، بينما فيلمنا هو في الواقع عن الأفكار. من جهة أخري لو انك انتزعت جيم كاري من المشروع لما كان بالامكان تحقيق الفيلم.

فجيم كاري لم يكن مرشحاً مع بداية المشروع، لكن فيما كنت أشاور نفسي في ما إذا عليّ أن أنفذه أو أرفضه، أخبرني المنتج بأن جيم كاري راغب في تأدية الدور. كنت قد شاهدت جيم في أفلامه وترك لدي انطباعاً قوياً فهو يتسم بالأصالة والطرافة لكن لم يخطر ببالي أبداً أن أسند إليه الدور بالحكم علي طابع السيناريو. بطبيعة الحال كنت أفكر وقتذاك في اختيار الممثلين وتوصلت إلي نتيجة بأن من سيمثل دور ترومان ينبغي أن يكون نجماً سينمائياً. هذا سيكون ضرورياً بالنسبة إلي منطق القصة. بمعني آخر، لماذا يتابع العالم حياة هذا الرجل علي شاشة التلفزيون 42 ساعة في اليوم؟ الإجابة هي أن هذا الرجل هو نجم بالفطرة. وقد شعرت أيضاً بأن شخصاً نشأ في مناخ غريب وغير طبيعي لابد بطريقة ما أن يكون هو غريباً بعض الشيء.. وجيم كاري من هذا النوع الذي يبدو کمغايراً بعض الشيء.. إنه لا يشبه الشخص الذي يعيش في الجوار.

فلقد تناقشت مع جيم فيما هو متوقع من ترومان أن يؤديه، وقلت لجيم بأنني أعتقد أن علينا افتراض أن ترومان يعرف من بعض النواحي أنه ممثل بطريقة ما، وهو كان كذلك علي الدوام. لنتأمل واقعه: فيما هو يكبر، يري كل هذه الوجوه وهي تتجه نحوه راسمة ابتسامات عريضة. ثمة الكثير من التقارب الكثير من الوداعة الزائفة، الكثير من التملق، لأن الأفراد من حوله مجرد ممثلين وهم يريدون أن يظهروا معه في اللقطة، وهؤلاء يعلمون أنهم إذا كسبوا ود وصداقة ترومان فسوف يستمرون في الظهور ويصبحون طرفاً دائماً ومنتظماً ضمن طاقم الممثلين في كل الحلقات. لذلك أعتقد أن ترومان قد اكتشف ذلك السلوك، وأنه لا شعورياً أحس بحاجته إلي أن يساعد الآخرين، أن يجعلهم يشعروا بأنهم في حال أفضل. ودون أن يدرك ذلك، هو يستجيب إلي الإلحاح بأن يؤدي بصرف النظر عن وطأة ذلك.

أظن أن ما منعه دائماً من الارتياب في عالمه واستجوابه هو أنه أدرك لا شعورياً أن لديه عملاً هاماً جداً يؤديه: أن يمنح الحب والفرح من خلال الروح المرحة وحس الدعابة، وأن يجعل أمزجة الآخرين عالية.

فهناك اعتقاد شائع بأن كل الهزليين أشخاص كئيبون أو غاضبون. المهرج في أحوال كثيرة هو شخص حاقد تماماً، كما في أفلام الرعب. في الأسفل، أنت تشعر أن هناك ضرباً من الغضب الشديد، وأنت يقيناً تري ذلك الغضب في ترومان عندما يخامره شعور بأن زوجته متورطة في التآمر عليه. إنه الغضب الذي يتجلي في تلك الدعابة القاسية، الساخرة، فيما هو يقود السيارة وهي إلي جانبه في دوائر لا تنتهي.

فعندما كنا في مرحلة سيناريو التصوير، كانت شخصية كريستوف (الذي يدير كل شيء) غامضة تقريباً إذ لم أكن أعرف عنها إلا القليل جداً. من بعض النواحي، هو كان ذا طبيعة شريرة، ويظهر في صورة جديدة، مثيرة للاهتمام، لكن ـ برغم ذلك ـ لا يبدو مختلفاً تماماً عن الشخصية المتحكمة التي قد تراها في أفلام جيمس بوند. إن فكرة الشخصية فحسب هي الذكية والمبتكرة. كريستوف يشبه إلي حد بعيد أي سياسي يعيش بيننا والذي يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة. وهو أيضاً يري نفسه كفنان، وفي ترومان (عندما يلفظ الاسم Truman بشكل آخر فسوف تجد معني آخر هو الإنسان الحقيقي (True Man) يري مخلوقه الأعظم. وهذا مخيف.. إنه يشبه دكتور فرانكشتاين لكنه يستخدم الميديا(Media) كمجال لابراز موهبته. كذلك كنت أتأمل ظاهرة مصممي الأزياء في مرحلة ما بعد الحرب، خصوصاً في السنوات العشرين الماضية أو ما يقاربها.. الأفراد الذين لديهم شخصية الفنان لكنهم في الحقيقة ينتجون سلعاً تجارية. أفراد كهؤلاء لديهم امبراطورية واسعة وقوية، ومع ذلك لديهم حساسية استثنائية. وهم عادة يرتدون الملابس السوداء.. مثل كريستوف.. هناك ايضا فكرة الفنان الذي يخفق في تحقيق ذاته كفنان، الشخص الذي يولد حاملا كل خاصيات الفنان وسماته الذاتية المميزة، اي ما يمكن ان تسميه الشخصية الفنية، لكنه بلا مهنة، بلا حقل اختصاصي. مثل هذا الفرد غالبا ما يكون صعبا جدا لانه لا يملك طريقة خاصة في التعبير عن ذاته، لتهدئة نفسه من خلال الابداع الفني.. في شخصية كريستوف تجد كل هذه المفاهيم او الانطباعات.. وقد جاء الممثل ايد هاريس في الوقت المناسب وفهم كل هذا علي مستوي عميق.

فنحن محاطون بالالغاز والاسرار، بالغموض والالتباس، وبالتناقضات. مع ذلك لا ينبغي لهذا ان يمنعنا، ولو للحظة، من التفكير في من نكون وما نؤمن به وما هو الحقيقي، وفي البحث في شئون الدين.

مع ذلك فأنت علي نحو متزايد تصطدم باولئك الافراد الذين يحاولون اثارة الشعور العام ضد اي اختراق في نطاق ما اتفقنا علي انه العالم المادي وما يرونه هم بوصفها الطرق الصحيحة للتفكير. هناك غالبا ضرب من الغضب في الاستجابة الي هذا الشكل من التعبير في نجاحه، هذا الشكل مماثل للتأثير الذي تمارسه الموسيقي علينا: إحداث نوع من الحلم اليقظ.

فللتلفزيون خاصية مفسدة: القدرة علي غسل دماغ الناس وجعلهم يصدقون ما يرونه. فاحببت دائما ذلك الجزء من كتاب يونج کذكريات، احلام، انعكاسات، عندما يتحدث يونج مطولا عن الدور التحتاني  (basement)، ذلك الجزء من المبني الواقع تحت الارض، حيث كان يحتفظ ببعض المقتنيات القديمة، وعن الاختراقات في التفكير فيما يتعلق برمزية الدور التحتي (الموضع الرمزي الذي يوحي باللاوعي) بمظهره السري، وتلك الصلة مع خاصية المظهر المتعلق بالنموذج الاصلي للتجربة الانسانية.

ما يحدث في الدور التحتي الذي يرتاده ترومان، في السيناريو الاصلي كان يحدث في المرأب، لكنني فضلت الدور التحتي حيث هو علي نحو مثير للشفقة يحتفظ باسراره، بهداياه التي هي داخل علب، والعلب موضوعة في صندوق الثياب. في المشاهد التي تدور هناك، نحن نري جانبه المظلم والغامض. هناك هو الشخص الذي لا يبدو ودوداً كما كنا نعتقد، والذي يكون عصبيا ولاذعاً مع زوجته عندما تنزل في ذلك المكان الطفولي المروع إلي حد ما.

فالفيلم يتعامل مع فكرة الواقع في عصر الميديا (Media). وسائل الاتصال وبالاخص التلفزيون، قد ضببت الخط الفاصل بين الواقع واللاواقع.. وقد ادي هذا إلي ابتكار تعبير کالواقع الافتراضي. فلا أحد يعمل في الحقل الابداعي الا ويبدي اهتماما كبيرا باعمال فرويد ويونج الرائدة في رسم خريطة للعقل اللاواعي. كتاب يونج کذكريات، احلام، انعكاسات كان له تأثير قوي عليَّ، وما زلت اجد نفسي اعود اليه بين الفينة والاخري.

الأيام البحرينية في

13.07.2003

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004