أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الأيام البحرينية

السبورات

وعالم لا يكترث

بقلم: أمين صالح

سميرة مخملباف، من مواليد فبراير 1980، هي ابنة المخرج الايراني الشهير محسن مخملباف. توفت امها وهي صغيرة فتولت رعايتها وتوجيهها زوجة ابيها المخرجة مرضية مشكيني. كانت سميرة في الثامنة من عمرها عندما مثلت في فيلم والدها کسائق الدراجة، وفي الخامسة عشرة تركت الدراسة وهي في المرحلة الثانوية لتتحول الي الدراسة السينمائية نظريا وعمليا من خلال مشاهدة الافلام وتحليلها، ومحاولة استيعاب علم الاجتماع والموسيقي. حققت افلاما قصيرة وساعدت والدها في اخراج فيلمه کالصمت قبل ان تحقق وهي في سن السابعة عشرة فيلمها الدرامي الاول کالتفاحة.. الذي لفت انظار النقاد والسينمائيين والجمهور الي هذه الموهبة الشابة. وعن هذا الفيلم - الذي كتبته وقام بانتاجه ومونتاجه والدها - حازت علي جائزة في مهرجان فينييا.

کالسبورات 2000  ، فيلمها الثاني، والذي فاز بجائزة خاصة في مهرجان كان، انتجة والدها بتمويل ايراني وايطالي وياباني، وهو الذي تولي عملية المونتاج، كما شاركها في كتابة السيناريو. مجموعة من المدرسين، حاملين سبورات علي ظهورهم، يظهرون من مكان ما في الجبال الممتدة علي الحدود الايرانية - العراقية. انهم يبحثون عن تلاميذ لتدريسهم مقابل نقود او طعام في المنطقة الناطقة باللغة الكردية والتي تخلو من المدارس. لكن سرعان ما يتفرقون عن تعرضهم لغارة جوية، فنتابع مسار اثنين منهم يسلك كل منهما طريقا منفصلا عن الآخر. احدهما يصادف عددا من الاولاد يسمون انفسهم بغالا، يتسللون خفية حاملين معهم السلع المهربة الي العراق. اما الآخر کسعيد فيلتقي بقبيلة من الاكراد نزحوا من موطنهم الذي تعرض لقصف بالغازات السامة وهاهم الآن يعودون سرا في رحلة صعبة وخطيرة للغاية حيث تتربص بهم بنادق حرس الحدود. وسعيد هذا يتزوج المرأة الوحيدة ضمن مجموعة النازحين، وهي ارملة ترافق - مع ولدها الصغير - اباها الذي هو علي وشك الموت. وهي قلما تنطق، فلا الحب يعنيها ولا الدراسة، قدر ما تعنيها سلامة ابنها.

هذان المدرسان اللذان كانا يرغبان في مقايضة الكلمات بالخبز، والتعليم بالبقاء، يقومان برحلة شاقة لا يكسبان منها شيئا.. فالاول يتعرض مع الاولاد المهربين الي هجوم فلا نعرف مصيره، والآخر کسعيد يفقد كل شيء: السبورة، زوجته کالتي يضطر الي تطليقها قبل نهاية الرحلة.. في مراسيم آلية ورتيبة جدا كما كان الزواج، والجماعة التي ناضل من اجل ان تقبله فردا منها لكنها تتركه وحيدا فيما هي تخوض في السديم الي جهة غير واضحة.

اذا كان الفيلم الاول لسميرة مخملباف کالتفاحة يدور في موقع عائلي مغلق، فان فيلمها الثاني هذا مفتوح علي فضاءات اوسع ومجاميع ومواقع او مناظر اكثر رحابة. الاحداث تدور في مناطق متنازع عليها، غير أهلة، امكنة كأنها تقع خارج التاريخ والعلاقات الاجتماعية، كأنها لوحة تجريدية. ارض تمتد عبر الحدود، واقعة في شرك الرعب الذي احدثه قصف بالاسلحة الكيماوية لقرية كردية عراقية - هي حلبجه – في 1988، هذا الرعب الذي لا يزال ماثلا في الذاكرة. انها ارض شائكة، محفوفة بالالغام، الرصاص، الحراس المسلحين لكن اللامرئيين، المخاطر، الفقر المذقع. ارض لا يحكمها القانون، والناس الذي يعبرونها يجازفون بحياتهم.

الطابع الوثائقي للفيلم يبلغ مستوي آخر او بعدا آخر مع قابلية القصة لاحتمالات وتأويلات متعددة، من ضمنها المجاز السريالي حيث المواقع تأخذ بعدا استعاريا، والمضمون ياخذ ضحي فلسفيا - الي حد ما - يتصل بالبحث عن الهوية، التوق الي الانتماء، صعوبة الاتصال، والنظر بعين جديدة وذهن اكثر مرونة الي مفهوم الوطن والحدود والثقافة واللغة. ووسط كل هذا نري اناسا يصعدون الطرق الوعرة ليتراجعوا علي عجل، وفي فزع، تحت وابل من الرصاص المنهمر من بنادق لامرئية يطلقها جنود لامرئيين، فيزدادون حيرة وارتباكا وخوفا، وفي الوقت ذاته يزدادون اصرارا علي المضي نحو الجهة المحددة والتي في آخرها يوجد الوطن.. وحتي عندما يصلون - او هكذا يبدو الامر - فان المشهد يكون مغلقا بما بشبه السديم.. كأن الوطن لم يعد كما كان.. كأن الرعب لا يزال جاثما ومتربصا.

السبورة التي هي - او من المفترض ان تكون - بوابة للتعليم والتعلم، تفقد هنا وظيفتها الاساسية. في فيلم کالتفاحة كانت اللغة والثقافة الراسخة الجذور تلعب دورا مهما في انتزاع الشقيقتين من حالة الاهمال والتخلف، اما فيلم کالسبورات فانه يحمل رؤية مأساوية للثقافة ودورها، حيث لا تعود لها قيمة واهمية في عالم وحشي كل شيء فيه يناضل من اجل البقاء. وهذا العالم لا يكترث بما هو مكتوب علي السبورة علي الرغم من مساعي المدرسين الذين كل منهم يحمل سبورته الخاصة عبر الجبال والطرق الوعرة بحثا عن تلاميذ يعماونهم الاسس الاولية للقراءة والكتابة والحساب.

السبورات تتعرض لسلسلة من التحولات في المظهر والصفة حسب ما تمليه الظروف والحالات التي تمر بها، او بالاحري، يمر بها المدرسان. فمن مشهد الي آخر، تتغير وظائف السبورة. السبورات، التي هي اساسا ادوات للتعليم، نراها في البداية مربوطة علي ظهور المدرسين بحيث تبدو من بعيد كالاجنحة المفرودة.. كما لو ان المدرسين سرب من الطيور الجاثمة وهي تستعد للتحليق.

ثم نري السبورات تتخذ مظاهر ووظائف اخري: تستخدم كمتاريس لحماية الاجسام من الرصاص، كنقالة لحمل الشيخ المريض الذي يحتضر، كخشبة لجبر كسر في العظام، كشيئ تنشر عليه الملابس المغسولة حتي تجف، كباب، كقيمة مادية حيث تقدم مهرا للمرأة الارملة التي يتزوجها المدرس سعيد في الطريق، كستارة تفصل بين العروس والعريس.

بمعني آخر، السبورات تبدو مفيدة اكثر - في محيط كهذا - عندما تستخدم لاغراض اخري غير الغرض الاساسي: التعليم. ومن ناحية اخري، يصبح للسبورة اكثر من معني ثابت.

ومن هذا نستخلص ايضا الصورة المركزية عن المعرفة المهملة، المخذولة، التي تضطر الي بيع نفسها، الي التحول الي اشكال اخري، لانها لا تجد لها مكانا في هذا العالم، لانها لا تعود نافعة او ضرورية في هذه الارض القاحلة، العقيمة، المحفوفة بالمخاطر. ان هذه الصورة تعبر عن حالة كافكاوية نموذجية.

في احدي مقابلاتها، تحدثت سميرة مخملباف عن التأثير الذي مارسته جبال كردستان عليها عندما كانت تبحث هناك عن ثيمة للفيلم. ومن ضمن ما قالت انها فيما كانت تسير مع والدها شعرت بتأثر ازاء تضاريس المكان سواء كمنظر طبيعي وكتسجيد لمدلولات السريالية والرمزية في آن. بعدئذ هي قامت بتنسيق الموقع ضمن المشهد کالميزانسين، مختارة المناطق الاكثر خشونة وانعزالا، مستبعدة الاكثر خصوبة. وفيما هي تحاول ان تتعرف علي المنطقة علي نحو افضل، فان افتتانها بالمنظر قد امتد ليصل الي وجوه الناس الذين لاتتكلم لغتهم لكن شيئا فشيئا توصلت الي فهمها فيما هي تشتغل علي مفرداتهم اثناء عملية المونتاج. وبطريقة ما، الفيلم يبدو كتسجيل لهذا اللقاء غير المتوقع.. كما هو تسجيلها السينمائي للمكان.

الكاميرا، عندما تصور، تستجيب الي المكان والاشخاص. الموقع الطبيعي، بخطوطه وتخومه وضوئه، مصور في الاغلب علي نحو سكوني وعن بعد. اما الكاميرا المحمولة باليد، التي تتحرك بين الاشخاص في مستواهم وايقاعهم، فانها تسجل وجوههم وايماءاتهم وتعبيراتهم بحيث يبدو الامر، من حين الي آخر، كما لو ان الثيمات والشخصيات ومجريات القصة هي مفروضة من الخارج علي المادة الاولية.

الفيلم يشير، بشكل عام، الي الحرب والي الوضع البشري ضمن هذه الحرب، موجها عدسة الكاميرا الي ما تسببه الحرب من تشريد ومعاناة واذلال وسلب البشر كرامتهم وحريتهم والخاصيات الانسانية المميزة التي بدونها يتحول الانسان الي مايشبه الحيوان. والفيلم لا يقدم هذا من خلال رؤية سوداوية تشاؤمية، بل يمزج الدعاية والتراجيديا ببراعة، ويغلف موضوعه بجمالية بصرية موسومة بالشعرية.

سميرة مخملباف تشرح فهمها للاخراج بوصفة عملية توحيد لعناصر مقررة ومحسومة سلفا مع عناصر تكتشفها اثناء عملية الاخراج والتصوير. ومن الامثلة التي تعطيها ان شخصية المدرس سعيد قد انبثقت من الممثل سعيد محمدي نفسه. وهنا تجدر الاشارة الي ان الذي مثل دور المدرس الآخر الذي ينضم الي الاولاد المهربين هو کبهمن غوبادي.. وهو ممثل غير محترف تحول الي الاخراج وحقق فيلم کوقت للخيول الثملة الذي لفت الانتباه في المهرجانات الدولية.

کالسبورات فيلم رائع، جرئ، ذو لغة سينمائية لافته. وهو مركب بعناية وبحساسية بحيث يستقر في مكان ما بين الوثائقية والواقعية الجديدة والسريالية.

الأيام البحرينية في

25.05.2003

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004